لماذا ندافع عن حق الناس باستخدام المجال العام وتغييره حتى؟ كيف نفهم حقّ من تبني بيتاً يأويها على أرض لا تمتلكها؟ لماذا يملك صاحب البسطة الحق في مدّها على الرصيف؟
لا يمكن أن تكون المدينة\الفضاء\المساحة لمن تملك\يملك المال الكافي لشراء أرضٍ أو استملاك كمنزل أو متجر. وما يجري اليوم من تفقير تامٍ للناس، هو خير دليل. بمعنى أن ما نمرّ به اليوم، من ارتفاع مخيف في أسعار الإيجارات من جهة، وإطباق للسلطة المهيمنة على حق الناس في استحداث طرقٍ لتأمين مسكن أو مكان للعمل، هو شكل واضح لحاجة الناس لممارسة حقّها بالحصول على سكن وعمل وغيرها. وهذا هو الحق في المدينة. اليوم، إن كنت تشعرين بضيق لعدم وجود مساحة عامة خضراء في وسط المدينة تستطيعين الجلوس فيها والاستمتاع بيومك، وإن طردك مالك البيت، أو افتقدت للمبنى المفضل عندك في شارع ما، أو خسرت متجرك لأن صاحب المبنى يريد تدميره وبناء مبنى آخر…ما تشعرين به شرعي ومحق، والنظام قد تعدّى على حقّك بالمدينة. سنقدّم من خلال هذا النص، قراءةً من منظور الحق في المدينة، للقوانين التي أنتجتها السلطة اللبنانية بين عامي 2019 و2022، بهدف فهم مقاربة السلطة لهذا الحق وتفكيك محاولاتها المستمرّة للقضاء عليه.
كان عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر أوّل من تحدّث عن الحقّ في المدينة عام 1968، إذ رأى فيه مكوّنًا أساسيًا لإعادة دمج المساحة المدينية بالشبكة الدقيقة من الروابط الاجتماعية. ويعرّف لوفيفر الحقّ في المدينة بأنه استملاك المساحة بغرض منع تغريب الناس عن بيئة عيشهم. فالقدرة على استعادة المساحة المدينية تمدّ السكان بالقوّة ليُشاركوا في المساحات حيث يعيشون ويغيّروا فيها، ما يتيح لهم مساءلة ديناميّات التخطيط/التشاركية القائمة في المدينة. ويرتبط الحق في المدينة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم “القيمة الاجتماعية للأرض” الذي يركّز على الحريّة في الوصول إلى الموارد المدينيّة، بل “يُعطي الحقّ في تغيير أنفسنا من خلال تغيير المدينة وفقاً لرغباتنا… فحريّتنا في إنتاج مُدننا وإعادة إنتاجها تُعتبر أحد حقوقنا الإنسانيّة الأهمّ، لا بل أكثرها تعرّضاً للإهمال.” (دايفيد هارفي 2008)
ويُعتبر الحق في المدينة بحسب موجز ورقة سياسات مؤتمر “الموئل 3″، حقٌّ جَماعي لأنه ينطبق على كافة السكان بغضّ النظر عن خلفيّاتهم، وهو حقّ مشاعي لأنه غير قابلٍ للتجزئة، لكونه عائداً إلى السكان الحاليّين والمستقبليّين. ويشمل الحقّ في المدينة جميع الوحدات الإدارية داخل الدولة، بما فيها المناطق الريفية.
