بعد إعلان وقف إطلاق النار، على الرغم من رصاص الابتهاج وأبواق السيارات وزحامها وبقاء المسيّرات في الجو، ساد هدوء ما: توقّفت أصوات القصف والانفجارات التي تتبعها. وهذا لوحده، بالنسبة للكثير من الناس، هو أكبر إثبات على وقف الحرب، بما أنّ ضجيج القصف وتبعاته احتلّ جزءاً كبيراً من تجربة الحرب والخوف الذي تبعثه فينا. خلال هذه الحرب، وهو أمر شبيه بما جرى بعد تفجير مرفأ بيروت، أصبح كل صوت قوي، من “خبطة باب” أو صوت الرعد، يذكّرنا بالقصف وضجيج الحرب، مقلّصاً الفرق بين الأصوات اليومية المعتادة والعادية، وأصوات تُنبئ بالخطر والموت.
فبعد ضجيج السيارات والآليات في ورش البناء، وأصوات المولّدات الكهربائية المزعجة التي أصبحت في السنوات الخمس الأخيرة وعلى مدار الساعة، مصدر اللبنانيين الأساسي لتوليد الطاقة، أدخلت الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي اندلعت في 8 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، والتي وسّعت رقعتها لتشمل العديد من المناطق في 23 أيلول (سبتمبر) 2024، على تجاربنا اليومية أصواتاً جديدة تسيطر على حياتنا وأذهاننا. لم تقتصر أضرار الحرب على السكان المتواجدين ضمن المناطق المستهدَفة فقط، بل إمتّدت آثارها ووحشيتها لتطال أغلب الأراضي اللبنانية. وصل صدى تلك الهجمات إلى مناطق بعيدة عن القصف، نتيجة استباحة سماء لبنان من الطيران الحربي الإسرائيلي المعادي وطائرات الإستطلاع، والتي باتت رغماً عنّا جزءاً من الروتين اليومي للسكان. أصواتٌ يألفها كثيرات\وين بسبب الحروب السابقة، ويجهلها البعض الآخر تماماً ويكتشفها اليوم. أصواتٌ عادت إلى حياتنا في 6 آب 2024 بالذات، حينما اهتزّت بيروت نتيجة الانفجارات الناجمة عن خرق الطيران الحربي الإسرائيلي لجدار الصوت على علو منخفض وبوتيرة عالية جدًّا ومتسارعة.
“إن أردنا أن “نمنطق” الحرب، فنحن بحاجة لأن نستعيد الحواس الجسدية المتعدّدة، والتي من خلالها، يتمّ تسجيل وحشية العنف العسكري، والمحو الذي يسعى إليه.”1For if we are to ‘make sense’ of war we need to recover the multiple bodily senses through which the brutalities and erasures of military violence are registered.” Gregory, Derek. “Corpographies: Making sense of modern war.” The Funambulist Papers 2 (2014): 30-39. هذا النص محاولة لاستكشاف الصوت كأداة حربية، تستخدمها آلة القتل الإسرائيلية لتدعيم حربها علينا.
إيقاع الحرب: كيف تحدّد الأصوات معالم الخطر والأمان؟
تختلف وتيرة الأصوات بحسب المنطقة وقربها من رقعة الاستهداف. غالباً، يُسمع هدير الطائرات قبل شنّ الغارة، مصحوباً بصوت الصاروخ المرعب الكفيل بجعلِ الأشخاص وبثوانٍ قليلةٍ، يشعرون وكأنّهم هم المستهدفين حتّى يصل الصاروخ وجهته وينفجر ليزول ذلك الخطر عن البعض. وخلال الحرب، أصبحت تلك الأصوات بمثابة رفيقةٍ دائمةٍ، ترافق السكان في جميع نشاطاتهم، وتحوّلت بسرعةٍ شديدةٍ إلى وسيلةٍ تحدّد دائرة الخطر والأمان. بالإضافة إلى قوّة الغارات، يحدّد أزيز طائرة الإستطلاع ما إذا كانت الليلة ستكون هادئة أم مضطربة، منبَِئاً من خلال قربه وقوّته، بالقصف والتهجير.
