كيف يتم التعامل مع المناطق غير الرسمية في التخطيط المدني؟ يبدو هذا السؤال ملحّاً بالنسبة لمستقبل قضاء صور ومنطقة العباسية، حيث تشكّل المخيمات والتجمعات غير الرسمية مكوّناً أساسياً من نسيجها العمراني والاجتماعي .في هذا المقال نستعين بتجربة سكّان الشبريحا مع التهديد بالإخلاء والقلق في ظل انعدام البدائل للحفاظ على سبل العيش، وذلك بغية فتح نقاش أوسع عن أولويات التخطيط المدني ودوره في الإقرار بواقع ما هو غير رسمي والاستجابة لحاجات السكّان.
المخيّمات والتجمعات في صور الكبرى
يتكوّن ما يعتبر اليوم منطقة صور الكبرى من كتلة عمرانية واقعة ضمن سهل ساحلي خصب، في نطاق أربع بلديات هي على التوالي: بلدية صور، جزء من البرج الشمالي، جزء من عين بعال، وجزء من العباسية. الأجزاء غير المشمولة من هذه البلديات هي في الغالب غير مأهولة وتضم حقولاً زراعية بشكل رئيسي. يشار إلى أن هذا التعريف لمنطقة صور الكبرى نجده في دراسات المنظمات الدولية وفي تطوير المخططات الاستراتيجية للمدينة التي من المستحيل فهمها ضمن النطاق الحصري لبلدية صور، إن كان من منظور تاريخي أو سكاني.
عند النظر الى منطقة صور الكبرى، نجد أنّ عدد اللاجئين يصل الى حوالي 42٪ من مجمل عدد السكان1UN Habitat Tyre City Profile 2017.، يتوزّعون على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين (البص والرشيدية ضمن بلدية صور، ومخيم برج الشمالي ضمن برج الشمالي)، بالإضافة إلى التجمعات الفلسطينية غير الرسمية (المعشوق ضمن بلدية صور، وجل البحر وشبريحا ضمن بلدية العباسية). في كل من هذه المخيمات والتجمعات، غالباً ما تكون جنسيات السكان مختلطة وتشمل أيضًا اللبنانيين ومجموعات من اللاجئين والمهاجرين.
يبلغ إجمالي عدد السكان اللاجئين والمهاجرين في المناطق المذكورة حوالي 85 ألف شخص، يشكل اللاجئون الفلسطينيون المسجلون في الأونروا 87٪ منهم، والبقية هم من اللاجئين السوريين واللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا (وفقًا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين 2015 والأونروا 2016).
على الرغم من الوجود الكثيف لهذه الفئة السكانية والتجمعات غير الرسمية منذ الأربعينات، إلّا أنّ السلطة المخولة وضع التصاميم التوجيهية اختارت عبر السنوات تغييبها، وذلك على أمل متكرر بعودة اللاجئين الى فلسطين أو بنقل المخيم إلى أماكن أقل مركزية في المنطقة.
صدر أوّل تصميم توجيهي لمدينة صور في العام ،1966 وقد أوصى بأولوية نقل مخيم البص الواقع على مدخل مدينة صور من مكانه. على إثر هذه التوصية، اعتبر التصميم التوجيهي أنّ المخيم بمثابة زائل، فعمد إلى تقسيم العقارات والأراضي التي يقوم عليها إلى منطقة مستشفيات ومدارس ومراكز وسكن. كما نعلم، لم يُزل المخيم ولا أجزاء منه، بل على العكس من ذلك فقد تمدد بفعل التزايد السكاني والحاجة إلى التوّسع العمراني. ولأن التصميم لم يخطط لإمكانية التوسع، حصل ذلك بشكل عشوائي لا سيما خلال سنوات حرب ،1975 وفي بعض الأحيان على حساب الشاطئ العام من جهة الشمال، والذي أصبح يعرف اليوم بتجمّع جل البحر.
وفي العام 1991 صدر تصميم توجيهي جديد للمدينة ،تغيّر فيه تصنيف أراضي البص إلى سكن معتدل الكثافة، على نحو تجاهل هنا أيضا ًالكثافة السكانية.
وفي التصميم التوجيهي الأخير لصور (2002) تم تصنيف نصف مساحة المخيم كمنطقة” ضم وفرز – سكن ومؤسسات”، وقد استنتج كثيرون من هذا التصنيف أن ثمة محاولة لإزالة المخيم بطريقة غير مباشرة.
