انهار أمس مبنى أمهز المؤلّف من 5 طوابق في صحراء الشويفات. وقد تشردت نتيجة ذلك حوالي 13 عائلة والعديد من أصحاب المحلات الذين نجوا بالصدفة. كما تبع الانهيار إخلاء مبنيين سكنيين ملاصقين للمبنى الذي سقط، بناءً لتعليمات المدير العام للدفاع المدني العميد ريمون خطار.
يقع المبنى في شارع حميّة، بين حيّ بيت زعيتر وحيّ شبعا (أو حيّ الشبعاوية)، وكان قد تم تشييده في منتصف التسعينيات من قبل مالكه الأساسي من عائلة أمهز، وهو توفي منذ زمن. وتم فرز الشقق وبيعها إلى عائلات حميّة (الذي يملكون ثلاث شقق) وزعيتر وغيرها من العائلات التي سكنتها، بينما انتقل القليل منها إلى مناطق أخرى وأجّروا شققهم.
تروي إحدى قاطنات المبنى، وهي واقفة تتفرج على الجرافة تحمل أشلاء بيتها وأغراضها: “نحنا ساكنين هون من 15 سنة. اشترينا بوقتها من بيت زعيتر. كنت نايمة وفقت الساعة 8:30 الصبح على صوت شي فقع. طليت من البرندا، صاروا جيراننا بالبنايات يللي حدنا يقولولنا انزلوا. انزلنا وهربنا برا. بعد بشوي انهارت. كنا 9 أشخاص بالبيت.” ويحكي السكان أنهم لم يلاحظوا أي خلل في المبنى قبل الانهيار. “لا فسوخات ولا نش ولا تجمّع مياه ولا شيء”، وأنّه بالشكل، كان يبدو أحدث مبنى في الحي.
ما حدث يتطلب إجراء تحقيق هندسي من قبل الجهات الرسمية المختصة ونقابة المهندسين لفهم أسباب انهيار المبنى. ولكن ما يمكننا جزمه الآن، هو أنّ فشل أساسات المبنى مرتبط حتماً بأسباب تاريخية-قانونية، وبعمليات بناء في ظل غياب أطر للسلامة العامة. وإنّ هذه الأسباب البنيوية هي ما يجب التطرّق إليه بشكل عاجل وطارئ، لتفادي المزيد من الكوارث.
وفي حين تشير تعليقات الناس على مواقع التواصل الاجتماعي بأنّ “البناء غير شرعي على أرض الآخرين” و “لا مش هزة هاي، العمار بالأرض يللي مش إلكن هيك بصير”، و “بدن يعمروا بأرض مشاع ومش حقن، أقل شي يهبط المبنى”، فإنّ هذه التعليقات تدل على التاريخ المعقّد لمنطقة صحراء الشويفات الذي نستعرضه باختصار في هذا النص، وعلى غياب المفهوم الموّحد للمدينة.
صحراء الشويفات: طفرة عمرانية في التسعينيات
“كانت كلها أراضي زراعية. هيدي بناية أبو فيصل، إجوا من شبعا من الجنوب وعمروها، وسكنوا فيها كلهم. ويللي حدها لبيت مشيّك من وادي أم علي حد بعلبك. معمّر وساكن فيها مع عيلته. كله بالتسعينات. ونحنا هون كمان اشترينا وعمّرنا، وهيدي الأرض تركناها لنزرعها.”
هكذا يصف ربيع المنطقة، ويحكي بأنّ والده من أول القادمين ويعرف كل تاريخ الحي
تقع صحراء الشويفات في محيط مطار بيروت، وإلى جنوب منطقة حي السلّم غير الرسمية، وتفصلها عن طريق صيدا القديم تلالُ الشويفات، بينما يفصلها المطارُ عن البحر الأبيض المتوسط. وترتفع المباني السكنية فيها بين بقعٍ من الأراضي الزراعية والمجمّعات الصناعية.
