إنتاج الخرائط كفعل سياسيّ
مرّ أكثر من 300 يوماً على اندلاع الحرب على الجبهة الجنوبية اللبنانية تلتها الشمالية الشرقية، وخلّفت أضراراً لا تقتصر على الماديات في أكثر من 184 بلدة، حيث سقط أكثر من 466 شهيد\ة، بينهم حوالي الـ108 مدنياً ضمنهم أطفال ولاجئات\ون سوريون وصحافيات\ون ومسعفون.
من هنا كان من الضروري – كجهة بحثية منخرطة في الشأن العام – أن نفهم ونوثّق كيفية تأثّر الأراضي اللبنانية والسكّان وسُبل معيشتهم نتيجة هذه الحرب. وقرّرنا تجيير جهودنا في هذه المرحلة لإنتاج خرائط دورية توثّق الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان ونشرها.
إلا أن رسم الخرائط ليس مجرد وسيلة لقراءة البيانات المعقّدة واستنتاج العلاقات التي يصعب فهمها دون الخريطة كوسيلة، ولكنه أيضاً أداة فعّالة في تغيير السرديات السائدة. وفي كلتا وظيفتي رسم الخرائط المذكورتين، يُعد تصميم الخرائط أمراً بالغ الأهمية في تحديد كيفية قراءتها وتأثيرها المنتظَر على الرأي العام. إن اختيار الشيفرة/ الرمز ليشرح ما تحتويه الخريطة من معلومات، أسلوب رسمها وما يتم إظهاره، والمستويات المتعددة للقراءة، كلها تعمل معاً لإنتاج معنى سياسي.
وبالتالي فإن عملية تصميم الخريطة هي بأهمية المعلومات التي ستحملها الخريطة، وهي جوهر رسم الخرائط. فكل ما يتم إظهاره أو إخفاءه من الخريطة، كما نسج العلاقات بين العناصر المختلفة للوصول إلى قراءة كليّة للخريطة هو خيار، وهو خيار سياسي. إلا أن الخريطة غالباً ما تقرأ من الجمهور كتجسيد للواقع، وكحقيقة مطلقة. فللخريطة سلطة نقل المعلومة وإفضاء قراءة تحليلية في الوقت ذاته، ومن هنا يستمدّ رسم الخرائط قوّته في التأثير. ويختلف رسم الخرائط عن الرسوم البيانية أو الإنفوغراف بأنه أيضاً وسيلة روائية عبر الزمن والجغرافيا يتم قراءتها عبر شيفرات تتّصل بمعلومات.
ومن خلال إدراك أن الخرائط ليست مجرد أدوات لقراءة البيانات المعقّدة، ولكنها أيضاً تنتج معانٍ جديدة، وتغيّر التصورات، وتولّد تحليلات قادرة على توطيد العلاقة مع الأرض والجغرافيا، والناس، والثقافة، والتاريخ، والطبيعة، يمكن للخرائط بعد ذلك أن تحمل إمكاناتها الخطابية.
من هذا المنطلق وبهذا النَفَس، قمنا برسم خريطة الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان منذ ٧ أكتوبر\تشرين الأول. ولم تكن هذه التجربة الأولى في انخراط مصممات\ين وباحثات\ين وناشطات\ين محليات\ين في تدوين الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان لفهمها ولمخاطبة الرأي العام المحلي والدولي. ففي حرب تموز ٢٠٠٦ قامت مجموعة برصد ضربات الاحتلال على كامل الأراضي اللبنانية يومياً ورسم الخرائط التي نُشرت بشكل مجهول الهوية على موقع «خريطة» . تُرجمت هذه الخريطة إلى عدد كبير من اللغات ونشرت في مواقع إعلامية حول العالم، واستطاعت ربط الخبر المجرّد بالحدث الواقعي المكاني.
