من غير الممكن أن نتخيّل حرباً شاملة تُهجِّر خُمس السكان، تدمّر جنوب البلاد وشرقها وضاحيتها، وتستبيح الأراضي اللبنانية كاملةً، دون أن يكون لدينا مقاربة شاملة للإغاثة وتقديم المعونة وإيواء الناس، بالإضافة إلى خطة تفكّر بالنزوح كقضية وطنية، بل وفي تشكيل قاعدة التعاضد الجماعي. لكن ما يحصل اليوم هو العكس، لا سيّما من ناحية دور الدولة ومؤسساتها. فمن تجهيز مراكز الإيواء وتوفير خيارات سكن لائقة حتى تأمين الأساسيات اليومية وإنشاء المطابخ الجماعية وتوزيع الفوط الصحية على النساء، تغيب الدولة لتترك مكانها فراغاً هائلاً، تتراكض المجموعات والأفراد لملئه. منذ اليوم الأول للحرب حتى الآن، لم تحرّك الدولة مواردها وطاقاتها اللازمة بما يتناسب مع الحاجات الأساسية التي أنتجتها الحرب، كالإجلاء الآمن والمأوى الملائم والدعم الحاضن، كما لم تستخدم صلاحياتها بأخذ إجراءات تجيّر إمكانيات المجتمع وموارده في الاستجابة بما يعزّز المبادرات التي تسعى إلى تشكيل تعاضد اجتماعي واسع وتهيأ المجتمع للصمود في وجه العدوان. وإذا ما نظرنا إلى الماضي القريب، نرى أن تهرّب الدولة من دورها هذا هو نمط وليس استثناء، تماماً كما حصل خلال حرب 2006، ثم بعد تفجير مرفأ بيروت عام 2020. إنّ التضامن الحاصل اليوم، وهو مطلوب وضروري، أساسي في دعم ما تقوم به الدولة، وفي سدّ الفجوات أينما وُجِدَت، لكن من المستحيل أن يقوم بما على الدولة القيام به.
في الحالتين، على العمل المجتمعي كما عمل الدولة ومؤسساتها أن يكون متجذّراً في مقاربة الحق في المدينة، بمعناه الأوسع والأشمل، بالحاجات العامة والطارئة للجماعات والأفراد والأكثر استضعافاً بالذات، ,وبالحق بالأرض والسكن والحركة وبالمواصلات العامة المدمجة والشاملة، والتي توفّر إمكانية التحرّك بين المناطق، وبإمكانية الوصول إلى المساحات والموارد العامة والمشتركة وحتى الخاصة منها.
سنعالج هذه المسائل من خلال هذا الملف: من ناحية، سنتناول حق الجميع بالوصول للسكن العادل والإيواء الآني في حالة الحروب، لا بمجرّد توفير سقف؛ ومن ناحية أخرى، نستكشف في الملف حق الجميع بالوصول إلى الأماكن العامة ومساحات المدينة واستخدامها، اعتماداً بالأساس على إنشاء مساحات ملائمة للسكان ومتناسبة وحاجاتهن\م. كما نبحث في الإيجار العادل في ظل أزمة النزوح؛ ونقوم بالتفكير بالشغور من خلال دوره الاجتماعي بدلاً من أن يكون حمايةً للملكية الخاصة. وأخيراً، نوثّق الانتهاكات الجمة بحق الأفراد والمجموعات الأكثر استضعافاً، وذلك لتسليط الضوء عليها والعمل على مواجهتها.