في ما مضى، كانت صحراء الشويفات أرضاً زراعية، وصُنّفت عام 1970 منطقةً سكنيةً منخفضة الكثافة، وكانت في حينها تحوي استخداماتٍ زراعيةٍ وصناعية (مراجعة كتاب هبة أبو عكر1هبة أبو عكر، «في انتظار الحرب المقبلة ــــ تخطيط بيروت وضواحيها» (منشورات جامعة ستانفورد)). لكن خلال الحرب، عمل الحزب التقدمي الاشتراكي على حدّ أي توسّع عمراني في المنطقة بالقوة، كما تشرح أبو عكر، فباتت مركزاً زراعياً وصناعياً لبيروت الغربية. وفي عام 1990، انتهت الحرب وبدأت حقبةٌ جديدةٌ من العمران في بيروت وأطرافها، مترافقة مع قرارٍ سياسيٍ بإخلاء بيروت الإدارية – تماشياً مع الأجندة الاقتصادية النيوليبرالية – من مهجّري الحرب القاطنين بشكل غير رسمي. وبما أن السكن في بيروت الإدارية كان مرتفع التكلفة نتيجة سياسات السوق العقارية التي أدّت إلى طرد الكثير من السكان وهدم العديد من المباني، انتقل معظم المهجّرين كما سكان آخرين إلى السكن في ضواحي بيروت الجنوبية. أمّا صحراء الشويفات بأراضيها الواسعة الميسورة التكلفة آنذاك، فبدت مربحةً للمطوّرين العقاريّين. ونتيجةً لذلك، بدأت طفرةٌ هائلةٌ في العمران السكني منخفض التكلفة في المنطقة بين عامَي 1993 و1996.2 المرجع نفسه
استقطبت المنطقة المطوّرين العقاريين وشبكةٍ من السماسرة العاملين على شراء الأرض من المالكين الأصليّين، واستحصال رخص البناء المصدّقة من بلدية الشويفات (التابعة للحزب التقدمي آنذاك)، واستقطاب شراة للشّقق معظمهم من المهجّرين الباحثين عن سكنٍ ميسور التكلفة بالقرب من المدينة. وتشرح أبو عكر أن المطوّرين العقاريّين المقربين من حزب الله يسّروا مسألة تمدّد المنطقة بإستخدام حوافز مغرية لاستقطاب العديد من العائلات التي تربطها صلة القرابة، كعرض دفعةٍ أولى مخفّضة، وخطط تقسيطٍ قصيرة وطويلة الأمد، وتخفيضاتٍ مقابل إحضار عائلاتٍ أخرى لشراء مساكن في المنطقة.
اليوم، تُعدّ صحراء الشويفات خليطاً من الأحياء السكنية والصناعية والزراعية، ما ترك تبِعاتٍ بيئيةً خطيرةً تسبّبت بموجات تهجيرٍ جديدة. وهي جزء من منطقة عمرانية أوسع تسمّى ضاحية بيروت الجنوبية، تقع إدارياً ضمن نطاق بلديات مختلفة ومتناحرة، تحوّلت مع الوقت إلى جغرافيات مبنية على أسس طائفية وحزبية، وذلك في غياب مفهوم موّحد للمدينة.
