مرّت سنة على الزلزال الذي ضرب جنوب شرق تركيا وشمال سوريا، وتردّدت موجاته حتى مقدونيا، اليونان، لبنان وفلسطين. أدّى زلزال 6 شباط 2023، إلى مقتل أكثر من 55 ألف شخص، وكانت نتيجته إزالة قرى ومناطق كاملة، وتدمير أكثر من 230 ألف مبنى في تركيا وتضرّرها، وأكثر من 10600 مبنى في سوريا. حتى اليوم، لم تستطع السلطات التركية ولا السورية أن تعيد إعمار ما تمّ تدميره، أو التعويض على المتضرّرين أو حتى تأمين المساكن البديلة الآمنة والمريحة.وفي ظل التوجّه الاستغلالي الذي يحكم المنطقة، وقعت المناطق التركية والسورية تحت هيمنة نظامين يضعان مصلحة السياسيين فوق مصلحة الناس.
في لبنان، تعاطت الدولة مع الهزات التي نتجت عن الزلزال بشكل يتّسم بعدم الجدّية، لأسباب لا تختلف عن تركيا وسوريا. فشكل الدولة لا يعطي مجالاً لمصلحة الناس، خاصة فيما بتعلّق بالسكن والأمان.
وهكذا زلزال ليس غريب عن منطقتنا، ولبنان بالذات مساحة غير آمنة من الزلازل، وأي زلزال فيه سيؤثّر على كل المناطق وليس على جهة واحدة منه. “فمجموع الفوالق الزلزالية الموجودة في لبنان على مساحة صغيرة، تجعل منه منطقة جغرافية واحدة، أي أن حصول الزلزال في منطقة ما يؤثر تأثيراً قوياً على المناطق الأخرى، فإذا حصل مثلا زلزال في فالق اليمونة يتأثر به كل من طرابلس وصور.”1 من محاضرة لدكتور الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت محمد حراجلي
في ظلّ وجود هذا الخطر، نستعرض كيف استجابت الدولة للهزات الصغيرة التي تبعت 6 شباط، ونتخيّل من خلال هذا النص، ما كان يمكن ليحصل منذ سنة، أو اليوم، لو ضرب زلزال بهذه القوة لبنان، وكيف كانت الدولة لتستجيب، اعتماداً على الخطوات التي اتّخذتها على أعقاب الكوارث التالية: زلزال 1956، وتفجير مرفأ بيروت، والهزّة التي ضربت لبنان نتيجة زلزال تركيا 2023.
كيف استجابت الدولة في الـ 1956؟
جيولوجياً، يعبر فالق البحر الميت، الممتدّ من خليج العقبة إلى تركيا، الأراضي اللبنانية. ويُعتبر فالق اليمّونة على طول سلسلة جبال لبنان الغربية الأخطر، وهو يشقّ لبنان نصفين، ويتحرّك وفق دراسة جيولوجية كل 800 سنة، مع هامش خطأ 200 سنة. ويعود تحرّكه الأخير إلى عام 1202، حيث أدّى يومها إلى تدمير طرابلس وبعلبك وغرق الجزر قبالة الساحل، ولم يبق منها سوى جزيرة الأرانب.
