في بئر حسن، إخلاء بعد النزوح، تحت ضغط التطوير العقاري، بحجّة حماية سلامة السكان 

المصدر: مقابلة مع أحد سكان المبنى بعد تنفيذ الإخلاء في 13 كانون الأول 2024

بـ “التدفيش والخبيط والاعتقال” تمّت معاملة سكان أحد المباني السكنية في بئر حسن يوم الجمعة 13 كانون الأول، أثناء إخلائهم قسراً من المبنى. هذا الإخلاء، الذي نفّذته قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني بحضور عناصر حزبية، جاء في وقت بالغ الحساسية بالنسبة للسكان الذين أنهكتهم الحرب الأخيرة وما رافقها من نزوح القسري من بئر حسن وقلقهم المستمر بشأن استهداف حيّهم وتهديد حيواتهم. فأُضيف هذا الإخلاء إلى معاناتهم بعد أقلّ من شهر على انتهاء الحرب. وأتى قرار الإخلاء الصادر عن النيابة العامة الاستئنافية بحجة أنّ المبنى مهدّد بالانهيار منذ ما قبل الحرب، في حين كانت الجهة المالكة – التي يُرجّح أنها نافذة سياسياً – قد هدّدت السكان بالإخلاء سابقاً في عام 2023. فما قصة المبنى وما هي حيّثيات الإخلاء؟

في تفاصيل تنفيذ الإخلاء

تلقّى أحد السكان يوم الاثنين 9 كانون الأول اتصالاً مفاجئاً من قوى الأمن الداخلي (الدرك) يخبرونه فيه بأنهم سيقومون بإخلاء المبنى بالكامل يوم الجمعة بموجب قرار قضائي بالإخلاء صادر عن النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان. وعند السؤال عن سبب صدور قرار الإخلاء، تمّ إعلامه بأن المبنى مهدّد بالسقوط منذ ما قبل الحرب وغير قابل للسكن وفقاً لبلدية الغبيري. ومُنح السكان مهلة لا تتجاوز 5 أيام للإخلاء ونقل أغراضهم.

في ظل الصدمة ، لجأ السكان إلى المفتي قبلان قبلان، أحد المؤثّرين الرئيسيين في المنطقة وعلى مستوى المرجعيات الدينية، حيث اجتمعوا معه وتلقّوا وعوداً بالبقاء. ثم شكّلوا وفداً صغيراً واتّجهوا إلى المخفر في يوم الإخلاء، واجتمعوا مع رئيس مفرزة الضاحية الذي كان جازماً وأبلغهم أن القرار لا يمكن تأجيله لأنّه صادر عن جهة قضائية. محاولاتهم للتفاوض معه لم تسفر سوى عن كسب بضع ساعات إضافية، حتى الساعة التاسعة مساءاً. إلّا أنهم، بعد ساعتين من عودتهم إلى المبنى، فوجئوا بوصول عناصر من الدرك وقوى مكافحة الشغب لتنفيذ الإخلاء.

يقول السكان بأن تعامل العناصر منذ اللحظات الأولى أظهر بوضوح أن الوضع كان مرشحاً للتحوّل إلى عنف. فأثناء محاولتهم التفاوض، بدأ العناصر في “التدفيش والخبيط”، ممّا أدّى إلى سقوط رجل مسنّ على الأرض. عندها، أقدم 10 شبّان من السكان على حرق الإطارات احتجاجاً على الإخلاء القسري. ورغم ذلك، تمكّن العناصر من الوصول إلى مدخل المبنى، حيث واجههم السكان، وغالبيتهم من النساء والأطفال. وفي هذه الأثناء، وقع إطلاق نار يعتقد السكان أنه كان مدبّراً لإعطاء ذريعة لقوى الأمن الداخلي لاستدعاء الجيش. وبالفعل، تدخّل الجيش بوحشية، كما وصف السكان، واقتحم المبنى، محطّماً بعض الممتلكات، وأجبرهم – وهم حوالي 17 أو 18 عائلة لبنانيّة الجنسية- على الإخلاء. كما تمّ اعتقال 6 من الشبان المحتجّين بتهمة إطلاق النار1 تمّ الإفراج عنهم في 18 كانون الأول..

