كيف يتمّ العمل على التنظيم المدني في لبنان؟
يوجد في لبنان ثلاثة مستويات من التصاميم والأنظمة المدينية، وهي:
— الخطّة الشاملة للإنماء والتي تلخّص استعمال الأراضي كتصميم توجيهي عام على مستوى الوطن،
— التصميم والنظام التوجيهي،
— التصميم والنظام التفصيلي.
على صعيد المستوى الأول، بوشر بالحديث عن الخطة الشاملة للإنماء في منتصف الخمسينات من القرن العشرين. وقد أنشئت في ذلك الوقت وزارة التصميم ومجلس التصميم لوضع هذه الخطة. بعد حوالي عقدين، ألغيت وزارة التصميم في عام 1977 وأنشئ مجلس الإنماء والإعمار. هذا المجلس لم ينجز مهمته، وكانت «وضع الخطة الشاملة للإنماء». لكن عام ،2002 لزّم مجلس الإنماء والإعمار لمؤسسة خاصة وضع هذه الخطة، فقدمت الأخيرة بعد سنتين (عام 2004) بدلاً من الخطة الشاملة للإنماء، خطة لاستعمال الأراضي. العمل الذي قامت به الشركة جيد جداً، لكنه ليس خطة شاملة للإنماء، بل مجرّد فصل من فصول هذه الخطة. في كل الحالات، مجلس الوزراء أقرّ هذه الخطة لاستعمال الأراضي عام 2009 وصدر المرسوم. لكن ما صدر لا يتعدّ كونه مخططاً توجيهياً: بالتالي، ولكي توضع موضع التنفيذ الفعلي، من واجب «المديرية العامة للتنظيم المدني» وضع الخرائط التفصيلية والأنظمة التفصيلية الملزمة التي سأتكلم عنها والتي تشكل المرحلة الثالثة من الخطط. مثلاً: تقسيم بيروت إلى عشر مناطق ولكل منطقة نظامها، هذا هو التفصيلي.
قبل الحديث عن المستويين الثاني والثالث، هل يمكن سرد تاريخ الخطة الشاملة ووزارة التصميم؟
وزارة التصميم، على مدى 20 سنة (بين عامي 1955 و 1977) لم تكن قادرة على وضع هذه الخطة. وقد لخّص هذا الوضع أحد وزراء التصميم معتبراً أنّ معدّل حياة الوزارة في لبنان هو 8 أشهر. طبعاً يوجد وزارات عاشت سنتين، ووزارات أخرى عاشت بضعة أيام، منذ زمن الإستقلال حتى الآن، انّما كمعدل عام، هو ثمانية أشهر. يأتي الوزير بعدها ويحتاج لثلاثة أشهر لفهم الوزارة. في نهاية الأشهر الثلاثة، يأتي الإعلام كلّ يوم ويصرح «استقالت الوزارة… سوف تستقيل الوزارة…»ويبقى من الوقت شهرين وهما غير كافيين لوضع الخطة الإنمائية.
إذاً، تم إلغاء وزارة التصميم في بداية العام ،1977 في نهاية حرب السنتين الأولى. وكنّا نعتقد وقتها أن الحرب اللبنانية انتهت .وهنا أيضاً كانت مفاهيمنا محدودة و«ما منشوف مين عم بحطّ التخطيط ويرمينا فيه». فاعتبرنا أنه يجب إلغاء وزارة التصميم وإنشاء جهاز تكون مهمته التصميم ويُعطى استقراراً كاملاً لمدة 5 سنوات: تتغير الوزارة، تتغير الحكومة، يتغير رئيس الجمهورية، ما من مشكلة: المجلس يبقى جامداً لخمس سنوات، وهذا بالطبع يكفي لوضع الخطة الإنمائية.
من جهته كان الرئيس فؤاد شهاب قد أحضر في بداية العام 1960 مؤسسة فرنسية، مؤسسة IRFED لتضع «التصميم الشامل للإنماء». بدأت في المرحلة الأولى بالقيام بكل الدراسات المبدئية والإحصاءات اللازمة. وعندما انتهت من ذلك، بدأت المرحلة الثانية، لكن ولاية الرئيس فؤاد شهاب انتهت وانتهى معها المشروع.
هل يمكن أن تزودنا بمعلومات إضافية عن المجلس الأعلى للتنظيم المدني؟
كان فؤاد شهاب قد وضع أول قانون تنظيم مدني في العام 1962 وأذكر عندها أن من ساعدنا في وضعه كان قاضياً في مجلس الشورى الفرنسي لويس فوجير. وبقي هذا القانون حاملاً إسمه لفترة من الزمن «قانون فوجير». وكان فوجير أكيداً أن هذا القانون سيكون أكثر تقدماً من فرنسا. وأراد فؤاد شهاب إنشاء مجلس يتضمن الكفاءات من خارج الإدارة، أي من غير الموظفين. وتمّ بالفعل إنشاء هذا المجلس مع قانون التنظيم المدني وضمّ أفضل مهندسي البلد؛ كان اختيار هذا المجلس من أفضل الكفاءات الفنية في البلد، من الذين لا يفكرون حتى بكلمة «الرشوة».
