المقدمة
1- وضع اليد كوسيلة للوصول إلى الإيواء في بيروت
2- قصة ثلاثة مبانٍ شاغرة
3- الحجج القانونية الباطلة والنفوذ السياسي تداخلا في إقرار الإخلاء وتنفيذه
أ- عن الظروف المحيطة لقرار الإخلاء
ب- الخلل في اتهامات النيابة العامة
4- عن تحريم القانون الدولي لعمليات الإخلاء في أوقات الحروب
5- الحاجة إلى مقاومة تجريم وضع اليد
المقدمة
خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان والتي امتدّت على فترة تجاوزت الشهرين، شهدنا بشكلٍ ملحوظ استخدام المباني الشاغرة من خلال وضع اليد كوسيلة بارزة للوصول إلى السكن. وقد حصل ذلك في ظلّ تزايد النزوح والافتقار إلى الخيارات السكنية الرسمية المناسبة ووصول أغلب مراكز الإيواء الرسمية إلى قدرتها الاستيعابية القصوى، وارتفاع أسعار الإيجارات بشكلٍ جنوني، وافتقار “خطة الطوارئ الوطنية” إلى نهج شامل وتصوّر واضح للمأوى اللائق.
فقد وصل إجمالي عدد النازحات/ين قبل إعلان وقف إطلاق النار إلى 1,237,892 نازح/ة، منهم 190,102 نازح/ة في مراكز الإيواء أي بنسبة 15.35% فقط. وقد بلغ عدد مراكز الإيواء1بحسب التقرير رقم “49” حول الوضع الراهن فيما خصّ الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان الصادر عن وحدة إدارة الكوارث في 22 تشرين الثاني 2024. المعتمدة 1,177 مركز اً وكان قد وصل 976 مركزاً (83%) منها إلى قدرته الاستيعابية القصوى. وبحسب تقرير2تقرير رقم 65 الصادر في تاريخ 25 تشرين الثاني 2024. المنظمة الدوليّة للهجرة3تمّ رصد 899,725 فرد نازح، و188,119 نازح/ة مسجل/ة في 1,015 مأوى جماعياً. (IOM) ، سكن حوالي 48% من النازحات/ين مع عائلات مضيفة (64% يعيشون في ظروف مكتظة)، و21% منهم في 1,015 مأوى جماعي، بينما وصل 29% منهم إلى السكن من خلال الإيجار، وانتقل 1% منهم إلى مساكن ثانوية. أمّا النسبة المتبقية والبالغة 1% فقد شملت النازحات/ين الذين سكنوا في مبانٍ غير مكتملة، في خيام، أو مشردين في الحدائق والشوارع، أو في مواقع تم الاستقرار فيها ذاتياً (self-settled site)، وقد بلغت هذه النسبة حوالي 5% ضمن بيروت.
في هذا السياق، برز وضع اليد على المباني الشاغرة كوسيلة أساسيّة لوصول النازحين إلى الإيواء، لا سيّما في بيروت. فقد قمنا برصد 27 مبنى في بيروت الإدارية، تمّ إشغالهم من قبل النازحات/ين خلال الحرب، وقد قمنا بتوثيق عمليات وضع اليد هذه، كترسيخ لمفهوم الحق في المدينة والسكن. كما برزت أيضاً تهديدات أو تنفيذ إخلاء لـ 10 من هذه الأبنية.
بذا، يسعى هذا التقرير، من خلال دراسة ثلاث حالات، إلى توثيق الأدوات القانونية وشبكات العلاقات السياسية التي تمّ استخدامها لتنفيذ التهديدات بالإخلاء أو الاخلاءات في هذه المباني وتبيان عدم مشروعية عمليات الإخلاء القسرية هذه. لنقوم بالتركيز أيضاً على ضرورة مواجهة الخطاب الذي يجرّم ممارسات وضع اليد على المباني الشاغرة، بالأخصّ في زمن الحرب، وذلك بناءً على أسس قانونية/حقوقية، بعد أن تبيّن أن هذه الممارسات كانت بالفعل وسيلة للوصول إلى الإيواء في ظلّ غياب الخيارات، مثبتتاً بذلك أهمية هذه الوسيلة في استعادة القيمة الاجتماعية للمباني الشاغرة.
1- وضع اليد كوسيلة للوصول إلى الإيواء في بيروت
في محاولة لفهم حجم ممارسات وضع اليد على المباني الشاغرة ونطاقها خلال هذه الحرب، ومن خلال تركيزنا على بيروت الإدارية التي ضمّت العدد الأكبر من مراكز الإيواء بالرغم من كونها أصغر الأقضية وشهدت زيادةً في عدد سكانها بنسبة 32،6% بفعل النزوح، استطعنا رصد حوالي 27 مبنى شاغر في بيروت الإدارية تمّ إشغالها من قبل النازحات/ين من خلال وضع اليد، واستطعنا توثيق بعضٍ من هذه التجارب.
تقع هذه المباني ضمن عدّة مناطق جغرافية أبرزها الحمرا (12)، المنارة (2)، راس النبع (2)، والظريف (2) بالإضافة إلى العازارية (1)، فردان (1)، راس بيروت (1)، عين المريسة (1)، زقاق البلاط (1)، الأشرفية (1)، الروشة (1)، الباشورة (1) والرملة البيضاء (1). وقد تمّ الدخول إلى أغلبها بعد التصعيد الصهيوني بالقصف على الجنوب والضاحية. بعضٌ من هذه المباني كانت في الأساس فنادق شاغرة (4)، أو مبانٍ تربوية خاصة (4)، أو مبانٍ خدماتية، سكنية، تجارية أو تابعة لإدارة رسمية. وقد وصل عدد النازحات/ين في بعضها إلى 250 – 300 نازح/ة حتى الـ 600 نازح/ة (150 عائلة) من مختلف المناطق التي تعرّضت للنزوح4الجنوب، النبطية، الضاحية الجنوبية، والبقاع، إلخ.، ومن بينهم مسنّين وأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة. وقد تمّ الدخول إلى هذه المباني التي تعدّ شاغرة منذ 3 سنوات على الأقلّ وصولاً إلى 20 و50 سنة، من خلال مجموعة واسعة من العمليات، إمّا بمساعدة سكان الحي (1)، أو جمعيات (1) أو جهة حزبية (5)، أو بمبادرة المالك (4)، أو حتى من خلال الاقتحام بالقوة (1)، وذلك في ظلّ وصول نسبة الشقق والمباني الشاغرة في بيروت عام 2023 إلى معدّل الـ 20%، وهو ما يُعرف بالشغور المفرط والمزمن وطويل الأمد نظراً لكون 75% من الوحدات الشاغرة ظلّت شاغرةً لمدة تزيد عن عامين، وهو ما يعكس استخدام الفضاء العمراني لغايات استثمارية على حساب حاجة الناس إلى السكن.
