الأحياء غير الرسمية: من هنا تبدأ المدينة العادلة

الجزء الثاني: مقاربات الدول في لبنان والعالم

بحث وكتابة: تالا علاء الدين

قدّمنا في الجزء الأول من هذا المقال لمحة عن نشأة المناطق والأحياء غير الرسمية في لبنان ودول الجنوب العالمي، وتطرّقنا للنقاشات القائمة حولها. في هذا الجزء، نستعرض مقاربات الدولة اللبنانية لها منذ الاستقلال حتى يومنا هذا، ونقدّم بإيجاز بعض المقاربات التي اعتُمدت في دول عالم الجنوب تجاهها، ونماذج عالمية ملهمة للتعامل معها. ونختتم ببعض التوصيات التي تخدم صياغة سياسة تدخّل مركزية ومعالجة وطنية وشاملة للمناطق والأحياء غير الرسمية.

الإزالة كأداة الدولة السياسية القمعية

تاريخياً، لطالما شكّلت الإزالة أبرز الاستراتيجيات السائدة للتعامل مع المناطق غير الرسمية في لبنان، وغالباً ما كانت مدفوعة بأجندات سياسية وطائفية تطغى على الاعتبارات المرتبطة بمصلحة السكان والتخطيط الحضري، فاستُخدمت بشكلٍ متكرّرٍ كأداة سياسية لقمع الخصوم والمجموعات المهمّشة، تحديداً في مرحلة ما قبل الحرب اللبنانية وخلالها. اتضّح هذا جلياً في أولى المحاولات الموثّقة، حيث جرت عام 1958 محاولة إزالة السكان من منطقة الأوزاعي الواقعة في ضواحي بيروت الجنوبية، بالتزامن مع الصراع الذي كان قائماً آنذاك بين الحركات الناصرية القومية العربية، والجيش ومناصري الرئيس كميل شمعون، ولكن العملية لم تنجح1 Ruppert, H (1999). Beyrouth, une ville d’Orient marquée par l’Occident. Les cahiers du Cermoc n 21, Beirut.. وتكرّرت هذه الاستراتيجية في مراحل لاحقة من الصراع السياسي، ووثّقتها وسائل الإعلام. ففي أرشيف أحد التلفزيونات البريطانية، نجد تقريراً إخبارياً من العام 1976 يعرض مقابلة مع داني ابن الرئيس شمعون، وأحد قادة الميليشيات آنذاك2لمشاهدة التقرير الإخباري: https://www.youtube.com/watch?v=0NWwuEIsiZk&t=160s. أُجريت هذه المقابلة معه بعد مجزرة ارتُكبت، بقيادته، في مخيّم الكرنتينا في بيروت، تلتها عملية جرف المخيّم بالـ”بلدوزر”. وظهر شمعون أمام الكاميرا بكل فخرٍ، بينما كانت المساحة المجروفة تظهر خلفه. أخبر المراسل عن العملية بتعبيرات مقللّة من وحشية الفعل، فوصفها بـ”العملية العسكرية السريعة لاستعادة الأملاك الخاصة”، بهدف “استخدامها للتطوير العقاري”3قال شمعون حرفيّاً أن الأمر “لم يكن قاسياً… مُنح السكان إمكانية الوصول إلى المواصلات للخروج…ما بدا قاسياً هو أنّنا أزلنا العشوائيات. هذه ملكية خاصة ويمكن الآن استخدامها للتطوير العقاري. نحن نعاني نقصًا حادًا في الأراضي، وأنا متأكد من أن الناس سوف يستخدمونها للتطوير بشكلٍ صحيحٍ”.. ثمّ ما لبث شمعون أن قاد في العام نفسه هجوماً على مخيّم تلّ الزعتر، الواقع في الطرف الشرقي لمدينة بيروت، باعتبار أنه من الضروري وضع نهاية حاسمة له بأي ثمن.