وفي 16 آذار 1956، تعرّض لبنان لثلاث هزّات أرضية، ضربت مجمل ساحل المتوسط الشرقي (لبنان، فلسطين، سوريا)، وكان مركزها الشوف وتحديداً عند الروافد السفلية لنهر بسري. وأوقعت هذه الهزّات 122 ضحية في 33 قرية.2A. S. Elnashai, Ramy El-Khoury. Earthquake Hazard in Lebanon. Imperial College Press, 2004
ونظراً لعدم جهوزية وزارة الداخلية، التي حاولت إرسال مفارز من المهندسين للكشف، استعجلت أعمال التخمين والإحصاء، ممّا انعكس نتائج غير دقيقة لإحصاء المباني المتضرّرة. وقد كان الدمار واسعاً في قرى الجنوب والشوف، ليتعدّى عدد البيوت المتضرّرة 12000 فيما تهدّم 7000.3وردت هذه الأرقام على لسان رئيس مصلحة التعمير في جلسة مناقشة البيان الوزاري بتاريخ 14 حزيران 1956
وكان نهر أبو علي في طرابلس قد فاض قبل الزلزال، وأدّى إلى سقوط العديد من الضحايا وإلى موجة تهجير جماعي. ونتيجةً للكارثتين، اتّخذت الحكومة يومها قراراً بإنشاء “المصلحة الوطنية للتعمير”، لنشهد أوّل تدخّلٍ من نوعه للدولة اللبنانية في قطاع السكن، لتعمير المناطق المنكوبة بالزلزال، بموجب قانون صدر في ٩ نيسان ١٩٥٦، وغايتها بحسب المادة الأولى من القانون ”تقديم المساعدات لمنكوبي الزلزال، ووضع تصميم لتعمير القرى والمنازل المهدّمة، واستملاك العقارات اللازمة للتعمير بما فيها المشاعات، الإشراف على التعمير وتنظيم التسليف له، إعداد الدروس، وتقديم الاقتراحات للحصول على المال اللازم لتحقيق غاية المصلحة مع صندوق مستقلّ“. كما تمّ الاتفاق على تمويل ”الصندوق المستقل“ من خلال التبرعات والإعانات الواردة إليه، إضافة إلى ضرائب ورسوم جديدة فرضت خصيصاً لهذه الغاية تحت إسم ”ضريبة التعمير“. على أثر القانون، تمّ استملاك عقارات في 67 منطقة عقارية في مختلف المناطق التي أصابها الزلزال.
كما وضعت المصلحة خطّة متعلّقة بمعالجة تأثير فيضانات نهر أبو علي في طرابلس، وكان الهدف منها التعويض على المتضرّرين الذين أمرت الدولة بهدم بيوتهم المتصدّعة والواقعة على مجرى النهر، وبناء مدينة للمتضررين في ضواحي طرابلس.
هذا بالإضافة إلى العديد من المشاريع السكنية العامة التي أنشأتها المصلحة، نأخذ مشروع التعمير في صيدا مثالاً. تضرّرت مدينة صيدا بشكل كبير نتيجة زلزال 1956، فتعاونت المصلحة الوطنية للتعمير مع عدد من المهندسين4 مهندسين من وزارة الأشغال، والجامعة الأمريكية في بيروت، وشركة “كات للهندسة والمقاولات”. لوضع تصاميم لإعادة تعمير المنازل المهدّمة أو إيجاد بدائل سكنية للمتضرّرين. واستعانت المصلحة أيضاً بالمهندس الفرنسي ميشال إيكوشار كاستشاريّ، وهو الذي قاد وضع دراسة تخطيطية شاملة لمدينة صيدا في حينه5قامت الدراسة التخطيطية لإيكوشار وفريقه على فكرة “تحديث” مدينة صيدا عبر إنشاء مركز حضري جديد لها في منطقة عين الحلوة – مركزاً نموذجياً باسم “صيدا الجديدة” – لاستيعاب نموّها المستقبلي، ولإسكان المتضرّرين من الزلزال. الجدير بالذكر أن خرائط إيكوشار التي تمّ آنذاك إنتاجها في باريس لا تُظهر وجود المخيّم الفلسطيني في المنطقة، بالرغم من أن المخيّم كان عمره 8 أعوام، ويمتدّ على مساحة 37 هكتاراً. (المصدر: مقال بالإنجليزية لمروان غندور بعنوان ?Who is ‘Ain Al-Hilweh – نُشر في جدليّة في 30 أيلول 2013).. بنتيجة الدراسة، وقع الاختيار على منطقتي الدكرمان والمية ومية العقاريتين على حدود صيدا لإقامة الأبنية السكنية الجديدة التي أُطلق عليها تسمية “مشروع التعمير” نسبةً للمصلحة الوطنية للتعمير6 الجدير بالذكر أن بلدية صيدا مارست ضغوطاً على المصلحة لتوسيع المشروع حتى يشمل، إلى جانب المتضرّرين من الزلزال، كافّة سكان صيدا الراغبين بتحسين أوضاعهم السكنية . قامت المصلحة باستملاك نحو ١٣٥ ألف مترٍ مربّعٍ من عقارات منطقة الدكرمان العقارية، وما يزيد عن ٧٠ ألف مترٍ مربّعٍ من منطقة المية ومية. وتمّ تصميم أبنية سكنية من عدّة طوابق تراوحت مساحة المساكن فيها بين٦٠ و٩٠ مترٍ مربعٍ7تمّ تصميم نموذجين للأبنية: النموذج الاوّل من 4 طوابق مؤلّف من قسمين لكلّ منهما درج يصل إلى شقّتين، وبالتالي يحتوي كلّ طابق على مجموع 4 شقق، والمبنى بأكمله على 16 شقّة. أمّا النموذج الثاني فهو يتالّف من 4 طوابق وفي كل طابق ممرّ خارجي يمكن الولوج منه إلى 8 شقق، وبالتالي يحتوي المبنى على مجموع 32 شقّة.، بالإضافة إلى فيلّات صغيرة للعائلات الميسورة، مؤلّفة من طابقين مع حديقة خاصّة.
