أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها‬ – الجزء الثاني

المصيطبة وطريق الجديدة‬

شكّل‭ ‬مشروع‭ ‬ ‮«‬أن‭ ‬نرسم‭ ‬بيروت‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬مستأجريها‮» ‬‭ ‬مبادرةً‭ ‬لنقاش‭ ‬إمكانيّات‭ ‬السكن‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وفهمها‭ ‬ضمن‭ ‬سياقاتها‭ ‬التاريخيّة‭ ‬والإجتماعيّة. ‭‬في‭ ‬العدد‭ ‬السابق‭ ‬ركّزنا‭ ‬على‭ ‬التغيّرات‭ ‬العمرانية‭ ‬التي‭ ‬تطال‭ ‬حىّ‭ ‬مار‭ ‬مخايل،‭ ‬الروم‭ ‬والبدوي‭ ‬وتداعيات‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سبل‭ ‬عيش‭ ‬السكّان،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يخصّ‭ ‬التهديد‭ ‬المستمر‭ ‬لإخلاءهم‭ ‬تمهيداً‭ ‬لقيام‭ ‬مشاريع‭ ‬عقارية‭ ‬واستثمارات‭ ‬تختزل‭ ‬قيمة‭ ‬الأرض‭ ‬لتصبح‭ ‬مجرّد‭ ‬سلعة‭ ‬لمضاعفة‭ ‬الأرباح‭.‬ من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الدراسات‭ ‬نهدف‭ ‬إلى‭ ‬إبراز‭ ‬القيمة‭ ‬الإجتماعية‭ ‬للأرض‭.‬ ركّزنا‭ ‬في‭ ‬بحثنا‭ ‬على‭ ‬عمليات‭ ‬الإخلاء‭ ‬المحليّة‭ ‬وشبكات‭ ‬القوى،‭ ‬كونها‭ ‬الإطار‭ ‬الناظم‭ ‬لحجب‭ ‬وزعزعة‭ ‬تلك‭ ‬القيمة،‭ ‬والتي‭ ‬تشمل‭ ‬العلاقات‭ ‬التاريخية،‭ ‬الثقافية‭ ‬والإقتصادية‭.

المشروع‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬ورش‭ ‬عملٍ،‭ ‬خضنا‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تجربةً‭ ‬جماعيّةً‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬الميدانيّ‭ ‬والنقاشات‭ ‬التالية‭ ‬له‭.‬ وتعرّفنا‭ ‬مع‭ ‬المشاركين‭ ‬والمشاركات‭ ‬عن‭ ‬كثبٍ‭ ‬إلى‭ ‬ستة‭ ‬أحياءٍ‭ ‬بيروتيّة،‭ ‬لنفهمها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬روايات‭ ‬سكّانها‭ ‬المستأجرين‭ ‬والمالكين‭ ‬القدامى. بحثنا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬تشكّل‭ ‬الحيّ،‭ ‬ملكيّة‭ ‬الأراضي،‭ ‬والمشاريع‭ ‬العقارية‭ ‬المخطّط‭ ‬لها‭ ‬فيه. ‬‬

المصيطبة‬

تعرضت‭ ‬المصيطبة‭ ‬لموجات‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الهدم‭ ‬والإخلاء‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬مختلفة‭.‬ كان‭ ‬أولها‭ ‬يوم‭ ‬قررت‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1972‭ ‬شق‭ ‬طريق‭ ‬سليم‭ ‬سلام‭ ‬وتنفيذ‭ ‬تخطيطات‭ ‬فتح‭ ‬طرقات‭ ‬فدفعت‭ ‬تعويضات‭ ‬للعائلات‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬الحيّ‭ ‬الذي‭ ‬ابتلعته‭ ‬الطريق. ‬وقد‭ ‬قامت‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1982‭ ‬بتوسيع‭ ‬الطريق‭ ‬وفتح‭ ‬نفق‭ ‬أثر‭ ‬بشكل‭ ‬سلبي‭ ‬على‭ ‬الحيّ‭.‬ في‭ ‬إثره،‭ ‬تمّ‭ ‬هدم‭ ‬بيوت‭ ‬كثيرة‭ ‬وفصل‭ ‬منطقة‭ ‬المزرعة‭ ‬عن‭ ‬المصيطبة‭.‬ ومع‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬تم‭ ‬إخلاء‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬المصيطبة‭ ‬مقابل‭ ‬خلوّات،‭ ‬حيث‭ ‬أنّ‭ ‬معظمهم‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المستأجرين‭ ‬القدامى‭.‬ وقد‭ ‬تلقى‭ ‬هؤلاء‭ ‬مبلغاً‭ ‬مرتفعاً‭ ‬مقابل‭ ‬الخلو‭ ‬فكان‭ ‬كافياً‭ ‬لشراء‭ ‬شقة‭ ‬خارج‭ ‬بيروت‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قرض‭ ‬مصرفي‭.‬ ويُحكى‭ ‬أنّ‭ ‬المسلمين‭ ‬إنتقلوا‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬إلى‭ ‬عرمون‭ ‬وشحيم‭ (‬الإقليم‭) ‬والمسيحيين‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬الرمانة‭ ‬والمنصورية‭ ‬وعين‭ ‬سعادة‭.‬‬

