مقدّمة
1. عن البلاغات
2. انتهاكات الحق في السكن
3. حجم الإخلاء ونطاقه
4. أثر الحرب الإسرائيلية على السكن
4.1 رفع الإيجارات: استراتيجية لطرد القاطنين واستنزاف لمدخرات النازحين
4.2 إقصاء غير اللبنانيين من خطط الإيواء الحكومية والأمن السكني
4.3 الطرد الجماعي باستخدام القوة
5. أزمة سكنية متفاقمة تحتاج معالجة شاملة
مقدمة
يوثّق هذا التقرير السنوي لـ “مرصد السكن” البلاغات التي تلقّاها بين كانون الثاني 2024 وكانون الثاني 2025 والتي وصلت إلى 443 بلاغاً، حيث تمّ توثيق ومتابعة 215 بلاغاً بارتباطها بالتحوّلات العمرانية والسياسية والحرب التي شهدناها خلال العام المنصرم، والتي كان لها تأثيرات مباشرة على السكن. فمن ناحية، شهد العام 2024 حملات أمنية تعسفية على اللاجئين السوريين ومداهمات لأماكن إقامتهن\م في مناطق لبنانية متعدّدة. خلالها، وثّق مرصد السكن 109 بلاغاً صادراً عن لاجئات/ين سوريات/ين مهدّدين بالإخلاء وبأمن سكنهم، حيث بلغت النسبة الأكبر منها 981إجمالي عدد الحالات 98، 94 منها مصدرها مرصد السكن، والباقي من الرصد الإعلامي بلاغاً، بعد 7 نيسان 2024، كما يظهر في الرسم البياني أدناه، وذلك على إثر حادثة مقتل باسكال سليمان وتصاعد الحملة التحريضيّة على اللاجئين السوريين/ات. وهو ما كنّا قد تناولناه في تقريرٍ تفصيلي سابق وثّق الممارسات التمييزية وحلّل التهديدات السكنية التي بلّغ عنها اللاجئون/ات السوريون/ات. قدّمنا في التقرير الصادر في تموز 2024 تحت عنوان “طرد آلاف السوريات\ين بالقوة في ظل تعاميم السلطات المحلية: عشر استنتاجات وفقاً لبيانات مرصد السكن” قراءة لهذه التهديدات السكنية إضافة إلى توزّعها الجغرافي، وعلاقتها بتعاميم السلطات المحلية والجهات المنذرة بالإخلاء وشكل الإخلاء (فردي أو جماعي) والمهلة الممنوحة لتنفيذ الإخلاء. وعلى ضوء هذه المعلومات والخريطة التي نتجت عنها، قدّمنا عشر استنتاجات في مواجهة خطاب السلطة وممارساتها، تُبيّن الحقوق الأساسية وترسّخها.
من ناحية أخرى، شملت بلاغات المرصد هذا العام أيضاً عدداً من الحالات المرتبطة بتدهور الوضع الإنشائي للمباني السكنية، حيث تمّ توثيق 212إجمالي عدد الحالات 21، 18 منها مصدرها مرصد السكن، والباقي من الرصد الإعلامي حالة. وقد تنوّعت المخاطر الإنشائية المرصودة في هذه المباني، فتراوحت بين سقوط عناصر من المبنى مثل الشرفات أو غيرها (11 حالة)، أو وجود خطر من مبنى مجاور/ملاصق آيل للسقوط (3 حالات) وصولاً إلى حالات مُسجّلة فعلياً على أنّها آيلة للسقوط وفقاً لمسوحات إنشائية أجراها مهندسون إنشائيون أو من خلال البلديّات (10 حالات). فبعد الزلزال الذي ضرب لبنان في شباط 2023، شهد العام 2024 انهيارات متكرّرة للمباني، اتّخذت صفة مأساوية مُتكرّرة، تاركةً وراءها ضحايا بشرية وخسائر مادية باهظة. على ضوئها، أصدرنا دراسةً بعنوان “ما بعد إنهيار المباني: ما مصير السكان المتضرّرين؟“، توثّق الهشاشات السكنية في خمسة مبان انهارت خلال الفترة الماضية، والذي راح ضحيتها 13 شخصاً وتشرّدت على أثر انهيارها حوالي 70 عائلة، مُسلّطات الضوء على مصير سكّانها بعد الإنهيار ومسؤوليات توفير السكن البديل للسكان الذين تعرّضوا للتشرّد جرّاء انهيار منازلهم.
في المقابل، لعلّ أبرز ما أثّر على أزمة السكن عام 2024 من حيث الحجم كانت الحرب الإسرائيليّة، حيث بات واضحاً – لا سيّما مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 27 تشرين الثاني 2024 – أنّ أزمة السكن قد دخلت مرحلةً جديدة، كما يظهر أيضاً في الرسم البياني. فقد أدّت الحرب منذ اندلاعها في 23 تشرين الأول 2023 إلى تهجير أكثر من 110,000 شخص من جنوب لبنان3المصدر: Lebanon: Flash Update #25 – Escalation of hostilities in South Lebanon, as of 23 August 2024، الذين اضطرّوا إلى ترك منازلهم وقراهم وأراضيهم بحثاً عن الأمان، في ظلّ قصف مكثّف وإبادة مكانيّة وبيئيّة. تفاقمت حركة النزوح القسري بشكل كبير مع تصاعد الاعتداءات اعتباراً من 23 أيلول 2024، حيث تجاوز عدد النازحين المليون شخص4وإلى جانب النزوح الداخلي، تسبّبت الحرب في موجات لجوء واسعة إلى سوريا، حيث سجّل الأمن العام اللبناني من تاريخ 23 أيلول لغاية 26 تشرين الثاني 2024 العام عبور 396,523 مواطن سوري 244,640 مواطن لبناني إلى الأراضي السورية. المصدر: تقرير رقم 50 للجنة الطوارئ حول الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان والوضع الراهن. واجه النازحون أوضاعاً مأساوية في ظلّ خطّة طوارئ غير فعّالة افتقرت إلى مقاربة شاملة لتأمين المأوى وأخفقت5لقراءة التقرير كاملاً: حين تخفق خطة الطوارئ في الاختبار العملي: قراءة نقدية في إدارة الأزمة في حمايتهم وتحقيق أمانهم بشكل شامل وعادل. بالإضافة إلى ذلك، وبسبب عدم كفاية مراكز الإيواء الرسمية وتجهيزها، اضطرّ جزء كبير من النازحين (حوالي 29%)6المصدر: تقرير المنظّمة الدوليّة للهجرة Mobility Snapshot – Round 65 – 25-11-2024 إلى اللجوء إلى الاستئجار ببدلات مرتفعة، ممّا استنزف مدّخرات النازحين بشكل واضح. فيما تمكّن ما يقارب نصف النازحين من تأمين مساكن عبر الإقامة مع العائلة أو الأصدقاء أو المعارف7المصدر نفسه. إلّا أنّه وفي ذروة الأزمة، لم يتمكّن أكثر من 10,000 شخص من العثور على مأوى8المصدر نفسه، بحيث نسبة 1% من النازحين، بحسب التقرير، قد شملت النازحات/ين الذين سكنوا في مبانٍ غير مكتملة، في خيام، أو مشردين في الحدائق والشوارع، أو في مواقع تم الاستقرار فيها ذاتياً (self-settled site)، وقد بلغت هذه النسبة حوالي 5% ضمن بيروت.، فاضطرّوا للبقاء في مبانٍ مهجورة أو ملاجئ غير مسجّلة أو حتى في الشوارع. وحتى هؤلاء كانوا عرضة لعمليات إخلاء قسري نفذتها الأجهزة الأمنية اللبنانيّة.
يقدّم هذا التقرير تحليلاً للبلاغات التي تمّ توثيقها ومتابعتها في مرصد السكن بين كانون الثاني 2024 وكانون الثاني 2025 والتي بلغت 215 بلاغاً، كما وتحليلاً لانتهاكات الحق في السكن اعتماداً على 152 حالة تمّ توثيق ظروفها السكنية بحسب المعايير والخصائص التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ثم يسلّط الضوء على التهديدات والديناميكيّات السكنيّة البارزة التي انتشرت خلال الحرب الإسرائيلية، وهي رفع الإيجارات، وإقصاء غير اللبنانيين، والطرد الجماعي باستخدام القوة.
عن بلاغات مرصد السكن للعام 2024
تلقّى مرصد السكن خلال الفترة التي يغطّيها هذا التقرير، والممتدة من كانون الثاني 2024 إلى كانون الثاني 2025، 443 حالة. من ضمن هذه الحالات، تمّ توثيق ومتابعة 215 حالة وتحليل انتهاكات الحق في السكن لـ 152 منها، كما رصدنا تصعيدات طالت 462 من البلاغات السابقة.
بلغ إجمالي عدد الأفراد المتأثّرين ببلاغات الإخلاء والتهديدات بالإخلاء التي تمّت متابعتها من قبل المرصد 3586 فرداً بالحدّ الأدنى، من ضمنهم 1009 فرداً متأثّراً وفقاً للحالات المبلّغة، و2577 فرداً إضافياً متأثراً بسبب التهديدات الجماعية على صعيد مبنى أو عدّة وحدات سكنيّة في مباني مجاورة أو مجمّع سكني أو مخيّم. وبلغ عدد الأفراد الذين أخلوا وفقاً لهذه البلاغات 1239 فرداً بالحدّ الأدنى. وقد تأثّرت بهذه التهديدات الفئات العمرية المختلفة أبرزها الأطفال والأولاد حتى عمر 17 سنة بنسبة 46.2%؛ ليتبيّن أنّهم الأكثر تأثّراً، حيث كانت التهديدات مركّزة بشكل كبير على العائلات، إذ شملت 177 عائلة، أي ما يعادل 82.3% من إجمالي البلاغات المتابعة. كما أنّ 31 حالة تتضمّن عائلات موسّعة تعيش في نفس الوحدة السكنيّة. هذه النسبة المرتفعة تشير إلى أن الأطفال يتحمّلون الجزء الأكبر من الأعباء الناجمة عن الانتهاكات السكنية، وبالأخص التهديدات بالإخلاء أو العيش في ظروف غير آمنة. وقد بلغت النسبة الإجمالية للفئات الأكثر هشاشة أو الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة التّي تمّ رصدها، حوالي 17% من مجمل الأفراد المتأثّرين، ومن بينهم 51 من الأطفال العاملين وهم دون الـ15 سنة، 48 شخاصاً يعانون من أمراض مزمنة، 59 امرأة يعشن وحدهن أو مع أولادهن، 10 أشخاص من ذوي الإعاقة، و3 عابرات/عابرون ومثليات/ي الجنس.
