مشروع الموازنة العامة 2022

اللاعدالة في قضايا الأرض والسكن

ناقشت الهيئة العامة لمجلس النواب اللبناني في جلستَي الخميس والجمعة 15 و16 أيلول مشروع الموازنة لعام 2022. وكان وزير المال يوسف الخليل قد أعدّ مسودة مشروع الموازنة وأرسلها في 21/1/2022 للحكومة التي أدخلت عليها بعض التعديلات وأحالتها بدورها بصيغة مشروع قانون إلى المجلس النيابي في 10/2/2022. ثمّ استغرقت لجنة المال والموازنة مدّة طويلة في دراستها دامت 6 أشهر، تخلّلها عقد 22 جلسة كان آخرها في 25/8/2022.

في حين نتوقّع من الحكومة تغييرات جذرية لإعادة بناء الاقتصاد المنهار، يكتفي مشروع قانون الموازنة العامة باقتراحات تهدف بشكل واضح إلى تعزيز إيرادات الدولة، دون البحث في تغيير السياسة القائمة والمتمثّلة بتسليع الأرض واستغلالها لجني الأرباح. يتّسم هذا المشروع بغياب الرؤية، فهو لا يرتكز على أي خطة إصلاحية تتطرّق للأزمات التي يمر فيها لبنان، لا سيّما أزمة السكن. كما يغيب مفهوم العدالة الضريبية وأي بعد إجتماعي عن بنوده. وفي حين تفرض الأوضاع العامة حماية المقدّرات والأصول العامة، تمهّد الدولة للتفريط بأملاكها وأموالها ومرافِقِها العامة فتتسامح مع مُكدِّسي الثروات والأملاك ومع المتعدّين على الأملاك العامة في نقضٍ واضحٍ لكلّ ما يفرُضه مفهوم المصلحة العامة.

وكان استديو أشغال عامة قد اختار عدداً من البنود المتعلقة بقضايا العمران والأرض والسكن من مسودّة الموازنة المسرّبة للحكومة وعلّق عليها سابقاً، لذا نستعرض في هذا المقال تلك التعليقات مع توضيح التعديلات أو المستجدات التي طرأت عليها في المسودة الأخيرة قيد النقاش في المجلس النيابي حالياً.

المواد 113 – 110 – 81 – 16:

الدولة تمهّد لخصخصة أراضيها

تشكّل أربع مواد في الموازنة، وهي جزءٌ من الخطة المالية المرتقبة للحكومة، تمهيداً لبيع أصول الدولة أو خصخصتها أو إدارتها من خلال شراكة مع القطاع الخاص.

أولاً المادة 113، تفرض الموازنة جرد قيمة أصول الدولة عبر تزويد وزارة المالية بموجودات الدولة العقارية وغير العقارية، من مختلف الوزارات و/أو الإدارات الرسمية و/أو الشركات. لا شكّ أنه من واجب الدولة أن تُنجز جردة بأملاكها لتتعرّف عليها من حيث العدد، والمساحة، والتوزّع الجغرافي، والاستخدام، حتى تستطيع إدارتها بالشكل المطلوب بما يخدم المصلحة العامة. إنما من المستغرب تضمين هذا الطرح في أحد بنود الموازنة كون عملية تجميع المعلومات قائمة أصلاً ولا تحتاج إلى أية اعتمادات مالية تُخصّص لإنجازها. إنّ توقيت طرح هذا البند يشكّل استجابةً لمطلب جمعية المصارف التي كانت تشترط لموافقتها على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تحميل الدولة الجزء الأكبر من الخسائر عبر الاستيلاء على عائداتها وعقاراتها.

ثانياً المادة 110، تعدّل الموازنة المادة 60 من قانون «إدارة وبيع أملاك الدولة الخصوصية» الذي يُعنى بتأجير العقارات الداخلة ضمن أملاك الدولة الخصوصية، لمدة أقصاها 4 سنوات. وقد زاد التعديل من مدة التأجير لتصل إلى ١٨ سنة. يحمل هذا التعديل طابعاً خطيراً، إذ أنه يشكّل عملياً تخلي الدولة عن إدارة أملاكها و”تلزيم” ذلك للقطاع الخاص، عبر التسهيل لطرف ما أن يهيمن على مساحة ما. كما أنه يمهّد لإمكانية البناء أو رفع الاستثمار في هذه المساحات المفتوحة بما يتناسب مع مصلحة الطرف المستأجر، عبر إتاحة الوقت اللازم لتغيير تصنيف الأرض المُؤجرة.