ثم تمّ تعديل قانون التنظيم المدني، وأدخلت فيه إدارات لا علاقة لها بهذا الشأن لأسباب سياسية .فما لبث أن تحوّل إلى جهاز كبير، «الاختصاص فيه ما بقى موجود». اذاً، المجلس الأعلى للتنظيم المدني هو مبدئياً عبارة عن مجلس يبدي رأيه بالأشياء الكبرى حسب القانون، بالتصاميم، بالقوانين: قانون البناء، قانون التنظيم المدني … يبدي رأيه بإنشاء الشركات العقارية (سوليدير على سبيل المثال ،(بأعمال الضم والفرز العام التي تقوم بها الدولة (وليس فرز الأراضي الذي يقوم به الأفراد .(إلا أنه مع الأسف، وبعيداً عن روحيته: «صار يشوف مزرعة الدجاج، صار يشوف الكسارة، صار يشوف الحدادة…» لذلك، ومن الأشياء التي أقترح أن يتمّ إعادة تكوين المجلس الأعلى للتنظيم المدني وفقاً للروحية التي بُنيت في 1962 ومحاولة إفادة الإدارة من خبرات كبيرة.
ماذا عن المستوى الثاني: التصميم والنظام التوجيهي؟
تحدد المادة 7 من قانون التنظيم المدني كيفية إصدار التصميم والنظام التوجيهي. والتصميم التوجيهي هو الخطّة التي تحدد كيفية استعمال أراض في منطقة متجانسة. مثلاً عكار، من طرابلس للحدود الشمالية، للنهر الكبير، عبارة عن سهل وهي منطقة زراعية طابعها قروي، وهي بهذا المعنى – متجانسة من كل النواحي. فبدلاً من أن أضع لكل قرية تصميم استعمال أراض محدود جداً، أقوم بوضع تصميم للمنطقة ككلّ وأبيّن الخطوط الكبرى للمشاريع: مثلاً أريد أن أقوم بالزراعة في عكار؛ اذاً أريد أن أنشئ مناطق زراعية، أو مثلاً إذا كنت أريد أن أروي عكار، أضع السدود على الأنهر. بالتالي أنا أحتاج إلى دراسات مبدئية وهو ما يقدمه لنا التصميم التوجيهي.
بالنتيجة، التصميم التوجيهي هو، كما تدلّ تسميته، عبارة عن توجيه، يحدد الخطوط الكبرى لخطة استعمال الأراضي ضمن المنطقة.
هل يقوم لبنان بتصميم توجيهي؟ نعم، تمّ تحضير مشروع تصميم توجيهي وحيد في لبنان، وهو ذلك العائد لمنطقة بيروت المدينية، من نهر الدامور جنوباً، لنهر الكلب شمالاً، ومن البحر غرباً لخط وهمي يصل لحوالي الـ 400 متر فوق سطح البحر. إذاً تم تحضير التصميم والنظام التوجيهي لبيروت وضواحيها بين عامي 1983 و1986، وجاء في سياق التحضير لإعادة الإعمار بعد الحرب. مع الأسف، لم يهتم أحد بهذه الخطة التي كانت ممتازة جداً برأيي. حتّى أنه لم يتمّ تصديقها من قبل مجلس الوزراء.
وما هي القيمة القانونية للتصميم التوجيهي؟
التصميم التوجيهي ملزم للسلطات العامة. فإذا لحظ المشروع مثلاً أن الأوتستراد يمرّ في هذه المنطقة، على وزارة الأشغال أن تتقيّد به. بالمقابل، هذا التصميم غير ملزم للأفراد، ذلك أن أي فرد يملك أرضا ما ويريد البناء عليها، يكون مسؤولاً فقط عن الحصول على رخصة بناء، ولا علاقة له بالتصميم التوجيهي. عندما يذهب المواطنون إلى التنظيم المدني يجدون 300 تصميم توجيهي .لكن في الحقيقة، لا يوجد أي تنظيم توجيهي في لبنان، وليس ذلك سوى استعمال خاطئ في التعبير القانوني. ولا يوجد تصميم توجيهي في أيّ منطقة على الرغم من كثرة التسميات.
هل يعني كلامك أن المواطن الذي يملك أرضاً زراعية لا يكون ملزماً بإبقائها كذلك؟
هنا تبرز أهمية المرحلة الثالثة من التصميم .فالمواطن ملزم بمضمونها عند تنفيذها. بالتالي، يمكن للمواطن ألا يبقي عقاره زراعياً، فقط عندما لا يكون المستوى الثالث (النظام التفصيلي) قد نفذ. والحال أن الخطة الشاملة للإنماء لحظت المناطق الزراعية، لكن بما أنها ليست ملزمة للأفراد، ما من أحد يتقيّد بها.