وعلى الرغم من الحرب، وعدم وجود بدائل سكنية للنازحات/ين، تعرّض عدد من هذه المباني وسكانها لتهديدات بالإخلاء وتمّ تنفيذ الإخلاء (كامل أو جزئي) بالفعل في بعضها (10 مبانٍ على الأقلّ). وقد اختلفت الآراء إزاء عمليات الإخلاء هذه بين الاستنكار أو التأييد الكامل ووصف النازحات/ين بالمحتلّين المعتدين على الملكية الخاصة. بينما لعبت القوى الأمنية دوراً ناشطاً للحدّ من هذه الممارسات وحماية الأملاك الخاصة.
2- قصة ثلاثة مبانٍ شاغرة
نقدّم في هذا الجزء قراءةً لتجارب إشغال لثلاثة مبانٍ شاغرة، سكن النازحات/ون فيها خلال الحرب من خلال وضع اليد وتمّ تهديدها، وهي مبنى عبد الباقي ومبنى “حمرا ستار” في الحمرا، وأوتيل هيلدون في محلّة الروشة، بترابطها واختلافاتها، موضّحات في كلٍّ منها، السياق وراء التهديد بالإخلاء وتنفيذه. وقد أدّت التهديدات إلى الإخلاء الفعلي لمبنى “حمرا ستار” وأوتيل هيلدون، بينما تمّت مقاومة عملية الإخلاء في مبنى عبد الباقي.
تقع كافة هذه المباني ضمن منطقة راس بيروت العقارية حيث وصلت نسبة الشغور إلى 19.7% في عام 2018، وتشير دراسة لمختبر المدن- بيروت في عام 2023 إلى أنّ 27% من جميع الشقق السكنية في الحمرا بالتحديد كانت شاغرة. تختلف الملكية بين هذه المباني، ففيما يملك 14 شخص من عائلة عبد الباقي المبنى الخدماتي المسمى على اسم العائلة، يملك مبنى “حمرا ستار”، الشاغر منذ 8 سنوات، 13 شخصاً من آل عيتاني. أمّا أوتيل هيلدون، وهو فندق شاغر منذ أكثر من 3 سنوات، فتملكه مالكة واحدة من عائلة تابت وهي والدة المحامي ألان رنّو، الذي تولّى أمر الفندق في هذه المرحلة.
دخل النازحون/ات إلى المباني الثلاثة بعد التصعيد الصهيوني في 23 أيلول، وقد جرى وضع اليد عليها بطرقٍ مختلفة. بالنسبة لمبنى عبد الباقي، دخل إليه النازحون/ات -الذين بلغ عددهم حوالي 120 شخصاً قادمين من الضاحية الجنوبيّة، الجنوب، ومنطقة الزرارية وجوارها- بمساعدة جهة حزبية. أمّا بالنسبة لمبنى “حمرا ستار”، دخل إليه النازحون/ات، الذين بلغ عددهم 256 شخصاً (40 عائلة) من الضاحية الجنوبيّة، الجنوب، والبقاع، بمساعدة سكان الحي. وفيما خصّ أوتيل هيلدون، دخل إليه النازحون/ات، الذين بلغ عددهم 600 شخصاً (150 عائلة) من مختلف المناطق التي تعرّضت للنزوح، بموافقة ابن المالكة وبعد التفاوض معه. وقد أمّنت هذه المباني مأوى للنازحين/ين وهم بمعظمهم من النساء والأطفال، كما ومسنين/ات وأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة.
في الحالات الثلاث، لم تكن المباني المهجورة بحالةٍ مجهزة فعلياً للسكن. بالتالي قام النازحون/ات بتأهيلها لجعلها صالحة للسكن بالحدّ الأدنى. في مبنى عبد الباقي، قام السكّان بتركيب كراسي للحمامات ووصلها بشبكة الصرف الصحي على نفقتهم. وقد ساعد أحد مالكو المبنى النازحات/ين في مدّ اشتراك مياه وكهرباء، فيما واظب السكان على تنظيف المبنى وأقسامه المشتركة. وتمّ اختيار مسؤول عن المبنى، فقام بتنظيم وضع السكان في المبنى عبر توثيق معلومات حول عدد الأشخاص واحتياجاتهم، بينما قامت بعض الجمعيات بتأمين الأكل للسكان، وأمّنت إحدى المبادرات بعض الأدوية لهم. وقد حاول السكان جمع المال من بعضهم البعض لشراء غسالة وقارورة غاز للطهي. أمّا في مبنى “حمرا ستار”، فقد جهّزت العائلات المبنى المهجور وقامت بتنظيفه وصيانته وأمّنت الكهرباء والمياه، ليصبح مأوىً مؤقتاً لها، وذلك بدعم من بعض “اللجان الاجتماعية”5 بحسب تعريف المجموعات والعائلات عن أنفسهم. والناشطات/ين والجهات الفاعلة6تعمّدت العائلات عن عدم ذكر أسماء الجهات الفاعلة والجمعيات التي ساعدتها خلال فترة إقامتها في المبنى. الذين زوّدوهم بمعدات وأدوات التنظيف، وأغطية وحرامات، وأمّنوا لهم الغذاء والمستلزمات الطبية بشكلٍ دوري. وفي أوتيل هيلدون، قام النازحون/ات بتوفير إمدادات الكهرباء للأوتيل، وشراء خزان مياه، وقد قاموا بعدد من أعمال التصليح والتنظيف في أنحاء المبنى على نفقتهم، وبمساعدة بعض الجمعيات.
في الحالات الثلاث، حسّن السكّان من حالة المبنى ونظّفوه ونظّموا تواجدهم فيه بشكل جماعي وديمقراطي في أحيان كثيرة، لكنّ ذلك لم يمنع الإخلاءات.
