تثير الآثار الواضحة للحرب الإسرائيلية على مدينة صور اليوم نقاشات متعدّدة حول ضرورة تقييم الأضرار ورفع الأنقاض والعمل الجادّ نحو إعادة الإعمار والتعافي. غير أن حاجة سكان المدينة الماسّة لاستئناف نشاطهم الاقتصادي وحياتهم اليومية، رغم الصعاب المحدقة، تصبح مادةً يتم استغلالها لتحويل الأنظار عن قضية محلية أخرى يبدو أنها تُمرَّر خلسةً بينما ينشغل الناس بتداعيات الحرب.
تتمثّل هذه القضية بقيام أحد المتعهدين النافذين بتشييد مشروع استثماري مؤلّف من نادٍ للضباط ومجموعة من المطاعم والمقاهي والمحال التجارية لصالح وزارة الدفاع على الأملاك الخصوصية العائدة إلى الدولة في المدينة والواقعة في محاذاة محمية صور الطبيعية. وقد بدأت بالفعل الأعمال، من إزالة الغطاء النباتي وسحب الرمال، في قسم من المشروع منذ شهر أيلول الماضي، أي قبل أن يتّسع نطاق الحرب الإسرائيلية وتفرض توقّفاً مؤقتاً على الأعمال. ومع وقف إطلاق النار، سُرعان ما استؤنفت الأشغال بوتيرة متسارعة ولا تزال مستمرة حتى اليوم، ممّا أثار موجة اعتراضات واسعة لدى السكان والناشطين.
في هذا المقال، نتعمّق في كافة جوانب هذا المشروع الاستثماري المثير للجدل، بدءاً من تفاصيله ومكوناته، مروراً بالإشكاليات القانونية والبيئية التي تكتنفه، وصولاً إلى موجة الاعتراضات المتصاعدة التي قوبل بها والتي وصلت إلى ساحات القضاء، ونتساءل حول طبيعة هذا الاستثمار في الأملاك الخصوصية العائدة للدولة وتوقيته في ظلّ الظروف الراهنة التي يمرّ بها لبنان، ولا سيّما أن المشروع المقترح يقع على مقربة من موقع طبيعي ذي أهمية بالغة للمدينة والمنطقة برمتها.
عن المشروع
يتالّف المشروع من قسمين رئيسيين. القسم الأول يشمل نادياً للضبّاط ومجموعة من المحال التجارية (قد يتراوح عددها بين 70 و150 محلاً) بالإضافة إلى عددٍ من المطاعم، وهو حالياً قيد الإنشاء في المنطقة المعروفة بالشواكير، الواقعة ضمن النطاق العقاري لمدينة صور، وبمحاذاة محمية صور الطبيعية. أما القسم الثاني من المشروع، فيتضمّن مجموعة من المقاهي والمطاعم المنوي إنشاؤها في المنطقة المعروفة بالخراب، بالقرب من مدخل شاطئ الجمل.
يتمّ تشييد القسم الأول على 7 عقارات تحمل الأرقام 1504، 1570، 1571، 1572، 1573، 1574، 1575، وتبلغ مساحتها الإجمالية 216,260 متراً مربعاً. تاريخياً، كانت هذه الأراضي تُستخدم لزراعة الخضراوات، وهي داخلة ضمن أملاك الدولة اللبنانية الخصوصية1لتفاصيل عن ماهية أملاك الدولة الخصوصية يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “ويني (أراضي) الدولة؟”.، وتتميّز بأنها من النوع الأميري، مما يعني أن ملكية رقبتها تعود للدولة ويمكن أن يُكتسب عليها حق تصرّف من الناس، ممّا يعكس أهميتها الاجتماعية2لتفاصيل عن ماهية الأراضي الأميرية وأهميّتها الطبيعية والاجتماعية يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “ويني (أراضي) الدولة؟” ومقال آخر للاستديو بعنوان “أراضي الجفتلك الأميرية في صور: قيمة اجتماعية تحت التهديد”. بالإضافة إلى أهمّيتها الطبيعية والزراعية. أما القسم الثاني فيجري تشييده على العقار رقم 640 في صور القديمة، وهو أيضًا ملك للدولة اللبنانية ومساحته حوالي 2782 متراً مربّعاً.

