في أيلول الماضي، تم إخلاء أكثر من 300 قاطناً سورياً – بينهم نسبة كبيرة من الأطفال – من مبنى الآغا في رأس النبع، بسبب شكاوى تقدّمت بها جهات في الحيّ إلى مالك المبنى، مفادها أن هؤلاء السوريين يرمون القمامة في الشارع ويتسبّبون بتدهور الحيّ.
تزامن هذا الإخلاء الجماعي مع الحملة التحريضيّة التي كانت تنفّذها الجهات الرسمية ضدّ اللاجئات\ين السوريات\ين والتي ترافقت مع عمليات المداهمة الأمنية والترحيل القسري في مختلف أنحاء البلاد منذ بداية نيسان 2023، إضافةً إلى الحملات الإعلامية التي ركزّت على التأثير السلبي للاجئات\ين السوريات\ين على لبنان ووضعت على كاهلهم مسؤولية الانهيار الاقتصادي والأزمات التي طالت قطاع الكهرباء، السكن، المياه، والنفايات، إلخ.
ومن الملفت أنّ هذا هو المبنى نفسه الذي كانت قد وجّهت “رابطة أهالي رأس النبع الاجتماعية” بشأنه كتاباً إلى بلدية بيروت في عام 2020 تطالبها بإخلاء “البؤرة الوبائية” فوراً ونقل سكان المبنى إلى مخيّماتٍ تأويهم، بالإضافة إلى تعابير أخرى تنضح بالتحيّز العنصري والطبقي، وذلك بعد اتخاذ وزارة الصحة والقوى الأمنية إجراءات لتطويق المبنى بهدف الحجر الصحي خلال كورونا. ولم تقف الرابطة عند هذا الحدّ، بل طالبت أيضاً بإخلاء أربعة مبانٍ أخرى في رأس النبع يقطنها عمالٌ أجانب. (لقراءة مقال استديو أشغال عامّة الذي يغطّي ما حصل في المبنى عام 2020 انقر/ي هنا).
في التفاصيل، كان وكيل المبنى (الذي استغلّ مشاركته الجنسية ذاتها مع السكان) قد أعطى السكان مهلة 15 يوماً للإخلاء، وعندما تواصل أحد السكان مع صاحب المبنى للاعتراض على هذه المهلة القصيرة، قيل له أنّ المالك قد أعلم الوكيل منذ ثلاثة أشهر لتبليغ السكان بالإخلاء. بحسب سكان الحيّ، لم يبلّغ الوكيل السكان حينها، لكي يستفيد من مردود بدلات الإيجار عن الأشهر الإضافية، لأن الوكيل يتقاضى “كوميسيون”. وقال أحد سكان الحي أن “علاء (الوكيل) اغتنى على ظهر السكان”.
يقع مبنى الآغا في شارع محمد الحوت على عقار يحتوي مبنيين، كانت تملكه عائلة بكداش. باعت العائلة العقار للآغا، الذي سلّمه بدوره لوكيل استثمر المبنيَين بغية تأجيرهما وتقاسم الأرباح معه، ما يعني أن زيادة عدد المستأجرين وبالتالي بدلات الإيجار تصبّ في صالح الوكيل. وتزامن هذا الترتيب مع ازدياد عدد اللاجئين السوريّين في لبنان وارتفاع الطلب على شققٍ سكنيةٍ ميسورة التكلفة نوعاً، ما داخل المدينة.
في نهاية المطاف، حوّل الوكيل المبنى المذكور -وهو مؤلّف من ست طوابق، يضمّ كلٌ منها شقتَين تبلغ مساحة كلٍ منهما ٢٥٠ متراً مربعاً- فقسّمه إلى شققٍ أصغر حجماً لسكن العائلات (غرفتان وحمام ومطبخ)، باستثناء الطابق الأول الذي قُسّم إلى غرفٍ مخصصةٍ لسكن الشباب. ويقال أنّ بدلات الإيجار كانت تتراوح مؤخراً بين 150 و200 دولار بحسب حجم العائلة.
يعكس ما حصل في مبنى الآغا ظاهرة التحيّز العنصري والطبقي تجاه اللاجئين السوريين، بدايةً من تصويرهم على أنهم المسبّب الرئيسي لتراكم النفايات في الحي ونشر فيروس كورونا، ومن ثمّ استغلالهم والتلاعب بمصيرهم من قبل الوكيل، وصولاً إلى إخلائهم بشكلٍ جماعيّ وقسريّ من المبنى من دون حكم قضائي.
إن هذه الممارسات، تُظهر سعي السلطات كما المؤسسات المحلية لإنتاج مدينة إقصائية، تتقسّم فيها المشاعات والموارد الشحيحة على عدد أصغر فأصغر من المحظيّين. بمعنى أن الانهيار الاقتصادي وما تبعه من انهيار في مؤسسات الدولة وبالتالي شحّ الخدمات أو اختفائها، جعل الجماعات (وما يمثّلها من مؤسسات) تستجيب لسردية السلطات الأمنية والسياسية حول اللاجئات\ين، سعياً لتقليص عدد من يمكن أن يتقاسموا معهن\م الحقوق والخدمات، والمساحة المدينية. وهو ما يسمّيه الجغرافي آش أمين، “التمدّن التلسكوبي”، أي شكل المدينة الذي يلغي التضامن والتعاضد والدعم بين الجماعات والأفراد، ويركّز على الحق الانتقائي وبالتالي الإقصائي، في المدينة.