في قلب منطقة القبة في طرابلس، وتحديداً في ساحة الأميركان، يقع مبنى سكني مؤلف من سبعة طوابق، يعاني من تدهور إنشائي خطير يهدّد حياة حوالي 21 عائلة تعيش فيه. لكنّ الخطر المحدق بسكّان المبنى ومحيطه لم يدفع بالبلدية للتحرّك. بل على العكس، تحاول هذه الأخيرة استخدام وضع المبنى لمصلحتها، بغية استقطاب الإعلام والظهور بمظهر المنقِذ، رافضةً أن تقوم بأي تحرّك إن لم يغطّي الإعلام ما تفعله.
فما قصة هذا المبنى وكيف تسعى البلدية لاستغلال قضية سكّانه وسلامتهم؟
نتيجة الإهمال المزمن المتراكم منذ فترة الأحداث، يعاني المبنى من مشاكل الرطوبة والتسلّخات، بالإضافة إلى تشقّقات واضحة في الجدران. وبفعل الهزات الأرضية التي ضربت لبنان في شباط 2023، والتي تلت الزلزال المدمر في جنوب شرق تركيا وشمال سوريا، وتأثرت بها مناطق لبنانية، خاصة الشمال، تفاقم وضع المبنى. فعند وقوع هذه الهزات، شعر السكان بأن المبنى على وشك الانهيار. تلا ذلك قيام بلدية طرابلس بإجراء كشف للمبنى برفقة عناصر من الجيش، وقام بعض السكان بتنفيذ إصلاحات جزئية داخل شققهم. ومع ذلك، ظل المبنى بأكمله مهدداً، حيث تظهر في الطابق الأرضي خفسة واضحة في أرضية الصالون، مع بروز الحديد في العديد من أرجاء المنزل والشرفات. ورغم مطالبة السكان للبلدية بالتدخل الفوري، جاء رد الأخيرة بأن أي تدخّل لن يتم إلا إذا تحولت القضية إلى “رأي عام”.
بلدية طرابلس تُنذر دون اتّخاذ إجراءات فعلية
في التفاصيل ومنذ حوالي عامين، أكّدت مصلحة الهندسة في بلدية طرابلس الوضع الإنشائي الخطير للبناية، حيث وجّهت، بعد حصول الهزّات وإجرائها الكشف، في 23 شباط 2023، ثلاثة إنذارات رسمية إلى المالكين والسكان:
- إنذار بضرورة ترميم وتدعيم المبنى فوراً.
- إنذار للسكان بأخذ الحيطة والحذر وتسهيل تنفيذ أعمال الترميم والتدعيم.
- إنذار بالإخلاء الفوري للبناية نظراً للخطر الوشيك.
أكّدت هذه الإنذارات في مضمونها أن المبنى يعاني من “وجود شقوق كبيرة مع تآكل الخرسانة المسلّحة في الجسور والأسقف وظهور الصدأ في حديد التسليح، ممّا يتطلّب التدعيم الفوري تحت إشراف مهندس مختص حفاظاً على متانة المبنى وسلامة قاطنيه والسلامة العامة”. واستندت البلدية في إنذاراتها الثلاثة إلى الفقرتين 9 و10 من المادة 18 من قانون البناء اللبناني (646/2004) ومرسومه التطبيقي (15874/2005)، واللّتين تحدّدان بشكل واضح مسؤوليات المالكين وصلاحيات البلدية عند وجود خطر انهيار يهدد السلامة العامة.