تاريخياً،‭ ‬كانت‭ ‬المصيطبة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الأحياء‭ ‬ذات‭ ‬التنوّع‭ ‬السكانيّ‭.‬ كانت‭ ‬العائلات‭ ‬المسيحية‭ ‬تشكل‭ ‬جزءاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬مالكي‭ ‬الأراضي‭ ‬والسكان‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬ وقد‭ ‬بدأوا‭ ‬بتملّك‭ ‬هذه‭ ‬العقارات‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬العشرينيات‭ ‬عندما‭ ‬قامت‭ ‬سلطات‭ ‬الإنتداب‭ ‬الفرنسي‭ ‬بوهب‭ ‬الأراضي‭ ‬إلى‭ ‬العائلات‭ ‬التابعة‭ ‬لطائفة‭ ‬الروم‭ ‬الأرثوذكس‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬المزرعة‭.‬ في‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬العائلات‭ ‬السريانية‭ ‬–‭ ‬وفي‭ ‬عملية‭ ‬شبيهة‭ ‬لوصول‭ ‬آلاف‭ ‬الأرمن‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬المجازر‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬كيليكيا‭ ‬–‭ ‬أتت‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬المجازر‭.‬ وقد‭ ‬سكنوا‭ ‬في‭ ‬المصيطبة‭ ‬حيث‭ ‬قدمت‭ ‬لهم‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية‭ ‬أراضي‭ ‬وأسسوا‭ ‬مدرسة‭ ‬مار‭ ‬سواريوس‭ ‬وكنيسة‭ ‬مار‭ ‬بطرس‭ ‬وبولس1مقابلة مع نور الهدى مانوك، من سكان المصيطبة القدامى.‭ .‬وكانت‭ “‬المصيطبة‭ ‬المسيحية‭” ‬بحسب‭ ‬توصيف‭ ‬الباحث‭ ‬جورج‭ ‬ناصيف‭ ‬تشكل‭ ‬الشق‭ ‬الجنوبي‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭.‬‬

أما‭ ‬القسم‭ ‬الشمالي‭ ‬معروف‭ ‬بمنطقة‭ “‬آل‭ ‬سلام‭”‬،‭ ‬العائلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تملك‭ ‬معظم‭ ‬العقارات‭ ‬والأملاك‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬ تميّزت‭ ‬المنطقة‭ ‬ببيوت‭ ‬تشبه‭ ‬القصور‭ ‬ومُحاطة‭ ‬بالبساتين‭.‬ كانت‭ ‬تلك‭ ‬العائلات‭ ‬متوسّطة‭ ‬الدخل،‭ ‬ويعمل‭ ‬معظم‭ ‬أفرادها‭ ‬في‭ ‬مرفأ‭ ‬بيروت‭ ‬وشركتي‭ ‬الكهرباء‭ ‬والمياه‭.‬‬

في‭ ‬بداية‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬ترك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العائلات‭ ‬قراهم‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬لبنان‭.‬ وتوجهوا‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬حيث‭ ‬عملوا‭ ‬في‭ ‬المرفأ‭ ‬وفي‭ ‬أعمال‭ ‬البناء‭ ‬والطلاء‭ ‬وكعمال‭ ‬في‭ ‬بلدية‭ ‬بيروت‭.‬ اختاروا‭ ‬المصيطبة‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬يشرح‭ ‬بعض‭ ‬سكان‭ ‬الحيّ‭ ‬–‭ ‬لوجود‭ ‬ما‭ ‬يسمّى‭ ‬ببيوت‭ “‬الدار‭” ‬والتي‭ ‬يتكوّن‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضيّ‭ ‬الرمليّ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬غرف‭ ‬متعددة‭.‬ وكان‭ ‬يتم‭ ‬تأجير‭ ‬هذه‭ ‬الغرف‭ ‬إلى‭ ‬عائلات‭ ‬متعددة‭.‬ ويشرح‭ ‬أحدهم‭: “‬تشاركنا‭ ‬نحن‭ ‬وعائلات‭ ‬جنوبية‭ ‬أخرى‭ ‬غرف‭ ‬المنزل‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬المطبخ‭ ‬والحمام‭ ‬فيه‭ ‬مشتركين‭.‬ كانوا‭ ‬يأتون‭ ‬من‭ ‬قراهم‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬ومعهم‭ ‬فرش‭ ‬نومهم‭ ‬الخاصة‭.‬ فتكفيهم‭ ‬مساحة‭ ‬صغيرة‭ ‬للنوم‭ ‬مقابل‭ ‬3‭ ‬ليرات‭ ‬في‭ ‬الشهر‭”.‬ سمّى‭ ‬البعض‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬بأنها‭ “‬إيجار‭ ‬واستئجار.”2مقابلات مع أبو حسين وباران حمدو، من سكان المصيطبة القدامى.‫

