قصة تحت القصف: ماذا عن غياب الرقابة على الجمعيات المعنية باللاجئين؟

عندما ترك منزله في النبطية بعد شهرين من الحرب، لم يكن وليد يعلم بأن نزوحه سيُدخله في دوّامة من التشرّد والاستضعاف والعنصرية. فعند اشتداد الضربات والغارات الأخيرة على جنوب لبنان، قرّر وليد وزوجته وأطفاله الصغار وآخرين من عائلته اللجوء إلى زحلة. لمدّة شهرين، كانوا يعيشون تحت القصف، والزجاج يتطاير حولهم في ظل أصوات مرعبة “والحجار متل الشتا” التي تتناثر من حولهم. كان وليد -وهو من مواليد سنة 1995، متزوّج- قد انتقل وعائلته من سوريا إلى لبنان بسبب الحرب، واستقرّ في قضاء النبطية حيث عمل كـ”معلّم حجر” في ورش البناء.

عند وصولهم إلى زحلة، اتصل بإدارة الكوارث، فنصحوه بالتوجّه إلى مدرسة القاع الرسمية التي تستقبل النازحين. هناك، كان الصليب الأحمر باستقبالهم وسجّل متطوّعوه معلوماتهم، وقدّموا لهم الطعام. لكن عند حلول المساء، وصل رئيس بلدية القاع وأعضاؤها، وطردوا جميع السوريين من المركز.

جلس وليد مع زوجته أولاده (طفلين عمرهما ثلاث سنوات ونصف وسنتين) وعائلته الموسّعة (أي 10 أشخاص)، في الشارع إلى أن مرّ فان (باص صغير) بجانبهم. رقّ قلب السائق لهم، ودعاهم للبقاء في غرفة صغيرة في مشاريع القاع. “ضلّينا 10 أيام تقريباً، في قنّ دجاج”، يقول وليد، في الوقت الذي كان يحاول فيه التواصل مع المنظمات والمؤسسات الشريكة لمفوضية الأمم، دون جدوى. فقد كانت المفوضية تتمسّك بحجة أنّها لا تغطي المنطقة التي لجأ إليها وليد وعائلته.

توصّل بعدها لمنظمة إيطالية فاعلة في لبنان منذ سنين، التي قال لها موظّفها أنّه أمّن له سكناً في ملجأ مشترك في البقاع قرب زحلة. وفيما كان وليد مربكاً لا يعرف ما يجب فعله، لكثرة التهجير وقلة الاستجابة، توجّه وعائلته تحت القصف، من القاع مروراً ببعلبك، معرّضاً نفسه وزوجته وأطفاله وأهله للخطر، إلى زحلة، الكرك. وحين وصل، كان موظّف المنظمة قد أقفل هاتفه، في الوقت الذي كانت فيه منطقة الكرك تحت القصف والغارات. فتوجّه وعائلته إلى كنيسة مار شربل، واضطرّوا للمبيت في حديقتها مدّة يومين. مرّ بعدها شاب بجانبهم، ليطلب منه وليد مساعدته في شحن هاتفه، وافق الشاب وأخذه إلى منزله بجانب شركة تويوتا. عندها، وبعد يومين من تجاهله لهم، أجاب موظّف المنظمة على هاتفه. فسأله وليد حينها: “لماذا ورّطتني وطفيت خطّك؟”، فأجابه الموظّف: ” مافكرت إنو رح توافق وتجي”، وطلب من الشاب السوري أن يستضيف وليد وعائلته عنده أيام قليلة.

بالفعل وافق الشاب على استضافتهم، وبعد مرور أربعة أيام، اتّصل مشرف الملجأ من المنظمة، وقال لوليد بأن يأتي مع زوجته وأطفاله فقط، دون أبيه وأمه وإخوته، وبأنّه أمّن لهم مكاناً لمدة أسبوعين فقط، يبحثون خلالها عن بديل. عاد وليد واتّصل بالموظّف الأول معترضاً على ما تمّ تأمينه، قائلاً بأن أبيه كبير في السن، وبأنه لا يستطيع أن يترك أمّه وإخوته القاصرين في الشارع. تواصل هذا الموظّف مع المشرف، الذي وافق على استقبالهم جميعاً لفترة أسبوعين فقط.

توجّه وليد وعائلته من زحلة الكرك إلى البقاع الغربي – المرج حيث السكن المشترك للمنظمة. وهناك، بدأت رحلة جديدة من المعاناة. بدايةً، أجبِروا على التوقيع على عقد بترك الملجأ بعد أسبوعين، ثم قدّم لهم مشرف الملجأ المنظمة فرشاً مستعملة، وسخة وقديمة، وتمّ إعطاءهم مهلة أسبوعين، عليهم بعدها ترك الملجأ. اضطرّوا للقبول بما يجري، بعد ليال طويلة من النوم في العراء. وخلال مبيتهم في الملجأ، لم يقدّم لهم المشرف ما يحتاجوه لجعل بقائهم مريحاً، حتى التدفئة، في طقس البقاع البارد، مُنِعوا منها حتى بعد أكثر من أسبوعين من مبيتهم في الملجأ. “أطفالي تجمّدوا من البرد، مرضوا كلهم. نحنا كبار ماعم نتحمل البرد القارس. أعطوا كل يلي بالسكن المشترك تبع المنظمة صوابي (صوبيا) للتدفئة، إلّا نحن.” كان موظفو المنظمة يستخدمون طرقاً عقابية قمعية للضغط على وليد وعائلته على الإخلاء. فعند انتهاء المهلة، بدأ المشرف الملجأ نفسه يضايقهم. “كلام طالع نازل، بدك تطلع لو بيجي بان كي مون ومسؤول الأمم بدك تطلع”، على الرغم من أن وليد أكّد له بأنهم سيتركون المأوى في نهاية الأسبوع.