وتُلخّص مبادئ الحقّ في المدينة بالحقّ في مدينةٌ خاليةٌ من التمييز1التمييز بناءً على الجندر، الفئة العمرية، الوضع الصحّي، الدّخل، الجنسية، الإثنية، الوضع المتعلّق بالهجرة، أو التوجّه السياسي، أو الديني أو الجنسي.؛ مدينةٌ تمتاز بمواطنةٍ شاملةٍ للجميع2يعتبر سكانها (الدائمين أو المؤقتين) مواطِنين ومواطناتٍ بحقوقٍ متساوية. وتتّسم بمشاركةٍ سياسيةٍ على مستوى التطبيق، المراقبة وتمويل السياسات المدينية، من أجل تعزيز الشفافية وإشراك السكان؛ مدينةٌ تحقّق وظائفها الاجتماعية وتمنح الأولوية للصالح العام كما تحدّده الجماعة، فتضمن استخدام المساحات المدينية والريفية على نحوٍ عادلٍ اجتماعياً ومتوازنٍ بيئياً؛ مدينةٌ تمتاز بمساحاتٍ عامةٍ تحسّن التفاعل الاجتماعي والمشاركة السياسية، وأشكال التعبير، وتُلبّي حاجات السكان، وتساهم في بناء مُدنٍ أكثر أماناً؛ مدينةٌ تسودها المساواة الجندرية، تكافح كلّ أشكال التمييز3التمييز ضد النساء، والرجال، والمثليّين، والمثليّات، والعابرين والعابرات ومزدوجي/ات الميول الجنسية. وتؤمّن التنمية الكاملة للنساء، كما تحترم التنوّع الثقافي4التنوّع في أنماط العيش، التقاليد، التاريخ، الهويّات، أشكال التعبير والأساليب الاجتماعية – الثقافية لسكّانها. وتحميه وتروّج له؛ مدينةٌ تزخر بالاقتصادات الشاملة للجميع، وتضمن الوصول إلى عيشٍ آمنٍ وعملٍ كريمٍ لكافة السكّان، وتفسح المجال لاقتصاداتٍ أخرى5مثل اقتصاد التضامن، واقتصاد التشارُك والاقتصاد الدائري.؛ مدينةٌ قائمة على منظومةً بيئيةً مشتركةً تحترم الروابط الريفية – المدينية، وتحمي التنوّع البيولوجي، والأنظمة البيئية المحيطة، وتعزّز التعاون بين المناطق وتقوّي شبكات التواصل والاتصال.
تشكّل هذه المبادئ مدخلاً لمقاربة القضايا العمرانية والعدالة المكانية في إطار صناعة السياسات. في هذا الصدد، نقرأ فيما يلي القوانين التي رُصدت في تقرير “أعمال المجلس النيابي من منظور العدالة المكانية 2019 – 2022″ وفقاً لمبادئ الحق في المدينة. نباشر أوّلاً بعرض النمط المتّبع من الانتهاكات لكلٍّ من المبادئ على حدة، لنعطي بعدها مثال عن قانون يوضّح هذه الانتهاكات6يمكن لقانون أن يخرق عدّة مبادئ في الوقت ذاته. بشكلٍ ملموس، مع العلم أنّنا نعمل على تطوير معايير خاصة بالسياق اللبناني وفقاً للمبادئ العشر للحقّ في المدينة، نستطيع من خلالها تقييم القوانين بشكلٍ أكثر دقّة.
المشاركة السياسية
بدايةً، تخرق القوانين مبدأ المشاركة السياسية حيث لا تتمّ مشاركة أو استشارة الناس بعملية صنع القرار وتحديد مصير أماكنهم المعاشة، وحيث لا تُتيح التشريعات والسياسات لكافة السكان ممارسةَ محتوى المواطَنة ومعناها على نحوٍ كامل، باعتبارهم فاعلين سياسيّين في القرارات المتعلّقة بتنظيم المدينة ومساحاتها وإدارتها، بما يحقّق الحدّ الأقصى من قيمة الاستخدام لجميع السكان. وفي ظلّ التغييب المستمرّ للناس، تغيب أيضاً الشفافية عن عمل المجلس. فعادةً ما تسمح عملية مشاركة الناس بإضفاء الشفافية وتعزيز التشاركية، وهو أمر ضروري تحديداً بعد انهيار ثقة المجتمع بالمسارات الرسمية، بخاصة بعد انتفاضة 17 تشرين والمطالبات بتغيير جذري للمنظومة الحاكمة. فرغم كل المطالبات بوضع آليات تشاركية وشفّافة ترافق أعمال الجهات الرسمية، ما زال الناس مبعدين عن دوائر أخذ القرارات حيث يتّم تحديد مصائرهم وبيئتهم المبنية والطبيعية. بل على العكس، ما زالت عملية التشريع تتمّ بطريقةٍ تفاقم سلطة دوائر القرار المُقتصرة على العلاقات الشخصية وتفشّي المحسوبيّات والزبائنية وإبداء المصالح الخاصة على المصلحة العامة.
وخير مثال على ذلك كان قانون «حماية المناطق المتضررة بنتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها» (القانون رقم 194/2020)، حيث نصّ القانون على إنشاء لجنة تنسيقية لمسح الأضرار والإغاثة والتعويض، ولم تتضمّن هذه اللجنة أي تمثيل لأصحاب الحقوق والمتضررين والسكّان، حيث تمّ تغييب الناس عموماً وسكان الأحياء المتضررة خصوصاً، عن النقاش حول إعادة تأهيل أحيائهم وتمّ التعاطي معهم فردياً لا جماعياً، وتمّ تحويلهم إلى متلقّي مساعدات فقط.
