كوسبا والوحش: قصّة بلدية تفرض التهجير على اللاجئين وتمنع اللبنانيين من حمايتهم

تطل بلدة كوسبا، بتلتها وبلدتها القديمة الممتدة نزولاً، على سهل الكورة المكسو بأشجار الزيتون، ويربطها ببشري وإهدن شارع رئيسي يعبر سوقها القديم، توسّع لاحقاً ليصبح اوتستراداً يصل حتى ساحل شكا.

عمل السوريين لعقود في زارعة الزيتون وفي زراعات أخرى – تشتهر فيها البلدة ذات المناخ المثالي لوقوعها في الوسط بين الساحل والجبل – كالكرمة واللوز والتين والعنب.

بعد أن هاجر أبناؤها، تسكن نرمين، المرأة السبعينية، وحدها في البلدة القديمة، ولديها عدة غرف يسكنها تاريخياً وموسمياً – منذ أكثر من ٤٠ سنة – عمّال في الزراعة يأتون من سوريا في مواسم الزراعة والحصاد. فادي هو أحد هؤلاء، وقد كان أبوه من قبله يعمل في الزراعة في كوسبا أيضاً. منذ ١٣ سنة، لجأت زوجته وولدهما إلى لبنان هرباً من الحرب في سوريا، لتستقر مع فادي في البيت الصغير في كوسبا، المؤلف من غرفة تضم مطبخ وحمام، ويعاني من الرطوبة والنش.

لا تفهم نرمين لماذا أنذرتها بلدية كوسبا بوجوب طرد السكان السوريين المستأجرين لديها من هذه الغرفة وأخرى بالقرب منها، وهددتها بإغلاقهما بالشمع الأحمر. فبعد سلسلة من التعاميم التي أصدرتها بلديات، خاصة في الشمال، بهدف الطرد الجماعي للسكان من الجنسية السورية من نطاق البلدية، انقسم المجتمع اللبناني بين مؤيّد ومعارض، إلا أن الحقيقة تبقى أن البلديات تتجاوز صلاحياتها بمعظم ما تتضمّنه التعاميم، خاصة تلك المتعلّقة بإنذار الإخلاء الذي لا يتضمّن أي معايير تحفظ كرامة المستأجرين وحقوقهن\م، أو حتى المؤجّرين. وقد كانت الحجّة الأبرز لتصرّف البلديات هذا، عدم تمتّع السكّان السوريين بإقامات، وهو ليس حال فادي مثلاً.

بهدف التضييق على السوريين الحاصلين على إقامات، شاع استخدام بلدية كوسبا حجة الأبنية المخالفة كتكتيك لإخلاء اللاجئين السوريين المقيمين في المنطقة. فالبيوت المستأجرة من السوريين دون غيرها، خُتِمت كلّها بالشمع الأحمر بشكل مفاجئ، بحجج وذرائع مختلفة. علماً بأنه لا تظهر على هذه البيوت أي علامات من شأنها أن تثير القلق على أمنها الإنشائي. كما وأن بعض المباني التي صدر بحقّها قرار بوجوب إخلائها كونها آيلة للسقوط، تم ختم الشقق فيها التي يسكنها سوريون بالشمع الأحمر دون مس الشقق التي يسكنها لبنانيون، ما يدل على استنسابية البلدية في حملتها للكشف على الأبنية، واستهدافها المقيمين السوريات\ين بشكل خصوصي.

ذهبت نرمين لتشتكي عند المختار وشرحت له أن أوراق فادي والمستأجرين الآخرين نظامية وبأن لديهم إقامات، فأجابها المختار أن حجة البلدية هذه المرة هي صلاحية السكن للبيوت التي تؤجّرها. وبأن البلدية من حرصها على السياحة في البلدة، التي تشتهر بالسياحة الدينية وإطلالتها على وادي قديشا، لا تريد للسواح أن يُصدَموا بمناظر غير لائقة، ككراج مسكون أو غرفة من دون حمام.

فذهبت عند البلدية مشتكية مرة أخرى، ليتبيّن لها بأن البلدية منقسمة في كيفية التعاطي مع التعميم الذي صدر عن رئيس البلدية في ٢٢ أيّار والذي «يطلب المؤازرة الأمنية لإخلاء السوريين المخالفين في نطاق بلدية كوسبا». وقد أصبح معلوماً بأن حزب القوات هو المبادر في هذه الحملة.