تستوحي خريطة اليوم شكلها من خريطة ٢٠٠٦، وخاصة من خلال رسم شيفرة الضربة/الاعتداء التي تسمح بتبيان شدّة الضربات الاسرائيلية من النظرة الأولى، أي الرؤية العامة للخريطة، كما تعطينا معلومات دقيقة عن مساحة جغرافيّة محددة عند التمّعن، أي الرؤية الجزئية للخريطة. كما تستوحي خريطة اليوم من هدف خريطة ٢٠٠٦، وهو توثيق الدلائل والإثباتات ضد المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، وتشكيل فهم أعمق لوحشيته وتأثيره على أرضنا ومجتمعتنا، استعداداً لبلورة الاستجابات المتعددة التي نحتاجها للبقاء، للتعافي، وللاستمرار.
منهجية الرصد وكيفية قراءة الخريطة
أنتجنا الخريطة عبر رصد يومي للمعلومات وجمع البيانات المتعلّقة بالهجمات من منصة المجلس الوطني للبحوث العلمية ووسائل الإعلام المحلية، عبر مواقع التواصل الاجتماعي الخاصّة بها ونشراتها الإخبارية المتلفزة، كما عبر المعلومات التي نشرها المراسلات\ون الميدانيات\ون أو غيرهم. تحقّقنا من كل معلومة من مصادر متعدّدة للتأكّد من صحّتها، ثمّ صنّفنا الاعتداءات بحسب توزّعها اليومي على البلدات وقطاعات جنوب نهر الليطاني، وبحسب أشكال القصف التي اعتمدها العدو (قذائف مدفعية، غارات جوية، قنابل مضيئة أو قنابل فسفورية). كما أظهرنا الفئات المستهدفة (مدنيون، جيش، منازل، مدارس، أحراش وغيرها)، إضافةً إلى أعداد الشهداء من المدنيات/ين. واخترنا ألّا نحدّد وتيرة الاعتداءات بحسب عدد الغارات أو القذائف في كل منطقة لتفادي المغالطات بسبب عدم وضوح الأعداد واختلافها بين مصدر وآخر. وبالتالي، ما يظهر فعلياً في هذه الخرائط هو عدد الأيام التي استُهدفت فيه كل منطقة.
نطاق الاعتداءات الإسرائيلية وأشكالها
في حين أن نطاق الاعتداءات الإسرائيلية كان محصوراً في البداية بقرى وبلدات معينة، إلا أن الخريطة تُظهر أنّه توسّع بشكل مطّرد بمرور الوقت. فحتى نهاية تشرين الثاني 2023، اقتصرت هذه الهجمات إلى حد كبير على المنطقة الحدودية، لكنها امتدت لاحقاً إلى قرى أخرى في محافظتي الجنوب والنبطية. وفي شباط 2024، بدأت إسرائيل تشن غارات جوية في عمق الأراضي اللبنانية، مستهدفةً أكثر من منطقة في محافظتَي البقاع وبعلبك -الهرمل، بالإضافة إلى اعتداءات متفرقة في محافظة جبل لبنان.
تمكنّا من رصد الأنواع المتنوعة للاعتداءات التي نفّذها العدو وتوثيقها، حيث لاحظنا استخدامه المكثف للقذائف المدفعية في معظم هجماته، لا سيّما في المناطق الحدودية. فعلى سبيل المثال، وحتى 22 نيسان، تعرّضت بلدة الناقورة وحدها لقصف مدفعي استمر 96 يوماً، تلتها الخيام بـ92 يوماً، وعيتا الشعب بـ81 يوماً، ثم حولا بـ77 يوماً، وطير حرفا بـ75 يوماً، إلخ.
تلا ذلك، من حيث أبرز أنواع القصف، الغارات الجوية، حيث سجّلت وتيرة القصف بالطيران والمسيّرات أعلى معدلاتها في بلدة عيتا الشعب، حيث استُهدفت البلدة بواسطتها على مدار 85 يوماً، تلتها الناقورة بـ54 يوماً، ومروحين بـ40 يوماً، إلخ. أما النصيب الأكبر من القصف الفسفوري فقد تركّز على كل من كفركلا وميس الجبل والخيام وحولا، حيث تعرضت هذه المناطق للقصف الفسفوري لأكثر من 10 أيام، بينما تعرّضت مناطق أخرى للقصف الفسفوري بوتيرة أقل.