مدينة تحقّق وظائفها الاجتماعية
المبدأ الثاني الذي خرقته هذه القوانين هو الحقّ في مدينة تحقّق وظائفها الاجتماعية تضمن الوصول العادل اجتماعياً ومساحياً للموارد، الخدمات، الفرص، السكن، بما يكفل ظروف عيش جيّدة، وذلك عبر سياسات تخطيطية عادلة تربط العدالة الاجتماعية بالبعد المكاني وبتوزيع جغرافي منصف للموارد. فقد انعكست السياسات المتّبعة لإدارة الأراضي وتنظيمها والتي تتعامل مع الأرض على أنها سلعة مُعدّة فقط للتبادل، على الدورة الإقتصادية الإنتاجية، وعلى السيادة الغذائية، وعلى حياة الناس وحقوقهن\م المباشرة، من سكن وغذاء وعمل وبيئة، حتى حقهم في الحياة.
نذكر هنا اقتراح قانون دمج الأراضي الأميرية بالأراضي الملك الذي يمهّد فعلياً إلى خصخصة أملاك الدولة الأميرية، بما معناه تخلّي الدولة عن ملكها دون أي مقابل للأفراد، وإعادة توزيعه بحجة الاستجابة إلى حاجات الناس. تُشكّل هذه الأراضي بأغلبها بيئتنا الطبيعية والزراعية، وبذلك يُعتبر التفريط بها ضرباً للأراضي الزراعية7إنّ إلغاء حق التصرّف يحتمّ انقطاع عدد كبير من المالكين الجُدد عن استخدام الأرض وحرثها وزرعها، بعكس ما كانت تفرضه على الأفراد، شروط اكتساب حق التصرّف واستمراريته. بشكل أساسي، كما أن خصخصة هذه الأراضي ستطلق حركة بيعها وشرائها، ما سيؤدّي إلى تراكمها بيد الأقليّة المقتدرة. فيحمل هذا الاقتراح مفهوماً ضيّقاً للتطوّر والنمو، فلا يقيسهما إلا بالأرباح الإجمالية، دون إعطاء أي اعتبار لتوزيع هذه الأرباح بشكلٍ عادل أو توفير فرص العمل المستدام للمجتمع الأوسع، وبالنظر إلى القيمة النقدية للمسائل، دون اهتمام بالقيمة الاجتماعية الثقافية البيئية.
كما نذكر المقاربة لقضية السكن، حيث صدّق البرلمان خلال أربع سنوات على ثلاث قوانين يتيمة بشأن السكن، تختزل جميعها المحنة السكنية المستعصية التي نشهدها والحاجة إلى سياسة إسكانية شاملة بالإقراض السكني للتملّك كتوجّه وحيد، والذي يفتقر بطبيعة الحال إلى الشمولية، ويهمّش الفئات الأكثر فقراً والأكثر حاجةً إلى مسكن. وتوالت الاقتراحات المتعلّقة بالإيجارات والتي لا تأخذ بعين الاعتبار تضخّم أسعار الإيجارات في ظل استمرار حصول الأغلبية الساحقة من الناس على معاشاتهم بالليرة اللبنانية. فيما يبرز اقتراحان خطيران يقضيان بإعفاء مالكي الأبنية الخاضعة لأحكام قوانين الإيجارات القديمة من المسؤولية المدنية والجزائية الناجمة عن الإنهيار الكلي أو الجزئي للمبنى، وتحميلها بالكامل للشاغل أو المستأجر. وبدلاً من التشريع باتجاه الحفاظ على البيئة المبنية وصيانتها، ومعالجة الخلل التشريعي في تأمين السلامة العامة وتحديد مسؤوليات السلطات العامّة في تأهيل المباني والأحياء، يساهم الاقتراحان بتغذية الصراع بين المالكين والمستأجرين القدامى، بل ويرمي كل المسؤولية على الحلقة الأضعف في هذه المسألة.
الأولوية للصالح العام
تخرق أيضاً هذه القوانين الحقّ في مدينة تمنح الأولوية للصالح العام. فالأولويّة في قرارات السلطة الحاكمة وإجراءاتها والقوانين التي أصدرتها دائماً ما تكون للمصالح الخاصة على حساب الصالح العام. وقد تجلّت هذه المفاضلة للمصالح الخاصة في مقاربة المجلس النيابي خلال أربع سنوات للشأن الضريبي. تشير العدالة الضريبية إلى الأفكار والسياسات التي تسعى إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية من خلال الضرائب على الأعضاء الأكثر ثراءً في المجتمع. لكن كافة اقتراحات النواب تعمل عكس هذا الاتجاه. فهي إمّا تُقدّم إعفاءات ضريبية أو تخفيضات لمالكي العقارات، أو هِبات على شكل رشوة على ضررٍ ألقت هي به على الناس، في حين خلت كافة مواد موازنة 2022 من أيّ ضرائب على الشغور أو الملكية العقارية.