تلزم الفقرة 9 من المادة 18 المالك أو المالكين بإجراء التدعيمات اللازمة فور اكتشاف خطر انهيار، وعلى نفقته الخاصة، مع ضرورة إبلاغ البلدية أو المحافظ بذلك لاتخاذ الإجراءات اللازمة. أما الفقرة 10، فتمنح البلدية صلاحية التدخل في حال تقاعس المالك عن القيام بواجباته، بحيث يمكنها إصدار قرار بإخلاء المبنى وهدمه خلال فترة تتراوح بين 15 يوماً وشهرين، شرط أن يكون ذلك مستنداً إلى تقرير فني من مهندس خبير. إلا أن البلدية، على الرغم من مرور أكثر من عامين على إصدار إنذاراتها – أي أضعاف المدة المنصوص عليها قانوناً لتدخلها – لم تتخذ أي إجراءات فعلية لضمان سلامة السكان، مكتفية بإرسال الإنذارات دون تنفيذ أي من صلاحياتها القانونية. فلم تنفّذ قرارات الهدم والإخلاء ولم تتخذ أي خطوات ملموسة أخرى كتأمين السكن البديل الآمن والمستدام للسكان، بموجب صلاحياتها المنصوص عليها في قانون البلديات اللبناني (المادتين 49 و501حتى أنه، في حالات المباني المهددة بالانهيار، يفترض أن تتدخل الهيئة العليا للإغاثة لتقديم بدائل سكنية للعائلات المتضررة، وفقاً لتكليف من مجلس الوزراء وبعد تأمين اعتماد مالي، ولكن ذلك لم يحصل.). هذا التقاعس لا يعفي المالك من مسؤولياته، لكنه يظهر بشكل جلي فشل البلدية في استخدام الأدوات القانونية المتاحة لها لحماية السكان. فبدلاً من اتخاذ إجراءات سريعة استناداً إلى تقاريرها الهندسية، اكتفت بإصدار إنذارات شكلية، ممّا جعل المبنى يظل عرضة لخطر الانهيار دون أي تدخل حقيقي.
محاولات السكان الفردية وعدم كفايتها
في ظل غياب أي تدخل رسمي لمعالجة الخطر الذي يهدّد المبنى، حاول السكان الاعتماد على أنفسهم للحدّ من تدهور الوضع عبر تنفيذ بعض الإصلاحات الجزئية داخل شققهم، مثل التلييس ومعالجة سطحية للتشققات الظاهرة على الجدران، فضلاً عن بعض أعمال الصيانة البسيطة. إلا أن هذه المحاولات لم تكن سوى حلول مؤقتة غير قادرة على معالجة المشكلة الإنشائية العميقة التي يعاني منها المبنى، خاصة مع استمرار التصدعات واتّساعها، وظهور علامات ضعف في الهيكل الأساسي، بما في ذلك تآكل الخرسانة وصدأ الحديد في الأعمدة والجسور. ورغم وعي السكان بالخطر الذي يحيط بهم، إلا أن إمكانياتهم المحدودة حالت دون تنفيذ أي تدعيمات جذرية للبناء، حيث تتطلب مثل هذه الأعمال إشرافاً هندسياً متخصصاً وتمويلاً كبيراً لا يمكن لسكان المبنى تحمّله بمفردهم.
تُرك السكان عالقين في حالة من الخوف الدائم من انهيار المبنى في أي لحظة، خصوصاً مع تفاقم الأوضاع الهيكلية وسقوط أجزاء صغيرة من الخرسانة بين الحين والآخر. وبينما استمرّ السكان في محاولاتهم الفردية غير المجدية، بقيت الجهات المعنية عاجزة عن فرض أي حلول جذرية تحمي أرواح من يقطنون في هذا المبنى المهدد بالسقوط.
تصريح البلدية المثير للجدل: “سنتدخل إذا أصبح المبنى قضية رأي عام”
في الوقت ذاته، وبدلاً من التحرك العاجل لحماية حياة السكان استناداً إلى القوانين والإنذارات التي أصدرتها بنفسها منذ أكثر من عامين، صرّحت بلدية طرابلس بأنّها لن تتدخّل إلا إذا تحولت قضية المبنى إلى “رأي عام”. هذا التصريح ليس مجرد إهمال إداري، بل هو مؤشّر واضح على أن البلدية تتعامل مع قضايا السلامة العامة كفرص دعائية بدلاً من كونها مسؤوليات قانونية فورية ومُلزمة.