شملت الاعتداءات، حتى التاريخ المذكور، أكثر من 153 منطقة عقارية موزّعة على امتداد الأراضي اللبنانية، طالتها أنواع القصف بأنواعها كافّة. وقد تصدّرت الأحراش والغابات، بما فيها الأراضي الزراعية، قائمة الأهداف الأكثر عرضةً للقصف، حيث عانت من أضرار جسيمة شملت قتل المواشي والدواجن وإحراق المساحات الخضراء. كما طالت الاعتداءات البنى التحتية والطرقات، والمنازل والأحياء السكنية، التي كثّف العدو استهدافها بدءاً من كانون الأول 2023. كما لم يسلم من الاعتداءات المسعفون وفرق الدفاع المدني والصحافة وحتى قوات حفظ السلام.
قتل المنازل
عرّضت المنازل في 21 بلدة لقصف مباشر، حيث تمّ قصف عدد من البيوت في كل من ميس الجبل وعيتا الشعب خلال 14 يوماً، وفي بليدا وكفركلا خلال 12 يوماً، إلخ. وقد أدّت هذه الاستهدافات المباشرة لمنازل المدنيين في المناطق كافّة، إلى استشهاد 17 مدنياً كانوا بداخلها. إضافة إلى تدمير المنازل وإلحاق الأضرار بها نتيجة لاستهدافات غير مباشرة طالت طرقات داخل الأحياء السكنية، أو ساحات البلدات، أو المساحات الملاصقة لها، أو غيرها من الأهداف. وقد قدّر مجلس الجنوب عدد المنازل المهدمة كلّياً بـ 1700 منزل، يضاف إليها 14 ألف منزل متضرّر، وذلك حتى مطلع شهر أيار. إلا أن أرقام مجلس الجنوب لا تشمل المناطق التي يتعذّر الوصول إليها، خاصّةً تلك القريبة من الحدود، ممّا يعني أن الحصيلة غير نهائية والأرقام مرشحة للارتفاع مع استمرار الاعتداءات على الجنوب. علاوةً على الخسائر المادية الفادحة، فإنّ استهداف المنازل يمثل تدميراً ممنهجاً لحياة كاملة. فهو يمزّق النسيج الاجتماعي للجماعات ويقتلع جذور العائلات من أماكن استقرارها وأمانها ويؤدي إلى النزوح المحتّم ويبتر العلاقات الاجتماعية وشبكات الأمان. يتسبّب ذلك في ضغوط اقتصادية كبيرة على هذه العائلات، تُثقل كاهل البعض، خاصّة ذوات ودوي الدخل المتوسّط أو المنخفض، وتصعّب عليهم عمليات البحث عن مسكن بديل إلى حين العودة وإعادة الإعمار. وتُشكّل هذه الاستهدافات المتعمّدة للمنازل ما يُعرف بـ domicide «قتل المنازل»1https://www.instagram.com/p/Cy5s0hsMzPo/?utm_source=ig_web_copy_link&igsh=MzRlODBiNWFlZA==، ويشير إلى التدمير الهائل والمتعمّد للمنازل والموجّه ضد المدنيين/ات بهدف قتلهم/ن والتسبّب بمعاناتهم/ن، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
استهدافٌ مُتعمّدٌ للسيارات والطرقات لعزل المنطقة الجنوبية
لم تقتصر استهدافات العدو في المناطق المأهولة على المنازل، بل تجاوزت ذلك لتشمل السيارات والطرقات. وبالأرقام، وحتى تاريخ 22 نيسان، تم استهداف ما يقارب 22 سيارة ودراجة نارية، ممّا أدى إلى استشهاد 6 مدنيين2 وعدد من المقاتلين. وإصابة العشرات، بالإضافة إلى الضربات اليومية التي تطال الطرقات الرئيسية والفرعية.