في سياق موازي، تتوالى اقتراحات القوانين التي ترمي إلى خصخصة أصول الدولة وأملاكها. من ضمنها اقتراح إنشاء صندوق سيادي واقتراح “إنشاء مؤسسة مستقلة لإدارة أصول الدولة”. تهدف هذه الاقتراحات إلى تحميل الدولة الخسائر بدلاً من تحميلها لأصحاب المصارف، وذلك عبر تنازل الدولة عن الأصول العامة وضمّها إلى صندوق “لإعادة تكوين الودائع”. بالنسبة لاقتراح إنشاء مؤسسة مستقلة لإدارة أصول الدولة، يقوم هذا المشروع على إنشاء مؤسسة على شكل هيئة خاصة تتولّى إدارة أصول الدولة ومؤسساتها، ومن ضمنها الأصول العقارية. أمّا مهامها الأساسية فهي تلزيم استثمار المرافق للقطاع الخاص، أو إدخال القطاع الخاص كشريك فيها. تكمن خطورة هذه المجازفة بمقاربة دور الدولة كشركة، نستطيع قياس نجاح مشاريعها عبر النظر إلى الربح الذي تدرّه علينا أصولها، بينما يجدر بالدولة أن تكون المؤتمنة على أصول الشعب وتديرها بما فيه مصلحته. وبالتالي، لا يجدر ربط إدارة أراضي الدولة بأعمال استثمارية تهدف إلى تحقيق أرباح، بل ينبغي أن يكون في إطار إدارة هذه الأملاك وضمانها كحق للأجيال القادمة. فغالباً ما تكون المقاربة التي تبنى عليها القوانين قائمة على مبدأ تحقيق الأرباح خدمةً لكبار المستثمرين على حساب القطاعات الإنتاجية الأخرى وعلى حساب توفير فرص العمل والخدمات والتعليم والرعاية الصحية والسكن والنقل والطاقة والاتصالات للجميع وتحسين مستوى المعيشة، وتحقيق التكافؤ في الفرص.
وأخيراً، يمنح النواب حوافز استثمارية للمطوّرين العقاريين وكبار المالكين، في انحياز واضح للمصالح الخاصة. على سبيل المثال، يُطرح اليوم تمديد العمل للمرّة الثالثة بالقانون رقم 402/1995 وهو يسمح بمضاعفة عامل الاستثمار في مشاريع الفنادق في مختلف المناطق اللبنانية لمدّة 5 سنوات إضافية، وهو ما يؤثّر بشكلٍ خاص على العقارات الموازية للشاطئ. شكّل تاريخ إصدار القانون للمرّة الأولى عام 1995 نقطةً مفصلية لفهم خلفياته، حيث صدر في الشهر ذاته مع انتقال ملكية عشرات الحصص في عقارات دالية الروشة إلى شركات عقارية تابعة لرفيق الحريري، وهو الذي كان يرغب بخلق مساحة مليئة بالمنتجعات السياحية على أنقاض الدالية. فتمّ تركيب هذا القانون لينسجم مع المصالح الخاصة لشخص في السلطة على حساب الصالح العام. لا يساهم هذا القانون بزيادة البناء على الشاطئ وحسب، إنّما يُضاعف أسعار الأراضي التي يُطبَّق عليها. بذا، لا يُعتبر التمديد المتواصل للقانون هذا، سوى استمرار طغيان المصالح الخاصة لقلّة متسلّطة على المصلحة العامة، وتثبيت منطق “الإستثناء عن القانون” كأداة تخطيطية رئيسية، حيث أصبحت الاستثناءات استراتيجية تخطيط تقدم للسلطات هامشاً من المناورة، وتسمح لها بتوفير الشروط اللازمة لعمل المستثمرين وربحهم.
التنوّع الثقافي
إذا انتقلنا للنظر في كيفية انتهاك القوانين لمبدأ الحقّ في مدينة يسودها التنوّع الثقافي، الذي يشمل التراث المبني إلى جانب التراث غير المادي، نلاحظ أنّ القوانين لا تحترم أو تحمي بشكلٍ كامل الاختلاف والتنوّع في أنماط العيش، التقاليد، الذاكرة الجماعية، والهويّات، والأساليب والممارسات الاجتماعية – الثقافية لسكّانها. وغالباً ما نرى القوانين تأتي إسقاطاً، من دون أخذ طريقة عيش السكان المحليين وحاجاتهن\م ورأيهن\م بعين الاعتبار.