على الصعيد الجغرافي، تلقّى مرصد السكن النسبة الأعلى من شمال لبنان 47.9% ، حيث تلقّى 73 بلاغاً من محافظة الشمال، و14 بلاغاً من محافظة كسروان-جبيل، و12 من محافظة عكّار، و4 من بعلبك-الهرمل. ثمّ تلتها محافظة جبل لبنان بنسبة 30.2%، حيث وصلت منها 65 حالة، ثمّ بيروت بنسبة 13%، ثمّ البقاع بنسبة 6.5% وأخيراً من محافظتَي الجنوب والنبطيّة بنسبة 2.3%. تعكس هذه النسب إذا ما ربطناها مع الجنسيات المتأثّرة، أنّ النسبة الأكبر من المتأثّرين في شمال لبنان هم من الجنسيّة السوريّة (66%)، ويعود ذلك إلى الحملة التحريضيّة الممنهجة التي تعرّض لها اللاجئون السوريون في السنة الفائتة والتي كان لمحافظ الشمال القاضي رمزي نهرا دور أساسي فيها. هذا وبالإضافة إلى تداعيات الحرب الإسرائيليّة الأخيرة والتي أدّت إلى نزوح السوريين إلى مراكز إيواء خصّصت لغير اللبنانيين فقط، والتي تواجدت بأغلبها في الشمال كمدرسة ميّ ومدرسة الغرباء في طرابلس وذلك بعد حظر السلطات اللبنانية استقبال العائلات النازحة من غير اللبنانيين في مراكز الإيواء. فتعرّض السوريون النازحون من الجنوب، الذين استقروا في الملاجئ في الشمال بعد استبعادهم من الملاجئ الأخرى، لتهديدات بالإخلاء من الملاجئ التي لجؤوا إليها في الشمال. وهنا تجدر الإشارة إلى تمايز طرابلس عن هذه المعادلة، بحيث أنّ النسبة الأكبر من المتأثّرين هم من اللبنانيين (80.7%)، ويعود ذلك إلى عدم انجرار طرابلس إلى الحملة ضد السوريين آنذاك، بل الذي كان بارزاً في تهديد الأمن السكني هو المخاطر الإنشائية للمباني فيها وانهيارها أحياناً. بينما تعود النسبة الأكبر من المتأثرين في باقي المحافظات إلى اللبنانيين (52%)، لا سيّما في بيروت (75%) وفي أقضية المتن (43%) وبعبدا (58%). ويعود ذلك إلى ازدياد تهديد السكان اللبنانيين من الايجارات القديمة، وخصوصاً بعد عرض مشروع قانون تحرير الايجارات القديمة غير السكنيّة في الآونة الأخيرة بحيث أتت أعلى النسب من الايجارات القديمة – وأغلبهم من اللبنانيين- من بيروت (47.6%) ومن جبل لبنان (28.6%).
على مستوى الأقضية، سجّل قضاء المتن أعلى عدد من البلاغات (42 بلاغاً)، يليه كل من بيروت (28 بلاغاً)، طرابلس (26 بلاغاً)، الكورة (25 بلاغاً)، وبعبدا (19 بلاغاً) بنسب متقاربة. تجدر الإشارة إلى أن البلاغات الواردة من المتن شملت 20 حالة من سوريين بارتباطها بالحملة التحريضية، بالإضافة إلى 6 حالات مرتبطة بالإيجارات القديمة، و6 حالات أخرى لأشخاص نزحوا بسبب الحرب، معظمهم من عاملات مدغشقر. تعكس هذه الأرقام تنوّع الأزمات السكنية التي شهدها المتن، والتي دفعت آلاف السكان، لا سيّما العاملات الأجنبيات والسوريين، إلى الانتقال لمناطق أكثر أماناً مثل برج حمود والنبعة.
أمّا فيما يخصّ توزيع البلاغات ال 215 بحسب الجنسيات، جاءت النسبة الأعلى للحالات المتأثّرة من الجنسية السورية (50.2%)، تلتها الحالات المبلّغة من اللبنانيين/ات (41.9%)، وتوزّعت النسبة المتبقّية على جنسيّات أخرى مختلفة (9.3%) أبرزها مدغشقر، حيث يضاف أيضاً 18 بلاغ من العاملات الأجنبيات التي لم تتم متابعتهن من قبل المرصد. فبعد أن كانت النسبة الأعلى من البلاغات قبل اندلاع الحرب الإسرائيليّة على لبنان من السوريين، حيث بلغت (73,2%) بين حزيران وكانون الأوّل 2023 – وذلك نتيجة الحملات الأمنية التعسفية والحملة التحريضيّة التي نفّذتها الجهات الرسمية والحملات الإعلامية ضدّ اللاجئات/ين السوريات/ين، والتي بدأت منذ نيسان 20239للمزيد من التفاصيل، الرجاء الاطلاع على جدول زمني يوثّق القرارات الرسمية، ومشاريع القوانين، والمداهمات التي تستهدف اللاجئين السوريين-، بعد الحرب بقيت النسبة الأعلى من البلاغات من السوريين لكن بنسبة متقاربة من اللبنانيين. كما زادت نسبة المتأثرين من العاملات الأجنبيات، ويعود السبب إلى ما خلّفته الحرب من تداعيات سكنيّة عميقة، وهو ما سنتطرق إليه بالتفصيل في هذا التقرير. بحيث تُظهر الأرقام مدى تأثّر اللبنانيين خلال الحرب وتقصير الدولة اللبنانية في تأمين أمنهم السكني، بالإضافة إلى عدم اقتصار تأثيراتها على اللبنانيين فقط، بل طالت أيضاً اللاجئين السوريين والفلسطينيين والمقيمين الأجانب. فقد وجد هؤلاء أنفسهم عالقين في أزمة إنسانية مركّبة، تتراوح بين مخاطر الحرب من جهة، وانعدام الحماية القانونيّة والاجتماعية من جهة أخرى.
وبالنسبة لطريقة الوصول إلى السكن، فقد بلغت نسبة البلاغات المتعلّقة بإيجارات جديدة 76.3%، بينما توزّعت النسبة الباقية على الإيجار القديم (9.8%)، والإيجار في مخيمات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (1,9%)، بالإضافة إلى 3.7% هم من المالكين، و4.7% هم من النازحين جرّاء الحرب في مأوى أو عند أقاربهم إضافة إلى 3.3% هم من الذين استأجروا جرّاء النزوح، كما وثّقنا حالة وضع يد على مبنى في بئر حسن، سنتطرّق إليها أيضاً في هذا التقرير. بينما تعيش معظم الحالات في شقّة أو بيت مخصّص للسكن (82.8%)، قد نجد حالاتٍ تقطن في أماكن غير مخصّصة للسكن (17.2%). وهنا يجدر الإشارة إلى أنّه وبحسب بعض التعريفات الدولية للتشرّد، فإنّ التشرّد لا يقتصر فقط على غياب المأوى بشكله المادي، بل يتعدّاه إلى السكن في أماكن إقامة مؤقّتة كالمخيّمات أو عند الأقارب، إضافةً إلى السكن في مساكن غير ملائمة وغير آمنة. بالتالي، يمكننا أن نعتبر أن السكن في أماكن غير مخصّصة للسكن، كالسكن في غرف في أراضي زراعيّة (8 حالات)، أو السكن في خيم غير ثابتة (6 حالات)، أو في مستودع أو كارافان أو مستوعب (7 حالات)، أو السكن في مكاتب أو وحدات تجارية (2 حالات)، أو في وحدة مستحدثة على السطح (3 حالات)، أو في غرفة ناطور (3 حالات) أو في أسفل الدرج (1 حالات)، أو مبنى مهجور (1 حالات)، هو مظهر من مظاهر التشرّد، بالرغم من كونها حالات غير متعارف عليها كحالات تشرّد.
انتهاكات الحق في السكن
نحلّل انتهاكات الحق في السكن اعتماداً على 152 حالة تمّ توثيق ظروفها السكنية بحسب المعايير والخصائص التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أمن الحيازة
انخفض انتهاك معيار أمن الحيازة مقارنةً بالتقرير السابق ليبلغ من 92,56% إلى 84.21%، لكنّه ما زال مرتفعاً، وتزامن مع ارتفاع نسبة البلاغات من المستأجرين القدامى من 4.2% إلى 9.8%، وانخفضت بالتالي نسبة المستأجرين من ذوي العقود الشفهية من 68,6% إلى 57.89%. ويرتبط هذا الإرتفاع بالحملة التي أطلقها بعض المالكين القدامى، مدّعين أنّ المهلة المحدّدة بتسع سنوات وفقاً لقانون الإيجارات قد انتهت عام 2023، وبالتالي يجب تحرير هذه العقود، رغم أن معظم المحاكم المدنيّة قضت ببدء احتساب المهلة من تاريخ نشر تعديل القانون في 2017. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القضيّة لا تتعلّق بمتى يبدأ احتساب المهلة، بل كيف أنّ الدولة، وعلى مدى 11 عاماً، لم تتّخذ أي إجراءات فعّالة لضمان تطبيق هذا القانون، مثل تشكيل اللجان وإنشاء الصندوق كما أقرّ القانون، واكتفت بانتظار انتهاء المهلة الزمنية، على أمل أن ينظّم سوق الإيجارات القديمة نفسه تلقائياً؛ حيث يمكن اعتبار حملة المالكين محاولة منهم لأخذ الأمور بيدهم نتيجة تقاعس الدولة عن معالجة المسألة. إنّ الواقع يؤكّد أن قانون 2014 وتعديله لم يكن قابلاً للتطبيق منذ البداية، ولا يمكن الاستناد إليه لتبرير الإخلاء أو تحرير الإيجارات، وهناك حاجة إلى تشريع جديد لمعالجة هذه المسألة.