ويشكّل استهداف السيارات والطرقات، إلى جانب كونه أداة لتنفيذ الاغتيالات، استراتيجية مُتعمّدة لعزل المناطق المتضرّرة وفرض حصار عليها، إذ يؤدي قصف الطرقات إلى صعوبة بالغة في التنقل بين القرى والبلدات، ممّا يعرقل وصول المساعدات إلى المتضررين. والأمر ذاته ينطبق على الراغبين في مغادرة المناطق أو العائدين إلى ديارهم، فالقلق الدائم من التعرض للقصف على الطرقات يثنيهم عن ذلك. وهذا القلق لا يقتصر على تحركاتهم فحسب، بل يُضاعف الشعور بالعزلة لدى السكان، ويؤثّر سلباً على حياتهم اليومية ويُثقل حالتهم النفسية. فهم يعيشون معلقين بين البقاء في مناطق مُهددة وبين المخاطرة بالتنقل عبر طرقات قد تتحول في أي لحظة إلى ساحات قصف. وعلى صعيد آخر، يُساهم قصف السيارات والطرقات في إعاقة عمل الصحفيين/ات والمراسلين/ات ، ويُصعّب عليهم الوصول إلى المناطق المُستهدفة. وهذا بدوره هو محاولة متعمّدة من العدوّ المستعمر لإضعاف عملية الحصول على المعلومات وتوثيق حقيقة ما يجري على الأرض، بهدف إخفاء جرائمه عن أعين العالم.
قراءة استراتيجيات الاستهداف بالفوسفوري: إبادة بيئية وزراعية3لقد تم نشر هذا القسم في مجلة سيادة، كجزء من مقال أوسع عن الإبادة البيئية والزراعية. لقرائته، مراجعة الصفحات 44 إلى 53 من العدد الخامس من مجلة سيادة
بالنظر إلى هذه الخرائط، نرى كيف خنقت إسرائيل السكان وقتلت الأرض والمياه، باستخدام قنابل الفسفور الأبيض المحرّم دولياً، والذي سبق أن استخدمته في لبنان خلال أعوام 1982 و1993 و1996 و2006، في إبادة بيئية متعمّدة للإخلال بتوازن الطبيعة والقضاء على مقوّمات العيش المحلية البيئية والثقافية والزراعية. ويتسبّب الفوسفور الأبيض بآثار مدمّرة وطويلة الأمد على البيئة، تشمل تلويث المياه والتربة التي تصبح غير صالحة لفترة طويلة وغير معلومة، وحارقة لجلد المزارعين عند اللمس. وفي حال لم تُحرق المحاصيل مباشرةً بواسطة التماس المباشر مع الفوسفور الأبيض، فإنها سوف تتأثر بالمكونات الكيميائية السامة الناتجة عنه والتي تنتقل إلى التربة والمياه الجوفية أو عبر الهواء. إذ يفرز الفوسفور الأبيض حمض الفوسفوريك في التربة، ممّا يؤدي إلى تقليل خصوبتها ويجعلها غير صالحة لزراعة المحاصيل في المستقبل، وهو ما يعرّضها لخطر التعرية. ويمكن أيضاً لبقايا المواد السامة أن تظلّ في التربة لسنوات عديدة، ممّا يؤدي إلى تحوّلها إلى سمة شبه دائمة للنظام البيئي، ممّا يؤثّر على الدورات البيئية المحلية. بذا تصبح المحاصيل الموجودة ملوثة، ويمكن أن ينتقل التلوث إلى طبقات المياه الجوفية ومصادر مائية أخرى، مؤثّراً على الحيوانات والبشر الذين يعتمدون عليها. في الحقيقة، في 29 تشرين الأول، أي بعد ثلاثة أسابيع تقريباً من بدء القصف على الجنوب، ظهرت تقارير عن مزارعين في تلك المنطقة يعانون من توعّك بعد تناول محاصيل لم تتضرّر مباشرةً، ولكنها كانت قريبة جداً من مواقع أُلقيت فيها القنابل الفوسفورية4المركز، الحرب البيئية والاقتصادية الإسرائيلية على لبنان، 3 آذار 2024. بالإضافة إلى ذلك، يُعدّ الفسفور الأبيض مادّة مسمّة للكائنات الحية، وقد يتسبّب بنفوق الأسماك والكائنات المائية والثدييات والطيور والحشرات، كما أنّه يؤثّر على الطيور المهاجرة التي تمرّ فوق لبنان خلال مواسم الهجرة. استخدمت اسرائيل هذه القنابل في 36 بلدة جنوبية خلال 68 يوماً من أصل 200 يوماً من الاعتداءات5بحسب الرصد الدوري للاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية الذي يجريه إستديو أشغال عامة منذ بداية الحرب..