وقد انتهى مشروع التعمير عام ١٩٦٨، بعد بناء حوالي ١٢٠٨ وحدة سكنية، لكنّ ذلك لا يعني بأنه لم يتسبّب بالمشاكل التي لا زال معظمها عالقاً دون حلّ في الأفق. فقبل الانتهاء من بناء مشروع التعمير، ومباشرةً بعد الزلزال، نصبت مصلحة التعمير “بركسات” من الصفيح بالقرب من المستشفى العسكري التابع للانتداب الفرنسي في صيدا لإيواء الأسر التي نزحت بسبب الزلزال. وقد تم نصبها كمكان إقامة “مؤقّت” للعائلات اللبنانية النازحة التي كان من المخطط أن تستقر في النهاية في التعمير. أنشئت هذه البركسات على شكل صفوف من غرف فردية، كل غرفة منها مخصّصة لعائلة واحدة، ومغطاة بألواح من الصفيح المموج. وبما أن التصميم الأصلي يفتقر إلى المطابخ والحمامات، فقد أضافتها العائلات بعد انتقالها إليها.
على الرغم من أنها بنيت مؤقّتاً لعامين فقط، إلا أن هذه البركسات سكنها النازحون لفترة أطول بكثير، وسكنتها بعض العائلات لأكثر من عقد قبل أن تتمكن من الانتقال إلى وحدة سكنية في مشروع التعمير أو في مكان آخر. مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، شكّلت البركسات بمثابة مكان إيواء للفلسطينيين النازحين من مخيمات في لبنان. وقد اشترى هؤلاء الغرف من العائلات اللبنانية التي كانت تشغلها سابقاً. على مر السنين، تم توسيع الغرف الأصلية وإضافة الخدمات والغرف، مما أدى إلى تغيير جذري للتصميم الأصلي. واليوم، لا زالت البركسات قائمة مع كمّ هائل من الإضافات، ويعيش فيها عائلات أو أفراد من الأكثر هشاشة، وشبكة الشوارع هي السمة الوحيدة التي يمكن التعرف عليها من شكل المنطقة الأصلي.
بالإضافة إلى ذلك، خلق المشروع إشكاليات حيازة، ما زالت تهدّد الأمن السكني لسكّانه حتى اليوم. فقد كان على المهتمّين باستلام مسكن في مشروع التعمير تقديم طلب لمصلحة التعمير، على أن يُدفع سعر المسكن المخفّض بالتقسيط على مدى سنوات طويلة، وبناءً عليه يتمّ إعطاء سندات مؤقّتة للسكان إلى حين دفع المبلغ المطلوب كاملاً. إلا أن الدولة توقّفت عن قبض مستحقاتها عام 1975 مع بداية الحرب، إذ كان للتطورات الأمنية والسياسية والاختلالات المالية المتكرّرة تداعيات مباشرة على مدينة صيدا، حالت دون محاولات جدية لمتابعة فرز المساكن بشكل نهائي. إضافةً إلى ذلك، وضع التنظيم المدني سنة 1967 مخططاً توجيهياً لمدينة صيدا، شمل منطقة التعمير دون أن يلحظ وجود هذه المباني. وبالتالي زاد هذا المخطط، في حينها، التعقيدات أمام حصول قاطني البيوت على سندات ملكية بيوتهم.
