بين الأخبار اليومية والانتخابات القادمة ومناورات السلطة، يبدو وكأن المناطق المتأثّرة من تفجير المرفأ قد تمّ نسيانها وأهلها، كجرح موجعٍ لا تريد السلطة إظهاره، فغطّته وأدارت له ظهرها. ككلّ مشكلة تواجهها السلطة، لا يهمّ من يتمّ إقصاؤهن\م وحرمانهم وإفقارهم وإسكاتهم ومحو ذاكرتهم\ن يوماً بعد يوم، المهم هو ما يبدو للخارج: الصورة المزعومة لبلد سياحي، ضمن مجموعة أشياء لا قيمة لها في حياة الناس.
في إطار عملنا في المناطق المتضرّرة، وفهمنا لتعافي الأحياء وأهلها، ومن تجربة مُعاشة لأغلبية من عرِفوا مشاريع إعادة الإعمار العديدة حول المناطق اللبنانية، نرى أهمية القيمة الاجتماعية-الاقتصادية لإعادة الإعمار، مكوّناً غالباً ما صرفت هذه المشاريع النظر عنه، وهو ما أدّى إلى فشلها من جهة، وإلى محو أحياء المدينة وحيوات أهلها من جهة أخرى.
سعياً منّا للضغط باتّجاه مقاربة أكثر اهتماماً بالجزء الاجتماعي-الاقتصادي لإعادة الإعمار، وفي ظل غياب سياسة شاملة لإعادة إعمار المناطق المتضرّرة نتيجة تفجير المرفأ، نطرح من خلال هذا النص دراسةَ نقدية لمشروع إعادة إعمار تديره ال UN-HABITAT حالياً في كتلة سكنية (مجموعة أبنية مجاورة لبعضها البعض) في منطقة الرميل. نحاول عبر النص اكتشاف ما تفعله مقاربة مادية بحتة للإعمار، ترى المباني والأحياء في البيئة المبنية فقط، وتنسى من يسكنها ويستخدمها، ومصلحتهم.
بعد تفجير المرفأ، أصدرت السلطة قانوناً خطيراً يدّعي حماية المناطق المتضررة ويعيد إعمارها، لكنّه يفتقد إلى أي مندرجات واضحة لتعافي الأحياء وعودة الناس وحمايتهم من التهجير، كما لا يتضمّن أي تحفيز للتعافي الإقتصادي والإجتماعي أو أي خطة لإنعاش الحيّز العام. وفي آخر جلسة لمجلس النواب، مع اقتراب الانتخابات النيابية، أصدر النواب تعديلاً على القانون يؤكّد في أسبابه الموجبة على حماية “هويّة” المنطقة المنكوبة، في مبادرة واضحة لا لحماية المناطق من التهجير والإحلال الطبقي العمراني، لكن لطرح وهم حماية الهوية الطائفية.
أما في الموازنة العامة -التي سُرّبت مسودة منها-، ذُكرت قضية ترميم المناطق المتضررة من خلال مادتين يتيمتين متعلقتين بتوزيع المساعدات وبإعفاء العقارات طور الإنجاز والمتضرّرة من التفجير من رسوم قيد الإنشاءات ومن الحصول على رخصة ترميم. من خلال تعاطيها مع هذه القضية، تواصل السلطة تعاملها مع المتضرّرين كمتسوّلين لا كأصحاب حقوق، مُقدّمةً لهم “المساعدات” بدلاً من التعويضات الكاملة والعادلة. كما تعطي تسهيلات إضافية لفئةٍ مقتدرة من المالكين بينما يعاني المستأجرون للحصول على رخص ترميم.
نتيجةً لهذا القانون الذي قارَب المناطق المتضرّرة بشكل تقني، ولم يكترث لتوضيح آليات التعويض ولا لتعريف نهج إعادة الإعمار بشكل منحاز للسكان، فُتِحَت الاحتمالات كلّها لمبادرات إعادة إعمار لا تهتمّ سوى بالناحية التقنية.