ما‭ ‬الذي‭ ‬يهدد‭ ‬سكّان‭ ‬المصيطبة؟‬

تُعدّ‭ ‬المصيطبة‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬الأكثر‭ ‬حيّوية‭ ‬للسكن‭ ‬اذ‭ ‬يقصدها‭ ‬مستأجرون‭ ‬جدد‭ ‬فيما‭ ‬حوالي‭ ‬60‭% ‬من‭ ‬سكانها‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬للمنطقة‭ (‬بحسب‭ ‬عيّنة‭ ‬350‭ ‬مبنى‭ ‬تمّ‭ ‬إحصاؤها‭) .‬لكن‭ ‬تواجه‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬السكان،‭ ‬ومنهم‭ ‬سكاّن‭ ‬الأحياء‭ ‬العتيقة‭ ‬مثل‭ ‬زاروب‭ ‬عبلا‭ ‬وزاروب‭ ‬الصفح‭ ‬وزاروب‭ ‬الباشا‭ ‬وزاروب‭ ‬الفرن‭ ‬خطر‭ ‬الإخلاء‭ ‬والهدم‭.‬ صمدت‭ ‬هذه‭ ‬الأحياء‭ ‬لأسباب‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬خطر‭ ‬الهدم،‭ ‬ولكن‭ ‬سكانها‭ ‬المستأجرون‭ ‬القدامى‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬ضغوطات‭ ‬وتهديدات‭ ‬متعدّدة؛‭ ‬منها‭ ‬شراء‭ ‬العقارات،‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬أبنية‭ ‬ذي‭ ‬قيمة‭ ‬تاريخية‭ ‬وتراثية،‭ ‬ضبابية‭ ‬السلطات‭ ‬المعنية،‭ ‬كوزارة‭ ‬الثقافة،‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الأبنية‭ ‬التراثية،‭ ‬النفوذ‭ ‬السياسي‭ ‬والمالي‭ ‬للمالكين‭ ‬المحليين،‭ ‬الوضع‭ ‬القانوني‭ ‬لورثة‭ ‬الملك،‭ ‬واستراتيجيات‭ ‬الإخلاء‭.‬ وجدنا‭ ‬في‭ ‬المصيطبة‭ ‬37‭ ‬مبنى‭ ‬تم‭ ‬إخلاؤه‭ ‬أو‭ ‬مهدد‭ ‬بالإخلاء.‭ ‬18‭ ‬منها‭ ‬أصبحوا‭ ‬مباني‭ ‬مهجورة‭ ‬يخطط‭ ‬لهدمها‭ ‬ومنها‭ ‬المصنّف‭ ‬تراثياً،‭ ‬فيما‭ ‬الباقي‭ ‬أبنية‭ ‬مأهولة‭ ‬يتخللها‭ ‬شقق‭ ‬خالية،‭ ‬لكلّ‭ ‬منها‭ ‬قصتها‭ ‬مع‭ ‬التهديد‭ ‬في‭ ‬الإخلاء‭ ‬‭.‬

بيروت يا بيروت: سليم سلام يمزّق حيّ المصيطبة

أخرج‭ ‬مارون‭ ‬بغدادي‭‪)‬ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬عام‭ 1950 ‬وتوفي‭ ‬عام 1993) فيلمه‭ ‬الروائي‭ ‬الطويل‭ ‬الأول‭ ‬“بيروت‭ ‬يا‭ ‬بيروت”‭ ‬عام ‭‬1975. ‬قيل‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬نبوءة‭ ‬بالحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬اللبنانية‭.‬ فالفيلم‭ ‬تعامل‭ ‬مع‭ ‬ديناميكية‭ ‬المدينة‭ ‬كموضوع‭ ‬أساسي‭ ‬وروى‭ ‬قصصا‭ ‬متوازية‭ ‬لتغيّرات‭ ‬تحصل‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بيروت‭ ‬تعكس‭ ‬جو‭ ‬الخطر‭ ‬القادم. ‬ابتعد‭ ‬الفيلم‭ ‬عن‭ ‬القوالب‭ ‬الجاهزة‭ ‬حينها‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬اللبنانية‭ ‬والمصرية،‭ ‬ليطرح‭ ‬نوعا‭ ‬مختلفا‭ ‬من‭ ‬السينما‭ ‬التي‭ ‬تتفاعل‭ ‬مع‭ ‬السياسة‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المدينة‭.‬