وفي حين خفّ اللجوء إلى هذه الاستراتيجية في مرحلة ما بعد الحرب، إلّا أن إزالة مخيّم نهر البارد الفلسطيني في شمال لبنان مثالٌ لا يمكن تجاهله من هذه المرحلة. فخلال عام 2007، شهد المخيّم معركةً ضاريةً بين الجيش اللبناني وجماعة مسلّحة تدعى فتح الإسلام. بينما قد يبدو أن التدمير الماديّ للمخيم وتحطّم المنازل ناتجاً عن استخدام القذائف والقنابل والعمليات العسكرية خلال المعركة، إلا أن الكثيرون يعتقدون أن تدمير المخيّم كان متعمّداً وممنهجاً. فعمليّات التدمير استمرّت لمدّة شهر حتى بعد الهزيمة النهائية لفتح الإسلام. ويُرجّح البعض أن الغاية وراء ذلك كانت رغبة السلطات اللبنانية، عبر الجيش، في فكّ عزلة المخيمات الفلسطينية، والقضاء على التهديد المُتخيَّل الناتج عن غياب سيطرة الدولة ورقابتها عليها4 Ramadan, A. (2009). Destroying Nahr El-Bared: Sovereignty and Urbicide in the Space of Exception. Political Geography. 28. 153-163.. فمن خلال إزالة المخيّم، تمكّنت السلطات من الإعلان عن إعادة تشكيل فضاءاته وفق خطة وضعت أُسُسَها5أصرّ الجيش، على سبيل المثال، على توسيع الشوارع والأزقة الضيقة، التي كانت سابقًا غير سالكة لمركباته ليتمكّن من المراقبة.. وأرادت أن يكون المخيّم الجديد نموذجاً تجريبياً يمكن إعادة تكراره في مخيّمات فلسطينية أخرى لتصبح خاضعة لسيطرة السلطات اللبنانية، وليس للحكم الذاتي الفلسطيني.

مجسّم هندسي لجزء من مخيّم نهر البارد قبل التدمير وبعد إعادة الإعمار، ويُظهر توسيع الطرقات وخلق الفراغات.
(المصدر:
  Aburamadan, R.(2022).Refugee-led socio-spatial organization in Al Baqa’a camp, Jordan. City Territ Archit 9, 2. )


وبموازاة البُعد السياسي والطائفي للإزالة، استخدمت السلطة المركزية والسلطات المحلية، في الكثير من الأحيان، أدوات التنظيم المدني (الضمّ والفرز العام، التصنيفات، الخ.) ومشاريع البنى التحتية (الأوتوسترادات، مشاريع البناء الكبيرة، الخ.) كذريعة لإزالة المناطق غير الرسمية و/أو الحدّ من توسّعها و\أو فصلها عن باقي المدينة. ففي عام 1973، على سبيل المثال، تمّت الموافقة على تنفيذ مشروع تقاطع طرق سريعة بعرض 70 متراً في وسط حيّ السلّم في ضاحية بيروت الجنوبية، ما هدّد حوالي 800 وحدة سكنية بالإزالة. آنذاك، برّر أحد المسؤولين تنفيذ المشروع بأنّه “الحلّ الوحيد” للتعاطي مع الحيّ6Fawaz, M. (2000). Informal Networks and State Institutions in Housing: 50 years and 3 Generations of Developers in a Lebanese Informal Settlement. Unpublished Paper, MIT, Cambridge. وفي العام 1979، شهدت مدينتي طرابلس والميناء الشماليتين إطلاق مشروع الضمّ والفرز العام الأكبر في لبنان، والذي سرعان ما تبيّن أنه يهدّد سكان حي رأس الصخر وحي التنك بالإخلاء وإزالة مساكنهم7 للمزيد حول مشروع الضمّ والفرز، والتهديد الناتج عنه، يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة. أمّا في الأعوام 1982- 1983، فترافق توسيع المطار وإعادة تأهيل مدرّجاته، مع خطّة لجرف 30 إلى 40% من منطقة الأوزاعي8Charafeddine, W. (1985). Formation des secteurs illégaux dans la banlieue-sud de Beyrouth, etude de cas: le secteur Raml. Unpublished Master’s Thesis, DESS Paris VIII, Paris.. وكانت هاتين السنتين قد شهدتا حملة هدم واسعة، قادها الجيش والقوى الأمنية، تحت رعاية الرئيس المنتخب حديثاً أمين الجمّيل، لإزالة ما اعتبروه “مخالفات وتعديات على أملاك الغير والدولة” أو “مخالفات تشكّل خطراً مباشراً على سلامة الطيران المدني”، في مناطق الرمل العالي، والسلطان ابراهيم، والجناح، والسان سيمون، وصولاً إلى كورنيش الأوزاعي9مقال بعنوان “إزالة المخالفات في الأوزاعي. 450 مستوعباً لجمع النفايات”. نُشر في جريدة السفير بتاريخ 29 أيلول 1982..