بالنسبة للسكان، فإن أولويات أي مبادرة إعادة إعمار هو تأمين عودتهن\م إلى منازلهم، وعدم رفع أسعار الإيجار، أو تغيير استخدام المحال والشقق فيه؛ بمعنى ألّا تؤثّر إعادة الإعمار على أحياءهم فتغيّرها أكثر ممّا غيّرها التدمير أساساً. فهل يضمن مشروع الرميل، حفظ الحق بالسكن في الكتلة التي يعيد بناءها؟
في شباط 2021، وبعد الحصول على تمويل من حكومة اليابان ومؤسسة Impact Lebanon، أطلقت جمعية Live Love Beirut بالشراكة مع الUN-HABITAT وبالتنسيق مع الجيش اللبناني، مشروع إعادة تأهيل لكتلة سكنية يتضمّن ترميم كامل (خارجي وداخلي) للأبنية، بالإضافة إلى تأهيل البنى التحتية. تضرّرت المباني في هذه الكتلة بشكل كبير بعد تفجير 4 آب، البعض منها إنشائياً، فيما انهار أحد المباني بالكامل. بالنتيجة، اضطرّت حوالي 25 عائلة (102 فرد) من سكّان هذه الكتلة إلى الانتقال من مساكنها.
كان من المفترض أن ينتهي المشروع في شباط 2022 أي بعد سنة من بدء الأعمال إلا أنه جرى تمديده حتى نيسان 2022، بحسب المهندسة المسؤولة عن المشروع من Live Love Beirut، سيرا سعد. واعتماداً على الملاحظة البصرية خلال الزيارة الميدانية، يمكن القول بأن الأعمال قد تطول لأكثر من ذلك.
تتألّف الكتلة السكنية من 11 مبنى ذو طابع تراثي، واقعٍ ضمن 9 عقارات في منطقة الرميل العقارية، 8 مبانٍ منها مُستَملكة أو موضوع اليد عليها من قبل بلدية بيروت لتمرير أوتوستراد فؤاد بطرس.
تقول سعد بأنه، وبعد التفجير مباشرةً، تجنّبت العديد من الجمعيات ترميم هذه المباني بالتحديد بالرغم من الدمار الكبير الذي مسّها، وذلك بسبب كثرة الإشكاليات القانونية المرتبطة باستملاكات الأوتوستراد. وتضيف بأن جمعية Live Love Beirut اختارت العمل على الكتلة السكنية هذه تماشياً مع معايير حدّدتها الجهات الممولة، وهي معايير تفرض أن يكون للمباني طابعاً تراثياً، وأن تكون مأهولة بالسكّان، وبأن تؤلّف كتلة فلا تكون في مواقع متفرّقة.
لكن بعد حديث سريع مع بعض سكان المنطقة، أكّد هؤلاء أن العديد من المباني التي ترمَّم حالياً داخل هذه الكتلة كانت مهجورة، مستغربين قيام المنظمات غير الحكومية بترميم مبانٍ مهجورة أو مبانٍ مستملكة/عليها وضع يد من قبل البلدية. في هذا الإطار، يقول مختار الرميل: “عم يرمّموا المباني بشكل غير منطقي، يعني مباني ما فيها مستأجرين ولا ساكن فيها صاحب الملك، عم يدفعوا عليها مصاري على الفاضي.” ويقول أحد السكان: “ما بعرف ليش عم يرمّموهم ومين المستفيد، بالرغم إنو في مباني كتير بالمنطقة المتضررة ناس ساكنة فيها وبعد ما ترمّمت وما حدن صلحها”. وبحسب المسح التي قامت به الجمعية والمنشور على صفحتها الإلكترونية، تتألّف المباني من مجموع 34 شقة، 12 منها كانت غير مسكونة قبل التفجير. كما نلحظ وجود 4 مباني مهجورة أو غير مسكونة بالكامل.
عند سؤالها عن الموضوع، أجابت سعد بأن الجمعية لا تقوم بترميم المباني المهجورة بالكامل بل تقوم بتدعيمها لأنها تشكّل خطراً على الناس. بينما يستهدف الترميم الكامل المباني المأهولة، بحسب قولها.