حسناً… تقول أن النظام التوجيهي ليس ملزماً للأفراد، أي إذا لحظ هذا النظام وجود منطقة زراعية وكنت أنا مالكها، لا أكون ملزمة بأن أبقيها كذلك؟
أبداً. أمّا إذا كانت الأرض بحسب النظام التفصيلي المُصدّق مصنفة زراعية، فأنت ملزمة بالتقيّد بها .أما المناطق غير المنظمة (أي حيث لا يوجد نظام تفصيلي مصدق لها) ،يُطبّق النظام العام بقانون البناء، مما يعني أنّ البناء فيها مسموح، وما من أحد يستطيع أن يقول لك بصورة عامة أن هذه الأرض زراعية وبالتالي لن تحصلي على رخصة بناء فيها، وإن كانت في التصميم التوجيهي أو في «الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية» منطقة زراعية .يجب إتمام النظام والتصميم التفصيلي – أي المستوى الثالث – الذي يوضع على خرائط يظهر عليها التقسيم إلى قطع، وعندها تكون ملزمة للجميع، للدولة وللسلطات العامة وللأفراد.
إذاً، ما هو دور المستوى الثالث بالتفصيل؟
المستوى الثالث من التصاميم هو التصميم والنظام التفصيلي. وهذا التصميم يوضع على خرائط تظهر فيها العقارات، ويحدّد شروط استعمال العقار ووجهة الاستعمال (زراعي، صناعي، سكني، سياحي ،(… يحدّد شروط البناء، يحدّد شروط البيئة، كلّ التفاصيل. بإمكانك إعتباره السجل العدلي للعقار، وهو ملزم للأفراد وللجماعات وللدولة. وإذا افترضنا فرض أن البلدية أرادت أن تبني داراً بلدياً، عليها أن تستحصل على رخصة بناء وفقاً للنظام التفصيلي، إذا كان موجوداً.
ومن يضع هذا النظام التفصيلي؟
التصميم والنظام التوجيهي والتصميم والنظام التفصيلي، تضعها المديرية العامة للتنظيم المدني، إما بمبادرة منها، أو بطلب من البلديات. وغالبيتها وضعت بمبادرة من الإدارة، أي المديرية العامة للتنظم المدني. ونطاق تصميم التنظيم المدني غير مُحدد بالنطاق البلدي، وغير مُحدد أيضاً بالنطاق العقاري.
فالتنظيم المدني يضع التصميم، يعرضه على البلدية التي تبدي رأيها بالمشروع، ثم يعرض على المجلس الأعلى للتنظيم المدني، وأخيراً يعرض على مجلس الوزراء ويصدّق بمرسوم بمجلس الوزراء: وفي حال عدم تصديقه، يصبح مجرّداً من القيمة، حتى وإن وافق عليه التنظيم المدني أو المجلس الأعلى أو البلدية.
وهل تجري الأمور على هذا النحو ويتمّ التصديق على المخططات؟
تمّ اليتصديق في مجلس الوزراء. لكن التصاميم لا توضع في الأساس للمصلحة الوطنية، بل على العكس لمصلحة مالكي الأراضي. فعلى سبيل المثال: كنت لا أزال في التنظيم المدني حين قمنا بتحضير مشروع تنظيمي لبلدة الهرمل. وقبل أن آتي إلى التنظيم المدني، كنت مدير عام التجهيز المائي والكهربائي وكنت قد حضرت مشروع ريّ من نهر العاصي في الهرمل .فحافظت في تصميم بلدة الهرمل على المنطقة الزراعية التي سترتوي من نهر العاصي. استطاع مالكو الأراضي استرجاع المشروع من مجلس الوزراء بدون تصديق، لأنهم لم يريدوا حتى وضع كلمة «زراعية». فكلمة «زراعية» تعني أنه لم يعد هنالك من مجال للمضاربات العقارية، أو للبناء، أو للانتشار العمراني: إذاً، استطاعوا، على الرغم من موافقة التنظيم المدني والمجلس الأعلى، أن يضغطوا) عبر النفوذ والقنوات التي يوفرها النظام الزعاماتي القائم)، واسترجعوا المشروع.
تصرف مالكو الأراضي على هذا الوجه .وتعكس غلبة موقفهم واقعاً قوامه أن الاقتصاد اللبناني يقوم على القطاع العقاري: بداية الاقتصاد الصحيح هو إزالة العقار أي الأرض (مش عم بحكي عن البناء (من التجارة .الأرض ليست سلعة تجارية. في لبنان الأرض هي السلعة التجارية، وهذا سبب الكارثة التي نعاني منها… نحن نحتاج إلى سياسة عقارية تخرج الأرض من التجارة والمضاربات.