يروي‭ ‬الفيلم‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات،‭ ‬منهم ‪)‬إميل‭‪(‬‬ الشاب‭ ‬الذي‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬الكون‭ ‬يبدأ،‭ ‬وينتهي‭ ‬عنده،‭ ‬وكمال‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬تحت‭ ‬أسر‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬بيروت‭ ‬مقسمة‭ ‬إلى‭ ‬شطرين،‭ ‬بسبب‭ ‬الرأسمالية‭ ‬البغيضة،‭ ‬و‪)‬صفوان‭‪(‬‬ صديقهما‭ ‬الثالث‭ ‬الواقعي‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬تغيير‭ ‬رؤية‭ ‬صديقيه‭ ‬للواقع‮»‬‭.‬

ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬الروائي،‭ ‬يصوغ‭ ‬الفيلم‭ ‬قصة‭ ‬إخلاء‭ ‬مبنى،‭ ‬تمهيداً‭ ‬ لهدمه‭ ‬بغية‭ ‬تشييد‭ ‬طريق‭ ‬سليم‭ ‬سلام‭ – ‬الذي‭ ‬شطر‭ ‬حيّ‭ ‬المصيطبة‭ ‬إلى‭ ‬ قسمين‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الستينات‭.‬ ينقل‭ ‬الفيلم‭ ‬نقاشات‭ ‬المستأجرين‭ ‬لمجابهة‭ ‬خطر‭ ‬الإخلاء‭ ‬بحميمية‭ ‬وبتشابه‭ ‬معبّر‭ ‬لعمليات‭ ‬إخلاء‭ ‬راهنة‭ ‬يتعرّض‭ ‬لها‭ ‬المستأجرون‭ ‬القدامى‭ ‬وأدوات‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬المالكين‭ ‬القدامى‭ ‬لبيع‭ ‬عقاراتهم‭ ‬لشركات‭ ‬عقارية‭.‬

يفتح‭ ‬الفيلم‭ ‬أيضاً‭ ‬نقاشاً‭ ‬عن‭ ‬مهنة‭ ‬المحاماة‭ ‬والصحافة‭ ‬والمسؤولية‭ ‬الإجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تترتب‭ ‬على‭ ‬ممارسي‭ ‬هذه‭ ‬المهن‭.‬ يلاحق‭ ‬بطل‭ ‬الفيلم‭ ‬عزّت‭ ‬العلايلي‭ ‬قضية‭ ‬إخلاء‭ ‬المبنى،‭ ‬كونه‭ ‬محاميا،‭ ‬فيقابل‭ ‬صديقه‭ ‬المحامي‭ ‬الموكّل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشركة‭ ‬العقارية‭ ‬الأميركية‭ ‬التي‭ ‬ستشتري‭ ‬المبنى‭ ‬لإخلاءه‭ ‬تسهيلاً‭ ‬لهدمه‭.‬ يقول‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬له‭:‬ “ما‭ ‬بتشوف‭ ‬إنو‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬هدم‭ ‬المبنى‭ ‬وتشييد‭ ‬بناية‭ ‬عصرية‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬المواصفات‭ ‬الحضارية‭ ‬بيرفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬المنطقة؟‭ ‬كمال‭ ‬هيك‭ ‬بدنا‭ ‬نضل‭ ‬نحلم‭ ‬ونبرر‭ ‬رومنسيتنا‭ ‬بالفقر‭ ‬والتعتير‬‭؟‬” ما‭ ‬يدفع‭ ‬العلايلي‭ ‬إلى‭ ‬مغادرة‭ ‬الإجتماع‭.‬

يصوّر‭ ‬الفيلم‭ ‬بإنسانية‭ ‬سياسية‭ ‬حالة‭ ‬العجز‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬المستأجرون‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬نضالهم‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬بيوتهم‭. ‬يصوّر‭ ‬وجوه‭ ‬الشيوخ‭ ‬الصبورة‭ ‬والقلقة‭ ‬واندفاع‭ ‬الشباب‭ ‬لمواجهة‭ ‬قوى‭ ‬الإخلاء‭ ‬وامتلاك‭ ‬أدوات‭ ‬يصنعون‭ ‬بها‭ ‬مستقبلهم‭ ‬بأنفسهم. “بلغونا‭ ‬بإنذارات‭ ‬الطرد‭! ‬هيدي‭ ‬قضية‭ ‬ما‭ ‬فينا‭ ‬نسكت‭ ‬عنها،‭ ‬اذا‭ ‬بلشوا‭ ‬بهالطريقة،‭ ‬وسكتنا،‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬شي‭ ‬بردهم‭ ‬‮”.