ويرتبط شعورنا بالأمان في مكان ما، بالمساحات التي نعرفها ونألفها، كالحي الذي نعيش أو نعتاد المرور فيه أو ربّما نعرف أشخاصاً يسكنونه، أو تلك التي تشكّل حاجزاً مادياً أمام الخطر، كالبيت، أو منازل الأقارب والأصدقاء. تستطيع الحرب أن تُعيد تشكيل هذه المساحات، ليصبح الآمن غير آمن، وذلك ليس عبر الدمار وإمكانية الموت فقط، بل عبر إدخال ضجيج القصف والمسيّرات والانهيارات إلى التجارب اليومية، وخاصة الليلية منها. فكل صوت قد يُعَدّ علامة على خطر محتمل.
كما يخلق ضجيج الحرب، في ساعات غيابه، قلقاً ممّا يمكن أن يحصل، وترقّباً متشجنّاً له. ومن هنا، يصبح البحث عن الهدوء تحدياً بحد ذاته، يسعى من خلاله الأفراد إلى استعادة شعورهم بالأمان، رغم كل ما يحيط بهم من ظروف متقلّبة.
طرابلس: ملاذٌ مفقودٌ تحت سطوة الأصوات
“أنا أسمعها وأنا نائم في منزلي بطرابلس”. بهذه الجملة بدأ حديثه الصحافي إبراهيم الغريب لـ “استديو أشغال عامة” الذي يتنقّل يومياً بين طرابلس وأطراف الضاحية الجنوبية لبيروت وصيدا بحكم عمله.
“صوت طائرة الإستطلاع لا يفارق ذهني. أسمعه خلال النهار بشكلٍ متكررٍ وبدون توقّف، فعادةً أعود إلى بيتي في طرابلس ليلاً وفي وقتٍ متأخر يتجاوز منتصف الليل، لأنال قسطاً قليلاً من الراحة قبل العودة لممارسة مهامي في اليوم الثاني كمراسل. ففي اللحظات الأولى من النوم أسمع صوت “الأم كا” لأستيقظ والخوف يسيطر عليّ، لأسأل أهلي ما إذا كانوا قد سمعوا شيئاً، ليأتيني الجواب بأنه ليس هناك أي صوتٍ، لأكتشف أنني أنا من يسمع ذلك الصوت لكن في مخيّلتي فقط.
هذا الصوت يولّد لديّ شعوراً بالقلق والخوف، فبعد أن كانت طرابلس هي ملجئي الوحيد للهروب من قساوة الحرب وفظاعتها، يخذلني ذهني. ها هو الصوت يلاحقني حتّى في المكان الذي أخترت أن أعود إليه يومياً لأنام قليلاً بهدوء.”
تحت ضغط الصوت: تجربة التغطية الميدانية في زمن الخوف
“في منطقة سُحمر الجنوبية، صوت مسيّرة منخفض جدّاً يليه خرقٌ لجدار الصوت بشكلٍ قوي، لكن الموضوع لم يعنِ لي كثيراً”. هكذا بدأ الصحافي محمد قليط الذي يعمل في مجال التغطية المباشرة الميدانية حديثه. “أنا معتادٌ على تلك الأصوات بسبب عملي في بيروت. أمّا في اليوم التالي لتغطيتي المستمرّة في سُحمر، فلم يكن هناك أي صوت، ممّا خلق لديّ شعوراً بالقلق لأن المنطقة فارغة من السكان وهي أشبه بمدينة الأشباح.
يغلُبني عقلي الذي بات يعمل ضدّي في بعض الأحيان، فلا راحة ولا أمان حتّى في اللحظات الهادئة. كلّ ما يدور في ذهني هو أنني سأسمع صوت الصاروخ وهو يقترب لأكون أنا الهدف. أصبح صوت المسيّرة مزيجاً من الترهيب مصحوبٍ بالإزعاج، وفي الوقت عينه، يخرق الهدوء الحذر الذي يخيّم على المنطقة ليولّد لدي حالة من التوتر والخوف.”