إلّا أنّ الحالات المرصودة لا تزال تواجه تغييراً في سعر الإيجار المحدّد في العقد أو المتّفق عليه عند الاستئجار بنسبة 40,13%، ولو بنسبة أقلّ من التقرير السابق حيث بلغت 66.1%، كون هذا المؤشر هو أحد أبرز أسباب التهديد بالإخلاء وزيادة هشاشة المستأجرين لا سيّما خلال الحرب الأخيرة. وفي 57.89% من الحالات، طلب المؤجّر الإخلاء قبل انقضاء مهلة العقد، وهي نسبة متقاربة مع النسبة السابقة (61.9%). كما ارتفعت نسبة الحالات التي تتعرّض لممارسات تعسّفية أو لمضايقات مختلفة بطبيعتها ووطأتها إلى 55.26%، وبالأخصّ على السوريين منهم (56%)، نتيجة للحملة التحريضية ضدّهم التي أشرنا إليها سابقاً، وتمّ أيضاً تقييد حرية المستأجرين باستخدام المسكن في 1.97%من الحالات.
صلاحية السكن
ما زال انتهاك معيار صلاحية السكن مستمراً بمعدّلات مرتفعة (90.91% في التقرير السابق، و82.89% في هذا التقرير). وكما ذكرنا في بداية التقرير، وبحسب بعض التعريفات الدولية للتشرّد، يمكن اعتبار بعض الحالات التي تسكن في مكان غير مخصص للسكن (15.79%)، أو تسكن في وحدة سكنية مكتظّة (32.89%)، حالات تعاني من التشرّد المستتر، خاصة في الحالات حيث يكون المسكن غير ملائم للغاية. وقد تبيّن أيضاً أنّ أكثر من نصف الحالات المرصودة تعيش في وحدة سكنية غير مجهزة ضد النشّ وضدّ تفشّي العفن والحشرات (68.42%)، ولا تحمي من ظروف الطقس (25.66%)، كما وتفتقد بعضها لصرف صحي ملائم (27.63%). وبينما بلّغ 8.55% عن السكن في مبنى غير آمن إنشائياً، يضاف إليهم أيضاً 8 حالات أخرى من خارج الـ 152 حالة. وقد اختلفت المخاطر الإنشائية المرصودة، من بينها سقوط عناصر من المبنى مثل الشرفة أو غيرها (11 حالة)، أو وجود خطر من مبنى مجاور/ملاصق قد يقع (حالة واحدة) وقد تبيّن وجود مبانٍ آيلة للسقوط بحسب مسح إنشائي (8 حالات). كما تقلق بعض الحالات من بعض العوامل والعلامات التي تبدو مهدّدة لسلامة المبنى كوجود تشقّقات (59 حالة)، أو حديد ظاهر (6 حالات)، أو حتى فيض المياه إلى داخل المبنى بشكل متكرر (9 حالات). وفي حال لم تتمّ معالجة هذه الإشكالية على نطاقٍ واسع فيما يتعلّق بالسلامة العامة، ستبقى سلامة السكان مهددة في هذه المباني وغيرها، وسيستمر تدهور البيئة العمرانية، ولن يكون انهيار مبنى المنصورية الانهيار الأخير الذي نشهده.
القدرة على تحمّل التكاليف
يتواصل انتهاك معيار القدرة على تحمّل التكاليف بنسب مرتفعة، وقد بلغت في الفترة التي يغطيها التقرير 90.13%. في التفاصيل، يعتبر 57.89% من الحالات أنّهم معرضون لخطر خسارة مساكنهم بسبب غلاء تكلفتها و15.13% منهم لا يستطيعون تحمل نفقات السكن بشكل منتظم، بحيث يجبر 49.34% من الحالات المرصودة على اعتماد أساليب غير ملائمة لهم لتأمين كلفة السكن. في معظم بلدان العالم، تعتبر التكلفة المقبولة للسكن 30% من قيمة الدخل، على الرغم من أنّ اعتماد هذه النسبة تنطوي على عدد من الإشكاليات. فقد تبيّن من خلال الحالات المرصودة أنّ 78.94% منهم تدفع أكثر من ثلث مدخولها للسكن (20.39% بين الثلث إلى النصف، 58.55% نصف أو أكثر)، وهو ما يُظهر بشكلٍ واضح أنّ هذه الحالات أصبحت تدفع ثمناً باهظاً لتغطية تكاليف السكن، ما يهدّد قدرتها المالية، الفردية أو الأُسرية، ويقوّض إمكانية تلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى.
توافر الخدمات والمرافق والبنى التحتية
تفتقد العديد من الحالات للخدمات والمرافق والبنى التحتية الأساسية (59.87%)، فمن بينها حالة واحدة لا تصلها الطاقة الكهربائية سواءً كهرباء الدولة أو أي مصدر آخر، ومنها من لا تتوفّر لديها الطاقة اللازمة للطهي والتدفئة والإنارة (30.26%)، وتفتقد للأثاث البسيط (23.68%)، وللتدفئة (6.58%)، وللتجهيزات لتخزين المأكولات أو طهيها (16.45%)، كما منها من لا يمكنها الوصول إلى المياه بشكل كافٍ ومستمر (9.87%)، أو ليس لديها مياه صحية أو نظيفة (11.84%)، أو أنّ مسكنها غير موصول بشبكة مياه الدولة (9.87%) وشبكة الصرف الصحي(1.97%)، وقد لا تتوفّر لديها مصادر بديلة عندما تنقطع مياه الدولة (10.53%).
الموقع
يُنتهك معيار الموقع بنسبة 71.05%، بشكلٍ أساسي من خلال وقوع مكان سكن الحالات المرصودة ضمن منطقة ملوّثة أو خطيرة (28.95%) بما يشمل وقوع مكان السكن في موقع يعرّض سكانه للخطر بسبب سوء التنظيم (9 حالات)، أو في منطقة قريبة من مصادر ملوّثة، (37 حالة) كوقوع مكان سكن العديد من الحالات بجوار مطامر النفايات في برج حمود، طرابلس، وصيدا، أو وقوع المسكن في موقع يعرّض سكّانه للخطر بسبب عوامل طبيعية وهو بلاغ واحد من مخيّم في بر الياس على ضفاف نهر الليطاني، ما يجعله عرضةً للطوفان، ويعرّض السكان أيضاً للخطر كون النهر ملوّثاً. كما من خلال تشويه علاقة السكان بمحيطهم (37.5%)، ويشمل ذلك الأحياء التي تتعرّض للهدم (18.4%) مثل بيروت، الشياح، فرن الشباك، برج البراجنة، طرابلس، الخ، ووجود مبانٍ مهجورة (31.6%) في الشياح، بيروت، فرن الشباك، طرابلس، البداوي، البترون، إلخ، أو وجود موجة شراء عقارات (21.7%) في بيروت، طرابلس، غدير، حارة الصخر، غزير، البترون، الشياح، إلخ) أو المضاربة العقارية من أفراد أو تلك التي تقودها مشاريع كبرى، وهو ما يدمّر النسيج العمراني، وينبئ بموجات إخلاء قد تتفاقم مستقبلاً في هذه الأحياء. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ 8.55% يسكنون في أحياء لا تتوافر فيها مراكز الخدمات الأساسيّة، و4.61% في مناطق لا تتوفّر قربها وسائل النقل، بحيث 2.63% يعانون من صعوبة في التنقل بين مسكنهم وعملهم.
الملاءمة من الناحية الاجتماعية والثقافية
لا يزال هذا المعيار يشهد نسبةً عالية من الانتهاك، على غرار التقارير السابقة، وقد بلغ 99,34%. وبسبب عدم وجود لجان مبنى\حيّ أو عدم إمكانية الانخراط في هذه اللجان إن وُجدت، لم تستطع 98% من الحالات الانخراط في إطار تنظيمي محلي، ولم تستطع 63.16% من الحالات المشاركة في التمثيل المحلي. كما لم تستطع 37.5% من الحالات نسج علاقات ودية مع المحيط، وقد كانت 54.4% من هذه الحالات غير لبنانية (من السودان، بنغلادش، سوريا، مصر، مدغشقر، نيجيريا). كما ارتفعت نسبة الحالات التي تواجه مضايقات ناتجة عن تمييز من 15.7% إلى 30.92%، كما نسبة الحالات التي تجابه عوائق في الوصول إلى الحيّز العام في منطقة سكنها أو استخدامه من 7.44% إلى 13.82%، أو تواجه قيود أمام ممارسة تقاليد مرتبطة بالثقافة أو الدين (0.66%) نتيجة كل الحملات العنصريّة التي أشرنا إليها سابقاً.
تلبية الحاجات
بالنسبة لتلبية احتياجات كبار السن والمعوّقين، فقد بلغت نسبة الأشخاص المعوّقين حركياً والمتأثّرين بالتهديدات على مستوى السكن، والذين يسكنون في مسكن غير ملائم لحركتهم 16.67% (حالة من أصل 6 حالات). كما أكدّت 33.33% التعرّض للتمييز خلال عملية البحث عن السكن. بالمقابل، اعتبر 44.44% (8 حالات من أصل 18 حالة) من كبار السن المتأثّرين بالتهديدات على مستوى السكن، أنّهم يسكنون في مسكن لا يتلاءم تماماً مع احتياجاتهم، حيث يكون المبنى غير مجهّز بمصعد أو درج ملائم لحركة المسنّين. كما بلّغت حالة واحدة منهم عدم توفّر مراكز خدمات ملائمة لها في المنطقة التي تقطنها.
حجم الإخلاء ونطاقه
فيما يتعلّق بحجم الإخلاء ونطاقه، تظهر البلاغات تزايداً ملحوظاً في التهديدات والإخلاءات، لا سيّما الجماعيّة منها. فقد بلغت نسبة الإنذارات المباشرة بالإخلاء 76.2% من مجمل البلاغات، حيث النسبة الأخرى أي ال 23.8% تعاني من خطر خسارة مسكنها سواء لظروف سكنية سيئة أو بسبب غلاء تكلفة السكن والمعيشة، ولكن من دون توجيه طلبات مباشرة بالإخلاء من أي جهة. فمن بين الإنذارات المباشرة بالإخلاء، كان 121 طلب إخلاءٍ فرديّاً بينما 51 منها كانت على صعيد جماعي طالت 60 حالة، حيث 74.5% منها طالت السورييّن. كما تمّ رصد 56 إخلاءً منفّذاً على صعيد فردي و24 إخلاءً منفذّاً على صعيد جماعي طال 31 حالة، حيث 75% منها أيضاً طالت السورييّن. وترتبط هذه التهديدات والاخلاءات الجماعيّة بشكل مباشر بالحملة التحريضيّة ضد اللاجئين السوريين التي أشرنا إليها سابقاً. ومن بينها أيضاً الاخلاءات الجماعية التي حدثت خلال الحرب، لا سيّما من المباني الفارغة والمساحات العامّة، والتي سنتناولها في الأقسام القادمة من هذا التقرير.
لعبت السلطات المحليّة خلال العام المنصرم دوراً محوريّاً في إنذارات الإخلاء المباشرة، لا سيّما للسوريين. إذ وثّقنا 43 طلب إخلاء من البلديّات، 67.4% كانت على صعيد جماعي، نُفِّذ منها 20. وبالنسبة للطلبات الباقية، فقد وثّقنا 103 طلب إخلاء من المالك، و24 طلب من الوكيل أو المؤجر. نشير أيضاً إلى طلبات الإخلاء من المحيط الذي تأثّر بالحملة ضد السوريين. ففي حالة، طلبت لجنة المالكين في المبنى إخلاء العائلات السورية منه، وفي حالة أخرى، قام أحد الأفراد النافذين بتهديد عائلة سورية أخرى. وكما في التقارير السابقة، لا زالت النسبة الأكبر من طلبات الإخلاء شفهية، إذ بلغ عددها 126 طلباً، بينما توزّعت الطلبات الأخرى على 24 طلب إخلاء مكتوب، 14 دعوى قضائية، و4 أوامر قضائية بالإخلاء صادرة عن دائرة التنفيذ، وهو ما يجب أن يحصل بعد مرور القضية من خلال المحكمة، إلّا أن هذا لم يحصل. بالإضافة إلى 4 حالات تعهّد فيها المستأجرون بالإخلاء وتنازلوا عن مأجورهم. وقد تمّ إرسال طلبات الإخلاء المكتوبة، من قبل المالك أو الوكيل (12 طلب)، ومن قبل البلدية (12 طلب أيضاً).
وقد ترافقت طلبات الإخلاء في العديد من الحالات مع ممارسات تعسفية مختلفة، أبرزها حجز أو رمي الممتلكات خارج المنزل (34 حالة)، التهديد بالدرك للإخلاء (28 حالة)، رفض تسلم الإيجار (18 حالة)، والتهديد بالاعتداء (17 حالة)، وغيرها من التعديات والممارسات التي عادةً ما تطال الفئات الأكثر استضعافاً خصوصاً الحالات من الجنسية السورية، حيث عانت بعض الحالات من مصادرة أوراقها الثبوتية، كما رفض بعض المالكين تجديد عقود الإيجار من أجل منع السكان من تسوية أوضاعهم القانونية. والأبرز في هذا المجال، هي الممارسات التعسفية التي مارستها البلديات، كبلدية زغرتا التي أغلقت البيوت والمباني بالشمع الأحمر؛ وبلدية البترون التي عمدت إلى إغلاق مبنى على السكان بالخشب والجنازير ثم إخلائهم وسط تكسير العفش والأثاث والأبواب؛ وبلدية بطرّام التي طلبت اجتماعاً مع السوريين حيث أوقفتهم أمام حائط وهدّدتهم بالسلاح وأرعبتهم لتكون النتيجة دفعهم إلى اتخاذ قرارهم بالإخلاء بعد فترة قصيرة.
وقد كانت أسباب مطالبة المستأجر بالإخلاء تتعلّق بتهديد ناتج عن تكلفة السكن (103 حالة)، أو بسبب ممارسات أو ظروف ضاغطة غير متعلقة بكلفة السكن (133 حالة)، أو نتيجةً لهذين السببين معاً (72 حالة). تشمل التهديدات الناتجة عن كلفة السكن وجود إيجار متراكم (62 حالة)، أو تعديل قيمة بدلات السكن الشهرية (55 حالة)، أو السببين السابقين معاً (14 حالة). وتتأثّر النسبة الأكبر من غير اللبنانيين التي تعاني من تهديد ناتج عن تكلفة السكن حيث بلغت 63%. فعلى الرغم من تأثّر جميع السكان بالأزمات المتتالية على لبنان وخاصة الحرب الأخيرة، تبقى الفئات المهمّشة الأكثر تأثّراً. بينما تشمل الظروف الضاغطة غير المتعلّقة بكلفة السكن بشكلٍ أساسي، المضايقات أو التعديات من المؤجر (51 حالة) أو من المحيط والجيران (43 حالة)، كما تتضمّن ظروف سكنية سيئة (45 حالة) ونزاعات حول عقد الإيجار (42 حالة)، وهنا تجدر الإشارة إلى ارتفاع نسبة المضايقات والتعديات من المحيط من 11 حالة في تقرير سابق من سنة 2023 إلى 43 حالة في سنة 2024، لما في ذلك من تأكيد جديد لمدى تأثّر السوريين بالحملة التحريضية التي تعرّضوا لها، وليس فقط من قبل أصحاب السلطة والنفوذ، بل من المحيط أيضاً.
وفيما خصّ الإخلاءات التي نُفّذت، وبالنظر الى الجدول، فقد اضطّرت 41 حالة إلى الانتقال خارج المدينة أو إلى الضواحي، ما يساهم في معظم الأحيان في قطع علاقاتهن\هم الإجتماعية والاقتصادية مع الحيّ الذي سكنوه سابقاً، وقد يؤدي إلى تكبّدهن\م مصاريف إضافية للتنقلّ إلى العمل أو للوصول إلى الخدمات الأساسية. من ناحية أخرى، أدّت الاخلاءات إلى تشرّد 60 حالة، لا سيّما في حالات الاخلاءات الجماعيّة للسوريين، حيث توزّعت الحالات المشرّدة بين السكن عند الأقارب أو الأصدقاء بنسبة 73%، وهو ما يعتبر تشرّد مستتر، بينما لم تجد 13 حالة مكاناً تلجأ إليه غير الشوارع، و3 حالات لجأت إلى مأوى. يُذكر هنا، أنّ أبرز التوصيات الدولية للحدّ من التشرّد تتلّخص بالوقف الفوري لأي عملية إخلاء قد تؤدي إلى التشرّد.
وبالإضافة إلى بلاغات الإخلاء التي وثّقها مرصد السكن، نشير في الجزء القادم من هذا التقرير إلى حالات الإخلاء التعسفيّة والطّرد بالقوّة من المساحات العامّة والأبنية الفارغة التي لجأ إليها النازحون جرّاء الحرب الإسرائيليّة الأخيرة.
أثر الحرب الإسرائيلية على السكن
يُعدّ اندلاع الحرب الإسرائيليّة على لبنان الحدث الأبرز في العام المنصرم، إذ خلّف تداعيات واسعة وعميقة، خاصّة على قطاع السكن.
فقد واجه النازحون تحدّيات سكنيّة حادّة، إذ وصل إجمالي عدد النازحات/ين قبل إعلان وقف إطلاق النار إلى 1,237,892 نازح/ة، منهم 190,102 نازح/ة في مراكز الإيواء أي بنسبة 15.35% فقط. وقد بلغ عدد مراكز الإيواء المعتمدة 1,177 مركزاً، وكان قد وصل 976 مركزاً (83%) منها إلى قدرته الاستيعابيّة القصوى10المصدر: تقرير رقم 49 للجنة الطوارئ حول الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان والوضع الراهن. وبحسب تقرير المنظمة الدوليّة للهجرة (IOM)، سكن حوالي 48% من النازحات/ين مع عائلات مضيفة (64% يعيشون في ظروف مكتظة)، و21% منهم في 1,015 مأوى جماعي، بينما وصل 29% منهم إلى السكن من خلال الإيجار، وانتقل 1% منهم إلى مساكن ثانويّة. أمّا النسبة المتبقية والبالغة 1% فقد شملت النازحات/ين الذين سكنوا في مبانٍ غير مكتملة، في خيام، أو مشرّدين في الحدائق والشوارع، أو في مواقع تمّ الاستقرار فيها ذاتياً (self-settled site)، وقد بلغت هذه النسبة حوالي 5% ضمن بيروت. وقد ترتّبت على كلّ من هذه الخيارات تحدّيات مختلفة على عدّة مستويات، لم تقتصر تأثيراتها على اللبنانيين فقط، بل طالت أيضًا اللاجئين السوريين والفلسطينيين والمقيمين الأجانب؛ هؤلاء وجدوا أنفسهم عالقين في أزمة إنسانية مركّبة، تتراوح بين مخاطر الحرب من جهة، وانعدام الحماية القانونيّة والاجتماعية من جهة أخرى، ما فاقم من هشاشة أوضاعهم وأضعف قدرتهم على إيجاد حلول مستدامة لمأواهم.
وقد تلقّى مرصد السكن – بعد تصاعد الاعتداء الإسرائيلي في 23 أيلول 2024 – 97 بلاغاً، وثّقنا منها 58 حالة، وكان 46 منها مرتبطة بشكل مباشر بالحرب. من بين هذه الحالات، سُجّلت 8 للبنانيين و40 لغير اللبنانيين، بينهم 26 عاملة أجنبية (18 من مدغشقر و8 مجهولات الجنسية)، و10 سوريين، و2 مصريين، و1 من بنغلاديش، و1 من ألمانيا، و1 من السودان، و1 من فلسطين. وفيما يلي تحليل لبعض الديناميكيات السكنية المستخلصة من هذه الحالات، بعلاقتها مع ثلاثة توّجهات سائدة في السكن برزت خلال شهرَي تصاعد الحرب: رفع الإيجارات، وإقصاء غير اللبنانيين، والطرد الجماعي باستخدام القوة.
1- رفع الإيجارات: استراتيجية لطرد القاطنين واستنزاف لمدخرات النازحين
وثّقنا في مرصد السكن 6 محاولات إخلاء من خلال رفع الإيجار على المستأجرين الحاليّين بهدف تأجير النازحين من الحرب، حيث نفّذ 4 منها. في إحدى الحالات، تمّ إخلاء المستأجر من منزله في إحدى بلدات قضاء الضنية تعسّفاً وبالتهديد بحجّة تخلّفه عن دفع الإيجار للشهرين الماضيين، وتمّ نقله إلى شقّة أصغر على شرط إخلائها بعد شهرين على الرغم من وجود عقد ايجار مكتوب لمدّة 3 سنوات يسمح له بالبقاء. إنّما وبحسب المستأجر، كان الدافع الأساسي للإخلاء هو طمع المالك بتأجير الشقة بسعر أعلى للنازحين من الحرب.