تشتبك‭ ‬قصة‭ ‬الإخلاء‭ ‬مع‭ ‬قصة‭ ‬فساد‭ ‬الطبقة‭ ‬السياسية‭ ‬فيتبيّن‭ ‬أن‭ ‬مدير‭ ‬مجلس‭ ‬إدارة‭ ‬الشركة‭ ‬الأميركية‭ ‬يعمل‭ ‬لصالح‭ ‬مسؤولين‭ ‬سياسيين‭ ‬هدفهم‭ ‬شراء‭ ‬المبنى‭.‬ يعرّي‭ ‬الفيلم‭ ‬سياسة‭ ‬التشجيع‭ ‬على‭ ‬الإستثمار‭ ‬العقاري‭ ‬تحت‭ ‬راية‭ ‬‮ «الحضارة»‬‭ ‬و«التطوّر» ‬‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬التداعيات‭ ‬الإجتماعية‭ ‬وتمزيق‭ ‬الأحياء‭ ‬التي‭ ‬يسببها‭ ‬الإخلاء‭.‬


على‭ ‬عكس‭ ‬أحياء‭ ‬البدوي‭ ‬والروم‭/‬مار‭ ‬مخايل ‪)‬العدد‭ ‬السابق‭‪(‬
حيث‭ ‬وجدنا‭ ‬أنّ‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬الإخلاء‭ ‬والهدم‭ ‬هي‭ ‬جراء‭ ‬تغيّر‭ ‬في‭ ‬الملكية‭ ‬لصالح‭ ‬شركات‭ ‬عقارية‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالحيّ،‭ ‬وجدنا‭ ‬في‭ ‬أحياء‭ ‬طريق‭ ‬الجديدة‭ ‬والمصيطبة‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬مالكي‭ ‬الأراضي‭ ‬القدامى‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يقومون‭ ‬بعمليات‭ ‬استثمار‭ ‬الأراضي،‭ ‬إمّا‭ ‬بمفردهم‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬تزاوج‭ ‬مع‭ ‬مطوّرين‭ ‬عقاريين. ‬


طريق الجديدة

تعيش‭ ‬جمانة‭ ‬وعائلتها‭ ‬المؤلفة‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬أشخاص‭ ‬معاناة‭ ‬منذ‭ ‬إنتقالهم‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬ولدوا‭ ‬وترعرعوا‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الطريق‭ ‬الجديدة‭ )‬ساحة‭ ‬أبو‭ ‬شاكر)‬،‭ ‬للسكن‭ ‬في‭ ‬برجا‭ ‬الواقعة‭ ‬خارج‭ ‬بيروت‭.‬‭‬ أُجبرت‭ ‬العائلة‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬بيتها‭ “‬التاريخي‭” ‬والإنتقال‭ ‬إلى‭ “‬منطقة‭ ‬لا‭ ‬يربطها‭ ‬بها‭ ‬سوى‭ ‬البيت‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬فيه‭”‬،‭ ‬بعد‭ ‬بيع‭ ‬المبنى‭ ‬القديم‭ ‬لشركة‭ ‬عقاريّة‭ ‬قرّرت‭ ‬هدمه‭ ‬واستبداله‭ ‬بمبنى‭ ‬جديد‭.‬ كان‭ ‬التعويض‭ ‬الذي‭ ‬دفعته‭ ‬الشركة‭ ‬لهم‭ ‬بسيطًا‭ ‬جدًّا،‭ ‬ولا‭ ‬يسمح‭ ‬باستئجار‭ ‬أو‭ ‬شراء‭ ‬منزل‭ ‬ضمن‭ ‬بيروت‭.‬ كانت‭ ‬العائلة‭ ‬قد‭ ‬اشترت‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬برجا‭ ‬قبل‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّها‭ ‬عرضته‭ ‬للبيع‭ ‬مرّات‭ ‬عدّة‭ ‬بسبب‭ ‬تردّدها‭ ‬العيش‭ ‬فيه‭.‬ وبعدما‭ ‬إضطرت‭ ‬إلى‭ ‬مغادرة‭ ‬بيروت،‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬قرض‭ ‬من‭ ‬المصرف‭ ‬لتجهيز‭ ‬البيت،‭ ‬وجعله‭ ‬صالحًا‭ ‬للسكن‭.‬ إبتعاد‭ ‬أفراد‭ ‬عائلة‭ ‬جمانة‭ ‬عن‭ ‬المحيط‭ ‬الذي‭ ‬كبروا‭ ‬فيه،‭ ‬والعادات‭ ‬التي‭ ‬ترّبوا‭ ‬عليها،‭ ‬والجيران‭ ‬والأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬بينهم،‭ ‬ولّد‭ “‬شعورًا‭ ‬بالغربة‭ …‬غربة‭ ‬لم‭ ‬نستطع‭ ‬التأقلم‭ ‬معها‭”. ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المسافة‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬عليهم‭ ‬اجتيازها‭ ‬يوميًّا‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬عملهم‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وتحمّل‭ ‬زحمة‭ ‬السير‭ ‬وكلفة‭ ‬المواصلات‭. ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬برجا،‭ ‬قرّرت‭ ‬جمانة‭ ‬ترك‭ ‬منزل‭ ‬العائلة‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭.‬ واستأجرت‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬شقّة‭ ‬تتشاركها‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭.‬ كان‭ ‬قرار‭ ‬مشاركة‭ ‬السكن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليها‭ ‬صعبًا‭ ‬في‭ ‬البداية‭.‬

