سكّان بناية “هند” يجابهون الإخلاء الجماعي

في حي هادئ في منطقة الشياح، يقع مبنى “هند”، وهو مبنى قديم مهمل يتألّف من ٥ طوابق و١٠ شقق، ويسكنه  مجموعة من المستأجرين من مختلف الأعمار والطوائف والفئات الاجتماعية اللبنانية، إذ نجد بينهم نساء وحيدات، أمّهات دون شركاء وأولادهنّ، عائلات نواة وكبار في السنّ يسكنون وحدهم. 

المبنى مشغول بالكامل بالإيجار، ويتنوّع المستأجرون بين قدامى وجدد، بعضهن\م سكن شقته لأكثر من 30، 15 أو 3 سنين، وبعضهن\م الآخر لم يمضِ على انتقاله إلى المبنى بضعة أشهر.

منذ بداية العام الحالي، يواجه هؤلاء المستأجرون التهديد بالإخلاء الجماعي. نعرض لكنّ\م قصّتهم في مجابهة محاولات طردهم من بيوتهم. 

بدأت مشاكل المستأجرين فعلياً منذ حوالي عام، بوفاة المالك الذي كان يدير المبنى والإيجارات. ومالكو المبنى هم ستّة أخوة، ورثوا العقار عن أمهم. تكفّل أحد الإخوة بمتابعة شؤون السكّان وإدارة الإيجارات، ويشيد السكّان بصبره وحسن معاملته لهم. وكان يعاونه محامٍ وكيل عن جميع الورثة. عند وفاة أخيهم، اختلف باقي المالكين-الورثة حول كيفية إدارة المبنى، واستغنوا عن خدمات المحامي وولّوا صيانة المبنى واستلام الإيجارات لعامل إسمه حسين. وهو معروف كأحد زعران الحي، ومدعوم من أحد الأحزاب السياسية المعروفة. 

سرعان ما بدأ حسين بافتعال المشاكل مع سكان المبنى لفرض سلطته عليهم. فتهجم على سحر، وهي شابة في العشرين من عمرها، تشغل وحدها شقة على الطابق الخامس منذ عام ٢٠١٦، بسبب اقتنائها كلباً. ما استوجب تدخّل أحد الجيران لمنعه من ضربها. منذ ذلك الحين، تطالب سحر أن تتعاطى مع مالكي المبنى مباشرةً، لكن حسين يرفض تزويدها برقم يمكنها من خلاله التواصل معهم. ممّا دفع سحر إلى رفض دفع الإيجار إلاّ للمالكين مباشرة. الأمر الذي زاد وتيرة مضايقة حسين لها، فيما يصرّ على دفعها لترك الشقة. وتشكّ سحر بسرقته لمضخّة المياه الخاصة بها، وقيامه بثقب دواليب سيارتها. كما أوقف حسين المصعد عن كافة سكان المبنى، وأزال قطعة منه، ما جعل تصليحه صعباً وحرم السكّان من استخدامه. 

ويشهد السكّان أنّ حسين يتولى إمضاء العقود مع السكان بالنيابة عن المالكين دون وكالة قانونية. ويؤجّر شققاً غير صالحة للسكن -فيؤجّر شققاً تُعاني من النش والرطوبة، أو تفتقد شبابيكها للزجاج، وينقصها  الإمدادات الكهربائية اللازمة للإضاءة، أو يملأ جدرانها الماء ممّا يتسبّب بمشاكل في الكهرباء وبخطر على السكان، وغيرها من المشاكل. ويعد حسين المستأجرين بتصليح هذه الأمور لدى الاستئجار ومن ثم يتناسى الأمر، ولا يصلح أي شيء. وهذا ما حصل مع وفاء التي استأجرت شقةً في المبنى العام الماضي، بعد ما وعدها حسين بأنه سيتولّى صيانتها لدى انتقالها إليها. انتقلت وفاء وابنتها، وهي طالبة جامعية، إلى شقّة تفتقد حماماتها لحنفيات وسخّان للمياه، كما وتحتاج غرفها لدهان وترميم، ما اضطرّها أن تقوم بهذه التصليحات والتجهيزات على نفقتها. كما ووعدها حسين بتنظيم عقد إيجار مكتوب، لكنه لم يقم بذلك وظلّ يؤجّل الموضوع.