هذا فيما يتعلق بالسكان الذين دفعوا بعض أو كامل مستحقاتهم ولم يحصلوا على سندات بعد. غير أن الزلزال لم يكن الكارثة الوحيدة التي أصابت صيدا، فلحقه طوفان للبحر تهدّمت على أثره بعض مباني الواجهة البحرية في المدينة التاريخية. فسكن المتضررون الذين خسروا بيوتهم، شقق التعمير دون تقديم طلبات. إضافةً إلى ذلك، شغلت عائلات كانت بحاجة إلى السكن الميّسر بعض المساكن وبعلم الإدارة، ولم تشغلها عنوة، إلا أنّ الإدارة آنذاك لم تنظّم لهم العقود. كل هذا أدّى إلى التأخير في متابعة إجراءات الحيازة نتيجة التفاوت الكبير في المبالغ المترتبة بين متضرري الطوفان من جهة، ومن كانوا بحاجة لسكن ميسر فسكنوا التعمير دون أن تؤمن لهم الدولة عقود من جهة، وبين من كانوا يملكون عقوداً من جهة أخرى.
كما يذكر القانون رقم 525 “تمليك عقارات المصلحة الوطنية للتعمير الملغاة” الصادر عام 2003 التالي: “أقدم عدد كبير من المواطنين وفي أماكن كثيرة على البناء على عقارات مصنفة حدائق أو مساحات ناتجة عن إفراز عقارات المصلحة الوطنية للتعمير الملغاة. ولا يمكن فرز وتمليك هذه العقارات من شاغليها علماً أن إخلاء وهدم هذه الأبنية يثير مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة في الوقت الحاضر”. لتبرز معضلة جديدة هنا، مفادها أنّ الدولة تصدّق على مشاريع إفراز ومخططات من دون النظر إلى حاجات المنطقة وسكانها، أو التغييرات الناشئة عن الحروب أو الأزمات.
تتعدّد القصص وتكثر مشاكل سكان حي التعمير لا سيما لناحية نقل الملكية النهائية للوحدات السكنية إلى أسماء ساكنيها الحاليين. اليوم، بات الحصول على سند التمليك صعب جداً، بحيث أنّه لا يُعطى إلا استثنائياً، أو بعد تدخّلات حزبية، ممّا يضع السكان في خوفٍ دائم من فقدان مسكنهم. أما عن وضع الحي، فهناك تدهورٌ واضحٌ في أوضاع المباني التي تظهر فيها المشاكل الإنشائية والتشقّقات، كما يشهد الحي تردّياً شديداً في وضع شبكات توزيع المياه والصرف الصحي، ناهيك عن أزمة النفايات، والإنارة، والكثافة السكانية الكبيرة الناتجة عن الإضافات غير الرسمية التي سبّبت ضيقاً في الطرقات. كما يعاني السكان من غياب مساحات للعب الأطفال أو لتنظيم لقاءات ومناسبات اجتماعية داخل التعمير الذي يكاد يخلو من المساحات العامة، لولا وجود حديقة عامة واحدة تحيط بها من الجهتين أتوسترادات تشكّل خطراً على الأولاد فيتفادون القدوم إليها.
في التعمير الفوقاني، على سبيل المثال، تتجاهل بلديّة المية ومية طلبات السكان الحياتية وحاجاتهم بحجة كونهم من الفلسطينيين، أو من أهالي صيدا، وبالتالي من غير ناخبيها. أمّا في التعمير التحتاني، فتمتنع بلدية صيدا عن تقديم أي خدمات للسكان دون الحصول على تنفيعات، بحسب ما جاء على لسان أحد السكان. كما يعاني المشروع السكني من غياب إدارة رسمية له، فيما تتنصّل السلطة المحلية من مسوؤلياتها البديهية.