لم تكن أسباب الإخلاء الحقيقية واضحة في حالة مبنى أوتيل “هيلدون” و “حمرا ستار” حيث أدّت التهديدات إلى إخلاء المباني، وكانت الذريعة فقط تغيير رأي المالك. أمّا في مبنى عبد الباقي الذي تمّ تهديده بالإخلاء، فقد بدأ الخلاف حينما قام الشباب الذين سهّلوا دخول النازحات/ين إلى المبنى بإحضار المزيد من النازحات/ين، وفتحوا الطوابق التي كان المالك قد اشترط عدم إشغالها، وعلى هذا الأساس تقدّم الأخير بشكوى أمام النيابة العامة. وعند حضور الدرك للإخلاء في 9 تشرين الأول، قام النازحون الذكور بمغادرة المبنى تاركين النساء والأطفال، على أمل ألّا يتعرّض الدرك لهنّ أو يحاولوا إخلاءهنّ بالقوة. ونتيجةً لمقاومة السكان، تمّ طرح موضوع الإخلاء ليصبح نقاشاً عاماً، ممّا دفع الناشطات/ين للانضمام، وقد سرّع ذلك من إطلاق المفاوضات مع أحد المالكين. على أثر ذلك، تقدّم النازحون بعرض مفاده 1) تولّي النازحين أعمال الصيانة والترميم في المبنى خلال فترة إقامتهم فيه، مقابل تنظيم المالكين لعقد إشغال على سبيل التسامح، 2) تعهّد النازحين بإخلاء المبنى عند إعلان وقف إطلاق النار، 3) ضمان النازحين المقيمين في المبنى عدم دخول أي نازح جديد إلى المبنى، وإبقاء الطوابق الذي اشترط المالك عدم الدخول إليها مقفلة. 4)توثيق شروط الاتفاق أمام كاتب العدل. والنتيجة كانت موافقة أغلب المالكين على اقتراحات النازحين، ورجوعهم عن قرار الإخلاء، ولم يتمّ توثيق الاتفاقية الجديدة بين المالكين والنازحين أمام كاتب العدل.
وفي مبنى “حمرا ستار”، تفاجأت النازحات/ون عندما تم إبلاغهم في 17 تشرين الأول بإنذارٍ لإخلاء المبنى. وفي 19 تشرين الأول، حضرت الأجهزة الأمنية، من مخابرات ودرك وأمن دولة لتنفيذ الإخلاء. رفض الأهالي بالطبع، ووقفت النساء بوجه القوى الأمنية. على ضوء مقاومة النساء ورفضهنّ، وفي ظل تواجد بعض الصحفيين ووسائل الإعلام والأشخاص الداعمين، أجّلت القوى الأمنية الإخلاء. تدخلت حينها جهات سياسية (حركة أمل) للتفاوض مع المالكين وتقديم ضمانات بإخلاء النازحات/ين المبنى فور إعلان وقف إطلاق النار. وعرض النازحات/ين دفع بدل إيجار للمالكين والتعهّد بتحمّل كلفة أي ضرر يطال المبنى، لكن عرضهم قوبل بالرفض القاطع. وفي 21 تشرين الأول، اشتبك النازحون/ات والمتظاهرون/ات الذين نظّموا وقفة تضامنية لدعمهم، مع قوى الأمن التي حاولت تنفيذ أمر الإخلاء باستخدام القوة المفرطة. عاد النازحات\ون واستولوا على المبنى بعد إخلائهم منه، واستمرّت الاشتباكات حتى فترة ما بعد الظهر عندما اضطر الجيش اللبناني إلى التدخل للتفريق بين النازحات/ين، المتظاهرات/ين والقوى الأمنية، بعد إشارة النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار بإمهال النازحين 48 ساعة إضافية للإخلاء. وبين 22 و24 تشرين الأول، أخلى النازحات/وت بالفعل المبنى بناءً على قرارٍ سياسي. في النهاية، توجّه بعض النازحين/ات إلى مبنى الجامعة الإسلامية في الوردانية والذي قامت حركة أمل بتأمينه لهم، في حين فضّل آخرون البحث عن ترتيبات إيواء أخرى في الحمرا، أو البقاء في الشارع في محيط المبنى، كما بقي عددٌ منهم في المبنى إلى حين تأمين بديل.
أمّا في أوتيل “هيلدون”، فقد بدأ الضغط على النازحين/ات ومطالبتهم بالإخلاء بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله، وذلك بالرغم من محاولة النازحين/ات التفاوض مع ابن المالكة، وعرضهم دفع بدلٍ للإقامة في الأوتيل، بالإضافة إلى توقيع تعهّدات أمام كاتب العدل بالإخلاء بعد انتهاء الحرب. فقد قدّمت المالكة شكوى بالتعدي على الممتلكات للنيابة العامة، وعلى هذا الأساس صدر أمر الإخلاء وتحرّكت قوى الأمن الداخلي للإخلاء. في المرّة الأولى، امتنع السكان عن الإخلاء وحاولوا التفاوض مع ابن المالكة والقوى الأمنية، كما تدخّلت بعض الجهات الحزبية (حركة أمل) كوسيط، لكن دون نتيجة. عندها رفعت المالكة دعوى على أحد النازحين الذي لعب دور وسيط للدخول إلى المبنى، وطالبته فيها بتعويض مقابل أضرار تدّعي أنها أُلحقت بالمبنى جرّاء إشغال النازحين له. وفي اليوم التالي، قام عناصر من قوى الأمن بإلقاء القبض عليه، واستعملوا ذلك كورقة ضغط على السكان للإخلاء. وبالفعل، قام النازحين/ات بإخلاء المبنى في 12 تشرين الأوّل، بحضور الجيش والمخابرات الذين طوّقوا المنطقة بالكامل أثناء الإخلاء. وعدت قوى الأمن النازحين/ات بتأمين سكن بديل في مدرسة يتمّ تجهيزها في الكرنتينا. لكن لم يتمّ التواصل معهم بعدها أو نقلهم إلى أي مركز إيواء.
3- الحجج القانونية الباطلة والنفوذ السياسي تداخلا في إقرار الإخلاء وتنفيذه
بعد أن تطرّقنا إلى قصة كلّ مبنى وكيفية الدخول إليه، كما وتفاصيل عمليات الإخلاء، نبيّن فيما يلي الأدوات القانونية وشبكات العلاقات السياسية التي تمّ استخدامها لتنفيذ التهديدات بالإخلاء والإخلاءات، ونسلّط الضوء على عدم مشروعية عمليات الإخلاء القسرية هذه التي ترافقت مع ممارساتٍ تعسفية.
أ- عن الظروف المحيطة لقرار الإخلاء
كما ذكرنا سابقاً، لم تتضح الأسباب والدوافع الحقيقية التي دفعت المالكين إلى المباشرة بإجراءات الإخلاء، باستثناء ربما حالة مبنى عبد الباقي الذي أتى التهديد بالإخلاء نتيجة خلاف دبّ بين المالك والنازحات/ين.