عن الحي والوصول إلى السكن في المبنى

يقع المبنى الذي تمّ إخلاؤه في شارع السفارات في بئر حسن، بالقرب من مبنى وزارة الزراعة. شُيّد في بداية السبعينيات ضمن مشروع ضم وفرز قسّم المنطقة إلى عقارات جاهزة للبناء، كجزء من تصوّر حداثي استثماري لضواحي بيروت الجنوبية. بقيت بعض عقارات المشروع غير مبنية، أما تلك المبنية فبقيت خالية إلى أن سَكَنها نازحون بشكل غير رسمي خلال الحرب الأهلية2استُخلصت هذه المعلومات حول المبنى والحي من نص سابق أنتجه استديو أشغال عامة بعنوان “إخلاء جماعي في بئر حسن: الدولة تستمرّ بتجاهل المناطق غير الرسمية. تاريخياً، تُعدّ منطقة بئر حسن مع محيطها، كأحياء الزهراء والجناح والأوزاعي، ملجأً للنازحين جراء المجازر والمعارك والمواجهات العسكرية التي شهدتها بيروت ومناطق لبنان المختلفة بين عامي 1975 و1990. وبنى هؤلاء منازل لهم على الأراضي الخاصّة والعامّة (مثال حيّ الزهراء)، أو استقرّوا بطريقة غير رسمية داخل الشاليهات على البحر (الجناح) أو في المباني الفارغة في بئر حسن، وهو ما حصل في هذا المبنى بالتحديد. كان المبنى شاغراً في منتصف الثمانينات، فانتقلت إليه حينها عائلات مُهجّرةٌ ومُقتلعةٌ من الجنوب، ومن ضواحي بيروت الشرقية (النبعة، الدكوانة، المكلس، تل الزعتر)، نتيجة المجازر3استُخلصت هذه المعلومات حول المبنى والحي من نص سابق أنتجه استديو أشغال عامة بعنوان “إخلاء جماعي في بئر حسن: الدولة تستمرّ بتجاهل المناطق غير الرسمية.

ولكن القيمة الاستثمارية لمشروع الضم والفرز، “عادت” بعد نهاية الحرب ومع بدء مرحلة إعادة الإعمار، فجذبت المنطقة سكاناً جدد من طبقات اجتماعية غنية نسبياً، كان معظمهم من مغتربي أفريقيا والولايات المتحدة. أمّا عمليات إعادة الإعمار في بيروت، فترافقت مع قرارٍ سياسيٍ بإخلاء العاصمة من مهجّري الحرب القاطنين فيها بطريقة غير رسمية، عبر تخصيص تعويضات لهم للعودة إلى قراهم. لكن هؤلاء، كان مرّ على سكنهم في العاصمة أكثر من 20 عاماً، اعتبروا بيروت خلالها بمثابة مكان استقرارهم وسبيلاً لمعيشتهم، وشكّل إنخفاض قيمة التعويضات المخصّصة لهم أو عدم حصولهم عليها عائقاً أمام إيجاد بديل في العاصمة أو ضواحيها، فقرّر بعضهم البقاء4استُخلصت هذه المعلومات حول المبنى والحي من نص سابق أنتجه استديو أشغال عامة بعنوان “إخلاء جماعي في بئر حسن: الدولة تستمرّ بتجاهل المناطق غير الرسمية. وبقي موضوع عودتهم و/أو إخلائهم معقّداً ومثيراً للنزاع، كما حصل مع سكان هذا المبنى بالذات.

محاولات الإخلاء السابقة

في 21 تشرين الثاني 2023، أي منذ حوالي سنة تقريباً، وصل إلى مرصد السكن في استديو أشغال عامّة بلاغ من أحد سكّان هذا المبنى حول تهديده والسكّان الآخرين بالإخلاء القسري من قبل المستثمرين الذين اشتروا العقار، بحجّة أنّهم سكان “غير شرعيين”. تعود ملكيّة المبنى في الأصل إلى رجلٍ أرمنيّ، ولم تربط سكّان المبنى به أي علاقة تأجيرية منذ إشغالهم المبنى في الثمانينات، بينما دفع السكان مبلغاً مالياً للجهة الحزبية التي أدخلتهم إلى المبنى حينها، معتبرين أنهم “اشتروا” الشقق. خلال حياته، وفي فترة ما بعد الحرب اللبنانية، سعى المالك في أكثر من مرة إلى إخلاء السكان لكنّه فشل بذلك لإشكاليات مرتبطة بعدم إمكانية التعويض عبر وزارة المهجّرين أو التعويض بشكل غير كاف. في السنوات الأخيرة، توفّي المالك واختلف ورثته حول توزيع حصصهم في الملكية، ما أدى إلى بيع العقار لمالكين جدد. تداول السكان أسماء متعدّدة ومتفرّقة للمالكين الجدد، بما في ذلك اسم مستثمرين عقاريين، ليتبين لاحقاً أن المالك قد يكون مصطفى برّي، ابن رئيس مجلس النواب نبيه برّي. لكن لم يكن بإمكاننا تأكيد هوية المالك بشكل قطعي، إذ تبيّن عند طلب الاستفسار عن الصحيفة العقارية إلكترونياً أن العقار غير موجود أو غير مدقق إدارياً.