لكنّه‭ ‬كان‭ ‬الأسهل‭ ‬والأوفر،‭ ‬كون‭ ‬بدلات‭ ‬الإيجار‭ ‬باهظة‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬سابع‭ ‬المستحيلات‭.‬ إنّ‭ ‬جوّ‭ ‬التوتر‭ ‬والإرباك‭ ‬هذا‭ ‬طال‭ ‬عائلة‭ ‬جمانة‭ ‬كلّها،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬والدتها‭. ‬فتدهورت‭ ‬صحّتها،‭ ‬وأُدخلت‭ ‬المستشفى‭ ‬مرّات‭ ‬عدّيدة‭.‬ تقول‭ ‬جمانة‭ “‬الجيران‭ ‬كلّهم‭ ‬للأسف‭ ‬يتعرّضون‭ ‬للضغوط‭ ‬والمعاناة‭ ‬نفسها،‭ ‬واضطروا‭ ‬إلى‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الجيّة‭ ‬وجدرا‭ ‬وسبلين‭.”‬

تُعرف‭ ‬تاريخياً‭ ‬منطقة‭ ‬طريق‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬المنطقة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬ثانوية‭ ‬المقاصد‭ ‬في‭ ‬الحرج‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الشمال‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬شارع‭ ‬صبرا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الجنوب‭.‬ بدأت‭ ‬عمليات‭ ‬البناء‭ ‬والسكن‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬تحديداً‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتداب‭ ‬الفرنسي‭.‬ فقامت‭ ‬سلطات‭ ‬الإنتداب‭ ‬بوهب‭ ‬أراضٍ‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الجديدة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬السكان‭ ‬الروم‭ ‬الأرثوذكس‭ ‬القاطنين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬المزرعة‭ ‬شمال‭ ‬طريق‭ ‬الجديدة ‭‪.3Mohamed Hafeda, Bordering Practices: Negotiating and Narrating Political Sectarian Conflict in Contemporary Beirut, PhD UCL, 2014‬‬ خلال‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة،‭ ‬قام‭ ‬المالكون‭ ‬الجدد‭ ‬بفرز‭ ‬العقارات‭ ‬الكبيرة‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬متر‭ ‬مربع‭ ‬إلى‭ ‬عقارات‭ ‬صالحة‭ ‬للبناء‭ ‬بمساحة‭ ‬1000‭ ‬أو‭ ‬700‭ ‬أو‭ ‬500‭ ‬متر‭ ‬مربع‭.‬ وقامت‭ ‬العائلات‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬أو‭ ‬البسطة‭ ‬بغاية‭ ‬تحسين‭ ‬وضعهم‭ ‬السكني‭ ‬بشراء‭ ‬قطع‭ ‬الأرض‭ ‬المفرزة‭ ‬والبناء‭ ‬عليها‭ .‪4مقابلة مع مروان غندور، من سكان طريق الجديدة وأستاذ في قسم العمارة في جامعة أيوا

مع‭ ‬توسع‭ ‬العاصمة‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬أصبحت‭ ‬المنطقة‭ ‬مأهولة‭ ‬بالسكان‭ ‬وقدم‭ ‬اليها‭ ‬أيضاً‭ ‬عائلات‭ ‬لبنانية‭ ‬من‭ ‬إقليم‭ ‬الخروب‭ ‬باحثين‭ ‬عن‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬والدراسة. ‬سنة‭ ،1948 ‬نزح‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬عائلات‭ ‬الساحل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬(حيفا،‭ ‬عكا،‭ ‬يافا)‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬الجديدة‭ ‬لوفرة‭ ‬المساكن‭ ‬فيها. ‬سنة ‬1960، ‬مع‭ ‬تأسيس‭ ‬جامعة‭ ‬بيروت‭ ‬العربية،‭ ‬استقطب‭ ‬الحيّ‭ ‬طلابا‭ ‬لبنانيين‭ ‬وعربا‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬تنوع‭ ‬السكان‭ ‬وإنشاء‭ ‬المقاهي. أما‭ ‬بين‭ ‬أعوام‭ ‬1969‭ ‬و1982،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬تأثير‭ ‬المنظمات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬قويا‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬قاعدة‭ ‬شعبية‭ ‬واسعة‭ ‬موالية‭ ‬للحركات‭ ‬الناصرية.5Abir Saksouk, Expanding the network of municipal public libraries in Beirut, Neighborhood study: Tariq Jadidah. Assabil Association, 2006