هذا وكانت وزارة البيئة اللبنانية قد أعلنت، في كانون الثاني ٢٠٢٤، أنها عثرت على مستويات مرتفعة من المعادن الثقيلة و900 ضعف الكمية الطبيعية من الفوسفور في التربة في المناطق الجنوبية التي ضربتها المدفعية الإسرائيلية وقصفتها بقنابل الفسفور الأبيض، وذلك إعتماداً على نتائج فحوصات أُجريت على ٥ عيّنات أُخذت من تربة مواقع في جنوب لبنان تعرّضت لأنواع مختلفة من القصف، بما فيها القذائف المدفعية والصواريخ على أنواعها والفوسفور الأبيض.
نستعرض هنا قراءة للخرائط المتصلة بالقنابل الفوسفورية، والتي تدّل أنّ ما يحصل في لبنان اليوم هو «إبادة بيئية». يواصل الجيش الاسرائيلي استهداف المساحات البريّة والزراعية، من غابات وأحراش ومحميات طبيعية وأراضٍ زراعية وبساتين في جنوب لبنان، بمختلف أنواع الذخائر بما في ذلك قنابل الفسفور الأبيض والقنابل الحارقة المضيئة على ارتفاعات منخفضة، وفي وضح النهار، متعمداً حرق هذه المساحات وإلحاق الضرر بالتنوع البيولوجي وتدمير الزراعة كجزء من تكتيكات الحرب والاستعمار. ونرى تناسقاً إذا قارنّا مواقع الاستهداف بالفوسفور بمواقع الأحراج والأراضي الزراعية، ومن المعروف غنى الجنوب والمناطق الحدودية بالأحراش والأراضي الزراعية. وبالتالي، تُظهر مقارنة خريطة الاعتداءات بأي خريطة للتنوّع الزراعي والطبيعي في الجنوب أن تأثير الاعتداءات حتمي على المواسم الزراعية ومصدر عيش المزارعين وسكان المناطق، إن من خلال تدمير المحاصيل وتلويث التربة أو من خلال منع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم و محاصيلهم. وإن اطّلعنا على وتيرة الاستهداف بالفسفوري بالأيام على صعيد كل لبنان، نرى أن الاحتلال كان أثناء الأشهر الأربع الأولى من الحرب يستخدم الفسفوري على نطاق واسع. ويهدف الاستهداف الأولي للأراضي الزراعية والبريّة في المراحل الأولى من الحروب إلى التقليل من عزيمة السكان المحليين المعتمدين على الزراعة6التي تشكل -بحسب التقديرات- نحو 75% من إجمالي دخل الأسر في جنوب لبنان، إذ تتركز المناطق المزروعة في الجنوب بنسبة 12.6% من مجموع الأراضي المزروعة في لبنان (بحسب قناة الجزيرة ) ، يضاف إلى ذلك هدف إتاحة المجال لكاميرات المراقبة والتجسس، وكشف الغطاء عن التحركات العسكرية، والتي يساهم الغطاء الطبيعي في تمويهها. هذا واستفاد العدو من وعورة تضاريس المواقع الطبيعية في الجنوب اللبناني، وهو ما يؤدّي إلى صعوبة الوصول إليها وبالتالي الدفاع عنها وإطفاء حرائقها، حتى أنه أطلق في أكثر من مرة القذائف تجاه رجال الإطفاء الذين حاولوا إطفاء الحرائق وتقليص إنتشار لهيبها، واستهدفهم بالرشاشات.