جرت مفاوضات الإخلاء مع السكّان عبر محامٍ من قبل الجهة المالكة الجديدة، وعَرض عليهم تعويضات اعتبروها بخسة لا تمكّنهم من الانتقال إلى بديل ملائم. وبعد أن توقّفت المفاوضات لفترة، عادت الجهة المالكة في عام 2023 للضغط على السكان للقبول بأقلّ التعويضات، مستغلّة أسعار العقارات المنخفضة في ظلّ الأزمة الاقتصادية. وعندما لم يقبل السكان جرى تهديدهم بالإخلاء من قبل الدرك، بالإضافة إلى تهديدهم بالتوقيع على تعهّدات بالإخلاء. إلا أن الإخلاء لم يتم في ذلك الوقت. ومن المرجّح أن الجهة المالكة، بعد فشل المفاوضات، لجأت اليوم إلى استراتيجية جديدة تتمثّل بالادّعاء أن المبنى مهدّد بالانهيار وغير صالح للسكن، وذلك بهدف إخلاء السكان بالقوّة عبر الجهات الرسمية تحت حجّة حماية سلامتهم.

الإخلاء بشكلٍ قسريّ

يُعدّ الإخلاء الحاصل مؤخّراً في المبنى قسرياً لأسباب عدة تتعلّق بكيفية الحصول على أمر الإخلاء وإبلاغ السكّان وتنفيذه بالقوة.
أوّلاً – لم يتم اتباع آلية المسح والإجراءات للأبنية المهددة بالانهيار وفق المادة ١٨ من قانون البناء: «عند تحديد مبنى مهدد بالانهيار، يُتّخذ قرار بهدمه استناداً إلى تقرير من الدوائر الفنية والذي يعتمد على تقرير من مهندس خبير محلّف قد فحص البناء بالوسائل والتقنيات المناسبة»، بل، بحسب السكان، أخذت بلدية الغبيري بعض العيّنات من المبنى، ولكن لم يجرِ الكشف الشامل عليه، ولم يصدر فيه أو يُنشر علناً أي تقرير فني. واعتمدت البلدية على الإخطار المقدّم عن المالك الجديد لترفع طلبه بإخلاء المبنى إلى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان التي بدورها أصدرت قرار الإخلاء.

ثانياً – لم يتمّ اتّباع أصول التبليغ ومنح السكّان المهل الكافية للإخلاء، إذ «يجب إبلاغ مالك المبنى وسكّانه مسبقاً بقرار الهدم ومنحهم مهلة تتراوح بين 15 يوماً وشهرين من تاريخ الهدم والإخلاء». في الواقع، تمّ تبليغ أحد السكّان شفهياً عبر الهاتف وبشكل غير رسمي بصدور قرار الإخلاء بحجة أن المبنى مهدد بالانهيار، ولم يُبلَّغ السكّان بصدور تقرير فني عن خبير ولم يطّلعوا عليه لتتسنّى لهم فرصة إجراء كشف يثبت العكس. كما أنهم أُعطوا 5 أيام فقط كمهلة للإخلاء وهي غير كافية حسب ما ينص عليه القانون.

ثالثاً – بحسب القانون «عند تحديد مبنى مهدد بالانهيار، يتم إعلام المالك بقرار الهدم عن طريق إرسال إنذار له، وإذا لم يتلقَّ الإنذار لأي سبب كان، يجب إلصاق نسخة من الإنذار على المبنى المطلوب هدمه ونسخة أخرى منه على باب مركز البلدية أو مركز المحافظة». إلّا أن القرار الذي اعتبر هذا المبنى مهدداً بالانهيار لم يُعلن وتمّ فقط تبليغ أحد السكان هاتفياً به دون غيره.

رابعاً – في حالة المباني المهدّدة بالانهيار، على الهيئة العليا للإغاثة – أهم الجهات المعنية بإدارة شؤون الكوارث – بتكليف من مجلس الوزراء وبعد تأمين اعتماد مالي لها، أن تقدّم بدل إيواءٍ للأشخاص الذين يعيشون في منازل تواجه خطراً كبيراً بالسقوط. كما على البلدية – وفق قانون البلديات اللبنانية بمادّتيه رقم 49 و50 – أن تؤمّن مساكن بديلة آمنة ومستدامة بشكل عام، وبغض النظر عن حصول كوارث. في حالة المبنى هذا، عُرض على السكان الانتقال إلى مبنى قريب في حالة أسوأ، ويضم طوابق مقسّمة إلى غرف مع حمام مشترك لكل طابق، كان يقطنها نازحون سوريون يعيشون في ظروف غير ملائمة. هذا ولم تُقدّم الهيئة العليا للإغاثة أو البلدية بدائل ملائمة، ولم يتم بحث حلول أخرى لتلبية احتياجات السكان. ونتيجة لذلك، اضطرت كل عائلة إلى تدبير أمورها؛ فمنهم من لجأ إلى منازل أقاربه أو أولاده، ومنهم من استأجر منزلاً مؤقتاً، مثل أحد السكان الذي استأجر شقة في منطقة الأوزاعي لمدة شهر رغم سوء حالتها، في انتظار العثور على مكان بديل أكثر ملاءمة.