وفي حالة ثانية، تمّ إخلاء مستأجرة من الجنسيّة الفلسطينية أثناء غيابها ودون موافقتها، إذ سافرت المتصلة إلى خارج البلد لفترة وجيزة في 22 أيلول، وبعد أربعة أيّام، في 26 أيلول، اقتحم المالك شقّتها وأخبرها بعدم العودة، وأجّر الشقة لمستأجرين جدد بسعر أعلى، حوالي 700$، بعد أن كانت تدفع 150$ وبانتظام. أمّا في الحالة الثالثة، أبلغ المالك المستأجرة، وهي امرأة لبنانيّة، تعيش مع ابنتها في شقة في السبتيّة، بتوقّع زيادات في الإيجار خلال الأشهر القادمة لأنّه وبحسب وصفه “الكل هلق عم يغلّي الأسعار بسبب الأوضاع”، وأعطاها مهلة شهرين لقبول الزيادة أو الإخلاء، وذلك أيضا بعد أن رفع عليها الايجار من 200 الى 250$ في غضون 5 أشهر من تاريخ استئجارها المنزل. وهي تتمسّك بسكنها الحالي رغم ظهور تشقّقات في جدران الشقة، لعدم عثورها على بديل بسبب ارتفاع الطلب والأسعار نتيجة تصعيد العدوان الصهيوني، ولأن ابنتها مسجّلة في مدرسة مجاورة.
في الحالة الرابعة، منح المالك المستأجرين مهلة شهر لإخلاء المنزل لكي يتمكّن من تأجيره لعائلة نازحة، بعد عدّة طلبات إخلاء بحجج مختلفة. كان المستأجرون الحاليون من الجنسية السورية ويعيشون في المنزل منذ أقل من عامين دون اتفاقيات مكتوبة، وكانوا يدفعون 100$ شهرياً حتى رفع المالك الإيجار إلى 150$ قبل تصعيد العدوان الإسرائيلي في 23 أيلول 2024. عندما حدث ذلك، طلب المالك منهم مغادرة الشقة مع جيرانهم، مدعياً أنّ ابنه يرغب في تحويل الشقتين إلى دوبلكس للعيش فيه، ليتبيّن لاحقاً أن الهدف كان فقط زيادة الإيجار. أمّا بعد التصعيد، في أواخر شهر تشرين الأوّل 2024، بدأ المالك بتهديدهم بالإخلاء بسبب رغبته بتأجير المنزل لعائلة نازحة تدفع أكثر. وفي الحالة الخامسة، تفاجأت المستأجرة، وهي تعيش في شقة في صور بموجب عقد مكتوب لمدة سنة مقابل 300$ شهرياً وينتهي في تشرين الأوّل 2024، بمطالبة المالك بإخلائها قبل نهاية الشهر بحجّة انتهاء العقد ورغبته في تأجير الشقة للغير، وذلك بعد أن نزحت إلى بيروت بسبب تصاعد العدوان الاسرائيلي وبعد اتفاقها مع المالك على دفع نصف الإيجار أثناء غيابها.
تمثّل هذه الحالات وضعاً واسع النطاق ارتفعت فيه الإيجارات طوال فترة الحرب، ممّا عرّض السكان لخطر الإخلاء. كما تشير هذه الأمثلة، ومن ناحية اخرى، إلى وضع النازحين في موقف يضطرون فيه إلى استخدام كل مدّخراتهم لتأمين مأواهم، أو تعريض أنفسهم للخطر، وذلك في غياب أي شكل من أشكال السياسات الحمائية للدولة.
فقد وثّق مرصد السكن 9 حالات نزوح لعائلات من جنسيات مختلفة، جميعهم كانوا في حاجة إلى مساعدات مالية لتغطية تكاليف الإيجار والاحتياجات الأساسية، إذ توضّح هذه الحالات المختلفة مدى تأثير الحرب، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والمالية المتتالية. 4 من هذه الحالات هي عائلات من الجنسيّة السوريّة، نزحت إحداها من مسكنها في حي السلّم إلى بشامون حيث قام أحد المعارف بإيوائها في منزل شاغر يفتقد للأثاث والتجهيزات المنزلية الأساسيّة (مياه، كهرباء، غاز)، فيما لا يتجاوز دخل الأب شهرياً، 85 دولاراً.
وأخرى نزحت من بيروت لتسكن مع أقربائها في أحد المخيّمات في زحلة ليصبح مجموع الأشخاص في الخيمة 15 شخص. وعائلة أخرى نزحت من برج حمود إلى أحد مخيّمات زحلة أيضاً، حيث تقيم في خيمة مع عائلة أخت الزوجة. وهي اليوم تواجه ضغوطاً من زوج أختها الذي يطلب منها الإخلاء إذا لم تدفع نصف المبلغ شهرياً (إيجار الخيمة الكامل هو 400$ شهرياً) بسبب تزايد احتياجات المنزل وفقدان الخصوصية. أمّا العائلة السورية الأخيرة، فكانت قد نزحت إلى أحد المخيّمات في البقاع حيث استأجرت شقة فيها، فيما يزيد المالك الإيجار باستمرار.
ومن ال 9 حالات أيضا، 3 من الجنسيّة اللبنانية، نزحت إحداها من الضاحية الجنوبية إلى برج حمود حيث استأجرت منزلاً بمبلغ 200 دولار شهرياً، و75 دولاراً لخدمات المولد الكهربائي، في الوقت الذي أصبح فيه كل أفراد العائلة عاطلون عن العمل. وأخرى نزحت من الضاحية الجنوبيّة أيضاً إلى سن الفيل، حيث استأجرت شقة بمبلغ 250$ شهرياً عدا عن رسوم الخدمات، فتراكم عليها الايجار، وتواجه حالياً صعوبة في دفع الكسر البالغ 750$. والجدير بالذكر حالة امرأة لبنانية عابرة جنسياً، حيث عاشت في الجعيتاوي لمدة 7 سنوات، ثم اضطرّت للإخلاء بسبب تراكم الإيجار عليها فانتقلت من بعدها إلى حارة حريك، حيث عملت كمساعدة في صالون تجميل قبل أن تتعرّض لإصابة في يدها جراء انفجار مرفأ بيروت. ثمّ في الحرب، دُمّر منزلها وصالونها في حارة حريك، فاضطّرت للعودة مجدّداً إلى الجعيتاوي حيث وافق المالك على عودتها بشرط دفع كسر الإيجار، فرغم حصولها على قسم من المبلغ المتراكم إلّا أنّ المالك هدّد بإخلائها خلال أسبوعين إذا لم تدفع كامل المبلغ.
بالفعل، إنّ نسبة كبيرة من النازحين (حوالي 29%) لجأوا للإيجار كطريقة للإيواء، وهي نسبة قد تكون أقل من الواقع، إذ يصعب تحديد العدد الفعلي للمستأجرين بسبب عدم تسجيل العقود في معظم الأحيان، بالإضافة إلى غياب أي إطار رسمي أو تدخّل مباشر من الدولة في تنظيم عملية التأجير. فمن خلال دراسة أجريناها في استوديو أشغال عامّة على العيّنة التي شملت 383 وحدة سكنية موزّعة على مختلف المحافظات اللبنانية عُرضت للإيجار بين 23 أيلول و14 تشرين الأول 2024، تبيّن أنّ بدلات الإيجار مرتفعة ومتفاوتة وبعضها يفوق بدلات الإيجار ما قبل الحرب، إذ يتراوح إيجار الوحدات بين 100 و3800 دولار شهرياً، وهو ما يتجاوز بكثير الحد الأدنى للأجور في لبنان البالغ 201 دولار شهرياً. وقد أظهرت الدراسة أن نسبة كبيرة من النازحين غير قادرة على تأمين سكن مناسب لأنّ بدلات الإيجار تتجاوز دخلها الشهري. إنّ البدلات المرتفعة تستنزف مدخرات النازحين وتمنع عنهم حقهم في السكن والأمان من خلال تسليع السكن، حيث يتحول الحق الأساسي في الحصول على مأوى إلى سلعة قابلة للبيع وفقاً لظروف السوق، مما يفرض على الأسر النازحة دفع مبالغ ضخمة لا تتناسب مع أوضاعهم الاقتصادية المتدهورة.
في هذا السياق، بدلاً من أن يكون سوق السكن والإيجارات حكراً على المالكين والقطاع الخاص، متحكّمين بالعرض والأسعار بما يتماشى مع مصالحهم، كان لا بدّ من إرساء حلول بديلة تضمن للنازحين حقهم في السكن دون استغلالهم. من بين هذه الحلول هو إلغاء الإيجار كليّاً، بحيث لا يُجبَر النازحون الذين فقدوا منازلهم وسبل رزقهم على استنفاد مدخراتهم لدفع الإيجار. فبدلًا من تحميلهم عبء تكلفة الإيجار، يجب أن تتحمّل الدولة مسؤولية توفير الإيواء لهم بشكل مجاني، ما يضمن لهم الحد الأدنى من الأمان والاستقرار في ظروف الحرب، وما بعدها، لا سيّما مع استمرار حالة النزوح.
2- إقصاء غير اللبنانيين من خطط الإيواء الحكومية والأمن السكني
استناداً إلى بلاغات مرصد السكن، كان من الواضح أنّ العاملات الأجنبيات واللاجئون السوريون كانوا من الفئات الهشّة المتضرّرة من الحرب وتداعياتها، إذ شكّلوا 90% من الحالات التي وثّقها المرصد خلال تلك الفترة. ممّا لا عجب فيه، بحيث أنّ خطّة الطوارئ التي وضعتها الحكومة استجابةً للحرب استبعدت غير اللبنانيين من برامج الإغاثة عموماً، بما في ذلك الإيواء، حيث أشارت إلى أنّ التعاطي مع “الفئات السكانية الأخرى من غير اللبنانيين” سيكون بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة المختصة، تحديداً الأونروا للفلسطينيين، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (المفوضية) UNHCR للسوريين، ومنظّمة الأمم المتحدة للهجرة للعمال الأجانب.