في هذا السياق، نذكر اقتراحات القوانين التي ترمي إلى اعتبار مبنى الإهراءات معلماً يخلّد ذكرى التفجير على أن يُعمل على تدعيمه والمحافظة عليه. وعلى الرغم من احتلال هذا المبنى أهمية معنوية وعاطفية عند الناس، وعلى الرغم من وجود حقٍ عام للاحتفاظ به كونه يلعب دوراً مدينياً سياسياً بامتياز في حفظ الذاكرة بصرياً، وفي إثبات قوة هذا التفجير وفظاعته، لم يتمّ إقرار أيٍّ من هذه القوانين حتى اليوم، وما زالت السلطة تتمسّك بمسعاها للتخلّص منه ماحيةً الأثر المديني المادي والبصري لما حصل في 4 آب، الشاهد على تفاعل السلطة معه من خلال تقاعسها عن اتّخاذ قرار تدعيمه من جهة، واستغلال تدمير المرفأ لنهب المزيد من المال من جهة أخرى، في ظلّ ظهور اهتمام من شركات فرنسية لاستلام إدارة المرفأ. ويظهر انتهاك المبادئ لا من خلال التشريعات فقط، بل من خلال غيابها أيضاً.
اقتصادات الشاملة للجميع
فيما خصّ الحقّ في مدينة تزخر بالاقتصادات الشاملة للجميع، وفي ظلّ تعزيز تسليع الأرض نتيجة النظام الاقتصاديّ الريعي الذي كان أحد أهمّ مسبّبات الانهيار المالي الحالي، تمّ القضاء بشكلٍ شبه تام على قطاعات اقتصادية مختلفة من زراعة، صناعة، تجارة، صيد الأسماك، إنتاج حِرَفي، فنون، سياحة داخلية، وغيرها من القطاعات، وبذلك تمّ تهديد ضمان وصول فئات المجتمع المختلفة إلى سبل العيش الآمنة وإلى العمل الكريم واللائق، وأصبح إنشاء الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم غير متاح بشكل متساوٍ لجميع السكان.
من بين القوانين المرصودة التي تخالف هذا المبدأ، اقتراح قانون الإيجارات للأماكن غير السكنيّة. دون الدخول في تفاصيل هذا الاقتراح الذي يقوم على تحرير الإيجارات للأماكن غير السكنية القديمة، يُركّز هذا الأخير على حماية مصالح المالكين “المهدورة”، دون الاهتمام بالمصالح الاقتصادية للغالبية القصوى، ودون حماية حقوق مَن لا يتمتّعون بامتياز “المُلكية”، ومَن يخسرون أماكن عملهم في ظلّ انهيارٍ اقتصادي غير مسبوق. فيتناسى هذا الاقتراح المصالح الاقتصادية المختلفة -من تجارة، صناعة، ومهن حرفية- التي قد تتضرّر بشكلٍ كبير نتيجة رفع أكلاف استئجار مراكز العمل، وقد تُجبر على إغلاق أبوابها، ممّا يُؤثّر بشكلٍ كبير على بعض المناطق، ويؤدّي إلى تغيير أحيائها وطابعها الاقتصادي-الاجتماعي والعمراني.
منظومةً بيئيةً مشتركةً
بالانتقال إلى الحقّ في مدينةٌ قائمة على منظومةً بيئيةً مشتركةً، تحترم الروابط الريفية – المدينية، والتنوّع البيولوجي والأنظمة البيئية، وتعزّز التعاون بين المناطق، تمّ انتهاك هذا المبدأ من خلال القوانين المرصودة. فبدلاً من حماية المساحات الخضراء والأراضي الزراعية، الغابات، الشواطئ وجميع عناصر النظام البيئي، واستخدامها وإدارتها بشكلٍ مستدام، عادةً ما تكون نتائج القوانين مدّمرة على البيئة بحجة حماية الملكية الفردية وتحفيز الواقع الاقتصادي والتنمية في ظلّ النظام الاقتصادي الريعي القائم الذي لا يلتقي، لا بل يتعارض مع الحقوق البيئية.