ماذا فعلت الدولة بعد كارثة 4 آب؟
من جهة أخرى، وسعياً منّا لفهم كيفية مقاربة الدولة للكوارث ومعالجتهم وإدارتها، بإمكاننا أن نأخذ مثالاً قانون “حماية المناطق المتضررة ودعم إعادة إعمارها”، والذي تمّ التصديق عليه بتاريخ 30 ايلول 2020، بعد تفجير مرفأ بيروت. من المفترض أن يكون هذا القانون الأداة القانونية للدولة، لمساعدة المناطق المتضرّرة على التعافي، إن لجهة الترميم أو التعويض أو عودة الناس إلى بيوتها وأشغالها. لكن القانون اكتفى بالاستناد لضرورة حماية حق الملكية الفردية المقدسة ومبدأ حرية التعاقد والمبادرة الفردية في إطار النظام الاقتصادي الحر، متجاهلاً حقوق أساسية دستورية مثل العدالة الاجتماعية والمساواة والحق بالسكن. كما يفتقد لأي سياسة أو رؤية لإعادة تأهيل المناطق المتضررة بشكل يستفيد من دروس الماضي. بل على العكس، يعتمد القانون ع مقاربة خالية من الشقّين الاقتصادي والاجتماعي وتختزل العمران بالمباني والعقارات.
كما لم يساهم القانون في تمكين السكان من ترميم أبنتيهم المتضررة بشكل سريع، أو إيضاح مسار تسديد التعويضات، أو تقديم الحوافز، أو منح الأولوية لضمان السكن الميسّر، أو وضع مسار لتأهيل الحيّز العام، أو إرساء سياساتٍ تحدّ من المضاربات في المدينة برمّتها. ولم يسعى إلى إشراك أصحاب الحقوق وتحفيزهم على إعادة بناء وترميم منازلهم ومحلاتهم. كما لم يضمن أن تأخذ إعادة التأهيل بعين الاعتبار ضرورة حفظ وزيادة نسب المخزون السكني الميسّر في المدينة. ولم يضمن القانون أن تحصل عملية إعادة التأهيل في احترام لحقوق الأشخاص المعوّقين للبيئة الدامجة والتنقّل والوصول إلى المباني، إلا أن قوانين البناء والنقل تفرض هذا الأمر. وأخيراً، تغيب عن القانون أي مندرجات لتعافي الأحياء الأكثر تضرّراً، وتحديداً الحق بالوصول إلى سكن ميسّر، منعاً لتهجير سكّانها وشاغليها القُدامى والجدد تمهيداً لحلول طبقات ذوي دخل أكثر ارتفاعاً مكانهم.
الدولة اللبنانية في مواجهة هزات 6 شباط
في 2023، وبعد الهزات وتضرّر عدد من المباني على الأراضي اللبنانية، خاصة في الشمال (طرابلس تحديداً)، أصدر وزير الداخلية والبلديات القاضي بسام مولوي تعميمين في 6 شباط 2023 إلى المحافظين كافة. في التعميم الأول، طلب الايعاز بإعلان حالة طوارئ بلدي واستنفار كوادر البلديات واتحادات البلديات والقائمقامين وإجراء مسح بالأضرار الناتجة عن الهزة الأرضية التي ضربت لبنان، وتقديم المساعدة اللازمة لمنع وقوع أي ضرر قد يهدد حياة المواطنين وسلامتهم.
أما التعميم الثاني، فهو يتعلّق بسوء الأحوال الجوية والعاصفة التي تضرب لبنان، مطالباً بإجراء مسح والتأكد من ثبات الهياكل الحديدية المعدة لتركيب ألواح الطاقة الشمسية وحسن تنفيذها، لتأمين السلامة العامة.
وفي 20 شباط، ترأّس رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اجتماعاً، شارك فيه كلّ من وزير الداخلية والبلديات القاضي بسام مولوي، وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية، النائب سجيع عطية، أمين عام الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير، نقيب مهندسي الشمال بهاء حرب، رئيس بلدية طرابلس احمد قمر الدين، والمنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية عمران ريزا. وتقرّر على أثره تكليف وزير الداخلية بالتواصل مع البلديات وحثهم على تزويد وزارة الداخلية والبلديات بملفات للأبنية المتصدعة والآيلة للسقوط وخصوصا في طرابلس والمنية.