تستغرب نرمين هذا الهجوم على السكّان السوريين وتقول: «عيب يللي عم ينعمل بكوسبا، ليش بأميون وبغير مناطق ما عملوا هيك!».
وتشرح نرمين عن الضرر الذي سيلحق بورشات الزراعة والزيتون إن قاموا بإخلاء السوريين الذين يسكنون عندها. “رح يعطلو عليي! غير فادي، مروان وولديه يعملون في ورش الزراعة.. ومش بس أنا. مثلي مثل كثار تربطنا علاقة عمل مع السوريين عم نسعى جاهدين لابقائهم في الضيعة.»

ومن بعد البلدية توجّهت نرمين إلى القائمقام لتشتكي على إدّعاد البلدية أن البيت غير صالح للسكن وطلبت منها تعيين خبير للكشف على البيت.

لم تنفع جهود نرمين، بل ظل تهديد البلدية. لم يكن هذا الإنذار يوماً على شكل نص مكتوب بل هو أشبه بالترهيب المستمر للمستأجرين، فيما لم تبادر البلدية إلى التواصل مع المؤجرين. ما يحصل في الواقع هو أنه بين الحين والآخر، يحضر إلى البيت أشخاص بلباس مدنية أو أعضاء من شرطة البلدية معروفين بعدائهم للسوريين، فيهدّدون السوريين بالإخلاء ويرهبون من يحاول مساعدتهم.

وفي ظل سوء استخدام السلطة من قبل بعض أعضاء البلدية والمقربين من الأحزاب، تحاول نرمين الوصول إلى أمن الدولة لإبقاء المستأجرين في بيوتهم بسلام. فبالنسبة لها، لبقاء جيرانها قيمة اجتماعية توازي الاقتصادية منها. تشرح: «انا مش طمعانة بالإيجار، انا لمّا صارت الأزمة صرت آخد منه 50$، وقبل ما كنت اقبل آخد وكنت إدفع كل الخدمات. بس طمعانة بترباية الأولاد».

أما فادي، فيبادل نرمين الشعور بحسن الجيرة والألفة، ويقول أن البيت لا شك أنه صغير وشبابيكه ضيّقة إلا أنه لا يمكن على الإطلاق اعتباره غير صالح للسكن. خاصة أن الغرفة من حجر ومحاطة بمساحة خارجية يلعب فيها الأولاد. فلا يمكن مقارنتها بمحلات مؤجّرة أو قبوات وغرف مقسّمة ضمن شقق وأسرّة في المدن، والتي هي فعلاً غير صالحة للسكن ومع ذلك تؤجّر في غياب الرقابة أو الطروحات السكنية اللائقة البديلة، واستغلالاً لحاجة الناس للسكن. يضيف فادي بأن البلدية تستخدم ما لديها من حجج لتهجير السوريين من البلدة وقد نجحت بذلك في كثير من الحالات. لجأ اللواتي والذين تم تهجيرهم إلى طرابلس ودار بعشتار أو أي مكان وجدوا فيه بيت أو أقرباء يستقبلوهم، ومنهم من تشرّد في الطرقات. هنالك أيضاً من اضطر إلى العودة إلى سوريا، إلا أن الجميع يتجنّب هذا الخيار فهو الأخطر والأكثر تعطيلاً لحياتهم وممارساتهم اليومية.

حاول فادي نفسه الانتقال من كوسبا، وبدأ بالتفتيش عن بيت في أميون، حيث عُرفت البلدة بإعطاء الأمان للسوريين. إلا أنه لم يعثر على بيت. وقد كانت بلدية أميون قد أصدرت تعميم لا يحتوي على أي تهديدات بإخلاء للسوريين المقيمين إلا أنه يمنع تأجير سكّان سوريين جدد. وقد تبدو هذه الخطوة تحسّباً لموجات لجوء إضافية قد تنتج عن حملة الإخلاءات الجماعية القسرية التي تقوم بها البلدات المجاورة والتي هي مثال صارخ على عشوائية تصرّف السلطات المحليّة واعتباطيتها.

حاول فادي مجدداً، ووصل إلى بيت في بلدة كفرصارون المجاورة واتفق مع مالكه لتنظيم عقد إيجار. إنما تفاجأ فادي عند محاولة تسجيل العقد بوجود قرار صادر عن بلدية كفرصارون بمنع تأجير «أي مسكن إضافي (شقة / غرفة / مخزن) للأجانب والنازحين السوريين الذين يملكون أو لا يملكون إقامات شرعية» أو حتى استقبال لاجئين سوريين ينتقلون من بلدات ومناطق أخرى «وإلا ستضطر البلدية إلى إخلاء المنزل بأكمله وملاحقة مالك العقار».