بعدما طفح كيل السكّان من تصرفات حسين اللا أخلاقية، اشتكى العديد منهم لمحامي الورثة، الذي طمأنهم بأنه سيتسلّم هو إدارة المبنى عن حسين. لكن المحامي لم يتدخّل فعلياً إلّا في بداية السنة الحالية، ليطلب رفع الإيجارات لجميع المستأجرين. وقد كانت الإيجارات لا تزال تحتسب بالليرة اللبنانية، وتتراوح بين مليون ومئتي ليرة لبنانية وثلاث ملايين ليرة لبنانية. وافق السكان مبدئياً واتفقوا والمحامي على رفع الإيجارات بين 150$ و250$، وفق قدرة كل مستأجر، واستناداً لجودة الشقة المعنية. لكن المحامي تراجع عن الاتفاق الأساسي، وأبلغ السكّان بوجوب الإخلاء وطلب منهم التوقيع على تعهّدات بالإخلاء وتنازل عن المأجور، متحجّجاً تارةً بأن الورثة يريدون بيعه، وتارة أخرى بأنهم يردون السكن فيه بأنفسهم، أو هدمه. كما تبيّن أيضاً بأن حسين قد وعد المالكين بجلب مستأجرين قادرين على دفع إيجارات أعلى من تلك التي عرضها السكان الحاليين. رفض جميع المستأجرين التوقيع، باستثناء وليد، الذي يسكن في الطابق الثالث، وهو قرر الإخلاء تفادياً للمشاكل، وبدأ يبحث عن سكن بديل للشقة التي شغلها لأكثر من 30 عاماً. كما وقام فادي وعائلته المستأجرين على الطابق الأول بالإخلاء فوراً والانتقال إلى خارج بيروت. بعدها، تمنّع المحامي من تسلّم الإيجارات من السكان، وأرسل إنذارات إخلاء إلى جميع المستأجرين الجدد بواسطة الدرك. ثم سلّط حسين مجدداً على سكان المبنى. فرشى هذا الأخير موظفاً لدى شركة المياه، لقطع المياه عن المبنى. وعندما حاول السكان حلّ هذه المشكلة، لم تُحل بسهولة لأن حسين لديه معارف في شركة المياه، والبلدية. كما أنّه كان يوزّع المياه على الشقق من عيار خاص بأحد السكان، ولم يكن قد استحصل على عيار مياه لجميع الشقق وفق الأصول-وهو ما لم يكن السكان على علم به-، ما صعّب الأمور أكثر.

تمّ تنبيه مرصد السكن إلى الحالة من قبل نشطاء، وبعد التواصل مع أحد المستأجرين، علم المرصد عن قيام المحامي بإرسال عناصر من الدرك لتهديد السكان وإرغامهم على توقيع تعهدات إخلاء، كما وقطع عنهم المياه مجدداً.

تدخّل محامٍ من لجنة الدفاع عن الحق بالسكن على الفور لمساعدة المستأجرين لاستعادة وصولهم إلى المياه. وفي اليوم التالي أجرى باحث الميداني زيارة للمبنى والتقى بالمستأجرين وجمع كل المعلومات اللازمة لفتح ملف قانوني.

في الأيام التالية، تم تنظيم لقاء على مستوى المبنى، جمع المستأجرين بمحامي لجنة الدفاع عن الحق بالسكن.