في أوائل التسعينيات، تمّ تخصيص هذه العقارات جميعها لصالح وزارة الدفاع الوطني – قيادة الجيش العليا لأغراض عسكرية ودفاعية، وذلك بموجب عقود تخصيص موقّعة بين وزارة الدفاع ووزارة المالية، الجهة الوصية على هذه الأملاك. إلا أنه على مرّ السنوات التي تلت التخصيص، لم يُقم الجيش سوى نقطة تمركز ومراقبة عسكرية في العقار رقم 15743حوالي عامي 2003-2004 بحسب ما أظهرته الصور الجوية.، بينما بقيت المساحات الشاسعة من بقية العقارات المخصّصة غير مُستغلّة إلى حين انطلاق المشروع الاستثماري الحالي.
في التفاصيل، قامت وزارة الدفاع مؤخراً بإرساء تلزيم المشروع على الشركة المتعهّدة “أس آي أس” (SIS) لصاحبها سلوان صاليني وفق صيغة “البناء والتشغيل وإعادة نقل الملكية” (BOT)4إتفاق بين الدولة وشركة متخصّصة من شركات القطاع الخاص، توكل بموجبه الدولة الى الشركة مهمة القيام بأعمال تدخل في نشاطات القطاع العام، عن طريق منح هذه الشركة امتيازًا وفق الأصول القانونية من أجل إنشاء مشروع ضخم وتنفيذه وتشغيله.. ويتردّد بين الناشطين أن مناقصة -لم تتوفّر أي معلومات عنها- جرت بين شركتي “أس آي أس” و”تاجكو المحدودة” (TAJCO) المملوكة لعائلة تاج الدين والتي تشوبها عدة شُبهات، وقد فازت بها شركة “أس آي أس” التي ستتولّى بناء المشروع وإدارته لمدة 28 عاماً قبل إعادته إلى إدارة الجيش. لكن اللافت، أنه عند زيارة ممثّلين عن الشركة المتعهّدة وقيادة الجيش لبلدية صور لإبلاغها عن المشروع الذي بدأ تنفيذه، كان من بين الحاضرين علي جابر، وهو صهر حسن تاج الدين ويُعدّ من المقربين للعائلة، الأمر الذي يعزّز الاعتقاد بوجود ترتيب ما بين الشركتين5بحسب معلومات شاركها معنا أحد الناشطين على القضية في مقابلة معه..
تجاوزات بيئية وقانونية: محاذاة المحمية وتجاهل تقييم الأثر البيئي
بنى الناشطون في المدينة اعتراضاتهم على المشروع انطلاقاً من عدة إشكاليات جوهرية تشوبه. وقد حظيت مسألة محاذاة القسم الأول من المشروع لمحمية شاطئ صور الطبيعية6المُنشأة بموجب القانون رقم 708/1998. بالقدر الأكبر من الاهتمام.
أوّلاً – تصاعدت المخاوف بشأن إمكانية إنشاء المتعهّد جسراً للمشاة يمتدّ فوق المحمية لربط المشروع بالشاطئ، وهو ما يمثّل تهديداً مباشراً للتنوع البيولوجي المحمي، ويفتح الباب مستقبلاً لتجزئة الشاطئ وخصخصة جزء منه، وهو ما ترفضه بلدية صور بشكلٍ قاطع.