تظهر الإشكالية الأساسية للمشروع على مستويات عدّة، أوّلها أن بعض المباني (12 من أصل 34 شقة) ضمن المشروع كانت شاغرة في الأصل.
ثانيها، أنّه لم يتمّ الاتفاق مع السكان على تاريخ العودة، بحيث اقتصر الأمر على إمضاء ورقة وزّعتها الجمعية تعلن فيها أنها ستتكفّل بأعمال الترميم التي قد تنتهي في شباط 2022.
أمّا على المستوى الثالث، فلم يتم تأمين سكن بديل للسكان -أي 25 عائلة- أو أي مساعدات مالية كبدل سكن إلى حين الانتهاء من ترميم المباني من قبل الجمعية أو الجهات المموّلة أو الجهات الرسمية. وبالتالي، لا يزال بعض هؤلاء يسكنون عند أقاربهم، أو خارج بيروت، أو في شقق أخرى يستأجرونها. وقد أخبرتنا إحدى السيدات التي كانت تسكن شقة في الكتلة بأن الشقة التي تسكنها الآن تقع مقابل الكتلة، و”هي شقة مقدَّمة من جارتي” تقول لنا، “كان كتير بدها تصليح، أبواب، شبابيك، دهان، وغيره. سمحت لي إسكن فيها دون مقابل مالي إلى حين انتهاء ترميم شقتي، شرط تصليحها.”
ورابعها، أنه لم يتمّ طرح أي إطار لتحديد أسعار الإيجارات والحد من زيادتها بعد انتهاء إعادة الإعمار، بينما تبلغ أعداد الشقق المستأجرة (مقابل تلك المسكونة من ملّاكها) في الكتلة 11 من أصل 34 يتمّ ترميمها.
ليس واضحاً إذاً، كيف ستحافظ الجمعية والجهات الممولة على حقوق هؤلاء السكان وتؤمّن لهم الضمانات: لم يتمّ عقد أي اتفاق مع المالكين يتعهّدون فيه بعدم رفع بدلات الإيجارات، كما لم يتمّ التطرّق لمصير سكان المباني التي استملكتها البلدية وهي الأكثر في هذه الكتلة، وما سيكون موقف البلدية بعد الترميم.
وقد اكتفت المهندسة سعد بالقول بأنهم سيتأكدون “إنو السكان يللي طلعو رح يرجعوا عبيوتهم، وكنا عم نأكد للمالكين ضرورة إنو ما تنباع المباني بعد الترميم”. وقالت إحدى السيدات التي تنتظر العودة إلى شقتها في أحد المباني “نحن منعرف انو الإخلاءات حالياً ممنوعة بالمنطقة المتضررة، فبس يخلص الترميم رح إرجع عبيتي. بس ما بعرف شو حيصير من بعدها بموضوع رفع الإيجارات وغيره، كل حادث إلو حديث”.
كغيره من مشاريع إعادة التأهيل إذاً، قد لا يضمن المشروع عودة السكان بعد انتهائه، لا سيما المستأجرين منهم، كما قد يحتّم على المالكين رفع قيمة بدلات الإيجار. وهو بالتالي يفتح المجال أمام تنفيذ إخلاءات و/أو استقطاب فئات أخرى من السكان. فبالنسبة للشقق غير الشاغرة، تنتج هذه الممارسة تشجيعاً لطلب إيجارات عالية، ممّا يحوّل شقق الكتلة إلى مساكن عالية السعر. من دون وضع سياسة واضحة للحد من ارتفاع أسعار الإيجارات، يتحوّل المشروع إلى هوّة تُدفع إليها أموال المؤسسات الواهبة، بهدف دعم سكن الأغنياء.