وكانت‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية هي‭ ‬التي‭ ‬تؤمّن‭ ‬خدمات‭ ‬كالمياه‭ ‬والكهرباء في‭ ‬الحي‭.‬ وبعد‭ ‬إنسحابها‭ ‬عام‭1982 ‬، عانى‭ ‬الحي‭ ‬من‭ ‬نقص‭ ‬حادّ‭ ‬في‭ ‬الخدمات. حتى‭ ‬بعد‭ ‬إنتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬كان‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬اللبنانية‭ ‬شبه‭ ‬غائب،‭ ‬مما‭ ‬أفسح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬الجمعيات،‭ ‬خاصة‭ ‬الإسلامية‭ ‬منها،‭ ‬بأن‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬المساعدات‭ ‬والخدمات‭ ‬للعائلات‭ ‬المحتاجة‭.‬

‬وقد‭ ‬ساهم‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬شبكات‭ ‬وروابط‭ ‬إجتماعية‭ ‬جعلت‭ ‬شعور‭ ‬الإنتماء‭ ‬إلى‭ ‬المنطقة‭ ‬قوياً‭ ‬جداً‭.‬

التطوير‭ ‬العقاري‭ ‬يهدد‭ ‬التنوّع‭ ‬والإنتماء‭ ‬الى‭ ‬طريق‭ ‬الجديدة

خلال‭ ‬عملنا‭ ‬الميداني‭ ‬في‭ ‬آب‭ ‬2015‭ ‬ضمن‭ ‬طريق‭ ‬جديدة‭ (‬انظروا‭ ‬إلى‭ ‬الخريطة‭) ‬قمنا‭ ‬بإحصاء‭ ‬381‭ ‬مبنى،‭ ‬رصدنا‭ ‬فيها‭ ‬175‭ ‬عائلة‭ ‬تمّ‭ ‬إخلاؤها‭ ‬مؤخراً‭ ‬أو‭ ‬مهددة‭ ‬بالإخلاء،‭ ‬و27‭ ‬مبنى‭ ‬تمّ‭ ‬هدمها‭ ‬مؤخراً‭ ‬أو‭ ‬مُهددة‭ ‬بالهدم،‭ ‬و88‭ ‬مبنى‭ ‬تمّ‭ ‬تشييدها‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬العشرين‭ ‬الماضية‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬بيوت‭ ‬سابقة‭.‬ والإنتقال‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬سكنه‭ ‬الفرد،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬يضطر‭ ‬للإنتقال‭ ‬في‭ ‬شيخوخته،‭ ‬يشكل‭ ‬تعنيفاً‭ ‬نفسياً‭ ‬وعاطفياً،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الخلل‭ ‬المادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬بفعل‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬والعلاقات‭ ‬الإجتماعية‭.‬ والأكثر‭ ‬عُرضة‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التعنيف‭ ‬هم‭ ‬الفئات‭ ‬الهشة،‭ ‬ذوو‭ ‬الدخل‭ ‬المحدود‭ ‬والمُسنّون‭ ‬والأشخاص‭ ‬المُعوّقون‭.‬

فيصبح‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الحي،‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬الوسيلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬لمواجهة‭ ‬هذه‭ ‬الآليات‭ ‬التهجيرية،‭ ‬كما‭ ‬تبرهن‭ ‬قصة‭ ‬جمانة‭.‬ والذي‭ ‬قد‭ ‬يساعد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هي‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المترابطة‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬تميّزت‭ ‬بها‭ ‬طريق‭ ‬الجديدة،‭ ‬حيث‭ ‬يسكن‭ ‬اليوم‭ ‬حوالي‭ ‬ربع‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭.‬ فهي‭ ‬تضمّ‭ ‬أكبر‭ ‬تجّمع‭ ‬للمؤسسات‭ ‬الإجتماعية‭ ‬والتعليمية‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وتنتشر‭ ‬فيها‭ ‬المعالم‭ ‬الثقافية‭ ‬كالمقاهي،‭ ‬الأبنية‭ ‬التاريخية،‭ ‬والملعب‭ ‬البلدي‭.‬ كما‭ ‬تشتهر‭ ‬بأسواقها،‭ ‬فنجد‭ ‬فيها‭ ‬سوق‭ ‬القماش‭ ‬وسوق‭ ‬عفيف‭ ‬الطبية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬صبرا‭ ‬وهو‭ ‬أكبر‭ ‬سوق‭ ‬شعبي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭.‬