مهجّرو الحرب اللبنانية تحت ضغوطات مستمرّة وقضيّتهم دون معالجة

إن الإخلاء القسري الأخير في مبنى بئر حسن هو استمرار لموجة الإخلاء التي بدأت منذ عام 2023. ما تغيّر اليوم هو استخدام الجهة المالكة لحجة تدهور حالة المبنى واحتمال انهياره كذريعة جديدة لإخراج العائلات التي وجدت في هذا المبنى ملجأً منذ الثمانينيات، عندما أجبرتهم الحرب اللبنانية على النزوح القسري وترك قراهم ومنازلهم. هؤلاء المهجرون مارسوا حينها حقهم في السكن والمدينة عبر الوصول إلى المخزون العقاري الخاص الشاغر. ورغم الوعود الرسمية المتكرّرة بحل قضية المهجّرين، بقي هذا الملف عالقاً، وما حدث في هذا المبنى يعكس بوضوح أن الديناميكيات المرتبطة بالتهجير لم تُعالج بالكامل. بقي المهجّرون حتى اليوم، أي بعد أكثر من ثلاث عقود على نهاية الحرب، أشخاصاً موصومين بـ “غياب الشرعية”، مُهملين، ومتروكين لأهواء كبار السياسيين وضغوطات السوق العقارية ومصالح تجّار البناء والمقاولين والمستثمرين، كما جرى اليوم في بئر حسن.

المراجع:

السكن قطاع البناء الغبيري بئر حسن بعبدا لبنان محافظة جبل لبنان
 
 
 

إخلاء جماعي في بئر حسن:

الدولة تستمرّ بتجاهل المناطق غير الرسمية

في منطقة بئر حسن، يقع مبنى تسكنه حالياً حوالي 17 عائلة كانت انتقلت إليه منذ منتصف الثمانينات. معظم هذه العائلات مُهجّرةٌ ومُقتلعةٌ من الجنوب، ومن ضواحي بيروت الشرقية (النبعة، الدكوانة، المكلس، تل الزعتر)، …

ما بعد إنهيار المباني: ما مصير السكان المتضرّرين؟

مقدمة– مُعدلات مُرتفعة للمساكن غير الآمنة في بيانات مرصد السكن– من يتحمل مسؤولية توفير  السكن البديل لمتضرري إنهيارات المباني؟– مبنى المسلماني في حيّ عرسال، منطقة صبرا – مبنى أمهز في صحراء الشويفات– مجمّع يزبك …

عن الإخلاء في ظل الحرب حمايةً للملكية الخاصة: “أوتيل هيلدون” مثالاً

مرةً أخرى، نوّثق قصة مبناً مهجور، وهو "أوتيل هيلدون" في الروشة، حيث لجأ حوالي 600 نازح/ة نتيجة الحرب الإسرائيلية. في البداية، دخل النازحات/ون إلى الفندق بموافقة ابن المالكة، الذي ما لبث أن غيّر ...

القوى الأمنيّة تهدد النازحات في منطقة الحمرا بالعنف والإخلاء من مبنى شاغر

كيف على السلطات التعامل مع إشغال المباني الشاغرة نتيجة الحرب والنزوح؟

بعد التصعيد الصهيوني الذي طال منازل المدنيين، نزحت عائلات لبنانية من البقاع والضاحية والجنوب، واحتمت بداخل مبنى “حمرا ستار” الواقع في العقار 70 الذي كان شاغراً منذ سنوات. دخلت العائلات بمساعدة أهالي الحيّ …

عن النزوح إلى مبنى عبد الباقي في الحمرا: 

وضع اليد كأداة لاستعادة الدور الاجتماعي للمدينة

الحق في المدينة هو تطبيق لحق الوصول إلى السكن ومساحات المدينة، من خلال الاعتراف بأهمية الدور الاجتماعي للمكان. اليوم، يحاول عدد من النازحات\ين تطبيق مفهومي الحق في المدينة والسكن من خلال وضع اليد ...