فعلى الرّغم من أنّ الأونروا فتحت في 24 و25 أيلول ثلاث مراكز إيواء (مركز تدريب سبلين ومدرسة نابلس في الجنوب، ومدرسة طوباس في الشمال) لاستقبال كافة النازحات/ين بغض النظر عن جنسيتهم، إلّا أنّ المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (المفوضية) UNHCR أخفقت11بحيث كتبت بشكل واضح على صفحتها وضمن خانة “الدعم العاجل للمسكن”، أنّ “خيارات المسكن/المأوى محدودة للغاية للاجئين والمهاجرين النازحين. ندعوكم إلى العثور على سكن فوري مع الأقارب والأصدقاء أو إيجاد حلول أخرى”، و”يُرجى عدم التوجه إلى مكاتب المفوضيّة أو مراكز استقبال المفوضيّة طلباً للإيواء/المسكن”. وقد تمّ إرفاق خطوط الاتصال الساخنة الصادرة عن الدولة اللبنانية المتعلّقة بمراكز الإيواء في الخانة نفسها. في تحمّل أي مسؤوليّة متعلّقة بتأمين الإيواء للاجئات/ين والعمال والعاملات المهاجرات/ين النازحات/ين، وانحصر دورها في تحويل اللاجئات/ين السوريات/ين إلى مراكز الإيواء المعتمدة رسمياً، أو محاولة التشبيك مع منظمات أخرى لتأمين أماكن للإيواء ضمن المراكز المتوفّرة، فبات النازحون السوريون، بين خطة طوارئ تستبعدهم ومفوضية تتجاهلهم.
بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت أوضاع العمال الأجانب في لبنان مع تصاعد الحرب، حيث وجد العديد منهم أنفسهم فجأة بلا مصدر دخل، مما أدّى إلى فقدانهم سكنهم. وتعكس الحالات الموثّقة من مرصد السكن مصير عاملات أجنبيات، خصوصاً من مدغشقر، خسرن وظائفهن نتيجة هجرة أو نزوح أصحاب العمل أو تدهور الأوضاع الاقتصادية بعد الحرب. لم يكن فقدان الدخل مجرد أزمة اقتصادية، بل تحوّل إلى كارثة إنسانية، حيث تعرّضت العديد منهن للإخلاء القسري، واحتجاز ممتلكاتهن، والاضطرار إلى التنقل بين المنازل بحثاً عن مأوى مؤقت. ففي إحدى الحالات، فقدت إحدى العاملات التي كانت تقيم في النبعة عملها عندما غادرت العائلة التي كانت تعمل لديها إلى نيويورك، ما جعلها غير قادرة على دفع إيجارها الشهري. قام المالك بإغلاق باب شقتها أثناء غيابها، محتجزاً ممتلكاتها، ورافضاً الإفراج عنها قبل دفع المستحقات. بعد حين، تم حلّ المشكلة، لكن فقط بعد أن تمكّنت من تأمين المال من إحدى المنظمات غير الحكومية. إلّا أنّ المالك استمرّ في مضايقتها بعد ذلك، إذ كان قلقه الأساسي حول كيفية دفعها للإيجار القادم، نظراً لأنّ المساعدة التي حصلت عليها كانت لمرة واحدة فقط. وعاملة أجنبيّة أخرى من مدغشقر تقيم في سن الفيل، خسرت عملها بسبب الحرب وتراكم عليها إيجار شهرين، وهي الآن تواجه تهديداً من المالك بالإخلاء.
أمّا بالنسبة للسوريين، فقد تمّ توثيق أربع حالات إخلاء للسوريين، شملت إخلاءاً من مدرسة القطين في قضاء المنية-الضنية، إخلاءاً من مدرسة القاع الرسمية، التي كانت تُستخدم كمركز إيواء رسمي، والثالثة طلب إخلاء امرأة سورية مطلّقة مع أطفالها من منزلها في زحلة بحجة إشغالها مكاناً غير مخصص للسكن، والرابعة طلب إخلاء عائلات سورية أخرى بعد نزوحها، استناداً إلى شكاوى الجيران بأن وجودها في المنطقة يسبب إزعاجاً.
أمّا عن مدرسة القطّين الرسمية12المصدر: بحث أجري من فريق مرصد السكن مع أحد النازحين في مدرسة القطين في تاريخ 5 تشرين الثاني 2024، فقد اعتُمدت أوّلاً كمركز إيواء بقرار من وزير التربية، وشُملت ضمن لوائح المراكز المخصّصة لاستقبال النازحين، وافتتحتها مديرتها بداية لعائلة سوريّة مع أقاربها إلى أن أصبح مجموع النازحين فيها 9 عائلات مؤلّفة من 49 شخصاً من بينهم 25 طفلاً، وهم جميعهم من الجنسية السورية13ناموا في البداية على الأرض بسبب النقص في التجهيزات إلى حين تأمين الفرش والمخدّات وحاجات أخرى من قبل الناشطين والجمعيات.. وقد حصرت المديرة استقبال المدرسة للسوريين ولم تستقبل النازحين اللبنانيين حرصاً منها “على تجنّب أي مضايقات أو إشكاليات” بحسب قولها. وبعد أيّام قليلة فقط، أعازت وزارة التربية والتعليم المديرة بإخلائها بعد اكتشاف أنهم جميعاً من السوريين، تماشياً مع خطط الطوارئ التي استثنت غير اللبنانيين من الإغاثة، إلّا أنّ المديرة لم تنفّذ الإخلاء. وبقي النازحون في المدرسة مدّة شهرٍ ونصف إلى حين بدء وزارة التربية بتنفيذ خطّتها للاستجابة الطارئة للتعليم، التي على إثرها ضُمّنت مدرسة القطّين ضمن لائحة المدارس التي ستبقى كمركز إيواء، ونقل الطلاب المسجّلين فيها إلى مدرسة أخرى في البلدة المجاورة.
فاعترض الأهالي على هذا القرار، وتمّ استغلال هذا الاعتراض من من قبل القيّمين على المدرسة ومختار البلدة لطلب إخلاء النازحين على الفور، دون إعطائهم أي مهلة ودون تأمين بدائل مناسبة، ممّا أجبر بعضهم على العودة إلى الجنوب رغم المخاطر. إنّ ما حدث يعكس تناقض السياسات الرسميّة، حيث أبقت المدرسة على لائحة مراكز الإيواء لكنّها دعت إلى إخلاء النازحين دون حلول واضحة وتحت ضغط الجهات المعنيّة، كما تعكس سياسة إقصاء معتمدة تستهدف النازحين السوريين. وأخيراً، وضعت هذه السياسات الناس في مواجهة بعضهم البعض، أي أهالي الطلاب بوجه النازحين، وألقت مسؤوليّتها في توفير البدائل السكنية على الناس، وجعلتهم جهة فاعلة في حل مشكلة الإيواء؛ حيث اضطر أهالي التلاميذ، ولو بشكل محدود، إلى تمويل إيواء النازحين، في حين كان يُفترض بالدولة أو الجهات المعنية أن تتولّى هذه المسؤولية. كما أن إدارة المدرسة والمخاتير وأهالي البلدة وجدوا أنفسهم في مواجهة ضغوط لإيجاد بدائل سكنية لمن تم إخلاؤهم، في غياب أي خطة دعم رسمية.
وفي نفس السياق، نفّذ أهالي طلاب مدرسة الفارابي وروضة ضهر المغر في منطقة القبة، طرابلس، والتي تضم عشرات العائلات النازحة، يوم 14 تشرين الثاني 2024 اعتصاماً احتجاجياً للمطالبة بحق أبنائهم في متابعة تعليمهم في مدرستهم، ورفض نقلهم إلى مدارس أخرى. ليبدأ إخلاء النازحين في 18 تشرين الثاني 2024 بهدف إعادة فتح المدرسة أمام الطلاب واستكمال العام الدراسي، في الوقت الذي تواجدت فيه قوة من الجيش في المكان لضمان عدم وقوع أي احتكاك بين النازحين والمتظاهرين من أهالي الطلاب.
أما في حالة مدرسة القاع الرسمية، كانت إحدى العائلات التي تم إخلاؤها قد انتقلت من سوريا إلى لبنان بسبب الحرب السورية، واستقرت في قضاء النبطية حيث عمل رب الأسرة في ورش البناء، لكنّه كان يعاني من مشاكل مادية، وطلب المساعدة في دفع بدلات الإيجار بعد تراكم 3 أشهر من التأخير، حيث قام المؤجّر بتهديده بالإخلاء. أمّا بعد تصعيد العدوان الإسرائيلي، نزحت العائلة من قضاء النبطية إلى شتورة، حيث تم إيواؤها في مدرسة القاع الرسمية، ومكثت هناك يوماً واحداً فقط، قبل أن تقوم البلدية بإخلائها، إلى جانب العديد من النازحين السوريين في ساعات الليل. وجدت العائلة مأوى عند أحد المعارف الذي يملك مزرعة في مشاريع القاع، حيث استضافها في قن الدجاج الخاص به. وفي الحالة الثانية، اضطرت العائلة لإخلاء منزلها بسبب خطورة الوضع، لكنها اختارت البقاء في نفس المنطقة في زحلة بالقرب من مدرسة أطفالها. قامت العائلة باستئجار كراج في المدينة الصناعية مقابل 100 دولار شهرياً، إلا أنها لم تتمكن من دفع الإيجار منذ لحظة انتقالها إليه، حيث تراكمت عليها مستحقات لمدة 3 أشهر. كانت الأم لا تعمل، واضطر إبناها الأكبر سناً (15 و11 سنة) إلى التوقّف عن الدراسة والعمل في سوبرماركت لدعم العائلة. في الوقت عينه، كان الكراج الذي يقيمون فيه غير مفروش، باستثناء فرش قديم ينام عليه الأطفال، ويعانون من انتشار الحشرات والبق فيه. وكانت المياه تصلهم بشكل متقطع، ولا يستخدمون الكهرباء إلا للإنارة لتجنب تكبّد تكاليف إضافية. وفي النهاية، وصلهم أمر من البلدية بضرورة الإخلاء خلال أيام قليلة بحجة إشغالهم مكاناً غير مخصص للسكن. وفي الحالة الأخيرة، نزحت عائلة من بعلبك – بريتال إلى حرف أرده في زغرتا، حيث استأجرت منزلاً مقابل 150 دولاراً شهرياً. إلا أن الجيران اللبنانيين بدأوا بالتضييق عليهم، الأمر الذي دفع بالبلدية إلى طرد عائلة سورية أخرى كانت قد استأجرت الشقة المجاورة لهم بناءً على شكوى تقدّم بها الجيران. كما تواصلت البلدية مع صاحب المنزل و أبلغته أن بقاء العائلة في مكان سكنها غير مقبول بحجة أنهم سوريون ويجب عليهم العودة إلى سوريا، وذلك تفادياً لإزعاج الجيران اللبنانيين الذين قدموا الشكوى.