يثير هذا الموقف تساؤلات جدية حول أولويات البلدية، التي يبدو أنها تبحث عن الأضواء الإعلامية أكثر من بحثها عن حلول حقيقية. فبدلاً من تحمّل مسؤولياتها واتّخاذ التدابير اللازمة لتجنب كارثة محتملة، فضّلت الانتظار حتى تصبح القضية مثار جدل إعلامي، ربما لتوظيفها لاحقاً في خطابات ترويجية أو لتقديم نفسها كجهة “منقذة” عندما يصبح التدخّل ضرورة لا يمكن تجاهلها، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات البلدية وتحديد موعدها في أيار 2025.
يعكس هذا النمط من الإدارة مشكلة أعمق في طريقة تعامل البلدية مع الأزمات، حيث يبدو أن قراراتها لا تُتخذ بناءً على الأولويات الفعلية للمصلحة العامة، بل وفقًا لحسابات متعلقة بالصورة العامة والمكاسب السياسية. فمتى أصبحت حماية أرواح السكان مشروطة بالضجيج الإعلامي؟ ولماذا تُستخدم حياة الناس كورقة مساومة في لعبة العلاقات العامة؟
إن تصريح البلدية هذا يكشف عن خلل جوهري في آليات المساءلة، حيث لا تتحرك السلطات المحلية إلا إذا اتّخذ تحرّكها شكل الدعاية الإعلامية، فهل يعني ذلك أن كل المباني المهددة بالسقوط يجب أن تنتظر حملة إعلامية حتى يتم إنقاذ سكانها؟
إن أزمة هذا المبنى ليست حالة منعزلة، بل تمثل جزءًا من أزمة عامة تواجهها طرابلس، حيث البيئة المبنية متدهورة والبنية التحتية هشّة والإهمال مزمن. في منطقة القبة تحديداً، توجد عشرات المباني المهددة بالانهيار، فوفقاً لتقرير برنامج الأمم المتّحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) لعام 2018، يحتاج 27% من مباني الحي إلى إصلاحات إنشائية عاجلة2El-Qobbeh Neighbourhood Profile 2018 (Tripoli, Lebanon) – August 2018، مما يزيد من احتمالات الكوارث وتكرّرها، حيث باتت حوادث الانهيارات تشكل تهديداً دائماً لحياة سكان المدينة. إن تجاهل البلدية للمخاطر في هذا المبنى وعدم تنفيذها للقانون، يجعل حياة السكان على المحك. لذا، يجب أن تتحمل بلدية طرابلس مسؤولياتها القانونية والأخلاقية وتتحرك فوراً لتنفيذ القانون وتأمين حلول عاجلة للأسر المتضررة، بدلاً من انتظار “الدعاية” على حساب أرواح المواطنين. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مجلس الوزراء قد وافق مؤخّراً3جاء قرار الحكومة هذا بعد تغطيتنا لهذه الحالة.، في جلسته بتاريخ 4 نيسان 2025، على تحديد الأبنية المتصدّعة غير الصالحة للسكن في طرابلس وتأمين أماكن بديلة واعتمادات ضرورية، مع التوجه لإجراء مسوحات في مناطق أخرى تباعاً. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة تعتبر إيجابية ومنتظرة، إلا أن آلية تنفيذها لا تزال غير واضحة وتستدعي ضرورة الرصد والمتابعة لضمان تنفيذها والمساءلة.
المراجع:
- 1حتى أنه، في حالات المباني المهددة بالانهيار، يفترض أن تتدخل الهيئة العليا للإغاثة لتقديم بدائل سكنية للعائلات المتضررة، وفقاً لتكليف من مجلس الوزراء وبعد تأمين اعتماد مالي، ولكن ذلك لم يحصل.
- 2El-Qobbeh Neighbourhood Profile 2018 (Tripoli, Lebanon) – August 2018
- 3جاء قرار الحكومة هذا بعد تغطيتنا لهذه الحالة.