عنوان مقال نُشر في جريدة السفير بتاريخ 11 تشرين الأول 1982، والصورة المرافقة له تظهر تظاهرة لحوالي 5000 شخص من سكان المنازل المهدّدة بالهدم في منطقة الأوزاعي، محيط مطار بيروت،  مطالبين الدولة بتأمين مساكن بديلة لمساكنهم قبل الإقدام على إزالتها. 

لم يقتصر استغلال مشاريع البنى التحتية لتبرير الإزالة على القرن الماضي، بل إن السنوات العشرين الأولى من القرن الحالي شهدت المزيد من الأمثلة على هذا الاستغلال، خصوصاً مع إعادة الإعمار بعد الحرب اللبنانية. فجسر يريفان اخترق عند إنشائه عام 2004، المباني السكنية في برج حمّود والنبعة، وتمّت إزالة البعض منها وتهجير سكّانها لغاية تمريره، كما فصل برج حمّود عن النبعة، وما زال يشكّل مصدر تلوّث بيئي وسمعي وبصري للمباني الملاصقة. وكذلك حصل عند إنشاء الطريقين السريعين اللذين اخترقا حيّ الزهراء، فدمّرا أجزاءً منه، وفصلا أجزاءه الأخرى عن بعضها. هذا وتمّ تدمير جزء من الحيّ أيضاً بهدف إنشاء تجمّع خدماتي يحوي مراكز مؤسسات حكومية، أهمّها مستشفى بيروت الحكومي. ومع بدء أعمال تشييد أوتوستراد الجنوب السريع (قسم الزهراني-صور) عام 2017 ، تبيّن أنّه يخترق تجمّع شبريحا الفلسطيني الواقع في العبّاسية10بدأ تشييد أوتوستراد الجنوب السريع قسم الزهراني-صور بعد الحرب اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠)، ولكنه توقّف عند الهضبة الواقعة بعد حاجز الجيش عند نقطة أبو الأسود، ليتحوّل الأوتوستراد إلى طريق فرعية يمرّ فيها. تضمن استكمال الأوتوستراد اختراق تجمعات سكنية غير رسمية، كتجمّع شبريحا في العباسية الواقع على الهضبة والمعشوق في صور، وذلك وفق المرسوم الأساسي لتخطيط الأوتوستراد والذي صدر عام ١٩٩٣. إلاّ أنه تمّ تعديل التخطيط عام ١٩٩٥، فحيّد الأتوستراد عن منطقة المعشوق، وبالمقابل أصاب عدداً أكبر من البيوت في منطقة الشبريحا. بقيت هذه المخططات حبراً على ورق حتى عام 2017.، فتمّ تهديد حوالي 47 مبنًى سكنياً في التجمّع بالهدم، والسكان بالإخلاء.11يمكن قراءة تفاصيل عن حالة الشبريحا في مقال استديو أشغال عامة بعنوان:”الأرض لمن يزرعها: أصحاب الحقوق في الشبريحا”. نُشر منشور “إنتاج اللا مساواة في تنظيم الأراضي اللبنانية”.