ثالثاً المادة 81، تمنح الموازنة إعفاءات ضريبية وتسهيلات لمن يشغل أملاك الدولة العمومية. الإجراءات المطروحة هذه ما هي إلا انحياز مفرط تجاه الفئات التي تهيمن على أملاك الدولة العمومية. أما بالنسبة لفئة المعتدين، الإجراء المطروح يمكّنهم من عدم تسديد أي بدل إشغال أو غرامات، وبالتالي يمكن وصف هذا الإجراء بتمهيد لتشريع الإشغال طوال فترة الاعتداء.

رابعاً المادة 16، تطرح الموازنة تأجيل البدء بتطبيق قانون برنامج في وزارة المالية مرتبط باستكمال أعمال التحديد والتحرير والكيل والمسح ووضع الخرائط النهائية في جميع الأراضي اللبنانية، عبر ترحيل اعتماد الدفع المقرّر لإنجاز هذه الأعمال إلى موازنة العام 2023، من أجل تخفيض مستوى العجز في الموازنة بالنسبة للناتج المحلي. عدم استكمال هذه العملية يعني أن عدداً كبيراً من العقارات في لبنان لا يزال خارج السجل العقاري، وأن عدداً من الملكيات الخاصة والعامة، والحدود، والمساحات، لا يزال غير محدّد بطريقة واضحة، ما يسبّب نزاعات كثيرة يصعب حتى على المحاكم حلّها، سواء أكانت نزاعات بين الأفراد، أو نزاعات تنشب بينهم والدولة. يشكّل هذا البند إذاً صورة واضحة عن إهمال الدولة لأملاكها العقارية، خاصة وأن اعتماد الدفع المقرّر لإنجاز أعمال التحديد والتحرير جرى ترحيله من موازنة إلى موازنة لأكثر من مرة في السنوات الأخيرة. كما أن طرح الترحيل يأتي متناقضاً مع المادة 126 في الموازنة التي تنصّ على تجميع بيانات كل عقارات الدولة لإجراء جردة عينية لها. فكيف ستتخذ الدولة إجراءات مماثلة في ظل غياب معلومات عن عدد ملحوظ من عقاراتها؟

المواد 15 و 94:

الدولة تتخلى عن قضية ترميم المناطق المتضررة من تفجير المرفأ

ذُكرت قضية ترميم المناطق المتضررة ضمن الموازنة العامة من خلال مادتين يتيمتين.

أولاً المادة 15، تجيز هذه المادة نقل اعتمادات لتوزيع مساعدات بهدف ترميم الأبنية السكنية المتضررة جراء التفجير بقيمة ١٠٠ مليار ليرة لبنانية، بعد بندين يجاز من خلالهما توزيع مساعدات اجتماعية للأسر الأكثر حاجة، والمقدرة بقيمة ١٥٠ مليار ليرة لبنانية ولمعالجة الأوضاع المستحدثة بفعل فيروس كورونا المقدرة بقيمة ٢٠٠ مليار ليرة لبنانية. ينصّ البند، كما والبندين السابقين له، أنّه: “يمكن نقل الاعتمادات” وذلك بقرار يصدر عن وزير المالية بناءً على اقتراح الهيئة العليا للإغاثة، بالتالي هناك إمكانية غير محتملة بنقل هذه المبالغ، حيث يستخدم تعبير “يتّم نقل” وليس “يمكن نقل” في مواد أخرى.

كما ما زالت المساعدات محصورة بالأبنية السكنية فقط. فحتّى الآن لم يتمّ التعويض على المؤسسات التجارية المتضررة أو تعويض باقي الخسائر المادية (الممتلكات غير المبنية) أو الجسدية، هذا إذا لم نأتِ على ذكر الخسائر المعنوية. بعيداً عن هذه التفاصيل ودون التعليق على القيمة المرصودة لمساعدات الترميم، ومن خلال المفردات المستعملة، مازالت السلطة تنظر إلى المتضررين كمتسولين وليس كأصحاب حقوق وتقدمّ لهم “المساعدات” كعملٍ خيري وليس التعويضات كحقّ أساسي وفقاً للقوانين اللبنانية والمعاهدات الدولية التي تكرّس وجوب حماية المصالح والحقوق المحمية وتضمن حقوقهم في التعويض الكامل والعادل والمعادل للضرر.