ثانياً – تقع العقارات السبعة التي تشهد أعمال القسم الأول ضمن ما يُفترض أن يكون المنطقة الحزامية للمحمية (Buffer zone)، وهو النطاق الذي يُفترض أن يحيط بحدودها الخارجية ويمتد من 200 متر إلى 500 متر كحد أقصى، وفقاً لقانون المناطق المحمية رقم 130/2019. ورغم أن محمية صور لم يتم تحديد منطقتها الحزامية رسميّاً بعد، نظراً لإنشاء المحمية قبل صدور القانون المذكور، إلا أن هذا لا يُسقط وجوب اعتبار محيطها منطقة حزامية بالنظر إلى الأثر والتأثير البيئي7بحسب رئيس جمعيّة ”الجنوبيّين الخضر“ الدكتور هشام يونس.، خاصّةً وأن القانون ينص بوضوح على أن تحديد هذه المنطقة ضروري ويقع على عاتق وزارة البيئة ولجنة المحمية الطبيعية.
وتنصّ المادة 15 من هذا القانون على “حظر إنشاء أي مرفق عام في هذه المنطقة الحزامية من قبل جميع الإدارات دون الحصول على موافقة مسبقة من وزارة البيئة”، كما يخضع أي مشروع يُقام فيها لـ”تصميم توجيهي خاص يصدر بمرسوم وفق الأصول القانونية بعد استطلاع رأي وزارة البيئة”، وهو ما لم يتم الالتزام به قانوناً. إذ أفاد وزير البيئة السابق ناصر ياسين بأنه تم تقديم طلب الموافقة من الوزارة في الأسبوع الأول من شهر شباط 2025، أي بعد البدء بالأعمال، ممّا يعني عدم التقيّد بشرط الموافقة “المسبقة”. بالإضافة إلى ذلك، صرّح رئيس بلدية صور حسن دبوق في مقابلة أجريناها معه8أُجريت المقابلة بتاريخ 10 آذار 2025. بأنه “لم يتم تقديم مخطط شامل للمشروع من قبل المتعهد ولا يوجد لديه خرائط كاملة وواضحة، بل يتم إرسال أجزاء من المخطط بشكل متقطع للبلدية”، ولم يصدر أي مرسوم بهذا الشأن.
ثالثاً – الإشكالية الإضافية تتمثّل في عدم إجراء تقييم للأثر البيئي للمشروع قبل الشروع في تنفيذه، وذلك استناداً إلى ما يفرضه قانون حماية البيئة رقم 444/2002 ومرسوم “أصول تقييم الأثر البيئي” (8633/2012). تُلزم هذه النصوص القانونية الجهات المعنية في القطاعين العام والخاص بإجراء تقييم الأثر البيئي للمشاريع التي قد تهدّد البيئة نظراً لطبيعتها أو حجمها أو تأثيرها أو نشاطها. وفي هذه الحالة، فإن طبيعة المشروع السياحي الترفيهي وحجمه الكبير، فضلاً عن وقوعه بمحاذاة منطقة أراضٍ رطبة9محمية شاطئ صور الطبيعية مصنّفة أرض رطبة ذات أهمية دولية ضمن اتفاقية رامسار للأراضي الرطبة (موقع رامسار رقم 980 تاريخ 16/4/1999). ذات أهمية دولية ومصنّفة حساسة بيئياً (وفقاً للملحق رقم 3 من المرسوم 8633)، يستوجبان إجراء التقييم، وهو ما يشدّد عليه الناشطون.
غير أن ما غفل عنه الناشطون حتى اليوم هو أن المشروع لا يجاور منطقة حساسة بيئياً فحسب، بل يقع في قلب منطقة حساسة بيئياً. فالمُلحق رقم 3 يُدرج الأراضي الأميرية ضمن المناطق الحساسة بيئياً التي تستلزم التقييم، والعقارات السبع حيث يُشيّد القسم الأول من المشروع هي جميعها أراضٍ أميرية. وهذه الحجة تشكّل نقطة قانونية وبيئية جوهرية يمكن الاعتماد عليها بقوة في جهود الاعتراض على المشروع.