بسبب كل هذه الضغوطات وظروف العيش السيئة التي قدّمت لهم، توجّه وليد إلى مركز المنظمة في زحلة، وهددهم بالانتحار من سطح المبنى.

عندها، أتى الموظّف الأول الذي كان قد تواصل معه، مع موظّفة أخرى، وقالا له بأنهم لن يطردوه وعائلته إلى الشارع، وسيتكلّمون مع المشرف الملجأ لإبقائه في المأوى أسبوعاً آخر، وعاتبوه “لفضحه لهم أمام المنظمات الأخرى.”
“والحمد لله قبل مايخلص الأسبوع رجعت عالنبطية أنا وعائلتي،” يقول وليد، “أنا وعائلتي، رغم الخوف والهلع هنا (النبطية)، قررنا أن نموت هنا ولا نُضطهد وننزح ونتبهدل.”

استطاعت العائلة استئجار منزل ب300$ في النبطية، لكن تجربة النزوح التي تعرّضت لها العائلة، في ظل الحرب كانت صعبة وثقيلة عليها. فقد بقي وليد وعائلته في الشارع ليال طويلة، ثم في مركز الإيواء\الملجأ حيث عانى وعائلته القلق الدائم من الطرد والضغط المستمر لمشرف الملجأ، وذلك لمدّة شهر بكامله -أسبوعين ثم تمّ تمديده لأسبوع، مرّتين، بعد أن ضغطت عدّة مؤسسات على المنظمة الإيطالية.
بعد المسؤولية على الدولة اللبنانية، التي لم تأخذ بعين الاعتبار مكوّناً أساسياً من المجتمع في لبنان في خطة الطوارئ، وسمحت للبلدية بطرد كل السوريين ووليد وعائلته بعد وصولهم إلى المدرسة، تقع المسؤولية الأساسية هنا على المنظمة المذكورة. ففي الوقت الذي كان فيه وليد وعائلته يمرّون بأصعب ظروف، كانت المسؤولية الوحيدة لهذه المنظمة، أن تؤمّن لهم مسكناً، وهو ما تقوم به بشكل رسمي، لا كجميل أو خدمة تحتاج لواسطة. ومن المنطقي كان أن تحصل هذه العائلة على هذه الخدمة دون منّة من أحد.
كما فُرٍضَ على وليد أن يمضي مع المنظّمة عقداً، دون أن يتمّ التأكّد من أنّه فهم كل ما ينصّ عليه هذا العقد.

وكان في مركز الإيواء المستحدث بسبب الحرب، العديد من المساكن الشاغرة، بالرغم من أن حجة المنظمة كانت ضرورة حجز هذه المساكن للأكثر هشاشة، في الوقت الذي هدّدت في المنظمة عائلة من عشر أشخاص لاجئين بالإخلاء. لذا لم يكن قرارها بإخلاء وليد وعائلته مبرراً، خاصة عندما أظهرت خرائطنا أن جميع الملاجئ والمساكن المُتاحة في المنطقة كانت تعمل بكامل طاقتها، وهو أمر كان كل من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة على دراية به جيداً.

بالإضافة إلى ذلك، فقد تمّ تجاهل جهد مرصد السكن في تدخّله إلى جانب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. كما أنّنا تواصلنا مع المنظمة وسألناهم عما إذا كانوا على علم بأن إخلاء وليد وعائلته سيؤدي إلى تشرّدهم، فأجابوا بالإيجاب، وبأنّهم لا يستطيعون مساعدة جميع الحالات، في الوقت الذي كانوا فيه على دراية، من خلالنا ومن خلال وليد نفسه، بأن مشرف الملجأ كان يسيء معاملة السكان، لكنهم لم يفعلوا شيئاً حيال ذلك. من الضروري أن تكون المنظمات الدولية والمحلية التي تقدّم العون للاجئين، خاصة في ظل غياب دور الدولة المركزي في ذلك وتغاضي مؤسساتها عن فضح ممارسات رسمية عنصرية، أن تكون هي بدورها شديدة الحساسية بالتعامل مع الناس واتباع الإجراءات التي تضمن حقوقهم كما تنص عليها المبادئ الدولية، ومنها الامتناع عن الإخلاء أو التهديد به في أوقات الأزمات.

تسلّط هذه القصة الضوء على بعض ما يعانيه اللاجئات\ون السوريون في لبنان في الحرب، خاصة على مستوى العنصرية وغياب التعاطف والتضامن، من الجهات الرسمية المسؤولة عن تأمين احتياجاتهم.

اقرأ/ي أيضا:

السكن القاع قضاء البقاع الغربي قضاء النبطية قضاء بعلبك قضاء زحلة لبنان محافظة البقاع محافظة النبطية محافظة بعلبك - الهرمل