من جهة أخرى، أنشأ قانون “حماية المناطق المتضررة بنتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها” (القانون رقم ١٩٤/٢٠٢٠) لجنة تنسيقية لمسح الأضرار والإغاثة والتعويض ومهامها تقدير قيمة التعويض المناسب لكلّ عقار على أن تعتمد عناصر موحدة وشفافة، ووضع قوائم للأضرار والتعويضات، غير أنّ هذه اللجنة لم تُشكلّ يوماً ومازالت كافة التعويضات توّزع خارج إطارها ودون تحديد المعايير والأولويات في التعويض، كما وآليات التسديد الواضحة التي تتضمن جداول زمنية محددة لتوزيع التعويضات.

ثانياً المادة 94، تجيز إعفاء العقارات طور الإنجاز المتضررة من التفجير من رسوم قيد الإنشاءات ومن الحصول على رخصة ترميم، فقد ورد ضمن أسبابها الموجبة أنّه “نظراً للأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، والتي ازدادت بعد انفجار مرفأ بيروت، ونظراً للدمار الذي أحدثه الانفجار، ومن أجل مساعدة المالكين في أعمال الترميم، وتسوية أوضاع عقاراتهم”، جاء هذا الاقتراح ليسهّل أعمال البناء. بالتالي تُظهر الأسباب الموجبة تمييزاً واضحاً لصالح المالكين. فقط حُصر موضوع الإعفاءات الضريبية والإعفاء من رخص الترميم بالعقارات طور الإنجاز، ما يعني تفضيل إضافي للمالكين ولأصحاب العقارات المتضررة والمطورين العقاريين وشركات البناء- الذين يساهمون في تغيير طابع هذه المناطق- عبر تقديم تسهيلات إضافية لهم. وبينما أتى على بال السلطة تقديم الإعفاءات لفئة محددة، تناست مشاكل رخص الترميم وتعقيداتها التي يُعاني منها المستأجرون، إذ يُشترط عليهم الاستحصال على تراخيص الترميم بواسطة المالك وبموافقته حيث أنّ المالك يستطيع التلكؤ عن الترميم بهدف بيع العقار، وغيرها من الاشكاليات المتعلقة خصوصاً بترميم الأبنية التراثية. فيما أعطى قانون “حماية المناطق المتضررة بنتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها” امتيازات للمطورين العقاريين وشركة سوليدير وأصحاب العقارات الواقعة في منطقتها وساهم في توسيع قدرتها على التحكم بالسوق العقارية عندما منع التصرّف بالعقارات لمدّة سنتين واستثنى منه الفئات المذكورة أعلاه، جاء هذا البند أيضاً لاعطائهم تسهيلات اضافية وليثبّت فكرة تعزيز احتكار القلّة المقتدرة على حساب الأضعف.

في النهاية، مازال موضوع تفجير ٤ آب وحماية المناطق المتضررة واعادة تأهيلها، يُختزل بتقديم “المساعدات” أو التعويضات وبعض الإعفاءات الضريبية المحصورة بفئة محددة ومقتدرة، دون وضع رؤية وسياسة شاملة، تستفيد من دروس الماضي وتضع ضمن أولوياتها استعادة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذه المناطق وتضمن استدامة السكن وتحمي السكان من التهجير الدائم وتسعى الى اعادة تأهيل الحيّز العام والمشترك وليس فقط المباني وتضمن مشاركة المتضررين في جميع محافل القرار المتصلة بالتفجير وبإعادة تأهيل المناطق.

المادة 58:

إنكار تام لأزمة السكن في التعديلات المقترحة على ضريبة الملكية المبنية

في المادة 58، تُقترح تعديلات على المادة 36 من قانون الضريبة على الأملاك المبنية. وقد نصت المادة 36 قبل التعديل أنه تُحتسب الضريبة التي يدفعها مالك العقار المبني أو مستثمره على أساس ما يمكن للمبنى أن يحصّله من بدلات إيجار سنوياً. كما تحدد الإدارة الضريبية «القيمة التأجيرية» على أساس 5% من قيمة الإيجار السنوي.