تهديدات محتملة للتراث الأثري
وبعيداً عن الإشكاليات البيئية، يرى الناشطون وجهاً آخر للاعتراض يتمثّل في التهديد المحتمل الذي يشكّله المشروع على المكمونات الأثرية الموجودة في المنطقة. وفي هذا السياق، أوضح المهندس علي بدوي، مسؤول المواقع الأثرية في مديرية الآثار في جنوب لبنان، خلال لقاء معه10 في مقابلة أجريناها معه بتاريخ 8 آذار 2025، أن العقارات التي يُقام عليها القسم الأول من المشروع تضم بالفعل نقاطاً فيها مخزون أثري، إلا أن ذلك لا يحول دون إمكانية البناء فيها. فمشروع نادي الضباط وملحقاته لا يتعارض مع التصميم التوجيهي لمدينة صور المرعي الإجراء والصادر بالمرسوم رقم 8577/2002، الذي يصنّف المنطقة التي يقع عليها المشروع E2a أي “أملاك عامة مخصصة لإقامة المنشآت السياحية والفندقية”.
غير أن بدوي يؤكد على أن هذا التصميم قد سمح فقط بنسبة 25% كحد أقصى لمعدّل الاستثمار السطحي، وقد تم ذلك بالتنسيق مع المديرية العامة للآثار، مع إدراك الاحتمالية القائمة لوجود آثار في العقارات. وهذا يتيح المجال لإيجاد حلول تتوافق مع ضرورة الحفاظ على الآثار، مثل إمكانية إزاحة المباني إلى مواقع لا تحتوي على أي مخزون أثري أو تغيير مسارات الطرق أو استخدام أنواع أساسات معيّنة. وأشار بدوي إلى أن المساحة الشاسعة للعقارات تمنح الشركة المتعهّدة مرونة كافية لإجراء تعديلات على تصميم المشروع، ولكن يبقى التخوّف قائماً بشأن مدى التزام الشركة بذلك11أفاد بدوي أنه يوجد شخص من قبل مديرية الآثار يتابع المشروع ميدانيًا للتأكد من التزام الشركة بالابتعاد عن النقاط الأثرية المحددة.، ومدى التزامها بمعدلات البناء وشروطه التي يفرضها التصميم التوجيهي12برأي بدوي، سيشكل المشروع كتلة عمرانية ضخمة تطغى على المشهد الحضري للمدينة، كما يبدو حجم الاستثمار فيه أكبر مما مسموح.، والتي تؤول مسؤولية متابعتها إلى المديرية العامة للتنظيم المدني لا مديرية الآثار.
إلا أن الانشغال بإشكاليات القسم الأول من المشروع، نظراً لبدء الأعمال فيه فعلياً، يجب ألا يصرف الانتباه عن التحديات التي تكتنف القسم الثاني المنوي إنشاؤه في منطقة الخراب، على العقار رقم 640، والذي يتألف من مجموعة مقاهٍ ومطاعم. فالصحيفة العقارية لهذا العقار تحمل إشارة صريحة منذ عام 1988 تمنع أي بناء عليه لوقوعه ضمن منطقة أثرية. ولكن بعد تخصيصه للجيش في أوائل التسعينيات، أقام فيه الجيش نقطة مراقبة مستغلاً كونه يقع على أعلى نقطة من رأس شبه جزيرة صور.
واليوم يتمّ استغلال هذا الموقع الاستراتيجي المرتفع لغاية استثمارية بحتة للاستفادة من إطلالته البانورامية على البحر. علماً أنه وفقاً للتصميم التوجيهي الصادر للمنطقة القديمة في صور (المرسوم 611/2007)، بات يُسمح بالبناء فيه بشروط محددة ولكن بعد الحصول على موافقة مسبقة من المديرية العامة للآثار. في هذا الإطار أكّد رئيس البلدية دبوق أن البلدية تعارض بشدة إقامة أي مشروع على العقار، مهما كان نوعه، حتى لو اقتصر على مطعم.