واتُّفق أن يرسل وزير الداخلية يومها كتاباً إلى جميع رؤساء البلديات على كل الأراضي اللبنانية لتزويده في خلال أسبوع بلائحة بالأبنية الآيلة للسقوط أو التي تصدّعت جراء الزلزال.
بطلب من رئيس الحكومة، اتّفق أن تُرسل وزارة الأشغال والنقل كتاباً إلى جميع المعنيين بضرورة التشدّد من قبل التنظيم المدني بالنسبة إلى مواصفات الزلازل للأبنية التي ستقام، والتسريع والتنسيق مع البلديات والأجهزة الأمنية بالنسبة إلى تسريع المعاملات في التنظيم المدني.
تمّت دعوة عمران ريزا إلى الاجتماع للحديث عن التكلفة ودعم الحكومة اللبنانية لإجراء صيانة للأبنية المتصدعة. وقد تمّ الحديث أنه وبعد أن يتم تزويد الأمانة العامة لمجلس الوزراء من قبل وزارة الداخلية بعدد الأبنية وكلفتها فسيتم تزويد الهيئة العليا للإغاثة بسلفة خزينة لتقوم أيضاً بدور الصيانة بالتنسيق مع البلديات. وتم الطلب من الهيئة العليا للإغاثة ببدل إيواء لسكّان الأبنية التي ستقوم الدولة اللبنانية بصيانتها.
عقب الاجتماع، قال وزير الأشغال العامة:
“قمنا ببحث مع لجنة الأشغال النيابية ووجدنا أنه في العام ٢٠١١ وبرئاسة النائب السابق نواف الموسوي تم الاجتماع في مجلس النواب واتخذت توصيات عديدة، ولو أن الدولة اللبنانية قامت آنذاك بتطبيق ما ورد عام ٢٠١١ من قبل لجنة الأشغال النيابية، لكنا بلداً مستعداً لأي زلزال طارىء، وبالتالي تمّت التوصية من قبل الرئيس ميقاتي لرئيس لجنة الأشغال النيابية الاستاذ سجيع عطية بالمضي قدماً بالتوصيات التي صدرت من قبل لجنة الأشغال ومتابعتها لحين تصبح حيزّ التنفيذ من خلال التشريعات في مجلس الوزراء والإدارات الرسمية”.
اليوم، ما الذي يحمي السكان والمناطق؟
اليوم، وفي الإطار القانوني اللبناني، وحده مرسوم السلامة العامة يتطرّق لموضوع الوقاية من الزلازل في الأبنية. عام 1997، ساهمت الهزّة الأرضية القوية التي ضربت لبنان في تسريع صدور ثلاث مراسيم تحمل الأرقام 11264 و11266 و11267، وتُحدّد تباعاً الشروط والأصول الواجب تطبيقها في الأبنية والمنشآت لحمايتها من أخطار الحريق والزلازل وتجهيزات المصاعد. لكن مفاعيل هذه المراسيم لم تُنقل إلى حيّز التنفيذ لعدم صدور مراسيمها التطبيقية، فضلاً عن عدّة عوائق أبرزها محدودية القدرات الفنية والتقنية لدى الإدارات والأجهزة العامّة والتي حُمّلت، بموجب هذه المراسيم، مسؤولية تأمين مراقبة تطبيق الشروط المفروضة، فضلاً عن تضارب الصلاحيات بينها.
إزاء هذا الواقع، تمّ العمل على إصدار مرسوم جديد عام 2005 يحمل الرقم 14293. طوّر هذا المرسوم شروط وأصول تطبيق السلامة العامة في الأبنية والمنشآت، وأسند، هذه المرّة، مهمّة مراقبة تطبيق الشروط المفروضة إلى القطاع الخاص، تحديداً إلى المهندسين ومكاتب تدقيق فنية متخصّصة، أسوةً بالتجربة الفرنسية.