ومن خلال بحث ميداني أجراه استديو أشغال عامة في 13 مركز إيواء، تبيّن أنّ هناك 2 من أصل 13 مركز كان يستقبل حصراً النازحين من الجنسيات غير اللبنانية، أحدها مدرسة ميّ في طرابلس، إلّا أن النازحين السوريين فيها تعرضوا للإقصاء والتهديد والطرد وذلك بعد إيعاز من وزارة التربية ووزارات معنية أخرى، “التزاماً بخطة الطوارئ”، والتزاماً بخطّة الاستجابة الطارئة للتعليم والتي وضعت 4 تشرين الثاني كموعد لبدء العام الدراسي الجديد (القرار 854/م/2024)14بموجب هذه الخطّة، كان من المفترض افتتاح 350 مدرسة وثانوية للتعليم الحضوري و397 مدرسة وثانوية للتعليم عن بعد فضلاً عن 45 مدرسة وثانوية من التي يتمّ استخدامها كمراكز إيواء على أن تُخصّص هذه المدارس قسماً منفصلاً كمساحة تعليمية للتلامذة، والتي ترافقت مع نشر لائحة بالمدارس التي ستبقى كمركز إيواء والمدارس التي يمكن أن تفتح للتعليم، مع كيفية توزيع الطلاب المسجّلين، النازحين منهم وغير النازحين، في هذه المدارس.
كشفت أحداث مدرسة ميّ بالإضافة الى جميع الحالات التي وثّقها المرصد عن سياسة تواطؤ ممنهج لإقصاء اللاجئين، دون ضمان حق جميع النازحين بالسكن الآمن دون تمييز، حيث تتخلّى السلطات عن مسؤولياتها، وتُحمل الأمم المتحدة العبء الأكبر دون توفير حلول كافية.
3- الطرد الجماعي باستخدام القوة
في خضمّ الحرب والدمار والتهجير، وبينما يسعى الناس للعثور على ملاجئ ومساكن آمنة، عندما تدمّر الدولة أشكال الحمائية في سياساتها، وتحرّض السكّان على بعضهم البعض، يصبح من السهل استغلال الأزمة لإجبار السكان على مغادرة منازلهم وأمانهم، تاركين إيّاهم في مواجهة مصير غير معروف. فبعد فترة قليلة من عودة السكان إلى منازلهم وقراهم بعد تعرّضهم للتهجير القسري خلال الحرب وفقدانهم أفراداً من عائلاتهم، تلقّى مرصد السكن بلاغاً في 13 كانون الأوّل بإخلاء أكثر من 17 عائلة بالقوّة من مبنى في بئر حسن بحجّة أنّه مهدّد بالانهيار. ونُفّذ الإخلاء بناءً على قرار صادر عن النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بعد أن رفعت بلدية الغبيري إنذاراً تقدّمت به الجهة المالكة يفيد بأن المبنى معرّض للانهيار. وترافق الإخلاء مع اعتقال القوى الأمنية والجيش 6 من السكان بعد مقاومتهم عملية إخلائهم قسراً، وفي حضور عناصر من الأحزاب الفاعلة في المنطقة.
حصل الإخلاء دون اتّباع الإجراءات القانونية؛ حيث لم يتم اتباع آلية المسح والإجراءات للأبنية المهددة بالانهيار وفق المادة ١٨ من قانون البناء ولم يُصدر تقرير فني رسمي يثبت خطر الانهيار، بل استند القرار إلى طلب المالك الجديد. كما لم يتمّ اتّباع أصول التبليغ15بحسب القانون «عند تحديد مبنى مهدد بالانهيار، يتم إعلام المالك بقرار الهدم عن طريق إرسال إنذار له، وإذا لم يتلقَّ الإنذار لأي سبب كان، يجب إلصاق نسخة من الإنذار على المبنى المطلوب هدمه ونسخة أخرى منه على باب مركز البلدية أو مركز المحافظة» ومنح السكّان المهل الكافية للإخلاء16إذ «يجب إبلاغ مالك المبنى وسكّانه مسبقاً بقرار الهدم ومنحهم مهلة تتراوح بين 15 يوماً وشهرين من تاريخ الهدم والإخلاء،، بل تمّ تبليغ أحد السكان هاتفياً، ومُنِحوا خمسة أيام فقط للإخلاء. هذا ولم تُقدّم الهيئة العليا للإغاثة أو البلدية بدائل ملائمة، ولم يتم بحث حلول أخرى لتلبية احتياجات السكان ممّا أجبر العائلات على تدبّر أمورها، كلّ منها بنفسها. أتى هذا الإخلاء الجماعي باستخدام القوة بعد سلسلة إخلاءات جماعية للنازحين خلال الحرب، لا سيّما من المساحات العامة والمباني المهجورة.
مع تصاعد الحرب وازدياد موجات النزوح وعدم إمكانية مراكز النزوح الرسمية استقبال الأعداد المتزايدة – بسبب قلتها وعدم جاهزيتها وبعدها عن الأماكن التي تم النزوح منها – ، لجأ العديد من النازحين إلى المساحات العامة المفتوحة مثل الشوارع والحدائق والساحات والكورنيش البحري، بحيث كانت الملجأ الوحيد للفئات المستضعفة. إلّا أنّ السلطات اللبنانية سرعان ما أغلقت هذه المساحات مثل حدائق الصنائع و الجعيتاوي، ومنعت النازحين من اللجوء إليها. كما تمّ طردهم بالقوّة من مساحات أخرى، كما حصل في إحدى الحدائق العامّة في زحلة، حيث أُجبروا على المغادرة من قبل صاحب محطة محروقات بحضور البلدية. في بيروت، أقدمت دوريات من مخابرات الجيش وأمن سوليدير على طرد النازحين من حديقة الصيفي وساحة الشهداء، حيث أقاموا مؤقتاً بعد العدوان الإسرائيلي.
وعلى الأرصفة والشوارع، طردت قوى الأمن النازحين الذين لجأوا إلى محيط كاتدرائية مار جرجس وسط بيروت، ممّا أجبرهم على الانتقال إلى تحت الجسور رغم استمرار التهديدات والمضايقات. كما تمّ طرد النازحين وإزالة البسطات من كورنيش عين المريسة والروشة والزيتونة والرملة البيضاء بحجة “إزالة التعديات”، حيث أقدمت القوى الأمنية على إزالة الخيم التي كان يسكن فيها أكثر من سبعين نازحاً، وقامت بتكسير بعضها وترهيب أصحابها باستخدام القوة المفرطة وبالأسلحة. وفي حرش بيروت، قامت القوى الأمنية بطرد اللاجئين السوريين فقط، بينما سُمح للنازحين اللبنانيين بالبقاء، ما يعكس تمييزاً واضحاً ضد الفئات الأكثر استضعافاً التي مُنعت أسااً من دخول مراكز الإيواء. هذا التمييز يتناقض مع حق استخدام المساحات العامة، خاصة في أوقات الحرب، حيث من المفترض أن توفّر هذه المساحات دعماً للنازحين وتعزّز شعورهم بالانتماء. وفي أغلب هذه الحالات، لم تقدّم السلطات أي بدائل سكنية آمنة للمتضررين، بل على العكس، كان تركيزها الدائم منصبّاً على “إزالة المخالفات والتعديات على الملك العام”، دون مراعاة للظروف الحالية أو لضمان الاستقرار السكني للمتضررين، خصوصاً لغير اللبنانيين، الذين تعتبرهم خارج نطاق مسؤوليّاتها.
كما برز الإخلاء التعسفي باستخدام القوة لنازحين كانوا قد قطنوا مبان مهجورة عبر وضع اليد. فقد شكّل وضع اليد على المباني الشاغرة وسيلة رئيسيّة للسكن من قبل النازحين في ظلّ نقص الخيارات السكنيّة الرسميّة، ارتفاع الإيجارات، واكتظاظ مراكز الإيواء. وقد وثّقنا في استديو أشغال عامّة، 34 مبنى شاغر تمّ إشغالها من قبل النازحين، 27 منها في بيروت، وهي مبانٍ شاغرة منذ 3 سنوات على الأقلّ وصولاً إلى 20 و50 سنة17وصلت نسبة الشقق والمباني الشاغرة فيها عام 2023 إلى معدّل الـ 20%، وهو ما يُعرف بالشغور المفرط والمزمن وطويل الأمد بحسب Housing Vacancy in Beirut 2023: Drivers and Trends. ففي بيروت التي شهدت زيادةً في عدد سكانها بنسبة 32.6% بفعل النزوح وخصوصاً بعد تصعيد القصف على الجنوب والضاحية الجنوبيّة، وصل عدد النازحات/ين في البعض من هذه المباني الشاغرة إلى 250 – 300 نازح/ة حتى الـ 600 نازح/ة (150 عائلة). وعلى الرغم من حالة الحرب، وعدم وجود بدائل سكنيّة للنازحات/ين، تعرّض عدد من هذه المباني وسكّانها لتهديدات بالإخلاء وتمّ تنفيذ الإخلاء (كامل أو جزئي) بالفعل في بعضها (10 مبانٍ على الأقلّ).
ولعلّ الأبرز من هذه المباني هو مبنى حمرا ستار ومبنى عبد الباقي في الحمرا، وأوتيل هيلدون في محلّة الروشة18بحيث تقع جميعها ضمن منطقة رأس بيروت العقارية حيث وصلت نسبة الشغور إلى 19.7% في عام 2018.
تشترك الحالات الثلاث في استخدام القوّة كعامل رئيسي، سواء من خلال اللجوء إلى القضاء الجزائي بدلاً من المدني، أو من خلال القرارات الفوريّة بالإخلاء، أو عبر استخدام العنف من قبل القوى الأمنية. في جميع هذه الحالات، رفع المالكون شكاوى ضد النازحين بتهمة احتلال الملك الخاص أمام النيابة التمييزية العامة، التي سارعت إلى ملاحقة النازحين وإصدار قرارات إخلاء خلال ساعات من تلقي الشكاوى، مع منحهم مهلة 24 ساعة فقط للمغادرة. هذه السرعة أثارت تساؤلات حول احتمال دور النفوذ السياسي للمالكين لتسريع الإجراءات، خاصّة أن أصحاب المباني الثلاثة ينتمون إلى عائلات ذات تأثير سياسي وطائفي. علاوة على ذلك، استندت النيابة العامة إلى مواد قانونية جنائية لتثبيت جرم “الاحتلال”، رغم أن هذه المواد لا تنطبق على الحالات قيد النظر19فتهمة خرق حرمة المنزل (المادة 571 من قانون العقوبات) لا يمكن تطبيقها على المباني المهجورة وغير المأهولة. أما تهمة الاستيلاء على العقار (المادتان 737 و738 من قانون العقوبات)، فهي غير صحيحة لأن النازحين حصلوا على موافقة مسبقة، ولو ضمنية، ولم تُسجل أي حوادث عنف أو إكراه. كما أن سكنهم كان مؤقتاً خلال الحرب، ما يعني أن نية التعدي على الملكية لم تكن موجودة. لقراءة المزيد، راجعوا تقرير “وضع اليد على المباني الشاغرة: تقرير حول عدم شرعية الإخلاء خلال الحرب”…..