إنما الملفت في دراسة الحالات الثلاث هو تشابه الوقائع التي أحاطت بالمباني، من تراجع مالكي المباني عن موافقتهم الأولية للسماح للنازحات/ون بالاستفادة من عقاراتهم، إلى نوع الشكوى التي تقدّم بها هؤلاء لإخراجهم من المبنى، وصولاً إلى الجهة القضائية التي أصدرت قرار الإخلاء والنصوص القانونية التي استندت إليها لتبرير قرارها. إذ تقدّم المالكات\ون الثلاثة بشكوى أمام النيابة العامة التمييزية، متّهمين النازحات/ون باحتلال الملك الخاص عن طريق الدخول إليه بواسطة كسر قفل وخلع الباب من دون إذن. وفي حين سادت العادة أن يلجأ المالكين إلى القضاء الجزائي للاستحصال على قرار إخلاء سريع (مع العلم أن معظم النزاعات المرتبطة بالسكن تحمل الطابع المدني وتقع ضمن اختصاص المحاكم المدنية)، يشكّل تحرّك النيابة العامة التمييزية لملاحقة النازحين سابقة، باعتبار أنها أعلى مرجع في القضاء الجزائي، وتقع عليها مسؤولية متابعة الجرائم الأكثر خطورة التي تمس بالسلم الأهلي؛ فتخرج من اختصاصها الدعاوى المرتبطة بالاحتلال والتعدي على الملك الخاص.
من جهة أخرى، يشكّل قرار النيابة العامة التمييزية بملاحقة النازحات/ون تحوّلاً عن المسار القضائي الذي رسّخته المحاكم الجزائية بعد الاجتياح الإسرائيلي لعام 1982، حيث حكمت بشكل ثابت نحو نزع الصفة الجرمية عن الدخول السلمي إلى المباني الشاغرة بهدف استخدامها للسكن المؤقت، ليعلن عدم اختصاصه، ويسلّم الحالة لنظيره المدني7 القاضي المنفرد الجزائي – بعبدا رقم 365 تاريخ 26/04/1983.
إنما في الحالات الثلاث المعروضة أعلاه، لم تتردد النيابة العامة عن ملاحقة النازحين، وإصدار قرارات، في غضون بضعة ساعات من تلقي الشكوى، بوجوب إخلاء النازحين للمباني الشاغرة التي حوّلوها لمساكن مؤقتة، خلال مهلة 24 ساعة8بالمبدأ على النيابة العام أن تتحرك خلال مهلة 48 ساعة من تلقيها الشكوى، إنما التحقيق بالملف عادة ما يستغرق وقتا أطول.. بل أنّ السرعة والاجتهاد الذي بذلته النيابة العامة في التعامل مع هذا الملف، والذي يعادل إلى حد كبير الجهد الذي يبذله القاضي في ملاحقة أخطر الجرائم، ساهم في إثارة الشكوك حول استخدام المالكين المحتمل للشبكات السياسية الخاصة بهم لتسريع إصدار قرارات الإخلاء ضد النازحين.
فكما ذكرنا سابقاً، يأتي أصحاب المباني الثلاثة من خلفيات سياسية وطائفية مؤثّرة، بحيث ينتمي كل من مالكي عبدالباقي وحمرا ستار (آل عيتاني) إلى عائلات معروفة من المالكين الكبار في بيروت. ومثّلت القاضية نجاح عيتاني مالكي فندق الحمرا ستار، وهي رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت، بالإضافة إلى أن ابن مالكة أوتيل هيلدون الذي تولّى إدارة الفندق في الفترة الأخيرة وتعامل مع النازحين هو محامٍ. بذا لا يمكن استبعاد فرضية تدخل النفوذ السياسي لترجيح نتائج التحقيق بالملف لصالح المالكين.
ب- الخلل في اتهامات النيابة العامة
استندت النيابة العامة التمييزية إلى ثلاثة مواد جنائية، تخصّ جرمين محددين، لتثبيت جرم الاحتلال على فعل دخول النازحين إلى المباني الشاغرة. اعتمدت لمطابقة العناصر الجرمية على الوقائع إلى تبنّي المفهوم الضيق والحَرفي للقانون، دون البحث في نية المشرّع عند وضعه، ولا النظر في البعد الاجتماعي والأمني المحيط بالحالات الثلاث، قبل إصدار حكمها بحقها. نحاول في هذا القسم أن نستعرض الخلل في الحجج القانونية التي اعتمدتها النيابة العامة لتبرير قرارها بالإخلاء، عبر إثبات عدم تناسب الجرائم المنسوبة للنازحين مع أفعالهم.
بالنسبة لتهمة خرق حرمة المنزل
أوّل مادة جرمية استندت إليها النيابة العامة في قرارها هي المادة 571 من قانون العقوبات9تنص المادة على :” “من دخل منزل أو مسكن آخر أو ملحقات مسكنه او منزله، خلافا لإرادته وكذلك من مكث في الأماكن المذكورة خلافا لارادة من له الحق في إقصائه، عوقب بالحبس مدة لا تجاوز الستة أشهر. ويقضى بالحبس من ثلاثة اشهر الى ثلاث سنين إذا وقع الفعل ليلا، أو بواسطة الكسر أو العنف على الأشخاص، أو باستعمال السلاح، أو ارتكبه عدة أشخاص مجتمعين. التي تعاقب “كل من يدخل منزل أو مسكن الغير أو ملحقاته، خلافاً لإرادته…” خاصةً إذا “وقع الفعل ليلاً، أو بواسطة الكسر أو العنف على الأشخاص، أو باستعمال السلاح، أو ارتكبه عدة أشخاص مجتمعين”، وهو ما يعرّف بجرم “خرق حرمة المنزل“.
في الحال يتجه تفكيرنا نحو ما إذا كان بالإمكان “خرق الحرمة” بالنسبة للعقارات والأبنية الشاغرة أو المهجورة. وبالفعل، عند التعمق في نص القانون، يتّضح أن “المنزل أو المسكن” المقصود في نص المادة 571، هو المكان المستعمل لسكن الشخص سواء بصورة مستمرة أو متقطعة.