تنص المادة على تخفيض القيمة التأجيرية من 5% إلى 2.5% ووضع معايير صارمة لتقدير الإيرادات، بحيث تشترط ألّا يقل تقدير الضريبة على الأبنية المؤجرة – والذي يستند على بدلات الإيجار المحصّلة – عن 70% من القيمة التي تحدّدها دوائر التحقيق في وزارة المال وفقاً لحساباتها الخاصة.

يتعارض هذا الاقتراح مع “نيّة” الدولة بالحد من الشغور والتشجيع على التأجير (المادة 66 من القانون نفسه) حيث أنه يساوي بين العقارات المؤجرة وتلك الشاغرة أو غير المؤجرة في فرض الضريبة.

قد يدفع الاقتراح هذا المؤجرين إلى رفع الإيجارات لتخفيف الأعباء الضريبية، كون دوائر التحقيق ستقدّر حتماً قيمة أعلى للبدلات من تلك المحصّلة فعلياً، وتفرض الضريبة الأعلى عليهم. كما يُظهر الاقتراح إنكار الدولة لأزمة الإيجارات التي برّرت التعديل بحجة “ارتفاع العرض وانخفاض الطلب”، وتجاهلها لتضخّم أسعار الإيجارات في ظل استمرار حصول الأغلبية الساحقة من المواطنين معاشاتهم بالليرة اللبنانية. ويتجاهل الاقتراح دور القانون في تنظيم الرواتب وآليات تحديد الحد الأدنى للأجور، وفي حماية المستأجرين عبر الحفاظ على الإيجارات منخفضة من خلال نظام عادل لضبطها وضرورة تفعيل الوظيفة الإجتماعية للأرض عبر عدم التمييز بين أنواع وأوجه الاستعمال وعدم تقديم الإعفاءات والتسهيلات الضريبيّة في الحالات التي يلعب فيها الاستخدام دور إجتماعي أو إقتصادي معيّن.

المواد 65 – 66 (مُلغاة)

رفع الإعفاء الضريبي عن الشغور

قد تضمنت نسخة المسودة المسربة للحكومة هذه المواد التي كنا قد علقنا عليها إنمّا تمّ إلغاؤها من مسودة الحكومة في لجنة المال والموازنة. إنّ إلغاء بند الضريبة على الشغور يثبت الانحياز لمصالح أصحاب الثروات والأملاك على حساب العدالة الضريبية والرؤية.

إقترحت المسودة السابقة لمشروع قانون الموازنة العامة رفع الإعفاء الضريبي عن العقارات المبنية الشاغرة، سعياً لتشجيع التأجير والبيع، في محاولة لحل أزمة الوصول إلى السكن وذلك من خلال المواد 65 و 66 التي نصت على رفع الإعفاء الضريبي عن العقارات المبنية الشاغرة عبر تعديل المواد ١٧ و٢٠ من قانون ضريبة الأملاك المبنية.

وقد جاء في الأسباب الموجبة «تشجيع مالكي العقارات على تأجيرها أو بيعها»، «حل مشكلة المواطنين في إيجاد أماكن لاستئجارها أو للشراء» و«تعزيز إيرادات الدولة». يتم احتساب الضريبة على أساس ٥٠٪ من الإيرادات الصافية التي سيحقّقها المالك عند التأجير. في حال أنشئ المبنى من قبل تجّار العقارات فتطبّق ضريبة الشغور بعد ٣ سنوات، أما في الحالات الأخرى فيبدأ التطبيق بعد سنتين. أما في حال سكن المبنى ناطورٌ لحراسته، يعتبر المبنى شاغراً وتنطبق الضريبة عليه.

يأتي الطرح ليكافئ المطورين العقاريين الذين لطالما استغلوا الإعفاء الضريبي على الوحدات الشاغرة للمضاربة العقارية، عبر إعفائهم اليوم من تطبيق الضريبة لسنة إضافية. كما يساوي هذا الطرح بين المستثمرين الكبار والمقاولين والمالكين الصّغار، بدل فرض ضريبة تصاعديّة حسب مدة الشغور وثروة المالك، بل ويضع ثقل هذه الضريبة على الملّاك الصغار. كما أنه لا يحل «مشكلة المواطنين في إيجاد أماكن لاستئجارها أو للشراء»، فهو لا يربط بين الإعفاءات الضريبية وتخصيص الاستخدام بما يتناسب مع المصلحة العامة، كالتخصيص للسكن الميسر. وأخيرا الإطار الزمني لتطبيق الضريبة طويل جداً. فالعمل بالنصوص لن يبدأ قبل عام 2024، في حين أنّ أزمة السكن المتصاعدة تحتاج لمعالجة فوريّة.