بالفعل، وقبل عام 1975، كانت معظم الأحياء الفقيرة وغير الرسمية تقع بالقرب من الضواحي الصناعية لبيروت، وبشكل أساسي الضواحي الشمالية الشرقية لها (منى فواز وإيزابيل بيلان)3 Beirut Slums, by Mona Fawaz and Isabelle Peillen:. في ذلك الوقت، لم تجتذب الضواحي الجنوبية نفس المستوى من الصناعة، بل أقيم فيها مشاريع كبرى (مثل نادي الغولف، والمدينة الرياضية، ومطار بيروت الدولي) والمنتجعات الشاطئية الفاخرة التي أدّت إلى تصويرها كضاحية فاخرة تزدهر فيها الفورة العقارية. إلّأ أنه وبعد وقت قصير من عام 1975، تم إخلاء معظم سكان الأحياء الفقيرة المتواجدة داخل بيروت الإدارية وفي الضواحي الشمالية الشرقية من منازلهم وانتقل العديد منهم الى الضواحي الجنوبية، في المنتجعات الشاطئية، أو في مساحات غير مبنية، أو مبان مهجورة. وأدّت أعدادهم، التي تفاقمت بسبب الهجرة الواسعة من الريف إلى المدن والتي أجّجها الاجتياحان الإسرائيليان (1978 و1982) والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان (1978-2000)، إلى تحول معظم مساحات الضواحي الجنوبية لبيروت إلى أحياء فقيرة وكثيفة وغير رسمية4راجعن\وا المصدر أعلاه. اليوم، تحمل الضواحي الجنوبية لبيروت تسمية “غير الشرعية” في أذهان معظم الناس، فيما غاب المفهوم الموحّد للمدينة وتاريخها5لقراءة المزيد: منى فواز، ملاحظات حول تاريخ بيروت وورقة عن دور الشبكات الاجتماعية في تطوير أحياء بيروت. يساهم كل ذلك الى تأجيج إما النقاش الطائفي أو الخطاب المتعالي على فقراء المدينة، وغض النظر عن الإشكاليات والقضايا التي يجب معالجتها.
مبنى أمهز ومرسوم السلامة العامة
تشير المقابلات مع سكان المنطقة كما الصور الجوية التاريخية إلى أن مبنى أمهز تم تشييده خلال منتصف التسعينيات، في ذات مرحلة الطفرة العمرانية التي شهدتها صحراء الشويفات. لا بدّ من البحث بشكل أدّق في خرائط المبنى ورخصة البناء الرسمية، إلّا أنه يمكننا أن نجزم أن المبنى تم تشييده قبل صدور مرسوم السلامة العامة في 2005. لماذا يشكّل هذا الأمر إشكالية كبرى، تحديداً للمباني التي تم بناؤها بعد عام 1990؟
صدر مرسوم السلامة العامة في عام 2005، بعد أن فشلت الدولة طوال ثماني سنوات بنقل مفاعيل ثلاث مراسيم أخرى ترعى السلامة العامة في البناء إلى حيّز التنفيذ. ذلك بعد أن ساهمت الهزّة الأرضية القوية التي ضربت لبنان عام 1997، بتسريع صدور ثلاث مراسيم تُحدّد تباعاً الشروط والأصول الواجب تطبيقها في الأبنية والمنشآت، لحمايتها من المخاطر. لكن مفاعيل هذه المراسيم لم تُنقَل إلى حيّز التنفيذ لعدم صدور مراسيمها التطبيقية. إزاء هذا الواقع، تمّ العمل على إصدار مرسوم جديد عام 2005، يحدّد شروط تطبيق السلامة العامة وأصولها في الأبنية والمنشآت. إلاّ أن عوائق عدّة حالت دون تطبيقه بشكلٍ كليّ، فعُمل على إصدار تعديل له عام 2012، سرّع في إصداره انهيار مبنى فسّوح في الأشرفية.
يُحدّد المرسوم شروط السلامة العامة، ويُسند مهمّة مراقبة تطبيق الشروط المفروضة إلى القطاع الخاص، تحديداً إلى المهندسين\ات (المسجّلين لدى نقابة المهندسين) المسؤولين عن وضع تصاميم البناء، ومكاتب التدقيق الفنية المتخصّصة. فيشير المرسوم إلى أن التدقيق الفني عبر مكاتب تدقيق فنية متخصّصة إلزامي، ليتمّ التحقّق من تأمين متطلّبات السلامة العامة فيها والمساهمة في الوقاية من المخاطر.