تكتّم وتراخيص لاحقة تثير التساؤلات
يثير المشروع برمّته علامات استفهام كبيرة حول الشفافية، فعملية البدء به شابها تكتّم لافت وصل إلى حد جهل العديد من الجهات المعنية بوجوده في الأساس، فضلاً عن الامتناع عن الكشف الكامل عن مستنداته وعقوده لها. ويضاف إلى هذا عدم دعوة أهالي المدينة وأصحاب المصالح في المنطقة إلى جلسة استماع عامّة لعرض تفاصيل المشروع والاستماع إلى ملاحظاتهم وآرائهم كجزء أساسي من عمليّة إعداد تقييم الأثر البيئي13بحسب ما صرّح رئيس جمعيّة ”الجنوبيّين الخضر“، الدكتور هشام يونس، في حديث لـ“مناطق نت“.. ويرى الناشطون في هذا السلوك انتهاكاً صريحاً لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات، خاصة وأن المشروع لا يحمل أي طابع دفاعي عسكري يبرر تصنيفه ضمن الأسرار الوطنية، بل هو في جوهره مشروع استثماري سياحي ترفيهي.
وقد أكد رئيس بلدية صور، حسن دبوق14 في مقابلة أجريناها معه بتاريخ 10 آذار 2025.، أن مصادر معلوماته حول المشروع تقتصر بشكل أساسي على تواصلات شفهية مع قيادة الجيش، في ظل غياب أي مستندات رسمية بحوزة البلدية. وأوضح أن المؤسسة العسكرية غير ملزمة بتقديم هذه الوثائق، وأن البلدية لا تملك أي صلاحية للاعتراض على هذا الأمر. وكشف دبوق عن طبيعة استثنائية تتمتع بها المؤسسة العسكرية فيما يتعلق بإجراءات الترخيص، حيث تخضع لنظام “الترخيص اللاحق” – على غرار مجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب مثلاً – ما يعني تقديم التراخيص بعد الشروع في الأعمال وليس قبلها كما هو معتاد، وتغييب التنظيم المدني والسلطة المحلية عن الرقابة. وهذا الإجراء يثير إشكالية واضحة، إذ يُفترض أن تسبق الموافقات والتراخيص أي عمل بناء، خصوصاً إذا كان لغرض غير عسكري، لضمان الالتزام بالقوانين منذ البداية وتجنب أية مخالفات محتملة. ولكن فيما يخصّ المؤسسة العسكرية، فيقتصر الأمر على اشتراط الالتزام بالشروط ونسب الاستثمار المحددة في المخطط التوجيهي العام.
وفي هذا السياق، وصف دبوق تعامل البلدية مع الجيش بـ “الصعب”، مستشهداً بحادثة سابقة حين أقدمت البلدية على إرسال شرطي للتحقق من تجاوز محتمل للمشروع لحدود العقارات، الأمر الذي قوبل باستياء شديد من قبل الجيش. وأكد أن المؤسسة العسكرية تعتبر المنشآت المقامة على العقار ذات طبيعة “عسكرية”، مما يعيق بشدة قدرة البلدية على التدخل أو ممارسة دورها الرقابي، خاصةً وأنها جهة مدنية، مؤكداً على حرص البلدية على تجنب أي صدام مع الجيش. وأشار دبوق إلى أن الالتزام بنسب الاستثمار يمثل شرطاً أساسياً للمشروع، مع إمكانية منح استثناءات خاصة في هذا الإطار. وفيما يتعلق بالموافقات الأساسية المطلوبة للمشروع، فهناك موافقتين ضروريتين لإتمامه بغض النظر عن توقيت الترخيص: موافقة مديرية الآثار وموافقة وزارة البيئة، خاصة عبر إجراء تقييم الأثر البيئي، كما تم تفصيله في الجزء السابق من هذا المقال.
حراك مدني وقرارات قضائية تفشل في وقف الأعمال
إن استقدام الآليات الثقيلة وبدء أعمال قطع الأشجار، والجرف، وتسوية الأرض، واستخراج الرمال، والشروع في الأشغال في القسم الأول من المشروع المحاذي للمحمية – وما استتبعه من إشكاليات تم تفصيلها سابقاً – دفع بالناشطين إلى التحرّك.