هذا وانخفض عدد أيام الاستهدافات بالفسفوري في الأشهر اللاحقة إبتداءً من شهر شباط حين بدأت تتصاعد وتيرة قصف الأحياء والمنازل المدنية، في إشارة ربما إلى تغيير في أولويات العدو الإستراتيجية والأهداف، أو التحول نحو ممارسة المزيد من السيطرة على السكان المدنيين للتقليل من دعم الحركات المقاومة.
المنطقة العقارية | عدد أيام الاستهداف بالفسفور | عدد أيام الاستهداف بالقذائف المضيئة أو الحارقة | عدد الحرائق في المنطقة (بحسب وزارة الزراعة) | |
1 | الخيام | 15 | 8 | 32 |
2 | كفركلا | 14 | 8 | 37 |
3 | ميس الجبل | 13 | 11 | 28 |
4 | حولا | 12 | 16 | 18 |
5 | الناقورة | 10 | 17 | 78 |
6 | بليدا | 8 | 8 | 16 |
7 | الضهيرة | 7 | 7 | 13 |
8 | علما الشعب | 7 | 13 | 48 |
9 | عيتا الشعب | 6 | 8 | 35 |
10 | مركبا | 6 | 5 | 33 |
11 | العديسة | 5 | 2 | 27 |
12 | يارون | 4 | 3 | 10 |
13 | رامية | 4 | 4 | 13 |
14 | عيترون | 4 | 5 | 11 |
15 | كفرشوبا | 4 | 5 | 62 |
16 | مزارع شبعا | 3 | 5 | – |
17 | رب ثلاثين | 3 | 3 | 12 |
18 | رميش | 2 | 4 | 27 |
19 | شبعا | 2 | 4 | 19 |
20 | يارين | 2 | 3 | 6 |
21 | الطيبة | 2 | 1 | 17 |
22 | محيبيب | 2 | 1 | 5 |
23 | الصلايب | 2 | 1 | 13 |
24 | مروحين | 1 | 2 | 8 |
25 | الماري | 1 | 1 | 25 |
26 | مرجعيون | 1 | 0 | – |
27 | دير ميماس | 1 | 2 | 0 |
28 | الجبين | 1 | 0 | 0 |
29 | شيحين | 1 | 0 | 3 |
30 | طير حرفا | 1 | 1 | 12 |
31 | مارون الراس | 1 | 1 | 24 |
32 | الخريبة | 1 | 0 | 4 |
33 | مزرعة سرادا | 1 | 0 | 0 |
34 | بلاط مرجعيون | 1 | 0 | – |
35 | راشيا الفخار | 1 | 0 | 3 |
36 | دير ميماس | 1 | 2 | – |
وقد لاقت بلدات الشريط الحدودي وغاباتها النصيب الأكبر من الاستهدافات بالفوسفور، بحيث استهدفت اسرائيل 36 منطقة عقارية منها بهذه المادة، وهي مناطق تحتوي على مساحات طبيعية وزراعية شاسعة. وقد صنّفت “الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية” هذه المناطق كمناطق ذات ثروة زراعية ذات أهمية وطنية وبعضها الآخر كمناطق أودية وغابات ومناطق تواصل طبيعي، في تأكيد على أهمية هذه المناطق وضرورة الحفاظ عليها وتطويرها لتحقيق التوازن البيئي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان.
