في منطقة بئر حسن، يقع مبنى تسكنه حالياً حوالي 17 عائلة كانت انتقلت إليه منذ منتصف الثمانينات. معظم هذه العائلات مُهجّرةٌ ومُقتلعةٌ من الجنوب، ومن ضواحي بيروت الشرقية (النبعة، الدكوانة، المكلس، تل الزعتر)، نتيجة المجازر خلال الحرب اللبنانية. اليوم، وجد سكان المبنى أنفسهم مهدّدين بالإخلاء القسري بتعويضات بخسة من قبل مستثمرَين اشتريا العقار خلال العشر سنوات السابقة، بحجّة أنّ السكان “غير شرعيين”. فما معنى أن يُمارس الإخلاء التعسفي على الذين وصلوا إلى السكن بشكل غير رسمي، في حين يشدّد القانون الدولي على مسؤولية الدول في حماية هؤلاء السكّان من الإخلاء وتوفير أمن الحيازة لهم؟
بئر حسن والحيازة غير الرسمية
تُعد منطقة بئر حسن تاريخياً مع محيطها، كأحياء الزهراء والجناح والأوزاعي، ملجأً للنازحين جراء المجازر والمعارك والمواجهات العسكرية التي شهدتها بيروت ومناطق لبنان المختلفة بين عامي 1975 و1990. وبنى هؤلاء منازل لهم على الأراضي الخاصّة والعامّة (مثال حيّ الزهراء)، أو استقرّوا بطريقة غير رسمية داخل الشاليهات على البحر (الجناح) أو في المباني الفارغة في بئر حسن، ومن ضمنهم سكّان هذا المبنى الذين انتقلوا إليه كونه كان مهجوراً. والملفت في هذا المبنى أنه شُيّد في بداية السبعينيات ضمن مشروع ضم وفرز قسّم المنطقة إلى عقارات جاهزة للبناء، كجزء من تصوّر حداثي استثماري لضواحي بيروت الجنوبية، لكن بعض عقارات المشروع بقيت غير مبنية، وسُكِنَت المبنيّة منها من قبل النازحين فقط.
بقي الوضع على هذا النحو حتى نهاية الحرب وبداية حقبة جديدة من الإعمار في بيروت وأطرافها. بالتالي “عادت” القيمة الاستثمارية لمشروع الضم والفرز، وهو ما جذب سكاناً جدد من طبقات اجتماعية غنية نسبياً، كان معظمهم من مغتربي أفريقيا والولايات المتحدة. أمّا عمليات إعادة الإعمار في بيروت، فترافقت مع قرارٍ سياسيٍ بإخلاء العاصمة من مهجّري الحرب القاطنين فيها بطريقة غير رسمية. اتّخذ هذا القرار تدريجيًا منحًى معقّدًا ومثيرًا للنزاع، إذ خُصّصت تعويضات ضئيلة للمهجرين القاطنين في بيروت للعودة إلى قراهم. لكن هذه العائلات، التي كان مرّ على سكنها في العاصمة أكثر من 20 عاماً، اعتبرت بيروت خلالها بمثابة مكان استقرارها وسبيلاً لمعيشتها، وشكّل إنخفاض قيمة التعويضات لها عائقاً أمام إيجاد بديل في العاصمة أو ضواحيها. إضافةً إلى ذلك، لم تصنّف وزارة المهجّرين سوى مهجّري الحرب اللبنانية الذين قدّموا طلبات خلال التسعينيات للوزارة في مهلة محدّدة، كمهجّرين، وهي تعتبر أن جميع هؤلاء قد تمّ إخلاؤهم وحصلوا على التعويضات اللازمة. غير أن الواقع يُظهر أن ملف المهجّرين لم يتمّ اختتامه فعلياً، والديناميكيات الفاعلة في هذا المبنى خير دليل على وجود بعض الحالات التي لم يتمّ معالجتها حتى اليوم. نتيجةً لذلك، غادر بعض المهجّرين أماكن سكنهم في العاصمة إلى أحياء ومناطق أخرى، فيما لم يتمكّن البعض الآخر من إيجاد بديل مناسب ولم يغادر مسكنه. وهو ما يحصل حتى اليوم في أحياء عديدة من بيروت، هي جيب بقي فيها من لم يستطع إيجاد مسكن بديل، أو من تمتّع بحماية سياسية من حزب أو آخر، حتى حين. وبالتالي بقوا حتى اليوم، أي بعد أكثر من ثلاث عقود على نهاية الحرب، أشخاصاً موصومين بـ “غياب الشرعية”، مُهملين، ومتروكين لأهواء كبار السياسيين وضغوطات السوق العقارية ومصالح تجّار البناء والمقاولين والمستثمرين، كما يجري اليوم في بئر حسن وغيرها من أحياء بيروت.
الأحياء غير الرسمية
تصل نسبة سكان الأحياء غير الرسمية إلى 61.1% من النسبة الإجمالية لسكان المدن في لبنان1موئل الأمم المتحدة 2018، قاعدة بيانات الأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة. وهي الأحياء التي أنتجتها – بجهد جماعي منها ودون دعم الدولة أو مساعدتها – الفئات الأقلّ دخلاً والأكثر هشاشةً، لأنّها لم تجد غيرها حلاً للوصول إلى السكن في المدينة، كتلك الواقعة في بئر حسن ومحيطها.
اليوم، هناك تعتيمٌ رسمي على المناطق غير الرسمية وحجمها وأعداد الساكنين فيها، في مقاربة تعتبر الفقر عاراً وتحاول إخفاء هذه المناطق لاعتبارها وصمةً على القطاع العقاري “المزدهر” في لبنان، يجدر نفي وجودها. من ناحية أخرى، تتلاعب الأحزاب الطائفية بسكان هذه الأحياء لتكريس الولاءات، بحيث تصبح عملية الحصول على الخدمات أو زيادة البناء فيها رهن العلاقات الزبائنية، لا سيّما عند اقتراب الدورات الانتخابية. كل ذلك يجري في حين ينبغي على الدولة اللبنانية التعرّف على المناطق غير الرسمية وتحسينها، وحماية سكانها، تماشياً مع الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاجتماعية التي وضعتها لعام 2011 (وزارة الشؤون الاجتماعية)، ومع دور الدولة الطبيعي في حماية الأكثر هشاشة واستضعافاً.
المراجع
- 1موئل الأمم المتحدة 2018، قاعدة بيانات الأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة
النائب أنيس نصّار يكرر إقتراح قانون إعفاءات للمُهجّرين: حلٌّ نحو العودة أو هـُروب من الحلّ؟
اقتراح قانون إعفاء المهجّرين من رسم الإنشاءات
أحيل إلى لجان المال والموازنة، الادارة والعدل وشؤون المهجرين إلا أنه لم يدرس فيها لغاية الآن.