من المولّدات إلى الطائرات: كيف تشكّل الأصوات واقع بيروت؟
“تكمن المشكلة في لبنان بوجود زحمةٍ من الأصوات”. هكذا علّقت إحدى سكّان بيروت لـ “استديو أشغال عامة ” بشأن ذلك الموضوع. “أسكن في مدينة بيروت، التي يسيطر عليها الضجيج في الأساس، أوّلاً بحكم الكثافة السكانية، وثانياً بسبب أصوات المولّدات الكهربائية التي لا تتوقّف منذ الصباح الباكر حتى حلول الظلام. والآن تمّ إضافة صوت طائرة الاستطلاع على باقي الأصوات. تختلط الأصوات مع بعضها لتولّد لدي توتراً كبيراً. فقد أصبح صوت “الدرون” (الطائرة المسيّرة) ممزوجاً بصوت الطيران المدني والحربي وجدار الصوت. خلقوا نوعاً من التأثيرات الصوتية الخاصة Sound Effect.
أعتبر بأن الشعور بالخوف في الأماكن القريبة من القصف هو أمرٌ طبيعي. لكن ما هو غير طبيعي وغير مألوف، هو الذعر الذي نعيشه في الأماكن التي تُعتبر آمنة.”
جبل لبنان بين الأصوات المخيفة والهدوء الحذر
“في بداية الحرب، كنت أظّن أنني في مكانٍ آمنٍ نوعاً ما، لكن كل شيء تبدّل حين أصبحت خروقات جدار الصوت تتكرّر بشكلٍ شبه يومي مع تكثيف الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت. فبات المشهد من شرفة منزلي أشبه بمقعدٍ لمشاهدة الدمار وأعمدة الدخان التي تتصاعد من مسافةٍ تبعد عنّي مسافة غير بعيدة. أنا متواجدة في عاليه – جبل لبنان، أصبحت أسمع وأرى كل شيء.
بات صوت الطائرة الحربية أو الاستطلاع، هو من يحدّد يومياتي. فإذا كان صوت طائرة الاستطلاع منخفض يعني إحتمال شنّ غارة عنيفة أو ربّما قريبة، حينها أختار المكوث في المنزل كي لا أعرّض نفسي للخطر. أمّا في الأيّام النادرة الّتي تكون فيها السماء هادئة وخالية من أي صوت، أجبر نفسي على الخروج من البيت. لكنّ القلق لا يفارقني. وأحياناً يكون الهدوء أشدّ رعباً من أصوات القصف.”
بين الضجيج والخوف: تجربة الحياة في منطقة الحمرا
“أشعر أحياناً أنني خارج البلاد رغم إقامتي في منطقة الحمرا.” هذا ما قالته مروى لـ “استديو أشغال عامة”، “فأنا لا أسمع إلا قليل من أصوات القصف، لكن طائرة الاستطلاع لا تفارق سماء المنطقة. لم أسمع سوى الإستهداف الذي شُنّ على حارة حريك في تاريخ 2024-9-27، ومن بعدها لا شيء، قلّة قليلة جدّاً من أصوات الخرق لجدار الصوت فوق سماء العاصمة.”
تتابع: ” من المعروف أنّ منطقة الحمرا مكتظّة من حيث السكان ومن حيث النشاط التجاري، بحيث لا تخفت أصوات الناس في أغلب شوارعها على مدار الساعة. نتيجة الحرب والنزوح، زادت كثافة السكان فيها من كل المناطق المتضرّرة.
أحياناً أرى الأطفال يلعبون في الشارع، وضحكاتهم تتردّد في أجواء مشحونة. لكن لا يمكنني إنكار شعور القلق الذي يرافقني في كل لحظة. أراقب الناس من حولي، أرى في عيونهم تعابير مختلطة من الأمل والخوف. يتجمع الأصدقاء في المقاهي، يتبادلون الأحاديث حول الأحداث، لكن دائماً ما تطفو تلك النظرة الحذرة التي تشير إلى وعيهم بما يدور خارج حدودهم.