وإذا نظرنا إلى السياق الذي تقررت فيه المادة، نلاحظ ورودها ضمن الباب المخصص للجرائم التي تقع على الأشخاص، أي الباب الثامن من قانون العقوبات اللبناني، وليس ضمن الجرائم الواقعة على الأموال والممتلكات، والتي خصّص لها الباب الحادي عشر من القانون نفسه. بذا يمكن الاستنتاج أنّ غاية المشرّع من نص القانون هذا، هو حماية الإنسان في مسكنه أو في منزله ليبقى في منأى عن تدخّل الغير في خصوصياته. بذا فإن الحرمة المقصود حمايتها هي للإنسان الذي يشغل المنزل و ليس المنزل بحد ذاته، خاصةً إذا كان شاغراً أو غير مأهول10للتوسع في القراءة، مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 21.
بناءً على ما تقدّم، يتبين تجاهل النيابة العامة لغاية القانون، والذي هو حماية الناس في منازلهم، عندما قررت تطبيق مفاعيله على المباني التي تتمحور حولها دراستنا، والتي تتألّف من المباني التجارية والخدماتية (عبدالباقي) والفنادق (حمرا ستار والهيلدون) شاغرة ومهجورة منذ عدّة سنوات، لا من منازل أو مساكن يقطنها أفراد.
ومع انتفاء الحرمة المقصود حمايتها في نص المادة 571 عقوبات، ينتفي أحد العناصر المعنوية الأساسية لتحقّق جرم خرق حرمة المنزل، ما يُسقط بالتالي التهمة عن النازحين.
بالنسبة لتهمة جرم “الاستيلاء على العقار”
أمّا بالنسبة للمواد لأخر التي تحججت بها النيابة العامة في قرارها بالإخلاء، وهي المواد 737 و 738 من قانون العقوبات11المادة 737 عقوبات: “من لا يحمل سندا رسميا بالملكية او بالتصرف واستولى على عقار او قسم من عقار بيد غيره عوقب بالحبس من شهر الى سنة و بالغرامة من مائتي ألف إلى مليون ليرة تشدد العقوبة وفقا للمادة 257 في كل من الحالتين التاليتين: 1- إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الاشخاص او الاشياء. 2- إذا وقع الغصب على كل أو قسم من الطرقات العامة أو أملاك الدولة والأملاك المشاعية.” المادة 738 عقوبات: “من استولى دون مسوغ شرعي على عقار أو قسم من عقار، بقصد السكن أو الاشغال أو الاستثمار أو الاستعمال لأي غاية أخرى، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وبالغرامة تشدد العقوبة في كل من الحالات التالية:إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الأشخاص أو الأشياء. إذا وقع الاستيلاء على بناء تشغله احدى ادارات الدولة أو احدى الهيئات الادارية أو احدى المؤسسات العامة أو ذات المنفعة العامة. إذا لم يبادر الفاعل إلى ترك العقار واخلائه ضمن مهلة أسبوع من تاريخ تبلغه انذاراً خطياً أو إذا استمر في وضع يده عليه مدة تزيد عن الشهرين”، التي تطبّق على كل من استولى، دون مسوغ شرعي، من سند بالملكية أو بالتصرف أو غيره، على عقار أو قسم من عقار، بهدف تملّكه (م 737)، أو بقصد السكن أو الإشغال أو الاستثمار أو الاستعمال لأي غاية أخرى (م 738)، أو ما يعرّف بجرم “الاستيلاء على العقار“، الذي يشتدّ “إذا وقع الفعل ليلاً، أو بواسطة الكسر أو العنف على الأشخاص، أو باستعمال السلاح، أو ارتكبه عدة أشخاص مجتمعين”.
فمن الناحية الموضوعية، وبالنظر إلى الوقائع، إذا اعتبرنا أن النازحين دخلوا هذه المباني دون مستند أو سبب قانوني، بهدف السكن فيها خلال فترة الحرب، فإننا نصل إلى النتيجة التي وصلت إليها النيابة العامة، والتي مفادها أن انطباق جرم الاستيلاء و التعدي على فعل النازحين.
أنما كما في حال التهمة الأولى، أغفلت النيابة العامة أحد أهم العناصر المكوّنة للجرم المقصود في المادتين 737 و 738، حيث يفترض قيام الفعل الاستيلاء خلافاً لإرادة مالك العقار أو صاحب الحق فيه أو من يقوم مقامه.
إنما في الحالات الثلاث، يمكن رصد مثل هذه الموافقة: في حالة مبنى عبدالباقي، وافق المالك صراحةً على إشغال النازحين لمبناه، إنّما بشرط عدم دخولهم طوابق محددة، ليعود ويعدل عنها بعد مخالفة بعض النازحين للشرط الموضوع. لكن وقوع الخلاف بين المالك والنازحين لا يعني انتفاء هذه الموافقة في الأول، وهذا بدوره يعني عدم اكتمال عناصر جرم الاستيلاء. وبصورة مماثلة، دخل النازحون أوتيل الهيلدون على أثر مفاوضات جرت بين أحد النازحين وصاحب الأوتيل، بحضور مرجع ديني كشاهد، هو دلالة إضافية على الدخول السلمي للنازحين إلى المبنى. أما في حال مبنى حمرا ستار، فتشير جميع التقارير وشهادات النازحين إلى استقبال القاضية نجاح عيتاني، ممثلةً باقي المالكين، النازحين وأعطائهم موافقتها لإشغال المبنى، لتقوم و تسحبها بعد 20 يوماً، وتنفي إعطاءها أمام الإعلام.
وتبرز أهمية توفر هذا العنصر، أي غياب موافقة المالك على وضع اليد على عقاره، في اجتهاد القضاء الجزائي الذي اعتبر أنه “في حال جرى وضع اليد بناءً على مثل هذه الموافقة، واستمر رغم انقضائها أو رجوع صاحب الحق عنها، ينتفي بذلك أحد العناصر القانونية لهذا الجرم، و يصبح النزاع مدنياً غير متّصف بطابع جزائي”12المرجع نفسه.
و ليس هذا العنصر المادي الوحيد الغائب عن الجرم المنسوب لفعل النازحين، إذ أنّ “الاستيلاء على العقار” لا يتحقّق إلا بانتزاع الحيازة عن العقار من صاحب اليد الشرعي، غصباً وتعدياً، بالتهديد والعنف وبغير ذلك من الوسائل غير المشروعة، و هو إذاً الفعل الذي يعترض حيازة الغير وينتزعها دون رضاه ليُدخلها في حيازة جديدة دون وجه حق13 تمييز،غرفة 3، قرار 135، 1/6/2005. بمعنى آخر، يفترض تحقق الجرم أن يُنهي الفاعل حيازة من بيده العقار دون رضاه، ليُدخلها في حيازته14تمييز، غرفة رقم 7، قرار 354، 9/11/2006.