أما المناطق الخمس الأولى من حيث عدد أيام الاستهدافات فكانت: منطقة الخيام بالمرتبة الأولى، وقد قُصفت بالفوسفور لمدة 15 يوماً، تلتها كفركلا بـ14 يوماً، فميس الجبل بـ13 يوماً، وحولا بـ12 يوماً، فالناقورة بـ10 أيام. وإن اطّلعنا على أرقام الحرائق – والتي لا تتسبّب فيها القذائف الفسفورية والمضيئة الحارقة منفردةً، بل تساهم في اندلاعها أيضاً الأشكال الأخرى من الذخائر كالقذائف المدفعية والغارات الجوية – نرى أن منطقة الناقورة و جارتها علما الشعب قد لاقتا نصيباً كبيراً من الحرائق بعدد 78 حريقاً للناقورة (المرتبة الأولى من حيث عدد الحرائق ) و48 لعلما الشعب (المرتبة الثالثة من حيث عدد الحرائق)، منذ بداية العدوان. وإن اطّلعنا فعلياً على طبيعة هاتين المنطقتين عبر الخرائط الجوية، نرى أن معظم أراضيهما هي عبارة عن أحراش، إذ تشكّل هذه المساحات أكثر من 75% من أراضي منطقة الناقورة العقارية و تغطي أكثر من 85% من أراضي علما الشعب. وقد تمّ تصنيف المنطقتين من المناطق المهمّة نباتياً في لبنان من قبل مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 2017، وذلك لاحتوائهما على غنى نباتي استثنائي وأصناف مهدّدة، فضلاً عن كونهما موطناً للعديد من الحيوانات والطيور. وتتميّز المنطقتان بالحقول الزراعية، وغابات الصنوبر وبساتين الزيتون والكروم إضافةً إلى الجبال والأودية التي تزخر بالينابيع والمياه الجوفية. أما الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، فتصنّف كلتا الناقورة وعلما الشعب كمناطق أودية وغابات ومناطق تواصل طبيعي وبالتالي تعترف بهما كمناطق طبيعية ذات أهمية وطنية، كما تلحظ وجود منتزهات وطنية داخل الناقورة.
أما كفركلا التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الاستهداف بالفسفور، وفي المرتبة الرابعة من حيث الحرائق التي سبّبتها الاعتداءات الإسرائيلية، فتتخطّى المساحات الخضراء فيها الـ70% من مساحة البلدة، وتصنّفها الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية كمنطقة ريفية ذات ثروة زراعية بأهمية وطنية، إضافةً إلى كونها منطقة تتعرّض لهشاشة في الموارد المائية. يعني ذلك أن المنطقة تحتوي على خزان للمياه الجوفية، وأن مياهها معرضة أصلاً للخطر قبل بدء الحرب، ويجب حمايتها من التلوث المنتشر زراعي الأصل.
ويؤدّي قصف كفركلا بالفسفور إلى زيادة هامش الخطر على المياه، ضمن غيرها، إذ تتسرّب هذه المادة إلى باطن الأرض وبالتالي إلى المياه وتلوثها، لتحوّلها إلى غير صالحة للاستهلاك البشري أو الري. وبسبب تلوث هذه المياه بالفسفور، يُمكن أن يُصاب الأهالي، الذي يعتمد عدد كبير منهم على الآبار الارتوازية، بمجموعة من الأمراض الخطيرة.
المراجع:
- 1https://www.instagram.com/p/Cy5s0hsMzPo/?utm_source=ig_web_copy_link&igsh=MzRlODBiNWFlZA==
- 2وعدد من المقاتلين.
- 3لقد تم نشر هذا القسم في مجلة سيادة، كجزء من مقال أوسع عن الإبادة البيئية والزراعية. لقرائته، مراجعة الصفحات 44 إلى 53 من العدد الخامس من مجلة سيادة
- 4المركز، الحرب البيئية والاقتصادية الإسرائيلية على لبنان، 3 آذار 2024
- 5بحسب الرصد الدوري للاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية الذي يجريه إستديو أشغال عامة منذ بداية الحرب.
- 6التي تشكل -بحسب التقديرات- نحو 75% من إجمالي دخل الأسر في جنوب لبنان، إذ تتركز المناطق المزروعة في الجنوب بنسبة 12.6% من مجموع الأراضي المزروعة في لبنان (بحسب قناة الجزيرة )