صباح السادس عشر من نيسان، تلقّينا بلاغاً عن تعرّض أحد السكان السوريين في حي “طريق المسلخ” في منطقة العاقبية، قضاء صيدا، للتهديد أمام منزله من قبل مواطن لبناني. يأتي هذا التهديد في أعقاب الأحداث التي شهدتها المنطقة في الشهر الماضي، وتحديداً ليلتَي الثامن والتاسع من آذار، حيث انتشرت أخبار عن اندلاع اضطرابات في الحي المذكور على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام1وفقًا لتقرير نشره موقع “ياصور” في 9 آذار 2025، يمكن زيارة الرابط التالي: https://www.yasour.org/724310.. وقد أسفرت هذه الاضطرابات عن إحراق أحد المباني والمستودعات المحيطة به وتهجير قسري لـ23 عائلة سورية من الحي وسط تصاعد التوتّرات الاجتماعية بين النازحين السوريين واللبنانيين. حينها، تزامن وقوع هذه الأحداث مع فترة شهدت فيها سوريا تطورات أمنية متسارعة وتصاعداً في التوترات الداخلية والمواجهات المسلحة في الساحل السوري، ممّا انعكس بشكل مباشر على أوضاع اللاجئين في لبنان، الذين باتوا عرضة منذ ذلك الحين لاستهداف متزايد.
في التفاصيل، بدأت الاضطرابات بمشادة بين شابين، سوري ولبناني، على خلفية علاقة الأخير بفتاة سورية. تدخّل أفراد من العائلتين لحل الخلاف، وانتهى الموقف ظاهرياً. إلا أنه بعد ساعات قليلة، وبحسب ما أخبرنا ناشط إجتماعي سوري في المنطقة، تفاجأ سكان الحي بمجموعات من الجنسية اللبنانية قادمة من حي يارين القريب، تحمل أسلحة مختلفة، وتهتف بشعارات طائفية، خاصّةً وأن الفريقين من طائفتين مختلفتَين. سرعان ما تصاعدت الأحداث إلى اعتداءات واسعة، تضمّنت حرق سيارات، سرقة دراجات نارية، واقتحام منازل، ممّا تسبّب بخسائر مادية كبيرة.
استهدفت مجموعات المعتدين ممتلكات السوريين بشكل مباشر، في محاولات لإجبارهم على الرحيل. من بين الحوادث الأبرز، اقتحم المهاجمون منزل أحد النازحين السوريين، حيث حاولوا سرقة خزنة بحجة احتوائها على أسلحة. وعندما تدخّل أحد الجيران اللبنانيين لنفي هذه المزاعم، تحوّلت التهم من اقتناء سلاح إلى تمويل أعمال عنف في سوريا والانتماء إلى تنظيمات متطرّفة. كما تمّ حرق مبنى سكني يأوي عدداً من العائلات السورية، ما أدّى إلى تدمير محتوياته وتهجير قاطنيه، دون تسجيل أي تدخل فعلي من قبل القوات الأمنية لحماية السكان. ورغم وجود الجيش اللبناني في الموقع، فإنه لم يتحرّك لمنع الاعتداءات، الأمر الذي أثار مخاوف حول مدى تغاضي السلطات عن هذه الأعمال.
عن الحي المستهدف وتاريخه
يقع الحي المستهدف في محلة العاقبية (قضاء صيدا، جنوب لبنان)، تحديداً في منطقة تُعرف محلياً باسم “حي طريق المسلخ”. يسكن هذا الحي بشكل شبه حصري عائلات سورية نازحة، مع استثناء حالة واحدة لرجل لبناني متزوج من سيدة سورية. يعود وجود العائلات السورية في المنطقة إلى فترات زمنية مختلفة، إذ استقرت بعض العائلات منذ عام 1982 و1997 نتيجة لمشاكل عشائرية وصراعات في مناطقها، بينما وصلت أخرى في عام 2012، خاصةً بعد اندلاع الحرب السورية. يجاور الحي أحياء مختلطة يسكنها لبنانيون، وقد شهدت العلاقات بين النازحين السوريين وهؤلاء تذبذباً مستمراً. ففي حين أن بعض الأسر اللبنانية واللاجئين السوريين كانت تعيش بتفاهم نسبي، فإن التوترات الاقتصادية والاجتماعية، والخطابات التحريضية ضد السوريين، جعلت الوضع حسّاساً. ففي عام 2012، بلغ عدد الأسر السورية في الحي حوالي 150 عائلة، لكن هذا العدد انخفض بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة نتيجة لضغوط متعددة، ليقتصر حالياً على عدد محدود من العائلات.