إنما في الحالات المعروضة هنا، كان دخول النازحين هادئاً وسلمياً، نظراً لأن المباني كانت غير مأهولة ومهجورة ومهملة من قبل أصحابها منذ فترة طويلة، وبالتالي لم يستوجب الدخول إليها اعتراض أي حيازة، أو إخراج العقار منها، ولا أن يترافق وضع اليد عليها بالعنف والقوة .
و إلى جانب عدم توفر أحد العناصر الماديّة المكوّنة لجرم الاستيلاء، يتضح من تحليل الوقائع، انتفاء أحد العناصر المعنوية المشروطة في نص المادة 737 عقوبات، والمتمثلة بتوفر النيّة لدى من يستولي على العقار، بتملك العقار. وتفترض هذه النية ألا يعترف “المحتل” بحق المالك على عقاره، ولا أن يعزم على رد العقار له. وهذه النية تنتفي في حال تبيّن أن الفاعل لا يهدف من استيلائه على العقار سوى أن ينتفع منه ويردّه15مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 22.
إنما هذه نية تغيب عن الحالات الثلاث، باعتبار أن النازحين في مبنى عبدالباقي تعهّدوا بالإخلاء عند إعلان الهدنة، وأبدوا استعدادهم لتوثيق هذا التعهد أمام كاتب العدل، وقد أخلوا فعلاً بعد انتهاء الحرب. في حين عرض النازحون في مبنى حمرا ستار دفع بدل إيجار للمالكين مقابل فترة إشغالهم المبنى، وكذلك فعل النازحون الذين شغلوا أوتيل الهيلدون، ما يدلّ على اعترافهم بملكية أصحاب العقارات وحقوقهم عليها، ونيّتهم ردّها إليهم عند انتهاء الحرب.
وعليه، تسقط تهمة الاستيلاء على العقار عن فعل وضع يد النازحين على المباني الشاغرة بهدف السكن المؤقت فيها.
4- عن تحريم القانون الدولي لعمليات الإخلاء في أوقات الحروب
حتى ولو أردنا للحظة تجاهل التحليل القانوني الذي تم عرضه، والتسليم جدلاً بقانونية تحرّك النيابة العامة ضد النازحين الذين وضعوا يدهم على الأملاك الشاغرة، يبقى الخلل في قرار الإخلاء مخالفته عدداً من المبادئ المكرّسة في القانون الدولي لحقوق الإنسان.
عن الامتناع عن عمليات الإخلاء خلال أوقات الحرب
تنتهك عمليات الإخلاء القسري جملة من حقوق الإنسان، أبرزها الحق في الحياة والأمن ومستوى معيشي لائق، ومن شأن هذه الانتهاكات أن تتفاقم في ظل الحروب. لذا شدّدت الهيئات الدولية المعنيّة بالحق بالسكن والحقوق المتاخمة له على حرص الدول، خلال أوقات الطوارئ، ألا تتم عمليات الإخلاء بالمطلق، إلا إذا كان الامتناع عن الإخلاء يشكّل خطراً أكبر على السكان. فقد نصّ القانون الدولي على: “عدم القيام بالإخلاء عندما تكون الأحوال الجوية سيئة بشكل خاص أو أثناء الليل أو أثناء حالات الطوارئ والحروب وانتشار الأوبئة”16التعليق العام رقم 7 الخاص بعمليات الإخلاء القسري (1997)، الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.، وأوصى “بالامتناع عن تنفيذ قرارات الإخلاء التي تؤدي إلى تشّرد الأفراد، أو فقدانهم لإحدى حقوقهم الأساسية”17 المرجع نفسه. أمّا في الحالات التي لا بدّ من تنفيذ الإخلاء، يبقى على الدولة مسؤولية ضمان اتباع الإجراءات القانونية الواجبة أو التشاور أو توفير بدائل مناسبة.
وأكّدت المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة الخاصة بالنزوح الداخلي هذا الحظر حين أدلت “أن النزوح، سواء بسبب الحرب أو عمليات الإخلاء، لا ينبغي أن يؤدّي إلى التشرّد أو انتهاك حقوق أخرى. ويتعيّن على الدول توفير مساكن بديلة، وضمان الوصول إلى المساعدات الإنسانية، وحماية كرامة النازحين18المبدأ 18 من المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة الخاصة بالنزوح الداخلي الصادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، 17/04/1998“.
بذا، يشكل قرار الإخلاء بحد ذاته وبغض النظر عن أسبابه وظروفه، انتهاكاً لفاضحاً لهذا المبدأ، حيث لم تتردّد السلطات القضائية في إصدار أمر بإخلاء النازحين في أوقات الحرب، في حين كانت على دراية كاملة بأزمة امتلاء مراكز الإيواء وتخبّط الدولة والمنظمات الدولية لإدارة الأعداد المتزايدة للنازحين، ولم تكترث لإمكانية تعريض هؤلاء الأشخاص للتشرّد في ظل انعدام الأمن والعدوان المتواصل.
عن وجوب اتباع الأصول القانونية
تكمن أهمية الالتزام بالإجراءات والأصول القانونية للإخلاء في ضمان الشفافية والعدالة عند تنفيذ الإخلاء، وتعزيز المساءلة، حمايةً لحقوق وكرامة السكان. لذا، يتعيّن على أي جهة أو سلطة تسعى لاتخاذ هذا النوع من الإجراءات الحصول أولاً على إذن رسمي وقانوني بالإخلاء وأن يتبلّغ السكان هذا الإذن. إنما في الحالات الثلاث، تبلّغ النازحين بقرار الإخلاء بطريقة غير رسمية، دون أن يتم إبراز قرار المحكمة الذي يحدد الأسباب الموجبة للإخلاء.
كما اشترط القانون الدولي منح المتضررين “مهلة معقولة” للإخلاء، يسنّ لهم خلالها البحث عن ترتيبات سكنية أخرى. إنما في الحالات الثلاث، أُمهِل النازحون بضعة أيام للإخلاء: ففي حالة مبنى عبدالباقي، تبلّغ السكان بقرار الإخلاء في 6 تشرين الأوّل، وحضرت قوى الأمن لتنفيذه في 9 تشرين الأوّل، أي بعد 3 أيام. بالنسبة لمبنى الهيلدون، مُنح السكان مهلة يومين لإخلاء المبنى. وكذلك الأمر بالنسبة لمبنى حمرا ستار، حيث تبلّغ السكان بوجوب الإخلاء في 17 تشرين الأول، وجرى التنفيذ في 19.