شرح محامي اللجنة للمستأجرين وضعهم القانوني، موضحاً أنه رغم أنّ معظم عقود الإيجار شارفت على الإنتهاء، فإن محاولات المالكين لإخلاءهم في الوقت الحالي غير قانونية كونها تحرم السكّان من الاستفادة من المأجور للمدة المتبقية من إيجاراتهم، عدا عن لجوء المالكين لأساليب غير أخلاقية لإكراه المستأجرين على توقيع تعهدات إخلاء، ما يغنيهم، أي المالكين، عن وجوب اتباع المهل والإجراءات القانونية اللازمة للإخلاء، والتي عادةً ما تتطلّب في حالات مماثلة تقديم دعوى أمام القضاء. كما أكّد المحامي أن الدرك ليس لديه الصفة للتدخل في نزاعات الإيجارات لاعتبارها نزاعاً مدنياً، وارتكاز صلاحيات الدرك في النزاعات الجزائية. ممّا يعني بأن لا سلطة له بفرض التوقيع على تعهدات الاخلاء، ولا بتنفيذ الإخلاء، الذي يستوجب أمراً قضائياً حتى في حال وجود تعهّد بالإخلاء.

أكّد كلّ المستأجرين عن رغبتهم بالبقاء في مآجيرهم حتى حلول أجل عقودهم، ولو عنى ذلك مكوثهم في بيوتهم لبضعة أشهر إضافية. وتبيّن لاحقاً خلال الاجتماع، أن أحد المستأجرين كان يتفاوض مع محامي المالكين نيابة عن الباقين، وتوصّل معه إلى اتفاق يقتضي على توقيع جميع المستأجرين على التعهد مقابل تمديد مهلة الإخلاء إلى سنة تجري من تاريخ التوقيع. نوقش هذا الترتيب بشكل مفصّل بين المستأجرين، وبينما شرح المحامي، لكل حالة على حدة، إيجابيات وسلبيات قبول مثل هذه الصفقة، قرّر معظم المستأجرين في نهاية المطاف وعلى مضض، المضي بهذا الحل، كونه يُكسبهم سنة إضافية في بيوتهم، حتى ولو كان ذلك على حساب التنازل عن حقوقهم بالإخلاء لجهة المهل والإجراءات القانونية. في المقابل لم يناسب هذا الترتيب بعض المستأجرين نظراً لإمكانياتهم الماديّة المحدودة، وتخوّفهم من عدم قدرتهم على تأمين سكن بديل خلال تلك الفترة الزمنية، خاصة في ظل تفلّت أسعار الإيجارات، والتي هي على ارتفاع متواصل. وهذا كان وضع دنيا، التي تسكن وحدها وولديها البالغين 13 و21 من أعمارهم، على الطابق الرابع، في شقة صغيرة من غرفتين تعاني من النش والرطوبة. فدنيا تعمل كعاملة نظافة في أحد الأوتيلات وتصرف وحدها على البيت والأولاد. رأت دنيا أن مدخولها الحالي سيحدّ من الخيارات المتاحة لها لسكن بديل  يناسبها واحتياجات أولادها، في المنطقة ذاتها. كما عبّرت عن عدم ثقتها بإيفاء المالكين بوعدهم في حال وقّعت على التعهد. ففضّلت دنيا البقاء في بيتها حتى انتهاء عقدها في نهاية شهر حزيران، واضطرت في نهاية المطاف أن تلجأ للدَين لدفع الإيجار.

من ناحيته، ثابر محامي اللجنة على البحث عن حل وسطي يُبقي المستأجرين في بيوتهم. لكنّه وجد صعوبة في الوصول إلى المالكين. وفي إطار بحثه، تبيّن أن الإخوة على خلاف حول كيفية إدارة المبنى، وقد اتّفقوا على إخلاء المبنى وترميمه، ليتم من بعدها إجراء حصر الإرث، فيتمكن كل وريث من إدارة القسم الخاص به كما يرغب. فمنهم من يريد الإنتقال إلى حصّته من الشقق للسكن فيها، ومنهم من يريد بيعها. بالمقابل، كان وضحاً أن أحداً من المالكين لا يرغب في إبقاء المستأجرين الحاليين، لعلمهم بقدراتهم المادية المحدود، ولرغبة، من ينوي منهم تأجير حصته، تأجيرها بالدولار وبأسعار عالية.