يضم الحي عدداً من المباني غير المجهزة للسكن، والتي جرى ترميمها في عام 2019 بجهود من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) وبالشراكة مع منظمات NRC وPU وIntersos، وذلك بعد التوصل إلى اتفاقات مع مالكي هذه الأبنية. على الرغم من هذه التحسينات، قام بعض مالكي الأبنية لاحقاً بطلب إخلاء الوحدات السكنية بحجة عودتهم من الخارج للإقامة فيها، ممّا اضطر العائلات المقيمة إلى الانتقال إلى وحدات أخرى أو إنشاء خيم مؤقتة في محيط الحي.
ظروف السكن في الحي صعبة للغاية؛ فالمباني مكتظة، والبنية التحتية متهالكة، وتتوفّر الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه بشكل متقطع، مع غياب شبه تام للدعم الرسمي. ونتيجة لذلك، يعتمد السكان بشكل كبير على المساعدات الإنسانية والشبكات الاجتماعية.
تهجير جماعي
يقع المبنى الذي تعرّض للحريق في الحي المذكور، وتعود ملكيته لشخص لبناني. ويتكوّن المبنى من ثلاثة طوابق ويضم 14 وحدة سكنية تؤوي 14 عائلة سورية عاشت فيه لفترات طويلة. رغم أن المالك لم يكن معنياً بما يحدث، فإنه أعلن عن عزمه تقديم شكوى ضد المسؤولين عن الحريق، ولم يتدخّل خلال الاعتداءات. بالإضافة إلى المبنى، تمّ إحراق مستودعات “إترنيت” كانت تُستخدم كأماكن للإيواء، تم توسيعها بخيم واستخدامها كمحال تجارية. أحد هذه المستودعات كان يستخدم كورشة ميكانيك للدراجات النارية، وقد احترق بالكامل مع معداته الجديدة التي لم يكن بالإمكان إنقاذها بسبب حجمها الكبير وثقلها.
انتشرت الأخبار حول مقتل شخصين، إلا أن الواقع كان إصابة شخصين بجروح خطيرة، وهذا ما دفع الجيش اللبناني إلى التدخل لاحقاً لوقف الاشتباكات، الأمر الذي ساهم بتهدئة الوضع، لكنّه لم يفلح في منع التهجير الجماعي الذي حصل بعد الحادثة. تم إحصاء العائلات التي غادرت المنطقة، حيث تبين أن 23 عائلة هُجِّرَت من الحي، منهم 15 عائلة عادت إلى سوريا، فيما توزّعت العائلات الأخرى بين البقاع، طرابلس، وصيدا. بعض العائلات التي غادرت لم يكن لديها بدائل واضحة للسكن، واضطرّت للانتقال إلى مناطق أقل استقراراً أو اللجوء إلى أقاربها في أماكن أخرى. هذا النزوح القسري شكّل أزمة إنسانية جديدة، حيث أن العديد من المهجّرين باتوا بلا مأوى، في وقت يتزايد فيه التضييق على اللاجئين السوريين في مختلف المناطق اللبنانية.