وفي حين أوجب القانون ضمان وصول المتضرّرين إلى سبل التقاضي والعدالة في جميع مراحل عملية الإخلاء، أغلق صدور قرار عن النيابة العامة التمييزية الطريق أمام النازحين لمواجهة الإخلاء والدفاع عن حقوقهم، كون قرارات النيابة العامة التمييزية لا تقبل الطعن بأي شكل من الأشكال.
عدم استخدام العنف عند الإخلاء
وفي حين يشترط القانون الدولي الامتناع عن استخدام القوة أو العنف أو أي نوع من أنواع التهديد أو الترهيب لتنفيذ الإخلاء، جرى إخلاء أوتيل الهيلدون بحضور الجيش والمخابرات الذين طوّقوا المنطقة بالكامل أثناء الإخلاء وكأنه حدثٌ أمنيٌ، وقاموا بالقبض على أحد النازحين الذي سهّل الدخول إلى المبنى وعمدوا إلى استخدام احتجازه كورقة ضغط على السكان، حيث بلّغوهم بإنّه سيتمّ إطلاق سراحه في حال وافقوا على إخلاء المبنى.
أمّا عند إخلاء مبنى “حمرا ستار”، فقد استخدمت قوى الأمن القوة المفرطة لإخراج النازحين، حيث أفادت التقارير عن اقتحام العناصر للغرف دون أي اعتبار لحرمتها، وضرب النساء والمسنين، وترهيب الأطفال، وقيامها بتكسير المكان وتخريبه. وتم نقل أحد النازحين إلى المستشفى بسبب تعرّضه للضرب المبرح من قوى الأمن، فيما أصيب آخرون بجروح.
عن وجوب توفير البديل اللائق في الحالات التي لا بدّ فيها من الإخلاء
أخيراً اشترط القانون الدولي توفير بديل في الحالات التي لا بد فيها من نقل السكان. وعليه، لا يحق للسلطات القيام بعملية إخلاء دون تقديم بدائل واقعية وآمنة وقابلة للتنفيذ وملائمة للأشخاص المعنيين، بالتشاور والتحاور معهم. إنما في الحالات الثلاث التي تابعناها حاولت قوى الأمن فرض الخيارات البديلة على النازحين، والضغط عليهم لإجبارهم على الإنتقال إليها دون موافقتهم الصريحة، كما تبيّن أن البدائل المقترحة لم تكن آمنة وملائمة لاستيعاب النازحين.
إذ عرضت قوى الأمن على الأهالي في حمرا ستار نقلهم إلى ما قيل لهم أنه “مستوصف الحمام”، الذي تبيّن لاحقاً أنه لا يسعهم، وأنه زجاجيّ وواقع في منطقة غير آمنة قام سكانها بتركها منذ أسابيع، وبالتالي لم يكن مكاناً مناسباً للسكن في ظل الغارات المتكررة. وعند الإخلاء الأخير، تم وعد الأهالي بنقلهم إلى مركز إيواء جديد تم استحداثه في منطقة الكرنتينا، وتبيّن أن المبنى لم يكن مجهّزاً بعد لاستقبالهم. فتقسّم النازحون بين من توجّه إلى مركز إيواء في الجامعة الإسلامية في الوردانية (وهي منطقة كانت قد تعرّضت لغارات منذ فترة قصيرة)، ومن “دبّر حاله”، ومن قرر افتراش الرصيف بجانب مبنى حمرا ستار، مع أمتعتهم، رافضين ترك المكان إلّا في حال تأمين مكان بديل لهم في بيروت تتوافر فيه إمكانات العيش بكرامة.
أمّا بالنسبة لمبنى عبدالباقي والهيلدون، لم يتم عرض أي بديل على النازحين عندما تبلّغوا بوجوب إخلاء المبنى.
5- الحاجة إلى مقاومة تجريم وضع اليد
مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان حيّز التنفيذ صباح الأربعاء في 27 تشرين الثاني، أخلى معظم النازحين/ات المباني التي وضعوا اليد عليها أثناء الحرب الإسرائيلية، مبددين بذلك مخاوف المالكين في تحويل السكن المؤقت في هذه المباني إلى سكنٍ دائم.
بالتالي، شكلّ وضع اليد على المباني الشاغرة خلال فترة الحرب استجابةً طبيعية لغياب البدائل السكنية وتعبيراً عن الحاجة الملحّة للإيواء في ظلّ ظروف النزوح. بالرغم من ذلك، ونظراً للتعريف المحدود لوضع اليد في القانون اللبناني، شهدنا محاولات قانونية وسياسية لتجريم هذه الممارسات، انطلاقاً من نوع الشكوى التي تقدّم بها المالكون لإخراج النازحات/ين من المباني بتهمة “احتلال الملك الخاص”، والجهة القضائية التي أصدرت قرار الإخلاء وهي النيابة العامة التمييزية والنصوص القانونية التي استندت إليها لتبرير قرار الإخلاء، وصولاً إلى احتمال استخدام المالكين للشبكات السياسية الخاصة بهم لتسريع إصدار قرارات الإخلاء ضد النازحات/ين، بالإضافة إلى الخطاب السائد الذي يقوم على ضرورة حماية الملكية الخاصة فوق كلّ شيء واعتبار واضعي اليد “محتلين”. وقد استطعنا في هذا السياق، أنّ نبيّن في هذا التقرير عدم شرعية عمليات الإخلاء التي لحقت بواضعي اليد على الأبنية الشاغرة في أوقات الحرب من جهة، وعرضنا من جهةٍ أخرى المبادئ والقواعد الدولية المنتهَكة أثناء تنفيذ الإخلاء.
بالمقابل، تظهر دراستنا لهذه الحالات الثلاث أن قصور القانون اللبناني لم يمنع النازحات/ين من محاولة ترسيخ طرق بديلة للوصول إلى السكن. فتفاوُض سكّان مبنى عبد الباقي مع المالك، على سبيل المثال، كان مبنياً على اقتراح تنظيم اتفاقية إشغال مؤقتة على سبيل التسامح مقابل تولّي السكان مهام ترميم المبنى وإصلاحه وتجهيزه، وحراسته خلال فترة الحرب وإلى حين إعلان الهدنة، يُضمّ إلى ذلك كلّه تعهّدٌ بالإخلاء يحدّد شروطاً وإجراءات واضحة لكيفية حصول الإخلاء واسترجاع المالك للمبنى، وهو ما طُرح أيضاً في حالة أوتيل هيلدون ومبنى “حمرا ستار”.