أحياناً، تسيطر عليّ فكرة أن الوضع قد يتغيّر فجأة، وأن هذا الهدوء ليس سوى هدوء ما قبل العاصفة. وبينما أحاول التكيّف مع هذه الأوضاع، أجد نفسي أبحث عن الأمل في كل زاوية، عسى أن تتحسّن الأمور، ونتخلص من هذا العبء الذي يثقل كاهلنا. الحياة تستمر، ولكنها تستمر بشكل جديد من الصمود.”
ليالي عين الرمانة المرعبة
“نسمع كل شيء بوضوح، من صوت الطائرات الحربية، إلى صوت طائرات الاستطلاع، وصولاً إلى صوت حطام المباني المستهدفة وهي تدمّر. مع كلّ هديرٍ للطائرة وبسبب انخفاضها في أجواء عين الرمانة، أشعر وكأنني أنا المستهدف. بات قلقي محصوراً بالشعور بالخطر وانعدام الأمان. فأنا معرّضٌ في أيّة لحظة لسماعِ الأصوات المخيفة الكفيلة بجعلي متوتّراً طول النهار وغير قادر على الإنتاجية. كأنني مكبّل اليدين. تتسلّل هذه الأصوات إلى ذهني، تسيطر على تفكيري وتشلّ قدرتي على الإنجاز. أجد نفسي أستمع بشغف إلى الأحاديث اليومية التي تتناول الأمل والتغيير، لكن كل شيء يظل محاطاً بالقلق الذي لا يفارقني. أراقب الناس في الشوارع، وأرى في عيونهم ما أراه في نفسي: التوتّر، والخوف، وأحياناً الاستسلام للواقع المرير.
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، أُحاول البحث عن لحظات من الهدوء، لحظات تمكّنني من الهروب من هذا الواقع المؤلم. أذهب إلى المقاهي الصغيرة، حيث يختبئ البعض من ضغوط الحياة اليومية، ونتبادل الحديث حول الأحلام والتمنيات، لكن سرعان ما تعود الأصوات لتذكيرنا بأن الأمان بعيد المنال.”
من شهادة أحد سكّان عين الرمانة لـ “استديو أشغال عامة.
الصوت ومساحاته
ليس مستغرباً أن تؤثّر الحرب الإسرائيلية بكل أشكالها، على السكان، وأن تكسر روتين حياتهن\م وتستخدم حتى الحقول التي لم نعتَد عليها، بدايةً من التأثير النفسي للتهجير، حتى بث الخوف والقلق من الضجيج والأصوات حتى البعيدة منها. ويتناسب هذا المستوى من الحرب مع “عقيدة الضاحية”2عقيدة الضاحية هي عقيدة عسكرية إسرائيلية تدعو إلى استخدام القوة الهائلة وغير المتناسبة بالإضافة إلى الاستهداف المتعمّد للمدنيين والبنية التحتية المدنية.، بحيث تصبح حرب “غير متكافئة وقوة غير متناسبة، بمثابة شكل من أشكال العقاب” لكل من حزب الله من جهة، والبنية التحتية المدنية من جهة أخرى. بمعنى أن أصوات الضربات، بالإضافة إلى صوت المسيّرات الإسرائيلية وخرق جدار الصوت وأصوات انهيار المباني بحد ذاتها، تصبح بحدّ ذاتها أدوات يستخدمها العدو لمعرفته بقدرتها على بث الرعب والتوتّر في قلوب الناس. في سياق كلامه عن أصوات القصف والمسيّرات في غزة، عام 2012، يقول وسيم السرّاج3 “It all creates a terrifying soundscape, and at night we lie in our beds hoping that the bombs do not drop on our houses, that glass does not shatter onto our children’s beds. Sometimes, we move from room to room in an attempt to feel some sense of safety. The reality is that there is no escape, neither inside the house nor from the confines of Gaza.” Wasseem el Sarraj. “The Sounds in Gaza City,” in New Yorker (November 19, 2012)، “كل هذا يخلق مشهداً صوتياً مرعباً. في الليل نستلقي على أسرّتنا على أمل ألا تسقط القنابل على منازلنا، وألا يتحطم الزجاج على أسرّة أطفالنا. في بعض الأحيان، ننتقل من غرفة إلى أخرى في محاولة للشعور ببعض الأمان. لكن الحقيقة هي أنه لا مفر، لا داخل المنزل ولا من حدود غزة.”