وبعد صدور المرسوم 14293/2005، لم يكن كامل مضمونه قابلاً للتطبيق. من حينه، عملت نقابة المهندسين، بالتعاون مع لجنة مكلّفة من مجلس الوزراء، على الإسراع في إصدار تعديل للمرسوم ليُصبح مضمونه قابلاً للتطبيق بشكلٍ كليّ. هذا وقد سرّع انهيار مبنى فسّوح في الأشرفية أوائل عام 2012 العمل على التعديل. بالنتيجة، وبتاريخ 19 نيسان 2012، صدر المرسوم رقم 7964 الذي عدّل المرسوم 14293 / 2005.
شكّل صدور مرسوم السلامة العامة إذاً، تقدُّماً في مجال تأمين السلامة العامة في الأبنية والمُنشآت في لبنان، خصوصاً من ناحية فرض نوع من الرقابة عبر الاستحصال على «أمر مباشرة بالتنفيذ»، وإبرام «عقد مقاولة»، والإلتزام بالتدقيق الفني الإلزامي. لكنّه أتى متأخراً جداً، إذا نظرنا إلى أن قانون البناء تمّ سنّه في الأربعينيات. ووفقاً للمهندس والنقيب السابق جاد تابت، “كان فيه خلل كتير كبير: تمّ إعطاء المهندسين دور أكبر بكتير من وضعن الحقيقي. وسيطرة عقلية المهن الحرة اللي بتقول انه ما حدا لازم يراقبنا، نحنا منراقب حالنا.” ويضيف تابت أن “تداعيات هذا الخلل أو غياب إطار السلامة العامة أثّر أكتر شي على المباني يللي تعمّرت بأواخر الثمانينيات وبعد 1990، نتيجة فورة الاعمار، وحيث أصبح المهندسين مرتبطين كتير بالمتعهّدين. فصار فيه خلل كبير، بسبب غياب أطر مراقبة عمل المهندسين، لا سيما عندما أصبح واقع الجسم الهندسي مرتبطاً بالسوق ورأس المال.”
الزلزال الذي لم يكن: ماذا كان ليحصل؟
نحن نعرف بأن الدولة لم تكن لتتصرّف كما يجدر بها أن تتصرّف إذا ضربنا زلزال مشابه لزلزال تركيا وسوريا أو حتى لزلزال 1956. وتشكّل الأمثلة التي ذكرناها، من زلزال 1956، إلى كارثة مرفأ بيروت، حتى تعاطيها مع هزّات 2023، ومرسوم السلامة العامة، دراسة حالات لأولويات الدولة من جهة، وللأدوات المُتاحة. وبالرغم من معالجتها القاصرة بعد زلزال 1956، الدولة اليوم أضعف من أن تقوم بما قامت به يومها، وأكثر نيوليبرالية من أن يكون لديها النية للقيام بذلك.
فالدولة اليوم لم تكن لتبني أي مساكن شعبية، لتراجعها عن القيام بهذا الدور منذ أواخر الستينيات، وهو تفصيل في إطار غياب سياستها الإسكانية والمؤسسات الإسكانية. وبالتالي، فإن الدور الرعائي للدولة، وهو ما لم نرَه لا خلال تفجير مرفأ بيروت ولا هزات 6 شباط، كان ليغيب أيضاً، إن على مستوى الإغاثة، أو الإنقاذ، أو تأمين السكن البديل الفوري، أو الإعمار والتعافي وعودة الناس إلى مناطقها وبيوتها وأشغالها. وليست الأدوات المؤسساتية والقانونية القاصرة عن التعاطي مع الموضوع، سوى الإثبات الأكبر، بأن الدولة لا تؤسّس بدايةً للأطر الضرورية لتفادي وقوع الكوارث من جهة – من خلال تطوير مرسوم السلامة العامة، للتأكد من اتّباع أسس آمنة للبناء وللتمدّد العمراني عامةً- ولا لكيفية التعاطي مع الكوارث حين وقوعها –الهيئة العليا للإغاثة مثالاً. وفي حالة السكن بالذات، فإن تعاطي الدولة خلال الكارثتين الأخيرتين، يضيء على أمور أساسية: 1- تجاهل الدولة للسلامة العامة ووضع المسؤولية كاملةً على المهندسين والمطوّرين العقاريين وأصحاب الملك. 2- اعتبار الأساسيات – خاصة السكن- مسؤولية الأفراد 2- تقديم الملكية الخاصة على حياة الناس ونجاتهم وحقوقهم 4- غياب التخطيط: الدولة لا تبني خططاً وأطراً للتعاطي مع الكوارث أو الطوارئ.