لكن‭ ‬عمليات‭ ‬الإخلاء‭ ‬والتغييرات‭ ‬العمرانية‭ ‬التي‭ ‬نشهدها‭ ‬تؤثر‭ ‬سلباً‭ ‬على‭ ‬الترابط‭ ‬الإجتماعي‭ ‬والتنوّع‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬الحيّ‭.‬ من‭ ‬أهم‭ ‬مسببات‭ ‬هذه‭ ‬التغييرات‭ ‬العنيفة‭ ‬فقدان‭ ‬الضوابط‭ ‬على‭ ‬السوق‭ ‬العقاري‭ ‬وعلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬العقارات،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬تداعيات‭ ‬مباشرة‭ ‬لغياب‭ ‬سياسات‭ ‬سكنية‭ ‬شاملة‭ ‬والتي‭ ‬تؤثر‭ ‬بشكل‭ ‬أعنف‭ ‬على‭ ‬الأحياء‭ ‬القديمة‭ ‬والأكثر‭ ‬فقراً‭. ‬

تشكّل‭ ‬التغيرات‭ ‬الجذرية‭ ‬التي‭ ‬تُرسم‭ ‬لحيّ‭ ‬العرب‭ ‬مثالاً‭ ‬مثيراً‭ ‬للإنتباه‭ ‬لتداعيات‭ ‬غياب‭ ‬التنظيم‭ ‬المدني‭ ‬والسياسات‭ ‬العقارية‭ ‬والسكنية‭.‬ كانت‭ ‬المنطقة‭ ‬أشبه‭ ‬بقرية‭ ‬بيوتها‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬طبقتين‭ ‬وتكسوها‭ ‬مساحات‭ ‬خضراء‭.‬ وقبل‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬الدولة‭ ‬اللبنانية‭ ‬بشق‭ ‬طريق‭ ‬بين‭ ‬حرش‭ ‬الصنوبر‭ ‬وحي‭ ‬العرب،‭ ‬كانت‭ ‬علاقة‭ ‬الحيّ‭ ‬قوية‭ ‬جداً‭ ‬بارتباطها‭ ‬مع‭ ‬الحرش‭.‬ إلاّ‭ ‬أنه‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬ارتفعت‭ ‬أسعار‭ ‬العقارات‭ ‬في‭ ‬الحيّ‭ ‬ليصبح‭ ‬الأغلى‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الجديدة‭ ‬حيث‭ ‬يصل‭ ‬سعر‭ ‬المتر‭ ‬إلى‭ ‬2400‭ ‬دولاراً‭ ‬لكونه‭ ‬الأقرب‭ ‬من‭ ‬حرش‭ ‬بيروت‭ ‬ويطل‭ ‬عليه‭.‬ يتشكّل‭ ‬حيّ‭ ‬العرب‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬‮٥٦‬‭ ‬مبنى،‭ ‬معظم‭ ‬سكانه‭ ‬من‭ ‬المالكين‭ ‬القدامى،‭ ‬وحوالي‭ ‬‮١٥‬٪‭ ‬من‭ ‬سكانه‭ ‬هم‭ ‬مستأجرون‭ ‬قدامى‭.‬ تجري‭ ‬الإتفاقات‭ ‬حالياً‭ ‬بين‭ ‬مالكي‭ ‬الأرض،‭ ‬مطوّرين‭ ‬عقاريين‭ ‬وتجار‭ ‬بناء‭ ‬محليين‭ ‬لبناء‭ ‬مشروع‭ ‬استثماري‭ ‬يزيد‭ ‬فرص‭ ‬الربح‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬ترتفع‭ ‬قيمتها‭ ‬العقارية‭.‬ الجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أنّ‭ ‬معظم‭ ‬سكان‭ ‬حيّ‭ ‬العرب‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬عائلات‭ ‬آل‭ ‬العرب،‭ ‬وأنّ‭ ‬مهندسي‭ ‬آل‭ ‬العرب‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يرسمون‭ ‬مستقبل‭ ‬هذا‭ ‬الحيّ،‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬حكماً‭ ‬تشريد‭ ‬العائلات‭ ‬الأكثر‭ ‬فقراً‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬مستأجرة‭ ‬أو‭ ‬مالكة،‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الإستثمار‭ ‬العقاري‭ ‬‭ ‪.‬

المراجع

  • 1
    مقابلة مع نور الهدى مانوك، من سكان المصيطبة القدامى.
  • 2
    مقابلات مع أبو حسين وباران حمدو، من سكان المصيطبة القدامى.‫
  • 3
    Mohamed Hafeda, Bordering Practices: Negotiating and Narrating Political Sectarian Conflict in Contemporary Beirut, PhD UCL, 2014
  • 4
    مقابلة مع مروان غندور، من سكان طريق الجديدة وأستاذ في قسم العمارة في جامعة أيوا
  • 5
    Abir Saksouk, Expanding the network of municipal public libraries in Beirut, Neighborhood study: Tariq Jadidah. Assabil Association, 2006
السكن قطاع البناء قضاء بيروت لبنان