وعند تشييد مبنى أمهز في صحراء الشويفات، كما مجمع يزبك-حاموش في المنصورية، لم يكن هناك أية إجراءات تدقيق فني، ولم يدقّق أحدٌ يومها في رخص البناء. ففي ذلك الوقت، أي قبل وجود إطارٍ قانونيٍ للسلامة العامة في لبنان، لم يتمّ التدقيق بالمعايير التي اعتمدها المهندسين. إنّ تداعيات هذا الخلل أو غياب إطار السلامة العامة يؤثر بشكل كبير على المباني التي شُيّدت بعد 1990، نتيجة فورة الاعمار، وحيث أصبح المهندسين مرتبطين بشكل كبير بالمتعهّدين وحيث أصبح واقع الجسم الهندسي مرتبطاً بالسوق ورأس المال.
بالفعل، منذ نهاية الحرب، حلّت مرحلةٌ نيوليبرالية واسعة النطاق شهدت تكريس استثمارات ضخمة، وسادت البلدَ سياساتُ بناء رفعت أسعار العقارات والشقق، عملت خلالها الحكومات المتتالية على تسهيل شروط عمل المستثمرين وعلى زيادة النسب المسموح بها للبناء، لا سيّما قانون البناء الصادر عام 1991 وقانون البناء الصادر عام 2004، مما أثّر بشكل مباشر على مهنة الهندسة وأخضعها لسلطة تجار البناء.
تفادياً للمزيد من الانهيارات
إن فشل هيكل مبنى أمهز وانهياره، وقبلها مبنى المنصورية، يشير إلى ضرورة التطرّق للمباني التي تمّ تشييدها منذ 1990 حتى صدور مرسوم السلامة العامة في ال2005، وذلك بشكل عاجل وطارئ، خاصة ما يتخطّى منها الثلاث طوابق.
وبحسب الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير لجريدة النهار: “هذه ليست اول حادثة تحدث. عندما يكون هناك تنظيم مدني وادارات رسمية دائماً (ما) تراقب الادارات البلدية التي عليها أن تقوم بالكشف كل سنة وتأخذ ضريبة، (من) المفروض أن تحدّد المباني المهددة بالسقوط. واذا كنتم تذكرون المرسوم الذي اتخذ في مجلس الوزراء من أشهر بعد الهزة في تركيا، وتعمّم على كل البلديات بأن ترفع لوائح بجميع المباني المهددة بالسقوط، والبلديات التي تجاوبت لا تتجاوز الـ ٤٠%”.
ما نشهده اليوم هو نتيجة مباشرة لسيطرة تجّار البناء وشركات الهندسة الكبرى على مناطقنا ومبانينا وبيوتنا. والموضوع ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة السياسات الاستثمارية التحفيزية التي حكمت منذ نهاية الحرب الأهلية، لتشجّع الاستثمارات وتسهّل شروط عمل تجّار البناء وتخلي الناس من بيوتها وتخضها لمعايير السوق. فالمطلوب ليس تصريحات ووعود “بمتابعة الموضوع مع كل المسؤولين المعنيين” كما قال عضو كتلة “التنمية والتحرير” النائب قاسم هاشم. بل أولاً الإعلان عن خطة إيواء للعائلات المشردة، وثانياً إطلاق مسار إعادة دراسة كافة المباني التي أُنشئت بين 1990 و2005، وهو ملفّ يجب على وزارة الأشغال العامّة والبلديات أن تكون مسؤولة عنه. كما يجب على البلديات أن تفرض على مالكي هذه المباني أن يستصدروا دراسة لمتانة مبانيهم.
لا بد إن يُفتح هذا الملف لتفادي المزيد من الانهيارات.
المراجع:
- 1هبة أبو عكر، «في انتظار الحرب المقبلة ــــ تخطيط بيروت وضواحيها» (منشورات جامعة ستانفورد)
- 2المرجع نفسه
- 3
- 4راجعن\وا المصدر أعلاه
- 5لقراءة المزيد: منى فواز، ملاحظات حول تاريخ بيروت وورقة عن دور الشبكات الاجتماعية في تطوير أحياء بيروت
مرسوم السلامة العامة: لا ضمان لسلامة السكان ولا وقف لتدهور البيئة العمرانية
عُدّل بالمرسوم رقم 7964 المرعي الإجراء حالياً والصادر بتاريخ 7/4/2012.