صور جوية تُظهر اختراق الطرقات لحي الزهراء في ضواحي بيروت الجنوبية، والمساكن فيه

ولا شكّ أن الدولة – ومن ورائها المطورين العقاريين ورجال الأعمال في بادئ الأمر ثم الشركات الكبرى- عملت على نشر خطاب عام أصبح سائداً في لبنان حول المناطق غير الرسمية، ولعب دوراً هاماً في تبرير إزالتها. إذ اعتمد هذا الخطاب على مصطلحات مثل “أحزمة البؤس” و “بؤر العدوى” و”مساكن التنك (الصفيح)”، ومصطلحات أخرى مبنية على مقاربات صحية أو أمنية، سعت إلى صورة قاتمة عن هذه المناطق ووصمها، وركّزت على ظروفها السيئة المُفترضة. ولعلّ ما زاد من ترسيخها في أذهان الناس هو اعتمادها في تقارير الدولة ودراسات الباحثين. أضيفي إلى ذلك، أن تركيز الخطاب على “عدم قانونية” هذه المناطق، أدّى إلى تجريد سكّانها من الحقوق، وهمّشهم، وجعلهم يُصبحون مجرّد “مشكلة” يجب حلّها.

عنوان تحقيق نُشر في جريدة السفير بتاريخ 11 آب 1978، حيث استُخدمت عبارات “الأكواخ” و”غابات الصفيح” لوصف المناطق غير الرسمية. وفي سياق التحقيق، ذُكرت مصطلحات أخرى تحمل دلالات سلبية لوصف المناطق غير الرسمية كـ “مضارب وادي خالد”، و”كهوف الهرمل”، و”أكواخ البقاع”، و”زرائب عكار”.

محاولات متعثّرة للاعتراف

في غالبية محاولات الإزالة المذكورة أعلاه، اتّسم التعامل مع السكان بالطابع القمعيّ البحت، دون أيّ اعتبار لتحسين أوضاعهم المعيشية وتأمين بدائل سكنية لائقة لهم. ويعود ذلك إلى مقاربة السلطة للسكن غير الرسمي على أنّه غير قانوني، وبالتالي تتمّ معاملة ممارسيه كمجرمين لا كأصحاب حق. يُؤكّد أحد متابعي قضية الهدم في الرمل العالي خلال الثمانينات أنّ بعض أصحاب المنازل المُهدّمة تمّ نقلهم “بواسطة الشاحنات العسكرية إلى اسطبل خيول للسكن فيه، دون مياه أو كهرباء”، مُشبّهاً تعامل السلطة معهم بـ “قطيع ماشية يُنقل من مكان إلى آخر.12من مقال بعنوان “المنازل المخالفة في الاوزاعي والرمل العالي المجلس الشيعي يرفض الهدم قبل إعادة مهجري المتن والجنوب”. نُشر في جريدة السفير بتاريخ 20 تشرين الأول 1982.” ويمكننا القول بأنّ حتى الدراسات التي أجريت بين الخمسينيات وأوائل السبعينات ضمن خطة وطنية لإنشاء مساكن شعبية في مختلف المناطق اللبنانية13لقراءة تفاصيل عن هذه الخطّة يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “الأراضي المخصّصة للسكن: كان للدولة مشاريعَ سكنية“.، انحازت في مقاربتها ضد السكان واعتبرت هذه المساكن المخطّط لها، إلى جانب كونها مخزوناً استراتيجياً لتلبية الطلب المتزايد على السكن، أداةً مُتعدّدة الأوجه للتخلّص من الأحياء غير الرسمية والحدّ من توسّعها، بدلاً من أن تكون بديلاً سكنياً حقيقياً يلبي احتياجات سكّانها.