والعلاقة التي تربط بين التهجير والترميم الذي ينظر إلى الناحية التقنية بمعزل عن التأثيرات الاقتصادية للترميم، واضحة، لا من حيث النظرية فقط، بل على المستوى العملي أيضاً. فقد سجّل مرصد السكن في استوديو أشغال عامة 20 حالة تواجه تهديدات بعد تدخلات المنظمات غير الحكومية، 6 منها كان على صعيد المبنى، مما يجعل مجموع العائلات المتضررة 34، غالبيّتها في الكرنتينا (17 عائلة)، يليها برج حمود (12 عائلة). أمّا تهديدات ما بعد الترميم، فقد بلغت 18 حالة من حيث الضغط لزيادة الإيجارات، 8 حالة تعرّضت لضغوط أو طلبات إخلاء، و7 حالات طلب دفع الإيجار بالدولار.
بعد سنة ونصف على التفجير، لا تزال 13 حالة تعيش تحت التهديد، و8 حالات أُجبرت على الإخلاء (2 لبنانيين، 6 لاجئين / مهاجرين)، 11 حالة اضطرت للموافقة على شروط جديدة، وغالباً ما يرتبط التأقلم مع الظروف الجديدة بالضغوط غير القانونية والمضايقات ونقص البدائل. تسلّط هذه الحالات الضوء على نهجٍ مستجدٍ من الإحلال الطبقي الذي تفعّله مبادرات المنظمات غير الحكومية والذي يطيح بخيارات السكن المُيسّر ضمن المناطق المتضرّرة.
أخيراً، ليس من الواضح إن تمّت استشارة السكان لمعرفة احتياجاتهم وأولوياتهم (إن تمّ اعتماد مسار تشاركي) أو أن المشروع تمّ تنفيذه وفقاً لتطلّعات الجمعية و/أو المالكين و/أو البلدية فقط. وقد قالت سعد بأنه من المفترض أن تحصل اجتماعات دورية بين السكان وشركائهم في الUN Habitat، إذ لدى هؤلاء بروتوكول خاص بهذا الخصوص. وقد حاولنا التواصل مع الUNHabitat للاستفسار عن عدة نقاط أبرزها ضمانات العودة والسكن البديل والمسار التشاركي وموضوع الأبنية الشاغرة والمستملكة ولكن لم يتمّ الوصول إلى نتيجة بعد المماطلة وتأجيل اللقاء لأكثر من مرة.
إلّا أن ترميم الشقق الشاغرة ليس بجديد، بحيث تتبع المديرية العامة للآثار مقاربةً مادية للتراث تقوم بالعمل ذاته. واعتماداً على هذه المقاربة، لا توضع الشقق المأهولة في أولوية عمليات الترميم، بل يتمّ اختيار المباني لقيمتها المعمارية الجمالية فقط، خارج أي عملية تشاركية مع السكان والمستخدمين.
حين يتعلّق الأمر بعملية إعادة إعمار، يتناول السؤال الأول الذي نطرحه، السكّان: هل سيؤمّن هذا المشروع حقّهم\ن بالسكن، الآن وفي المستقبل؟ أي هل سيضمن أن يعودوا أوّلاً، وألّا تزيد المبالغ المطلوبة من أصحاب الملك ثانياً، فيصبح الحي المهجور من أهله، في مهب ريح سوق العقارات والسكن العالي الكلفة، والإحلال الطبقي العمراني؟
إن آليات الترميم التي تركّز على الناحية التقنية لا تستطيع وحدها جعل الأحياء حية مجدداً، ولا تستطيع فرض استمرار الاستخدام ذاته للمباني والمحال، ولا تحديد المستخدمين. وهذا ما رأيناه سابقاً في مشروع إعادة إعمار وسط بيروت، وفي أي مشروع تطوير طال حياً من أحياء بيروت. بمعنى أن الترميم الذي لا يرى السكّان، يسهّل تغيير الديموغرافي للحيّ ويسمح به.
في حالة مشروع إعادة إعمار كتلة الرميل، يُظهر غياب الإجابات على التفاصيل من جهة، وغياب خطة واضحة تؤمّن عودة السكان وتضمن بقاء أسعار الإيجار على حالها من جهة أخرى، يُظهر إذاً رؤية الجمعيات المُرمِّمة لمباني الكتلة كإنشاءات، لا كحيّز اجتماعي يشكّل ضمانةً للحق في السكن.