كما أن لهذه الأسلَحة تأثير واسع وطويل المدى، من ناحية توسيع مساحة الحرب، ليصبح وقع هذه الأخيرة لا من حيث الدمار المباشر أو الخوف من الموت فقط، بل من حيث الخوف من الصوت بحد ذاته. وبالتالي، تستطيع إسرائيل أن ترسم من خلال الصوت خريطة أوسع لعدوانها، تتخطّى التدمير المباشر لتصل إلى مساحة حسّية أوسع. ليتمّ حينها فرض “مشهد صوتي\سمعي”4“تم تسمية المشهد الصوتي في عام 1969 من قبل الملحن ر. موراي شايفر R. Murray Schafer ، وهو ، قبل كل شيء ، جهاز مفاهيمي – جهاز يحدد بيئة صوتية يختبرها المستمعون على أنها تحيط بهم في الفضاء.” soundscape جديد من خلال مساحات صوت الحرب، أي الخريطة السمعية للحرب، وهي خريطة تتوسّع وتتغيّر بسهولة ودون أي مسوّغ، بحسب أهواء العدو. من خلال إنتاج مساحات صوت الحرب التي توسّع خريطة الحرب، تحاول آلة القتل الإسرائيلية السيطرة وبسط قوتها الاستعمارية على أجسامنا وحواسنا بشكل أوسع، لا من خلال نظرنا ولمسنا للدمار فقط، بل سماعنا له حتى. “لتفهمي أفغانستان، عليك أن تريها وتسمعيها وأن تشمّيها وتتذوّقيها”، يقول أحد الجنود5 “To understand Afghanistan, you have to see, hear, smell and taste it.” Marion Naeser-Lather, “‘Smelling Fire’: sensory experiences of German soldiers in Afghanistan,” paper presented to the conference “Sensing War,” London, June 2014.، لأنّنا نختبر الحرب بحواسنا كلّها، لا بالمنطق فقط، أو بالرؤية أو الإصابة المباشرة فقط.
أخيراً، يقوم هذا النوع من الحروب بتحويل كلّي لمساحات تجربتنا ويومياتنا وبتغييرها جذرياً، ليصبح السمع عملية غريزية تنشط بشكل مستمرّ ومتواصل لتأمين الحماية والنجاة. وبالتالي، تتشكّل لدينا علاقة جديدة مع السمع، مع محيطنا ومع خريطة أماننا. فالليل، في معظم أيام الحرب، يصبح وقتاً للقلق والبكاء والخوف والتوتّر والبحث عن ملجأ، نتيجة تركّز الضربات الأقوى على الأحياء السكنية وورود أغلب تبليغات الإخلاء بعد الساعة العاشرة مساءاً. كما يفقد المكان، الحي والقرية والمدينة وحتى المنزل، معنى الحماية والأمان وقدرته على تأمين الملجأ، حين يتعرّض للقصف أو يقترب منه القصف، أو إن عجزَ عن تأمين الهدوء والصمت المطلوب كي نستطيع القيام بأعمالنا اليومية أو حتى النوم، نتيجة اختبارنا الحرب على المستوى الحسّي السمعي. وحين تخسر المساحات إذاً الخصائص التي اعتدناها، تكتسب مفهوم “مساحات الحرب” أو warscapes6Kurt Lewin, “Kriegslandschaft”.، وهو ما تفقده الأشياء والمساحات من خصائصها خلال الحرب، لتكتسب أخرى تشكّل خطراً علينا، نتيجة تغيير المشهد السمعي.