يُعتبر اقتراح قانون يرمي إلى تنفيذ الاستملاكات المتعلقة بأتوستراد (خلدة – الضبية – العقيبة) وملحقاته نموذجاً عن القوانين التي أخلّت بهذا المبدأ. يهدف هذا الاقتراح إلى إحياء مشروع الأتوستراد الدائري الذي سقط بمرور الزمن، عبر تسهيل تنفيذ استملاكاته التي كانت السبب الأوّل للحيلولة دون إتمامه. يشكّل هذا الأوتوستراد جزءاً من سياسةٍ ممنهجةٍ لضرب النقل العام. ففي النتيجة، لن يخفّفَ الأوتوستراد المنشود من زحمةِ السير، بل سيعرّض سكان مناطق عدّة للتهجير، كما أنّه يمرّ في مناطق حرجيّة ويساهم في تدميرها، ويساهم في تقسيم البلدات التي يمرّ فيها ويشلّها اقتصادياً ويلوّثها سمعياً ويؤثر على جودة الهواء فيها لقرب مسار السيارات من الوحدات السكنيّة، علماً أنّه ليس صالحاً على المستوى البيئيّ، بحيث أنّه لا يحترم أياً من المعايير البيئية ولم يمر أيضاً في لجنة البيئة.
مدينةٌ خالية من التمييز
بالنسبة للحقّ في مدينةٍ خالية من التمييز، إن كان تمييز على أساس الجندر، الفئة العمرية، الوضع الصحّي، الدخل، الجنسية، التوجّه السياسي أو الديني أو الجنسي، خرقت القوانين المرصودة هذا المبدأ أيضاً. فغالباً ما تُبنى القوانين في لبنان على أساس دينيّ، طائفي، مناطقي أو طبقي، وبذلك تكون في جوهرها تمييزية تساهم في إلغاء أيّ شكل من أشكال التنّوع وإزالة تمظهره على الصعيد الاجتماعي، الجغرافي أو العمراني. كذلك، تسمح بعض هذه القوانين بالتمييز ضدّ النساء أو ضدّ الفئات المهمشة الأخرى، كاللاجئات\ين.
بهذه الطريقة يخرق إقتراح قانون يرمي إلى استحداث بلديتين في مدينة بيروت هذا المبدأ. يهدف هذا الاقتراح إلى تقسيم بيروت جغرافياً إلى بلديتين: بيروت الأولى، وتتكوّن من أحياء ذات غالبية مسيحية، بينما تتكوّن بيروت الثانية من أحياء ذات غالبية مسلمة. يقوم هذا الاقتراح على نقل صلاحيات المجلس البلدي الحالي إلى مجلسين مختلفين على أن يتم الاجتماع شهرياً، في جلسة مشتركة لإدارة المصالح المشتركة بين البلديتين. إنّ هكذا إقتراح، بصيغته المطروحة، يعيد الذاكرة إلى خطوط التماس، ويفاقم الانقسامات والتمييز بين الأحياء المختلفة، ويساهم في ترسيخٍ إضافي للطائفية والمذهبية والمناطقية.
المواطنة الشاملة
أمّا بالنسبة للحقّ في مدينة تمتاز بمواطنةٍ شاملةٍ حيث يكون كلّ سكانها مواطنات ومواطنين بحقوقٍ متساوية، سواء كان سكنهم دائماً أو مؤقتّاً وقانونياً أو غير رسميّ، سواءً أكانوا يحملون جنسية البلد أم لا، فكذلك تتعارض بعض القوانين المرصودة مع هذا المبدأ. لطالما كان للمصالح الاقتصادية أو الطائفية ومن يمثّلها من متموّلين ونافذين، الصوت الأعلى على طاولة صنع القرار، وبالتالي كان لها التأثير الأكبر على تكوين المدينة وعلى صنع الحيّز المديني، حتّى لو كانت هذه القرارات تتعارض مع حقوق الفئات الأخرى من المجتمع بما فيها الفئات المستضعفة والمهمشة، ومصالحها واحتياجاتها وأولوياتها.
كمثال عن كيفية نقض القوانين المرصودة لهذا المبدأ، نذكر اقتراح قانون يرمي إلى منع أي شكل من أشكال الدمج أو الإندماج الظاهر أو المقنّع للنازحين السوريين الموجودين في لبنان جرّاء الثورة السورية. وهو اقتراح إن عبّر عن شيء، فهو يعبّر عن هلع من اللاجئات\ين، ودعوة لمفاقمة التمييز ضدّهن/م. وقد أتى اقتراح القانون هذا في الوقت الذي تعمل فيه السلطة جاهدةً لرمي اللوم على اللاجئات\ين، ولتشجيع الهجمات والجرائم ضدهم، والحث على العنصرية ورُهاب اللاجئين. كما تنشغل السلطة في إصدار بيانات وخطابات عديدة، تُصدِر فيها أرقاماً خيالية وغير حقيقية عن المساعدات والإعانات التي يستفيد منها اللاجئات\ون اليوم، والتي هي في الحقيقة من حقّهن\م. كما يقترح القانون خطوات تمنع اللاجئات\ين من الحركة، في خرق واضح للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي انضم إليه لبنان عام 1972 و كرّسه في مقدمة الدستور.