نتيجة مسح أجرته مصلحة الإسكان حول عدد المساكن غير الصحية التي تستوجب الإزالة في بعض المناطق اللبنانية (المصدر: دراسة حاجات السكن في لبنان، وزارة التصميم العام، 1967)

ولكن، مع مرور الوقت، اتّضح للسلطات أن الإزالة والإخلاء ليسا حلاً فعّالاً لـ”مشكلة” المناطق غير الرسمية، فبدأت بعض المبادرات لتغيير هذا النهج، انطلاقاُ من الضواحي الجنوبية لبيروت، التي كانت حينها محطّ اهتمام صانعي القرار بسبب الموقع الاستراتيجي والقيمة السوقية للأراضي، فضلاً عن وجود عدد من الفاعلين السياسيين المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بهذه المناطق. ففي عام ١٩٨٣، وبموازاة عملية الهدم والإخلاء القائمة بأوامره، أنشأ الرئيس الجميّل “هيئة إنماء الضاحية الجنوبية”14التي ضمّت وزراء، وممثلين عن الأحزاب السياسية، والبلديات، الخ. التي كلّفت الجيش بتنظيف الشوارع، والقيام بتزفيت بعض الطرقات، وتنفيذ أعمال أخرى بسيطة في الضواحي الجنوبية15ومع ذلك، فقد فشل في تنفيذ أي مشاريع أخرى، وسرعان ما توقّف عن العمل بسبب تطوّر الحرب اللبنانية.. وفي منتصف الثمانينات تقريباً، أصدرت مكاتب التخطيط الفرنسية IAURIF دراسة المخطّط التوجيهي لبيروت الكبرى مقترحةً مقاربة “المساكن غير القانونية / غير الشرعية”، كما سمّتها، عبر تحليل ظروفها القائمة، وتطوير خيارات لتسوية أوضاعها القانونية أو “إضفاء النظامية” عليها، ولكن دون أي اقتراح لتحسينها، مع التحذير من عمليات الإخلاء غير المدروسة. وفي إطار التحضير لهذه الدراسة، قامت المديرية العامة للتنظيم المدني بتخطيط وتلزيم دراسات للتعامل مع “عدم قانونية / شرعية الضواحي الجنوبية”.16Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements”.

شكّلت هذه المبادرات الرسمية اعترافاً أو قبولاً ضمنياً من قبل السلطات، باستمرارية وجود المناطق غير الرسمية، خصوصاً عندما سُمح لشركة المياه والكهرباء بتوصيل خدماتها رسمياً لبعض سكان هذه المناطق. إلّا أن الاعتراف أخذ منحًى آخر في التسعينات، مع إنشاء مؤسّسة عامّة “لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت”، أو ما يُعرف بمشروع إليسار (ELYSSAR)، والذي كان الهدف منه توسيع مشروع إعادة إعمار العاصمة بعد الحرب ليمتدّ إلى الضواحي. وإنّ أبرز ما أحدثه مشروع إليسار، بغضّ النظر عن إشكاليّاته التي لن نتطرّق لتفاصيلها في سياق هذا المقال، أنه اعترف بحقوق سكان المناطق غير الرسمية في المنطقة موضوع المشروع، فجاء معه لأوّل مرّة بتاريخ لبنان اعترافٌ في النص القانوني بـ”حق القاطن” أي بوجود قاطنين – بغضّ النظر عن طريقة وصولهم للسكن – لا يمكن طردهم من دون إعطائهم سكناً بديلاً17Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements”.. وكان المشروع المُقترح خليطاً من مقاربات “تحسين” و”إعادة تسكين” و”إعادة توطين” (أنظري إلى القسم التالي من المقال)، بحيث اقتُرح نقل بعض سكان المناطق غير الرسمية إلى مشاريع سكنية جديدة منخفضة التكلفة، وتنفيذ عمليات تطوير للبنى التحتية والخدمات في المنطقة، وغيرها. فضلاً عن أنه أدخل مسارات التفاوض والمشاركة مع ممثّلين عن المجتمع المحلّي والأحزاب المحلية والنواب لأول مرة في تاريخ عمليات تنظيم الأراضي والتخطيط في لبنان18Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements”..