تصعيد ممنهج وتواطؤ بالصمت
تم استغلال شجار فردي بسيط لتأجيج نيران الفتنة الطائفية والعنصرية ضد النازحين السوريين. هذا التصعيد لم يأتِ من فراغ، بل هو امتداد لحملات التحريض الممنهجة التي تستهدف اللاجئين وتهدف إلى استضعافهم ووضعهم تحت رحمة الهجمات والتعديات. منذ أشهر، تزايدت الدعوات لطرد السوريين من مناطق لبنانية عدة، مدفوعة بخطابات سياسية وإعلامية تغذي العداء تجاه اللاجئين وتترجمها تعاميم وقرارات رسمية صادرة عن عدد من البلديات، التي تطالب بإخلاء مساكن السوريين وتفرض قيوداً تمييزية على حركتهم وعملهم. ساهمت هذه الإجراءات التصعيدية بخلق مناخ عام معادٍ للاجئين، وأسهمت في شرعنة التهجير القسري والانتهاكات بحقهم. يمكن تتبّع تصاعد هذه الإجراءات من خلال سلسلة من التعاميم والهجمات الممنهجة التي وثقّناها في تقرير مفصّل يرصد القرارات الرسمية، مشاريع القوانين والمداهمات بحق اللاجئين السوريين (رابط التقرير)، إلى جانب تقرير آخر يوثّق حالات الإخلاء القسري في ضوء التعاميم التمييزية (رابط التقرير).
اليوم، وبعد مرور حوالي شهرين على الحادثة الأولى في العاقبية، لا يزال التهديد الذي يواجه من بقيَ من السكان السوريين مستمراً، كما تجلّى في حادثة التهديد الأخيرة التي طالت أحد الشباب. هذه الحادثة ليست معزولة أو محصورة بالعاقبية، بل تتواتر بين الحين والآخر شائعات وبيانات مجهولة المصدر تدعو إلى طرد السوريين من البلدات، ممّا يزيد من حدة التوتر ويشجّع مشاعر الكراهية والعنف ضدهم. لم تعد هذه البيانات تقتصر على الرسائل المتداولة شفهياً أو عبر تطبيقات الدردشة، بل اتخذت أشكالاً علنية وخطيرة، كما هو الحال في منشورات فيسبوك واسعة الانتشار التي تحمل تحريضاً مباشراً على اللاجئين. تتضمّن هذه المنشورات دعوات إلى فضح أماكن سكنهم وطردهم جماعياً تحت ذرائع أمنية وأخلاقية، في خطاب يربط وجودهم بالجريمة والإرهاب. كما ظهرت منشورات مطبوعة موقعة باسم مجموعات محلية مجهولة الصفة القانونية، مثل “شباب برج البراجنة”، تتضمّن قرارات تعسّفية بمنع تجوال السوريين خلال ساعات محددة، مما يكرّس التمييز الجماعي ويشرعن العنف المجتمعي ضدهم. وعلى الرغم من رفض البلديات المعنية لهذه الدعوات المشبوهة، إلا أن الخوف لا يزال ينتاب النازحين السوريين من تكرار الممارسات التعسفية التي عانوا منها في الماضي.
إن عدم محاسبة المتورّطين في هذه الهجمات يبعث برسالة خطيرة مفادها أن استهداف اللاجئين لا يخضع للمساءلة القانونية، ويشجّع على المزيد من الانتهاكات. يُضاف إلى ذلك الحملة الممنهجة التي يقودها التيار الوطني الحر، والتي تجسّدت مؤخراً في استخدام عبارة “محتلين بثياب نازحين” كشعار لتجمّعه بتاريخ 26 نيسان لإحياء الذكرى العشرين لانسحاب الجيش السوري من لبنان، واستخدام العبارة نفسها في خطاب رئيس التيّار جبران باسيل. هذه الأحداث تنذر بموجة جديدة من الظلم وتستدعي تحرّكاً عاجلاً من قبل السلطات والمجتمع المدني، لحماية النازحين السوريين، ووضع حد لهذه الممارسات التعسفية، وضمان حقوقهم السكنية.
- 1وفقًا لتقرير نشره موقع “ياصور” في 9 آذار 2025، يمكن زيارة الرابط التالي: https://www.yasour.org/724310.