بالمحصّلة قامت بلدية كوسبا بمؤازرة من عناصر في أمن الدولة، بمداهمات فجائية لطرد اللاجئين السوريين المقيمين في البلدة، ومازالت أغراض بعضهم موجودة في كوسبا وهم خارجها. كما يقوم بعض اللاجئين بالتواري عن الأنظار عند بدء مداهمات البلدية ليعود إلى بيته لاحقاً.

هذه المداهمات ليست جديدة على أهل بلدة كوسبا، إذ غطى الإعلام في 6 حزيران خبر توجه قوّة من أمن الدولة إلى البلدة برفقة شرطة البلدية لإخلاء 70 لاجئاً سورياً مقيماً من أحد المجمّعات السكنية في البلدة، بعد رفضهم الإخلاء طوعياً. ويشار إلى أن أكثر من 100 سوري/ة كانوا أخلوا المجمّع السكني نفسه، في وقت سابق.

وتم نسب قرار الإخلاء إلى كتاب صدر عن رئيس بلدية كوسبا بتاريخ 22 أيار 2024، رقمه 140/2024، طلب فيه المؤازرة الأمنية لإخلاء السوريين المخالفين في نطاق بلدية كوسبا، وأحاله محافظ الشمال 3 حزيران إلى المدير الإقليمي لأمن الدولة في الشمال.
كما تابع مرصد السكن بين 13 أيار و26 حزيران ستة تبليغات تضم 32 فرداً، جميعها مرتبطة بإخلاء سوريين في بلدة كوسبا، وتبيّن في جميعها تورّط البلدية في طلب الإخلاء.

حتى تاريخ كتابة هذه القصة، ما زالت نرمين تحاول تسوية وضع مستأجريها عبر تنظيم عقد إيجار مكتوب وتسجيله أمام البلدية، محاولةً إضفاء الطابع الرسمي على إقامتهم، إلا أن البلدية غير متجاوبة وتعطي ذرائع مختلفة للإخلاء عند كل اتصال، متحججة تارةً بمخالفة المبنى شروط قانون البناء، وتارة أخرى بعدم حيازته على الرخص اللازمة، أو لتهديده بالسقوط.

السكن قضاء الكورة لبنان محافظة شمال لبنان
 
 
 

برج حمود بين التحريض الإعلامي وبيان البلدية وشهادات السكان

نتذكر جميعاً الفيديو الذي انتشر منذ حوالي الشهرين الذي يظهر مجموعة من اللبنانيين على دراجاتهم النارية، يوجّهون عبر مكبر صوت، “مهلة إنذار” للسوريين بإخلاء منطقة برج حمود، وهو ما انتشر بشكل واسع عبر …

السلطات المحليّة تعمّم اللاشرعية

رصد 15 تعميماً بخصوص السوريين بين 9 و24 نيسان 2024

بعد طلب الرئيس القبرصي من رئيسة المفوضية الأوروبية التوسط لدى السلطات اللبنانية كي توقف قوارب اللاجئين السوريين المتوجهة إلى قبرص، زارت أورسولا فون در لاين، رئيسة الإتحاد الأوروبي، بيروت الأسبوع الماضي برفقة الرئيس …

أوضاع سكن السوريات/ين في لبنان: تقاطع السلطة والأمننة والهشاشة القانونية

رصد ودراسة حالة بين حزيران 2022 وتشرين الأول 2023

منذ نيسان 2023، شهدنا تصاعداً في الحملات الأمنية التعسفية ومداهمات أماكن إقامة اللاجئين السوريين في مناطق لبنانية متعدّدة، ممّا أدّى إلى الاعتقال التعسفي والترحيل القسري للعديد من اللاجئين. في هذا السياق، قام ستوديو …

جدول زمني يوثّق القرارات الرسمية، ومشاريع القوانين، والمداهمات التي تستهدف اللاجئين السوريين

تزايدت خلال العام الماضي تصريحات مسؤولين لبنانيين تؤكّد انتهاء النزاع المسلح في سوريا، داعية اللاجئين السوريين إلى الخضوع لخطة “العودة الطوعية” التي اقترحتها الحكومة اللبنانية بنهاية عام 2022، في غياب أي مشاركة رسمية …

مبنى الآغا في راس النبع

إخلاء جماعي لـ ٣٠٠ قاطن\ة يبرز مدينة الإقصاء

في أيلول الماضي، تم إخلاء أكثر من 300 قاطناً سورياً – بينهم نسبة كبيرة من الأطفال – من مبنى الآغا في رأس النبع، بسبب شكاوى تقدّمت بها جهات في الحيّ إلى مالك المبنى، …