أما إذا انتقلنا إلى تجمع المعشوق، فنجد أنّ تغييب التجمع من المخططات أيضاً ساهم في تمدّده العمراني على حساب الأراضي الزراعية المجاورة له .ففي تصميم العام 2002، تم تصنيف أراضي المعشوق على أنها مناطق أثرية، وذلك بعد تنقيبات واكتشاف آثار في المنطقة. وقد أدى هذا التصميم إلى الحدّ من عمليات البناء، بإشراف الجيش اللبناني .في مخيم الرشيدية أيضاً، أدى الجيش اللبناني دوراً أساسياً في الحدّ من إدخال مواد البناء إلى المخيم الذي يسكنه حوالي 30 ألف فلسطيني. هنا أيضاً، المقاربة العمرانية الوحيدة للمخيم تتمثل في تصنيف الأراضي المحيطة به على أنها محمية بيئية ومحمية شواطئ.
يساهم هذا الواقع في تفاقم هشاشة سكان هذه التجمعات والمخيمات، ويؤدي إلى مزيد من التشنجات الاجتماعية مع محيطهم. فكيف لو كانوا عُرضة فعلياً للإخلاء والإزاحة؟
أوتوستراد يخترق المساكن
بدأ إنشاء أوتوستراد الجنوب السريع قسم الزهراني-صور بعد الحرب اللبنانية ،(1975-1990) ولكنه توقّف عند الهضبة الواقعة بعد حاجز الجيش عند نقطة أبو الأسود، ليتحوّل الأوتوستراد إلى طريق فرعية يمرّ فيها. يتضمن استكمال الأوتوستراد اختراق تجمعات سكنية غير رسمية، كتجمّع شبريحا في العباسية الواقع على الهضبة ،والمعشوق في صور، وذلك وفق المرسوم الأساسي لتخطيط الأوتوستراد والذي صدر عام 1993. إلاّ أنه تمّ تعديل التخطيط عام ،1995 فحيّد الأتوستراد عن منطقة المعشوق، وبالمقابل أصاب عددا أكبر من البيوت في منطقة الشبريحا. هنالك سببان لتعديل وجهة الأوتوستراد كما يشاع :الأوّل الحفاظ على الآثارات التي تمّ اكتشافها في منطقة المعشوق، والثاني تدخّل نافذين لتجنّب استملاك أراضٍ يملكونها وهي مصابة بالتخطيط.
بقيت هذه المخططات حبراً على ورق حتى العام الماضي حين بدأت أعمال البناء والتي هي تهدد اليوم بإزالة 47 مبنى في شبريحا – مكوّن من طابق، أو طابق وسفلي – وإخلاء سكانها.
الوصول إلى الأرض
«كانت أرض حرشية، بإيدينا نظفناها وكنسناها وقلعنا شوكها وعمرنا هالبيوت»، تقول أم خالد، واصفة لحظة وصولها إلى تجمع2يقدّر مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بـ 270 ألف شخص. بينما يعيش ٪63 من اللاجئين الفلسطينيين في 12 مخيّم رسمي، حوالي 110 آلاف شخص يعيشون في تجمّعات معظمها في صيدا وصور. ٪65 من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر وفي ظل قوانين تمنع حقّهم في الحيازة القانونية للأرض وترسي تضييق شديد في ممارسة العمل. Protection Brief: Palestine Refugees Living In Lebanon, Unrwa, 2017 & Profiling Deprivation: An Analysis of the Rapid Needs Assessment in Palestinian Gatherings Host Communities in Lebanon, UN Habitat, 2014. الشبريحا في أوائل الخمسينات بعد أن تهجّرت من عكّا. تلاصق تجمّع الشبريحا منطقتان سكنيتان أخريان: شبريحا «اللبنانية» أو صالحة، تيمّناً بالقرية التي أصبحت تحت الإحتلال والتي ينحدر منها السكّان اللبنانيون، وغزية حيث الفيلات التي بناها لبنانيون وفلسطينيون معظمهم مغتربون3Nora Stel, Governing the Gatherings. Ridderprint BV, the Netherlands, 2017. أمّا تجمّع الشبريحا فمعظم سكّانه أصولهم بدوية، أتوا من عكا وصفد ويسكنه أيضاً لبنانيون ومؤخراً فلسطينيون تهجروا من سوريا، ليفوق عدد سكان التجمّع4000 نسمة. يتوزّع سكّان التجمّع على تلال حيث ملكية معظم الأراضي تابعة لبلدية العباسية، وتنخفض كثافة البناء في أعالي التلال حيث سيمّر الأوتوستراد. وقد أخذ التجمّع طابع القرية حيث زرع السكّان الشجر والحدائق من حول بيوتهم، ويقوم البعض بتربية المواشي والدواجن. ويلحظ أن عشائر البدو التي أسست هذا التجمّع في أوائل الخمسينات لم تسكن في المخيّمات لأنها لم تلائم طبيعة عملهم ومواشيهم. اليوم، يشكّل العمل في الأراضي الزراعية المحيطة أساس تأمين سبل العيش للعديد من العائلات، وهم يستفيدون من خدمات تقدّمها الأونروا وجمعيات أخرى كالمستوصفات والمدارس الإبتدائية. ومع أنّ التجمّع يعتبر من الناحية القانونية تعدّياً على الأملاك العامة ولا يملك سكانه صكوكاً لقوننة حيازة الأرض والمسكن، إلاّ أن الوصول إلى خدمات البنى التحتية، كالكهرباء والماء والمجارير يحصل بشكل رسمي .بذلك يشكّل تجمّع الشبريحا مكاناً حيوياً للعيش، ممّا يجعل الإجراءات الإدارية والمالية التي تعرضها بلدية العباسية ومجلس الإنماء والإعمار على السكان المراد إخلاءهم غير متناسبة مع الضرر الذي سيتكبده هؤلاء. يذكر أنه تم الاعتراف رسميا ًبأصحاب الحقوق في العقار المنوي إخلاءه، ولكن سرعان ما انحصر حق هؤلاء بتعويض تفرّد مجلس الإنماء والإعمار في تحديده، من دون إرساء أي تشاركية في اتخاذ القرار أو الاستماع إلى هواجس السكّان وتطوير خيارات بديلة. كما لم يعطَ هؤلاء حق التعليق عليه أو المطالبة بتعديله.
حق المعرفة
يصيب التخطيط 47 منزلاً على العقار رقم 66 (ملك بلدية العباسية، مساحته 303147 م2). بدأ المسح لتحديد هذه البيوت وقياس مساحات المنازل المصابة من قبل لجان المساحة التابعة لمجلس الإنماء والإعمار عام .2007 لم تكن خلفية المسح واضحة للسكّان ولكنهم بدؤوا يسمعون بأنه له علاقة بشق طريق ما. وكانت إشارة الاستملاك الجزئي وُضعت على الصحيفة العقارية لمصلحة مجلس الإنماء والإعمار عام ،2004 إلى أن تمّ وضع اليد من قبل المجلس عام 2015 على مساحة 62320 م2 من كامل مساحة العقار.
مع وضع اليد، صدر قرار عن رئاسة المجلس بتخصيص مبلغ .ل.ل 11835665000 (أي ما يعادل 7 ملايين و 820ألف دولار (تُصرف لأصحاب الحقوق. ويعود معظم المبلغ للتعويض على بلدية العباسية كونها المالك الرسمي للعقار49348000000 ل.ل.. أما باقي المبلغ فيتوزّع على 49 منشأة – تشغلها 31 عائلة فلسطينية و13 عائلة لبنانية – تعويضاً للإنشاءات والمفروشات. بلغ التعويض الأكبر 78 ألف دولار، $350 والتعويض الأصغر 7 آلاف دولار. وقد تمّ احتساب التعويضات على أساس للمتر5المعلومات جميعها من القرار رقم 188/2015 الصادر عن رئاسة مجلس الإنماء والإعمار في 13 تشرين الأول 2015..
تعتبر بلدية العباسية بأن هذه التعويضات تنازل منها عن حقّها، كون ملكية العقار تعود لها، فيما يجابه أكثر من نصف العائلات ضغوط الإخلاء والتي تشملها صرف التعويضات .لكن سكّان الشبريحا لم يدركوا أن التعويضات تمّ تحديدها ولم يبلغهم أحد بأن المادة 16 من قانون الاستملاك تنص على أن قرارات التخمين يمكن أن تخضع للاستئناف من قبل أصحاب الحقوق خلال ثلاثين يوماً من تاريخ تبليغهم إياها. في الحقيقة لم يتم إبلاغ أهالي الشبريحا رسمياً بشيء، إلاّ بإنذار في أيّار 2017 من قبل الأمن الداخلي بوجوب إخلاء منازلهم في غضون أسبوع. رفض معظم الأهالي هذا الإنذار. وعلى إثر ذلك، قامت الجهات الأمنية بحملة إخلاء قسري. وتمّ اعتقال أشخاص من ثلاث عائلات6مضمون الرسالة التي وجهها كلاوديو كوردوني، مدير عام الأونروا في لبنان إلى وزير الدولة لشؤون النازحين معين المرعبي في 12 حزيران 2017.. وحتى اليوم، ما زال هنالك 23 عائلة ترفض الإخلاء وتخشى أن يتم إرغامها على التوقيع والقبول بتعويض لن يسمح لها بإيجاد أدنى مقوّمات الحياة في مكان آخر. تعاني هذه العائلات من ضغوطات يومية أبرزها استكمال العمل بالأوتوستراد على مقربة من بيوتها وهدم البيوت التي تمّ إخلاؤها.