من جهة، شكّل هذا الطرح خطوة إيجابية لاسترجاع دور الأرض الإجتماعي، كمكان للسكن أو للعمل، عبر حدّه للممارسة السائدة باستخدام الأرض كأصول تخّزن فيها الثروات. كما من شأنه الحد من سلوكيات المضاربة، ما يساهم في ضبط ارتفاع أسعار الأراضي. إنما بالنظر إلى الإطار الذي طرحت فيه الضريبة على الشغور، نكتشف أنها خطوة ناقصة، كون الطرح لا يزال يعطي امتيازات لتجار الأبنية ولا يراعي حالات العسر. فضلاً عن الإطار الزمني الطويل لتطبيق الضريبة الذي لا يأخذ بالاعتبار مدى إلحاح أزمة السكن.

كما تشكّل هذه الخطة اختزالاً لسياسة ضريبية شاملة التي من شأنها أن تحدّ من المضاربات العقارية وتحافظ على القيمة الإجتماعية للعقارات، وتساهم في توفير الوصول إلى السكن عبر تأمين مخزون من الشقق الميسّرة.

المادة 121 (مُلغاة)

الدولة تجتزئ إشكالية الحرائق

قد تضمنت نسخة المسودة المسربة للحكومة هذه المادة التي كنا قد علقنا عليها إنمّا تمّ إلغاؤها من مسودة الحكومة في لجنة المال والموازنة.

في الخريف، استهدفت الحرائق وادٍ في الجنوب تُخاض معركةُ تحويله إلى محمية، واليوم تشتعل غابات الشمال في كارثة تبدو مفتعلة أو تأتي نتيجة ممارساتٍ شجّعتها السلطة وسهّلتها. تُعيد إلينا الحرائق التي تتمدّد -خارج موسمها- في إحدى أكبر غابات الصنوبر في المنطقة، مسألة سياسات الدولة لحماية الغابات والأحراج والبساتين من الحرائق، في إطار يبدو وكأنّه معضلة: هل على الدولة أن تتبع سياسات تحمي التنوع البيئي والأراضي الزراعية والمساحات الطبيعية والغابات وحيوات الناس ومعيشتهم، أو تتغاضى عن ممارسات الطبقة المهيمنة ومحاولاتها المستمرة للانقضاض على الأراضي، فترمي بالمسؤولية على الأفراد؟

ففي 13 تشرين الثاني بدأت الحرائق في زبقين- وادي العزية، وامتدّت إلى عدّة مناطق جنوبية، ثم بقاعية وأخيراً إلى المتن وكسروان وعكّار؛ واليوم، تنتشر في حرج بطرماز ضمن غابة السفيرة، في منطقة سير الضنية في الشمال حرائق لا يظهر لها سبب، ودون أن تظهر خطوات جدية لوقف تكرار هذه الكوارث.

في المقابل، تطلب الدولة (المادة 121 من المسودة المسربة من موازنة 2022) من المزارعات\ين أن “ينظّفوا” أراضيهم بشكل مستمرّ من الأغصان اليابسة والأعشاب، مجتزِئة إشكالية الحرائق لتبدو وكأنّها أزمةٌ بسببٍ واحد، راميةً بالمسؤولية على أكتاف الناس، وطارحةً حلاًّ غير ناجع وغير مقبول بيئياً.

أوّلاً، نذكّر بأن أكثرية الأراضي التي ضربتها الحرائق في الصيف الفائت ليست أراضٍ خاصة وإنما أملاكاً عامة على الدولة إدارتها وحمايتها.

ثانياً، فإن “إبقاء الأراضي خالية من الأعشاب” شبه مستحيل، خاصة لما يتطلّبه ذلك من جهد بشري، أو مصروف إضافي على المزارعات\ين أو استخدام مفرط للكيماويات الضارة المزيلة للأعشاب. بيئياً وزراعياً، فإن إبقاء الأراضي خالية من الأعشاب أمر مضرّ للنباتات والأشجار من جهة ولصحة التربة وغناها وتماسكها من جهة أخرى. هذه الأعشاب مفيدة ومن الضروري أن تبقى في الأرض لتغذّيها، وهي مسكن لعدد كبير من الحشرات المفيدة، كما أنّها تمنع انجراف التربة.