بدأت أولى خطوات هذا التحرك بمعارضة واسعة النطاق عبر منصات التواصل الاجتماعي، قبل أن تقوم جمعية “الجنوبيين الخضر” في 11 أيلول من العام الماضي، بالتواصل مع وزير البيئة آنذاك، الدكتور ناصر ياسين، الذي أبدى تجاوباً والتزاماً بمتابعة القضية. إلا أن تصاعد العدوان الإسرائيلي، خاصة ابتداءً من 23 أيلول، فرض توقفاً مؤقتاً للأعمال في المشروع. ومع إعلان وقف إطلاق النار، لوحظ استئناف الأشغال، الأمر الذي دفع الجمعية إلى توجيه كتاب رسمي إلى وزارة البيئة. تضمّن الكتاب تفصيلاً للمسوغات القانونية الموجبة لوقف الأشغال، وعلى رأسها عدم تقديم المتعهّد لتقييم الأثر البيئي الإلزامي. بالتوازي مع ذلك، وجّهت الجمعية كتاباً مماثلاً إلى وزارة الثقافة للتعبير عن المخاوف الجديّة المتعلقة باحتمالية وجود آثار تاريخية في الموقع.
شكّل تاريخ 11 شباط 2025 منعطفاً هاماً في مسار هذه التحركات، حيث قامت الجمعية بتقديم إخبار رسمي لدى المدعي العام البيئي في الجنوب بشأن المخالفات المرتكبة في المشروع. وعلى الرغم من هذه المساعي، استمرّت وتيرة الأشغال في الموقع دون توقف، ممّا دفع جمعية “الجنوبيين الخضر” إلى تقديم دعوى قضائية أمام محكمة القضايا المستعجلة في صور. تزامن ذلك في شهر آذار مع حراك ناشط على عدة صعد، تجلّى أبرزها في:
- تشكيل مبادرة “حماية شاطئ صور ومحمية صور”: ضمّت المبادرة ناشطين، أفراداً وجمعيات، من مدينة صور ومختلف أنحاء لبنان. أطلقت المبادرة بياناً للضغط الإعلامي، وعقدت لقاءات مع جهات معنية متعددة، كما وجّهت كتباً إلى عدة جهات رسمية، من بينها رسالة إلى وزارة الدفاع طلبت فيها موعداً للقاء الوزير، إلا أن الموعد تأجل عدة مرات ثم أُلغي.
- إطلاق حملة تواقيع من قبل “الجمعية اللبنانية للحفاظ على صور”: هدفت الحملة إلى إنقاذ محمية صور الطبيعية، وطالبت بوقف فوري للأعمال، والكشف عن العقود والمستندات والخرائط المتعلقة بالمشروع.
- مبادرة ائتلاف الجمعيات الثقافية لحماية المواقع الثقافية بالجنوب: على إثر العدوان الأخير، وجّه الائتلاف رسالة نداء عاجل إلى وزير الثقافة الجديد، غسان سلامة، مطالباً باتخاذ تدابير حمائية للموقع وتصنيفه نظراً لأهميته الثقافية ولمشهد المدينة الثقافي الأثري، محذّراً من أن الأشغال الجارية قد تتعارض مع شروط إدراج المدينة على قائمة التراث العالمي لليونسكو.
تكلّلت هذه الجهود بإصدار قاضية الأمور المستعجلة في صور، القاضية يولا غطيمي، قراراً بوقف الأشغال وتعيين خبير بيئي للكشف على الأعمال بناءً على الدعوى المقدمة من جمعية “الجنوبيين الخضر”. وتبعه في أوائل نيسان قرار مماثل بوقف الأعمال صادر عن القاضية ذاتها، استجابةً للاستدعاء المقدم من “الجمعية اللبنانية للحفاظ على صور”.