وبناءً على ذلك، وعلى تجربتنا كأفرادٍ وجماعات مع بنية الدولة اللبنانية، ففي حال حلول أي كارثة بنا، نتوقّع بأن مؤسّسات دولة ستتراكض أوّلاً لحماية الملكية الخاصة، وثانياً للبحث عن سبل للإغاثة، في ظل غياب الخطط. وتبدو خطورة هذه المقاربة أكبر اليوم، خاصة وأنّنا سنواجه المزيد من الكوارث، نتيجة تغيير المناخ ونتائجه التي ستندرج على حقول ومستويات غير متوقّعة.
في ذكرى زلزال 6 شباط، وإذ نتعلّم من تجاربنا وتجارب من حولنا، وبينما ما زال سكّان مناطق جنوب شرق تركيا يباتون في الخيم وقراهم ومدنهم تلال ردم، نرى من الضروري تطوير الأدوات الموجودة، خاصة مرسوم السلامة العامة، وتقوية المؤسسات الموجودة كالهيئة العليا للإغاثة والبلديات لتصبح قادرة على الإغاثة والإنقاذ عند الطوارئ، وإقرار مؤسسة تُعنى بالتخطيط، إن لناحية الإسكان أو إقرار خطط يمكن تنفيذها في حالات الكوارث.
المراجع:
- 1من محاضرة لدكتور الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت محمد حراجلي
- 2A. S. Elnashai, Ramy El-Khoury. Earthquake Hazard in Lebanon. Imperial College Press, 2004
- 3وردت هذه الأرقام على لسان رئيس مصلحة التعمير في جلسة مناقشة البيان الوزاري بتاريخ 14 حزيران 1956
- 4مهندسين من وزارة الأشغال، والجامعة الأمريكية في بيروت، وشركة “كات للهندسة والمقاولات”.
- 5قامت الدراسة التخطيطية لإيكوشار وفريقه على فكرة “تحديث” مدينة صيدا عبر إنشاء مركز حضري جديد لها في منطقة عين الحلوة – مركزاً نموذجياً باسم “صيدا الجديدة” – لاستيعاب نموّها المستقبلي، ولإسكان المتضرّرين من الزلزال. الجدير بالذكر أن خرائط إيكوشار التي تمّ آنذاك إنتاجها في باريس لا تُظهر وجود المخيّم الفلسطيني في المنطقة، بالرغم من أن المخيّم كان عمره 8 أعوام، ويمتدّ على مساحة 37 هكتاراً. (المصدر: مقال بالإنجليزية لمروان غندور بعنوان ?Who is ‘Ain Al-Hilweh – نُشر في جدليّة في 30 أيلول 2013).
- 6الجدير بالذكر أن بلدية صيدا مارست ضغوطاً على المصلحة لتوسيع المشروع حتى يشمل، إلى جانب المتضرّرين من الزلزال، كافّة سكان صيدا الراغبين بتحسين أوضاعهم السكنية
- 7تمّ تصميم نموذجين للأبنية: النموذج الاوّل من 4 طوابق مؤلّف من قسمين لكلّ منهما درج يصل إلى شقّتين، وبالتالي يحتوي كلّ طابق على مجموع 4 شقق، والمبنى بأكمله على 16 شقّة. أمّا النموذج الثاني فهو يتالّف من 4 طوابق وفي كل طابق ممرّ خارجي يمكن الولوج منه إلى 8 شقق، وبالتالي يحتوي المبنى على مجموع 32 شقّة.
مرسوم السلامة العامة: لا ضمان لسلامة السكان ولا وقف لتدهور البيئة العمرانية
عُدّل بالمرسوم رقم 7964 المرعي الإجراء حالياً والصادر بتاريخ 7/4/2012.