ثالثاً، هذا البند تهرُّب واضح من اتّباع سياسة متكاملة لإدارة الحرائق. فالاستراتيجية الوطنية لإدارة الحرائق توصي بخمس خطوات يبدو أن الدولة تخلّت عنها كلّها لتضع المسؤولية على كاهل المزارعين\ات، الأكثر هشاشة واستضعافاً:

  1. البحث: دعم المعرفة حول إيكولوجيا الحرائق ورصدها ونشرها، وحول تحسين إدارة الحرائق وديناميات الغطاء النباتي بعد الحرائق بين جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة ومد الجسور بين العلم الحديث والمعارف التقليدية.
  2. تعديل المخاطر: تطوير تدابير فعالة تهدف إلى الحد من قابلية التعرض للحرائق، وإلى زيادة المرونة البيئية والاجتماعية أمام الحرائق، ومنع حدوث حرائق ضارة ونشوء أنظمة حرائق غير مستدامة.
  3. الاستعداد أو الردّ المسبق: القيام بجميع الاحتياطات الممكنة من قبل الأفراد والمجتمعات ومؤسسات إدارة الحرائق والأراضي لتكون على استعداد قبل وقوع حريق.
  4. الاستجابة: إخماد الحرائق في غضون أول 20 دقيقة، والحد من تمدّد الحرائق من خلال تطوير الأساليب والتقنيات إلى جانب المواد المناسبة والموظفين المدربين تدريباً جيداً.
  5. التعافي وإدارة ما بعد الحرائق وإعادة التأهيل: تقديم الدعم للأفراد والمجتمعات مباشرة في أعقاب الحرائق، وترميم الظروف البيئية الصحية للغابات المحروقة لتسهيل التعافي الطبيعي.1تقع المسؤولية بالأساس على الدولة بتطبيق سياسة متكاملة -على مدار السنة- لإدارة الموارد الطبيعية ومنها الأحراج والغابات، ومن ضمنها دعم التنوع الإيكولوجي للغابات، والقيام بالأبحاث اللازمة على مدار السنة للتأكد من صحّتها، والقدرة على السيطرة على الحرائق عند نشوئها، وتطوير برنامج فاعل لدعم تعافيها بعد الحرائق.
    في نص الاستراتيجية الوطنية لإدارة الحرائق، تعترف الدولة بعدم حصولها على المعلومات الكافية حول سبب نشوء الحرائق، ممّا يضيء على ضرورة قيامها بأبحاث عن الموضوع على مدار السنة ومراقبة الأحراج بهدف بناء فهم أكبر للإيكولوجيا الحرجية. كما تُشرِك الاستراتيجية الناس والبلديات ومنظّمات المجتمع المدني في عملية إدارة الحرائق، لكنّها لا ترمي بثقلها عليهم.

المراجع

  • 1
    تقع المسؤولية بالأساس على الدولة بتطبيق سياسة متكاملة -على مدار السنة- لإدارة الموارد الطبيعية ومنها الأحراج والغابات، ومن ضمنها دعم التنوع الإيكولوجي للغابات، والقيام بالأبحاث اللازمة على مدار السنة للتأكد من صحّتها، والقدرة على السيطرة على الحرائق عند نشوئها، وتطوير برنامج فاعل لدعم تعافيها بعد الحرائق.
    في نص الاستراتيجية الوطنية لإدارة الحرائق، تعترف الدولة بعدم حصولها على المعلومات الكافية حول سبب نشوء الحرائق، ممّا يضيء على ضرورة قيامها بأبحاث عن الموضوع على مدار السنة ومراقبة الأحراج بهدف بناء فهم أكبر للإيكولوجيا الحرجية. كما تُشرِك الاستراتيجية الناس والبلديات ومنظّمات المجتمع المدني في عملية إدارة الحرائق، لكنّها لا ترمي بثقلها عليهم.
إعادة الإعمار والتعافي الأملاك العامة السكن الموارد الطبيعية لبنان