يقوم العدو الإسرائيلي إذاً بما يُسمّى “أسلَحة الصوت والعنف السمعي“، كما يتعدّاه ليصبح استخداماً للصدى وتردّد الصوت كعامل أساسي لإنتاج الخوف وترهيب السكان أثناء الحرب، لمعرفته بدور الحواس في خلق الذاكرة.
عن بناء الخريطة السمعية للخوف
في الحرب، تتغيّر عاداتنا اليومية، روتين المدينة ومساحات حركتنا. تتغيّر أيضاً، خريطة الأمان التي نعرف، لا على مستوى الخطر المباشر والملموس أو ذلك الذي نستوعبه من خلال المنطق فقط، بل أيضاً فيما نحسّ ونرى ونلمس ونسمع ونشمّ. تتغيّر الثوابت والمسلَّمات، تصبح أجراس الكنائس إنذاراً بالخطر مثلاً، لتنبيه السكان إلى ضرورة الهرب. حتى الخطر، يصبح أماناً ما أحياناً. ففي أوقات عديدة، أصبحت أصوات رصاص الرشاشات في الضاحية الجنوبية لبيروت، أصواتاً شبه حنونة، تُبلّغ الناس بقدوم الخطر، لكنّها أيضاً تبلّغهم بتضامن ما، بأشخاص يهتمّون لبعضهم البعض.
يتوسّع العنف العسكري الناتج عن الحرب الإسرائيلية هذه والإبادة الجماعية في غزّة، ويتمدّد ويأخذ أشكالاً مختلفة ويحفر آثاراً أعمق وأكبر عند كل منعطف. وهو ليس علامة على خريطة فقط، نقطة هنا أو مربع أحمر هناك، بل يصبح مع الوقت، مركّب مديني، يصنع جزءاً من مدننا وقرانا، علينا أن نفهمه كي لا يكون عاملاً غير مرئي في علاقتنا مع مساحاتنا. فكما يسعى لبتر علاقتنا مع المناطق المدمّرة، يسعى أيضاً لتغريبنا عن مساحات الأمان التي خلقناها واعتدناها واستبدالها بالخوف.
مارك سليم: ٢٧ سنة مقيم في بيروت، كاتب وصحافي ويعمل في مجال الإعلان والتسويق
اقرأ/ي أيضا:
المراجع:
- 1For if we are to ‘make sense’ of war we need to recover the multiple bodily senses through which the brutalities and erasures of military violence are registered.” Gregory, Derek. “Corpographies: Making sense of modern war.” The Funambulist Papers 2 (2014): 30-39.
- 2عقيدة الضاحية هي عقيدة عسكرية إسرائيلية تدعو إلى استخدام القوة الهائلة وغير المتناسبة بالإضافة إلى الاستهداف المتعمّد للمدنيين والبنية التحتية المدنية.
- 3“It all creates a terrifying soundscape, and at night we lie in our beds hoping that the bombs do not drop on our houses, that glass does not shatter onto our children’s beds. Sometimes, we move from room to room in an attempt to feel some sense of safety. The reality is that there is no escape, neither inside the house nor from the confines of Gaza.” Wasseem el Sarraj. “The Sounds in Gaza City,” in New Yorker (November 19, 2012)
- 4“تم تسمية المشهد الصوتي في عام 1969 من قبل الملحن ر. موراي شايفر R. Murray Schafer ، وهو ، قبل كل شيء ، جهاز مفاهيمي – جهاز يحدد بيئة صوتية يختبرها المستمعون على أنها تحيط بهم في الفضاء.”
- 5“To understand Afghanistan, you have to see, hear, smell and taste it.” Marion Naeser-Lather, “‘Smelling Fire’: sensory experiences of German soldiers in Afghanistan,” paper presented to the conference “Sensing War,” London, June 2014.
- 6Kurt Lewin, “Kriegslandschaft”.