تلقي هذه القصة الضوء على المشاكل العديدة لنظام الإيجارات المعتمد. فمن جهة، يبرز فشل القانون بضمان استدامة الإيجار واستمراريته، حيث نرى سكاناً مجبرين على ترك المنازل التي سكنوها لسنوات عديدة، وعدم وجود سقف لقيمة الإيجار أو آلية لرفعها بشكل زمني تدريجي ومدروس. من جهة أخرى، تتّضح الثغرات العديدة في القانون، وهو ما سمح للمالكين بتفادي إجراءات الإخلاء اللازمة عبر اعتماد طرق مختصرة، كالتعهّد بالإخلاء في هذه الحالة، وهي طرقٌ تسرّع عملية الإخلاء وتحرم المستأجرين من الاستفادة من المهل المنصوص عنها قانوناً.

وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب، ستكثر حالات الإخلاءات الجماعية المماثلة لحالة مبنى “هند”، إن لم يتم العمل على سياسة سكنية تعطي الأولوية لمصالح السكان وحقوقهم، وتسعى لتأمين الحماية لهم من تبعات الأزمة المتفاقمة.

السكن الشياح قضاء بعبدا لبنان محافظة جبل لبنان
 
 
 

ريان وترهيب الإخلاء

منذ أربع سنوات، تعيش ريان مع زوجها وأولادهما الثمانية- يبلغ أكبرهم 18 سنة وأصغرهم سنة واحدة- في شقة صغيرة، في أحد أحياء برج حمود. بعد أن تضرّر زوجها جسدياً من تفجير المرفأ، صار …

كيف ندافع عن حقوقنا كمستأجرين/ات في ظل قانون الإيجارات الحالي؟

يعتمد قانون الإيجارات الحالي على قانون الموجبات والعقود الصادر عام ١٩٣٢، والذي يتضمن مواد (٥٣٣ حتى ٦٢٣) تشمل كل أنواع الإيجارات، دون تخصيص للإيجار السكني. في العام ١٩٩٢، تم إقرار القانون ١٥٩ الذي …

محنة لبنان السكنية: التقرير السنوي المرفوع إلى الأمم المتحدة

هذا التقرير لمرصد السكن هو نتاج تطوير أدوات رصد وتوثيق كمسعى لإعطاء صورة شاملة للحالة السائدة، ومدى انتهاك لبنان للحقّ في السكن، بهدف المساهمة في الإجابة على إشكالية نقص البيانات الدورية عن الأوضاع ...

مبنى كوجاك – جابر في الرملة البيضاء مهدّد بالهدم

في قلب الرملة البيضاء في بيروت، وعلى العقار 4199 المصيطبة، يقف مبنى “Gruyère”، بواجهته المزيّنة بفتحات دائرية مميّزة، في انتظار مصير الهدم القريب من قبل المالك الجديد للعقار الذي يتطلّع للتّخلص من هذا …

كيف نقرأ تحوّلات السكن في ظلّ الأحداث العامة؟

التقرير الدوري | كانون الأوّل 2022 - أيّار 2023

يوّثق هذا التقرير البلاغات التي تلقّاها “مرصد السكن” بين أوّل كانون الثاني من عام 2022 حتى آخر أيّار من عام 2023. في هذه الفترة تسارعت الأحداث خصوصاً على الصعيد السياسي والاقتصادي، وكان لها …

مبنى الآغا في راس النبع

إخلاء جماعي لـ ٣٠٠ قاطن\ة يبرز مدينة الإقصاء

في أيلول الماضي، تم إخلاء أكثر من 300 قاطناً سورياً – بينهم نسبة كبيرة من الأطفال – من مبنى الآغا في رأس النبع، بسبب شكاوى تقدّمت بها جهات في الحيّ إلى مالك المبنى، …