وعلى الرغم من الآمال التي علّقها الناشطون على الحكومة الجديدة ووزرائها، فإن تسريباً من اجتماع لجنة البيئة النيابية الذي عُقد بحضور وزيرة البيئة الجديدة، تمارا الزين، في 10 نيسان، لم يكن مطمئناً. أشارت التسريبات إلى أن الوزيرة صرّحت بعدم وجود منطقة حزامية للمحمية، وأن الجيش ليس ملزماً بتقديم ترخيص، وأنه لا حاجة لتقديم دراسة تقييم الأثر البيئي. تُظهر هذه التصريحات تجاهلاً صريحاً للقانون، إذ إن الجيش يُعفى من التراخيص لأغراض الدفاع فقط، وتبقى دراسة تقييم الأثر البيئي ضرورة قانونية ملحة للمشاريع من هذا النوع.
وبالنتيجة، لم يلبث المتعهد أن عاد في النصف الثاني من نيسان لمتابعة الأعمال في الموقع، حيث قام باستخراج كميات هائلة من الرمال التي يتم سحبها ونقلها عبر عشرات الشاحنات15في مقابلة أجريناها مع رئيس بلدية إحدى البلدات القريبة من صور في سياق بحثي آخر، صرّح أن شركة “أس آي أس” تجني أرباحاً طائلة من بيع الرمول التي تستخرجها من العقارات التي يشيّد عليها المشروع.. وعند محاولة الصحافي مهدي كريم والدكتور حسيب عودة، وهما ناشطان بارزان ضدّ المشروع، استطلاع ما يجري حول الموقع يوم الأحد 27 نيسان، قامت مخابرات الجيش بتوقيفهما قبل إطلاق سراحهما لاحقاً16قتادتهما قوة من الجيش اللبناني إلى فوج التدخّل الخامس، حيث تمّ احتجازهما لمدّة 5 ساعات، قبل أن يصدر قرار بتحويلهما إلى الشرطة العسكرية – ثكنة بنوا بركات. وبعد ساعات قليلة، وقبل وصول المحامي، قال لهما المحقّق أن كل شيء تمّ حلّه! (بحسب تصريح الصحافي مهدي كريّم).، في خطوة يمكن وصفها بالبوليسية لمنع المساءلة، وفي انتهاك لحقّهما بالوصول للمعلومات.
هذا وتستمرّ الأعمال اليوم على مرأى من الجميع، متجاهلةً بذلك قرار وزارة الثقافة الأخير القاضي بوقف الأعمال لوجود آثار مهمّة في الموقع، والذي يأتي ليُضاف إلى قرار وقف الأعمال الصادر عن قاضية الأمور المستعجلة.
تساؤلات حول النفوذ والاستثناء والعدالة
تتجاوز قضية هذا المشروع مجرد نزاع محلي حول أعمال بناء؛ إذ تكشف عن إشكالية أعمق تتعلّق باستغلال أملاك الدولة لغير الصالح العام، وبانخراط المؤسسة العسكرية في مشاريع ذات طابع استثماري بحت يهدف إلى الربح ولا يخدم أغراض الدفاع الوطني المباشرة. إذ يُفرض على صور هذا المشروع الضخم الذي يمنح متعهداً نافذاً حق استغلال أراضٍ واسعة من أملاك الدولة لمدة طويلة لجني أرباح طائلة من أنشطته، متجاهلاً قيمة الأراضي الأميرية وأهميتها الطبيعية والبيئية والاجتماعية، وبتكتّم مفرط وترخيص لاحق وتجاوز للقوانين البيئية والتنظيمية. يثير هذا الاستغلال تساؤلات حول العدالة وتوزيع المنافع ومبادئ الشفافية والمساءلة، ويطرح علامات استفهام حول تناسب هذه الممارسات مع الدور المفترض للمؤسسة العسكرية، التي يُنظر إليها كمثال في الالتزام بالقانون وصون المصلحة العامة.
على الرغم من النجاح النسبي للتحركات المدنية والقضائية في تحقيق قرارات مؤقتة بوقف الأشغال، إلا أن العمل في المشروع بقي مستمرّاً، ومستقبله وتأثيراته على صور ومحميّتها الحسّاسة بيئياً يظلّ معلقاً على استمرار المتابعة والضغط الشعبي والقانوني، وعلى مدى استجابة الجهات المعنية للمخاوف المشروعة التي أثيرت.