إنّ التدخل المباشر للنيابة العامة في مثل هذه القضايا يُعدّ سابقة قانونية، خاصة أنها أعلى سلطة في القضاء الجزائي، وهو ما يتعارض مع الأحكام التي أصدرتها المحاكم الجزائية بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
أما من ناحية استخدام العنف من قبل القوى الأمنية لتنفيذ الإخلاء، ففي حالة حمرا ستار على سبيل المثال، اقتحمت العناصر الغرف دون أي اعتبار لحرمتها، وضربت النساء والمسنّين، وعملت على ترهيب الأطفال، وتكسير المكان وتخريبه. وتم نقل أحد النازحين إلى المستشفى نتيجة عنف قوى الأمن، بينما أصيب عدد من المتظاهرين بجروح، وكسرت ذراع أحدهم بسبب تعرّضه للضرب المبرح من القوى الأمنية.
إنّ الإخلاء القسري أثناء الحروب والطوارئ محرّم إذا أدى إلى التشريد وفقدان الحقوق الأساسية، وهو ما حدث هنا لغياب البدائل السكنية. كما لم تُتّبع الإجراءات القانونية السليمة، حيث لم يتلقَ النازحون إشعارات رسمية أو تبريرات قانونية واضحة، ولم تُمنح لهم مهلة مناسبة للإخلاء، مما يتعارض مع الحق في الدفاع القانوني. علاوة على ذلك، استخدمت القوة أثناء الإخلاء، رغم أن القانون الدولي يمنع العنف في هذه العمليات. أخيراً، تكشف هذه الحالات عن غياب حلول مستدامة للأزمة السكنية، حيث تُرك النازحون/ات لمصيرهم قبل وبعد الإخلاء، رغم الجهود التي بذلوها لتأهيل المباني وتحسينها. كما تبرز الديناميكيات السياسيّة والاجتماعية التي تؤثّر على حق السكن في المدينة، حيث تتداخل مصالح الملكيّة الفرديّة مع الاعتبارات السياسيّة والأمنيّة في قرارات الإخلاء، ممّا يطرح ضرورة إعادة التفكير في قوانين الملكية واستخدام الأراضي وتطوير سياسات سكنية عادلة تضمن الوصول إلى السكن، خصوصاً في أوقات الأزمات. كما يُشير إلى الحاجة لمقاومة تجريم عمليات “وضع اليد” على المباني الشاغرة خلال الحروب باعتبارها استجابة طبيعية لغياب البدائل السكنيّة.
أزمة سكنية متفاقمة تحتاج إلى معالجة شاملة
كشفت الحرب الإسرائيليّة عن اختلالات عميقة ومتجذّرة في واقع وسياسات السكن في لبنان، وفاقمت الأزمة بشكل غير مسبوق. فإلى جانب التحديات السكنيّة التي واجهها السكان قبل الحرب والتي استعرضناها في هذا التقرير، كان من المفترض والمتوقّع أن تستدعي الأوضاع الطارئة التي فرضتها الحرب، تدخّلاً رسمياً وسياسياً عاجلاً ضمن خطة طوارئ متكاملة وشاملة، تمنع التشرد وتجنب كارثة إنسانية، عبر اتخاذ إجراءات لتوفير حلول سكنيّة للنازحين، من خلال فرض رقابة صارمة على الإيجارات للحدّ من الاستغلال، وتأمين سكن مؤقت عبر إشغال المباني الشاغرة (الخاصة والعامة)، إضافة إلى تقديم مساعدات مالية موجّهة لتلبية احتياجات السكن ودعم النازحين الذين فقدوا مساكنهم وسبل عيشهم، على سبيل المثال لا الحصر. إلّا أنّ السلطات فشلت في الاستجابة لهذه التحديّات بفعالية. وبالتالي، فتحت هذه الحرب فصلاً جديداً في الأزمة السكنية في لبنان. فالتداعيات طويلة الأمد بدأت تتكشّف، وتحديّات السكن ما بعد الحرب بدأت تتبلور (سنتناول هذه التحديات في مقال قادم).
اليوم، نحن بحاجة إلى ما هو أبعد من الحلول المؤقتة والإجراءات الترقيعيّة. فالمطلوب هو اعتراف السلطات اللبنانيّة بعجزها في إدارة الأزمة السكنيّة، قبل وخلال الحرب، ووضع قضية السكن في صلب سياساتها لما بعد الحرب. هذا يتطلب تطوير استراتيجيات شاملة، وإقرار قانون يكرّس الحق في السكن، ليس فقط لمعالجة الأزمات القائمة، بل أيضاً للاستعداد لما قد تحمله الأزمات المستقبلية، في بلد يدور في حلقة من الكوارث والحروب والنكسات. فغياب سياسات سكنيّة متينة وعادلة يعيد إنتاج الكارثة مع كل أزمة، ويجعل السكان، لا سيّما الفئات المهمّشة، عالقين في دوامة التهجير وفقدان الاستقرار السكني مع كل صدمة جديدة.
المراجع:
- 1إجمالي عدد الحالات 98، 94 منها مصدرها مرصد السكن، والباقي من الرصد الإعلامي
- 2إجمالي عدد الحالات 21، 18 منها مصدرها مرصد السكن، والباقي من الرصد الإعلامي
- 3
- 4وإلى جانب النزوح الداخلي، تسبّبت الحرب في موجات لجوء واسعة إلى سوريا، حيث سجّل الأمن العام اللبناني من تاريخ 23 أيلول لغاية 26 تشرين الثاني 2024 العام عبور 396,523 مواطن سوري 244,640 مواطن لبناني إلى الأراضي السورية. المصدر: تقرير رقم 50 للجنة الطوارئ حول الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان والوضع الراهن
- 5لقراءة التقرير كاملاً: حين تخفق خطة الطوارئ في الاختبار العملي: قراءة نقدية في إدارة الأزمة
- 6المصدر: تقرير المنظّمة الدوليّة للهجرة Mobility Snapshot – Round 65 – 25-11-2024
- 7المصدر نفسه
- 8المصدر نفسه، بحيث نسبة 1% من النازحين، بحسب التقرير، قد شملت النازحات/ين الذين سكنوا في مبانٍ غير مكتملة، في خيام، أو مشردين في الحدائق والشوارع، أو في مواقع تم الاستقرار فيها ذاتياً (self-settled site)، وقد بلغت هذه النسبة حوالي 5% ضمن بيروت.
- 9للمزيد من التفاصيل، الرجاء الاطلاع على جدول زمني يوثّق القرارات الرسمية، ومشاريع القوانين، والمداهمات التي تستهدف اللاجئين السوريين
- 10المصدر: تقرير رقم 49 للجنة الطوارئ حول الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان والوضع الراهن
- 11بحيث كتبت بشكل واضح على صفحتها وضمن خانة “الدعم العاجل للمسكن”، أنّ “خيارات المسكن/المأوى محدودة للغاية للاجئين والمهاجرين النازحين. ندعوكم إلى العثور على سكن فوري مع الأقارب والأصدقاء أو إيجاد حلول أخرى”، و”يُرجى عدم التوجه إلى مكاتب المفوضيّة أو مراكز استقبال المفوضيّة طلباً للإيواء/المسكن”. وقد تمّ إرفاق خطوط الاتصال الساخنة الصادرة عن الدولة اللبنانية المتعلّقة بمراكز الإيواء في الخانة نفسها.
- 12المصدر: بحث أجري من فريق مرصد السكن مع أحد النازحين في مدرسة القطين في تاريخ 5 تشرين الثاني 2024
- 13ناموا في البداية على الأرض بسبب النقص في التجهيزات إلى حين تأمين الفرش والمخدّات وحاجات أخرى من قبل الناشطين والجمعيات.
- 14بموجب هذه الخطّة، كان من المفترض افتتاح 350 مدرسة وثانوية للتعليم الحضوري و397 مدرسة وثانوية للتعليم عن بعد فضلاً عن 45 مدرسة وثانوية من التي يتمّ استخدامها كمراكز إيواء على أن تُخصّص هذه المدارس قسماً منفصلاً كمساحة تعليمية للتلامذة
- 15بحسب القانون «عند تحديد مبنى مهدد بالانهيار، يتم إعلام المالك بقرار الهدم عن طريق إرسال إنذار له، وإذا لم يتلقَّ الإنذار لأي سبب كان، يجب إلصاق نسخة من الإنذار على المبنى المطلوب هدمه ونسخة أخرى منه على باب مركز البلدية أو مركز المحافظة»
- 16إذ «يجب إبلاغ مالك المبنى وسكّانه مسبقاً بقرار الهدم ومنحهم مهلة تتراوح بين 15 يوماً وشهرين من تاريخ الهدم والإخلاء،
- 17وصلت نسبة الشقق والمباني الشاغرة فيها عام 2023 إلى معدّل الـ 20%، وهو ما يُعرف بالشغور المفرط والمزمن وطويل الأمد بحسب Housing Vacancy in Beirut 2023: Drivers and Trends
- 18بحيث تقع جميعها ضمن منطقة رأس بيروت العقارية حيث وصلت نسبة الشغور إلى 19.7% في عام 2018
- 19فتهمة خرق حرمة المنزل (المادة 571 من قانون العقوبات) لا يمكن تطبيقها على المباني المهجورة وغير المأهولة. أما تهمة الاستيلاء على العقار (المادتان 737 و738 من قانون العقوبات)، فهي غير صحيحة لأن النازحين حصلوا على موافقة مسبقة، ولو ضمنية، ولم تُسجل أي حوادث عنف أو إكراه. كما أن سكنهم كان مؤقتاً خلال الحرب، ما يعني أن نية التعدي على الملكية لم تكن موجودة. لقراءة المزيد، راجعوا تقرير “وضع اليد على المباني الشاغرة: تقرير حول عدم شرعية الإخلاء خلال الحرب”….