المساحات العامة
فيما يتعلّق بالحقّ في مدينة تمتاز بمساحات عامة عالية الجودة، تعزّز التفاعلات الاجتماعية وتُلبّي حاجات السكان، فعلى مثال ما سبق أعلاه، أخلّت بعض القوانين المرصودة بهذا المبدأ. عادةً ما يتمّ تحديد طابع المدينة وصورتها من خلال حجم أحيائها ونوعية الحياة فيها ومساحاتها العامة من ساحات، شوارع، حدائق، أسواق، شواطئ، إلخ. كذلك، تُعدّ الموارد الطبيعية بما في ذلك الأنهار والمناطق الحرجية والطبيعية من الأصول الواجب حمايتها والمحافظة عليها. لكن، لعلّ موضوع حماية المناطق الطبيعية على أنواعها، والحفاظ على نوعية الحياة داخل المدينة وتحسينها، يأتي في أسفل سلمّ الأولويات عند المشرعين في لبنان، الذين يعتمدون عادةّ توجّه التضييق على المساحات العامة، إهمالها أو إغلاقها.
من ضمن القوانين التي خالفت هذا المبدأ، قانون يقوم على إنشاء “محمية حرج بيروت”، وقانون إعادة تنظيم معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس. يحدّد القانون الأوّل أنشطة محدودة يمكن ممارستها في الحرج وينصّ على إمكانية فرض بدلات دخول أو استخدام – وذلك في محاولة واضحة لإعطاء الحرج طابع نخبوي إقصائي. يأخذ هنا موضوع حماية المساحات العامة والمحافظة عليها منحاً مختلفاً يقوم على تقييد دخول العامة إلى الحرج بدلاً من أن يكون مساحة مفتوحة للجميع، ومقصد من لا يستطيعون تحمّل تكلفة الأماكن الخاصة، ومجالاّ يساهم في تعزيز التفاعلات الاجتماعية واستيعاب النشاطات المكانية المتنوّعة، الكلاسيكية، الشائعة أو المبتكَرة والتي تصب في إطار الاستمتاع في المجال العام. أمّا بالنسبة للقانون المتعلّق بمعرض رشيد كرامي، فيعزّز هذا القانون دور القطاع الخاص في الاستثمار في منشآت المعرض ومساحاته المفتوحة ويمكّنه من البناء فيها. وتكمن الخطورة هنا في مقاربة المعرض من الناحية المادية فحسب، فربط إدارة أراضي المعرض بأعمال استثمارية هو خصخصة مقنّعة تهدف إلى تحقيق أرباح تصبّ في مصلحة مجموعة من المتمولين، وتغيّب دوره الإجتماعي البيئي المديني، خاصةً وأن المعرض يشكّل مساحة عامة ومتنفَّساً مفتوحاً وحرّاً لأهالي المدينة.
المساواة الجندرية
أخيراً، قد لا يكون عدد القوانين المرصودة التي خرقت الحقّ في مدينة تسودها المساواة الجندرية كبير، لكنّ ذلك لا يعني أنّ هذا المبدأ لا يتمّ خرقه مراراً وتكراراً، إن كان عبر القوانين الحالية أو السابقة أو حتى من خلال القرارات والممارسات الرسمية وغير الرسمية. حيث أنّه حقيقةً يتمّ انتهاك الحقّ في مدينة تُكافح كلّ أشكال التمييز ضد النساء، والكويريات\ين (من مثليّين ومثليّات، وعابرين وعابرات وغيرهنّ من المجموعات التي ترفض التعريف الثنائي القطب للتوجّهات الجنسية و\أو الأدوار الجندرية والنوع الاجتماعي ككلّ)، وتجرّم بشكل واضح ودون مواربة، التحرّش بكل أشكاله في الأماكن العامة وأماكن العمل، وتؤمّن الحقوق الكاملة للنساء في ظلّ عدم وجود قانون موحّد للأحوال الشخصية والإبقاء على قوانين الأحوال الشخصية الطائفيّة المتعددة التي تمسّ مبدأ المساواة في صميمه وتنتهك حقوق النساء، وخصوصاً حقهن في الأرض.