نذكر هنا مشروعاً مماثلاً في شمال الأردن، حيث تولّت إحدى المنظمات ترميم المباني المهجورة في المدن وتجهيزها واستخدامها كمساكن مؤقتة للاجئين السوريين في المنطقة، وذلك بموجب اتفاقيات منظمة بين المجتمعات اللاجئة ومالكي العقارات والمباني، ترخّص استخدام اللاجئين واستفادتهم من هذه المساحات الشاغرة، مقابل تولّيهم أعمال الصيانة. يجري هذا مع تقديم الترخيص ضمانات لمالكين تحفظ حقوقهم على عقاراتهم، ويتمّ تحديد آليات واضحة وإطار زمني محدد يمكنهم خلاله استعادة ملكيتهم.
في النهاية، يتّضح أن عمليات وضع اليد على المباني الشاغرة، سواء تمّت بموافقة المالكين أو من دونها، لعبت دوراً حاسماً في توفير مأوى مؤقّت للنازحات/ين، كما سبق وذكرنا. لذلك، تبرز الحاجة اليوم إلى مقاومة الخطاب الذي يسعى إلى وصمها بالخروج عن القانون والاحتلال، وإلى مقاومة الممارسات التجريمية لعمليات وضع اليد على المباني الشاغرة على أرض الواقع وإعادة النظر فيها وفي الحقوق المرتبطة بها من منظور قانوني وحقوقي.
تعود أصول حقوق واضعي اليد إلى أقدم المجتمعات الزراعية، حيث كانت زراعة الأرض واستخدامها للسكن أمراً أساسياً. وفي العصور الوسطى في أوروبا، على سبيل المثال، تم وضع قوانين لتشجيع استخدام الأراضي التي كانت تُترك غير مستعملة من خلال مكافأة من يستخدم الأراضي بشكلٍ منتج واكتسابهم حقوق عليها مقابل معاقبة مالكي الأراضي الغائبين، استناداً إلى مبدأ أن الأرض يجب أن تخدم الصالح العام. وهو ما يمكن أن يُطبّق اليوم على الوحدات والمباني التي تُترك شاغرة من قبل مالكيها باعتبارها استثمارات طويلة الأجل وذلك على حساب الحقّ في الوصول إلى السكن اللائق والميسّر. من ناحيةٍ أخرى، تدعو إشكاليات وضع اليد والحقوق المرتبطة بها إلى إعادة التفكير في قوانين الملكية واستخدامات الأراضي، وتسلّط الضوء على أوجه القصور فيها وفي السياسات المتعلّقة بالحقوق السكنية. من هنا، يجدر التركيز على ضرورة تطوير سياسات سكنية عادلة وشاملة تضمن الوصول العادل إلى السكن وإلى الأرض، بما في ذلك في أوقات الأزمات والحروب.
اقرأ/ي أيضا:
المراجع:
- 1بحسب التقرير رقم “49” حول الوضع الراهن فيما خصّ الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان الصادر عن وحدة إدارة الكوارث في 22 تشرين الثاني 2024.
- 2تقرير رقم 65 الصادر في تاريخ 25 تشرين الثاني 2024.
- 3تمّ رصد 899,725 فرد نازح، و188,119 نازح/ة مسجل/ة في 1,015 مأوى جماعياً.
- 4الجنوب، النبطية، الضاحية الجنوبية، والبقاع، إلخ.
- 5بحسب تعريف المجموعات والعائلات عن أنفسهم.
- 6تعمّدت العائلات عن عدم ذكر أسماء الجهات الفاعلة والجمعيات التي ساعدتها خلال فترة إقامتها في المبنى.
- 7القاضي المنفرد الجزائي – بعبدا رقم 365 تاريخ 26/04/1983
- 8بالمبدأ على النيابة العام أن تتحرك خلال مهلة 48 ساعة من تلقيها الشكوى، إنما التحقيق بالملف عادة ما يستغرق وقتا أطول.
- 9تنص المادة على :” “من دخل منزل أو مسكن آخر أو ملحقات مسكنه او منزله، خلافا لإرادته وكذلك من مكث في الأماكن المذكورة خلافا لارادة من له الحق في إقصائه، عوقب بالحبس مدة لا تجاوز الستة أشهر. ويقضى بالحبس من ثلاثة اشهر الى ثلاث سنين إذا وقع الفعل ليلا، أو بواسطة الكسر أو العنف على الأشخاص، أو باستعمال السلاح، أو ارتكبه عدة أشخاص مجتمعين.
- 10للتوسع في القراءة، مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 21
- 11المادة 737 عقوبات: “من لا يحمل سندا رسميا بالملكية او بالتصرف واستولى على عقار او قسم من عقار بيد غيره عوقب بالحبس من شهر الى سنة و بالغرامة من مائتي ألف إلى مليون ليرة تشدد العقوبة وفقا للمادة 257 في كل من الحالتين التاليتين: 1- إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الاشخاص او الاشياء. 2- إذا وقع الغصب على كل أو قسم من الطرقات العامة أو أملاك الدولة والأملاك المشاعية.” المادة 738 عقوبات: “من استولى دون مسوغ شرعي على عقار أو قسم من عقار، بقصد السكن أو الاشغال أو الاستثمار أو الاستعمال لأي غاية أخرى، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وبالغرامة تشدد العقوبة في كل من الحالات التالية:إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الأشخاص أو الأشياء. إذا وقع الاستيلاء على بناء تشغله احدى ادارات الدولة أو احدى الهيئات الادارية أو احدى المؤسسات العامة أو ذات المنفعة العامة. إذا لم يبادر الفاعل إلى ترك العقار واخلائه ضمن مهلة أسبوع من تاريخ تبلغه انذاراً خطياً أو إذا استمر في وضع يده عليه مدة تزيد عن الشهرين”
- 12المرجع نفسه
- 13تمييز،غرفة 3، قرار 135، 1/6/2005
- 14تمييز، غرفة رقم 7، قرار 354، 9/11/2006
- 15مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 22
- 16التعليق العام رقم 7 الخاص بعمليات الإخلاء القسري (1997)، الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- 17المرجع نفسه
- 18المبدأ 18 من المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة الخاصة بالنزوح الداخلي الصادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، 17/04/1998