بالأخص أن المشروع يهدّد ترابط المحمية وعلاقتها مع محيطها، علماً أن المحمية مهددة أيضاً بعوامل طبيعية وأخرى من صنع الإنسان. فقد اندلع حريق ضخم داخل نطاق المحمية بتاريخ 26 أيار 2025؛ وبينما لم تتّضح أسبابه بعد، سواء كانت طبيعية ناجمة عن الإهمال أو مفتعلة، فإن هذا الحريق يُظهر هشاشة المحمية ويؤكد مجدداً على ضرورة تقييم الأثر البيئي لأي مشروع استثماري محاذٍ لها. وفي ظل انشغال المدينة وسكّانها بأولويات أخرى ملحّة كإعادة الإعمار والتعافي، وإطفاء الحرائق، يجب ألا يُترك هذا المشروع الاستثماري للنسيان بين هذه الأولويات.
المراجع:
- 1لتفاصيل عن ماهية أملاك الدولة الخصوصية يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “ويني (أراضي) الدولة؟”.
- 2لتفاصيل عن ماهية الأراضي الأميرية وأهميّتها الطبيعية والاجتماعية يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “ويني (أراضي) الدولة؟” ومقال آخر للاستديو بعنوان “أراضي الجفتلك الأميرية في صور: قيمة اجتماعية تحت التهديد”.
- 3حوالي عامي 2003-2004 بحسب ما أظهرته الصور الجوية.
- 4إتفاق بين الدولة وشركة متخصّصة من شركات القطاع الخاص، توكل بموجبه الدولة الى الشركة مهمة القيام بأعمال تدخل في نشاطات القطاع العام، عن طريق منح هذه الشركة امتيازًا وفق الأصول القانونية من أجل إنشاء مشروع ضخم وتنفيذه وتشغيله.
- 5بحسب معلومات شاركها معنا أحد الناشطين على القضية في مقابلة معه.
- 6المُنشأة بموجب القانون رقم 708/1998.
- 7بحسب رئيس جمعيّة ”الجنوبيّين الخضر“ الدكتور هشام يونس.
- 8أُجريت المقابلة بتاريخ 10 آذار 2025.
- 9محمية شاطئ صور الطبيعية مصنّفة أرض رطبة ذات أهمية دولية ضمن اتفاقية رامسار للأراضي الرطبة (موقع رامسار رقم 980 تاريخ 16/4/1999).
- 10في مقابلة أجريناها معه بتاريخ 8 آذار 2025
- 11أفاد بدوي أنه يوجد شخص من قبل مديرية الآثار يتابع المشروع ميدانيًا للتأكد من التزام الشركة بالابتعاد عن النقاط الأثرية المحددة.
- 12برأي بدوي، سيشكل المشروع كتلة عمرانية ضخمة تطغى على المشهد الحضري للمدينة، كما يبدو حجم الاستثمار فيه أكبر مما مسموح.
- 13بحسب ما صرّح رئيس جمعيّة ”الجنوبيّين الخضر“، الدكتور هشام يونس، في حديث لـ“مناطق نت“.
- 14في مقابلة أجريناها معه بتاريخ 10 آذار 2025.
- 15في مقابلة أجريناها مع رئيس بلدية إحدى البلدات القريبة من صور في سياق بحثي آخر، صرّح أن شركة “أس آي أس” تجني أرباحاً طائلة من بيع الرمول التي تستخرجها من العقارات التي يشيّد عليها المشروع.
- 16قتادتهما قوة من الجيش اللبناني إلى فوج التدخّل الخامس، حيث تمّ احتجازهما لمدّة 5 ساعات، قبل أن يصدر قرار بتحويلهما إلى الشرطة العسكرية – ثكنة بنوا بركات. وبعد ساعات قليلة، وقبل وصول المحامي، قال لهما المحقّق أن كل شيء تمّ حلّه! (بحسب تصريح الصحافي مهدي كريّم).