أحد القوانين التي تخرق هذا المبدأ والتي ذكرناها سابقاً هو اقتراح قانون دمج الأراضي الأميرية بالأراضي الملك. يُعدّ هذا القانون ضرباً للمساواة في الإرث بين النساء والرجال في هذه المناطق، إذ أن ما يطرحه القانون من إلغاء لحق التصرّف واستبداله بحق الملكية يعني حتماً انتقال حق ملكية الأرض/العقار للرجال وفقاً للشريعة الإسلامية، أي “للذكر مثل حظ الأنثيين”، في حين انتقال حق التصرّف في الأراضي الأميرية للرجال لا يجري وفقاً للشريعة الإسلامية، بل بمقتضى قواعد الانتقال التي نصّ عليها القانون العثماني، كون الأرض رقبتها ملكاً للدولة وليست داخلة في ملك الأفراد، وبالتالي تتساوى في الانتقال حصة النساء والرجال.
خاتمة
شهدَت الأعوام الخمسين الماضية تأكيداً على الحق في المدينة وتبنّياً له، بالإضافة إلى إيراده كالتزامٍ عالمي في من قبل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وذلك في أجندة الموئل بعد مؤتمرَي “الموئل 1″ و”الموئل 2” اللذّين عُقدا عام 1996. أمّا النقاش الأخير الذي دار بشأن الحقّ في المدينة في مؤتمر “الموئل 3″، فأعطاه تعريفاً أكثر وضوحاً، ورسّخ المبادئ العشر المذكورة في هذا النص والتي على الحكومات الالتزام بها.
إلّا أنه لا يكفي توقيع الدولة اللبنانية “الميثاق العالمي للحق في المدينة” الذي تؤكّد المادة الثانية من أحكامه العامة في أنه “ينبغي أن تعلو المصلحة الاجتماعية والثقافية الجماعية فوق حقوق الملكية الفردية ومصالح المضاربة، أثناء صياغة وتنفيذ السياسات الحضرية”، وتنص المادة الخامسة على أنه ينبغي أن تعمل المدن على وضع “الأولوية للإنتاج الاجتماعي للموئل، وأن تضمن الوظيفة الاجتماعية للمدينة والملكية”.
لا يزال هذا الحق غائباً عن الخطاب العام في لبنان، حيث حُرمَ السكانُ من المعارف التي تخوّلهن\م صياغة المطالب الحقوقية، ممّا جعل من مبادئ الحق في المدينة عباراتٍ جوفاء مدفونةٍ في نصوصٍ مسلوخةٍ عن الواقع اليومي للناس. نتيجةً لذلك، ما نسعى إليه هو تفعيلُ تلك المبادئ عبر المعرفة والحوار والمناقشة، لتغدو نقطة انطلاق نحو وضع آلياتٍ وتشريعاتٍ وسياساتٍ عامةٍ ملائمة.
المراجع
- 1التمييز بناءً على الجندر، الفئة العمرية، الوضع الصحّي، الدّخل، الجنسية، الإثنية، الوضع المتعلّق بالهجرة، أو التوجّه السياسي، أو الديني أو الجنسي.
- 2يعتبر سكانها (الدائمين أو المؤقتين) مواطِنين ومواطناتٍ بحقوقٍ متساوية.
- 3التمييز ضد النساء، والرجال، والمثليّين، والمثليّات، والعابرين والعابرات ومزدوجي/ات الميول الجنسية.
- 4التنوّع في أنماط العيش، التقاليد، التاريخ، الهويّات، أشكال التعبير والأساليب الاجتماعية – الثقافية لسكّانها.
- 5مثل اقتصاد التضامن، واقتصاد التشارُك والاقتصاد الدائري.
- 6يمكن لقانون أن يخرق عدّة مبادئ في الوقت ذاته.
- 7إنّ إلغاء حق التصرّف يحتمّ انقطاع عدد كبير من المالكين الجُدد عن استخدام الأرض وحرثها وزرعها، بعكس ما كانت تفرضه على الأفراد، شروط اكتساب حق التصرّف واستمراريته.
كتلة الوفاء للمقاومة تقترح إلغاء نظام الأراضي الأميرية
اقتراح قانون دمج الأراضي الأميرية بالأراضي الملك
أحيل الى لجنتي المال والموازنة والادارة العامة ولم يدرس لغاية تاريخه.