البديل
لا نعرف ما إذا كان بناء الأوتوستراد هو الطريقة الأنسب لحل مشكلة السير وما إذا كان يشكّل أولوية من الناحية الإنمائية لقضاء صور ومحيطها. فليس هنالك دراسات في هذا الصدد، ولم تعلن السلطات عن المشروع لترسي نقاشاً إنمائياً حوله. كل ما في الأمر أن مجلس الإنماء والإعمار تمكّن من الحصول على تمويل لتنفيذ مخطط وُضع في السبعينيات وأُقرّ في عام 1996. تمّ رصد تمويل له في عام 2007 بقيمة31.5 مليون دولار، ٪77 من القيمة قرض من البنك الإسلامي، و ٪23 غطتها الدولة اللبنانية. يشترك في تنفيذ المشروع شركة CET اللبنانية وقاسيون السورية، كما قامت شركة كونسير بالإستشارات7“مشاريع الدولة 2007-2017 احتكار لبعض الشركات”، الدولية للمعلومات .
ولنفترض بأن الأوتوستراد أساسي للتنمية المحليّة، ألا يمكن إنشاؤه من دون تهجير الناس؟ يعتقد أهالي الشبريحا بأن ذلك ممكن، وقد حدثت بالفعل مبادرات للوساطة بين السكّان والسلطات حيث تمّ إقتراح إنشاء مساكن بديلة ليبقى السكّان في المحيط الذي يستمدون منه سبل العيش. سقط الاقتراح لأنه يُعتبر بمثابة تشريع للحيازة غير الشرعية للأرض .لكن في الحقيقة ، الرادع الأساسي لمنع البناء على الأملاك العامة، هو في تنظيم الأراضي وفق مفهوم أوسع للملكية، والتي تستوعب القيمة الإجتماعية للأرض والحاجة الأساسية لحيازة الأرض والمسكن .فهذه حقوق يتمتّع بها حصراً أصحاب الملكيات الخاصة في ظل قوانين تشجّع على تجارة الأراضي من دون ضوابط لضمان حقوق من لا يتمتّع بإمتيازات الملكية .فالتجمّعات غير الرسمية هي أكبر مثال على هذا النوع الأساسي من حيازة الأرض والذي حان الوقت للاعتراف به، وخاصة أن سكّانه يتكاثرون فيما تتضاءل خياراتهم السكنية من خارجه.
المراجع:
- 1UN Habitat Tyre City Profile 2017.
- 2يقدّر مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بـ 270 ألف شخص. بينما يعيش ٪63 من اللاجئين الفلسطينيين في 12 مخيّم رسمي، حوالي 110 آلاف شخص يعيشون في تجمّعات معظمها في صيدا وصور. ٪65 من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر وفي ظل قوانين تمنع حقّهم في الحيازة القانونية للأرض وترسي تضييق شديد في ممارسة العمل. Protection Brief: Palestine Refugees Living In Lebanon, Unrwa, 2017 & Profiling Deprivation: An Analysis of the Rapid Needs Assessment in Palestinian Gatherings Host Communities in Lebanon, UN Habitat, 2014.
- 3Nora Stel, Governing the Gatherings. Ridderprint BV, the Netherlands, 2017
- 49348000000 ل.ل.
- 5المعلومات جميعها من القرار رقم 188/2015 الصادر عن رئاسة مجلس الإنماء والإعمار في 13 تشرين الأول 2015.
- 6مضمون الرسالة التي وجهها كلاوديو كوردوني، مدير عام الأونروا في لبنان إلى وزير الدولة لشؤون النازحين معين المرعبي في 12 حزيران 2017.
- 7“مشاريع الدولة 2007-2017 احتكار لبعض الشركات”، الدولية للمعلومات