خريطة تُظهر حدود مشروع إليسار، والمناطق غير الرسمية المشمولة فيه.
(المصدر: الموقع الإلكتروني للمؤسّسة العامّة لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت ELYSSAR)

وفي فترة ما بعد الحرب أيضاً، برز بُعدٌ آخرٌ للاعتراف بسكان المناطق غير الرسمية وحقوقهم، مع إنشاء وزارة المهجّرين وصندوق المهجّرين. تمّ الاعتراف قانونياً بـ”المهجّر”، أي النازح بفعل الحرب، وبحقّه بالعودة، مع العلم بأن حوالي نصف المهجّرين – الذين يقدّر عددهم بـ89854 نسمة – كانوا يقيمون في مناطق غير رسمية، أو بشكل غير رسمي في مبانٍ سكنية19Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements، ويُعرفون بالعامية بالـ”محتلّين”. وشملت سياسة وزارة المهجّرين دفع تعويضات للسكان مقابل إخلائهم من المنازل التي كانوا يقطنون فيها بشكل غير رسمي، وإنشاء صناديق لإعادة تأهيل المنازل المتضررة، وتطوير برامج إنشاء وحدات سكنية جديدة مخصصة للأسر النازحة.

لكن عمل الوزارة اتّخذ تدريجياً منحًى معقّداً ومثيراً للنزاع، إذ خُصّصت تعويضات ضئيلة للمهجرين القاطنين في المدن وتحديداً بيروت للعودة إلى قراهم. لكن هذه العائلات، التي كان مرّ على سكنها في العاصمة أكثر من 20 عاماً اعتبرت بيروت خلالها بمثابة مكان استقرارها وسبيلاً لمعيشتها، شكّل إنخفاض قيمة التعويضات لها عائقاً أمام إيجاد بديل في العاصمة أو ضواحيها. إضافةً إلى ذلك، لم تصنّف وزارة المهجّرين سوى مهجّري الحرب اللبنانية الذين قدّموا طلبات خلال التسعينيات للوزارة في مهلة محدّدة، كمهجّرين، وهي تعتبر أن جميع هؤلاء قد تمّ إخلاؤهم وحصلوا على التعويضات اللازمة. غير أن الواقع يُظهر أن ملف المهجّرين لم يتمّ اختتامه فعلياً، والديناميكيات الفاعلة في عدد كبير من المباني والمناطق غير الرسمية خير دليل على وجود بعض الحالات التي لم يتمّ معالجتها حتى اليوم20الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “إخلاء جماعي في بئر حسن: الدولة تستمرّ بتجاهل المناطق غير الرسمية“.. أمّا مشروع إليسار، فلم يُنفّذ أيضاً، واقتصر العمل على المفاوضات المرتبطة بإخلاء السكان لإفساح المجال أمام تمرير الطرق والأوتوسترادات المخطّطة ضمن المشروع، ليعود ويظهر تخصيص اعتمادات له ضمن موازنات الأعوام 2017 و2018 و2019، الخ. دون توضيح الهدف منها.

عدا عن هاتين المحاولتين، يستمرّ اليوم نهج الإهمال والتعتيم الرسمي سائداً على معظم المناطق غير الرسمية، خاصّةً تلك الموجودة خارج العاصمة، كما تستمرّ التهديدات بالإزالة والإخلاء، خصوصاً تلك الناتجة عن تنفيذ مشاريع البنى التحتية. أمّا المخيّمات الفلسطينية، فيتمّ معاملتها بشكلٍ خاصٍ بعسكرةٍ وتقييدٍ للحريات21لتفاصيل أكثر عن واقع المخيّمات الفلسطينية، يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “واقع المخيمات الفلسطينية في لبنان: فصولٌ من الإقصاء والعزل“.، فيما تُترك المخيمات السورية رهن موازين القوى، والنزاعات بين مالكي الأراضي واللاجئين. وعموماً، تتلاعب الأحزاب الطائفية بسكان المناطق غير الرسمية، بمعظم أشكالها وأنواعها، لتكريس الولاءات، وتصبح عملية الحصول على الخدمات مثلاً، رهن العلاقات الزبائنية، لا سيّما عند اقتراب الدورات الانتخابية. وعلى صعيد آخر، تلعب المؤسسات الدينية والحزبية دوراً هاماً، حيث تتشارك مع السلطات في الرؤية القائلة بأهمية الإزالة، وتعمل باتّجاه إعادة توطين/نقل السكان إلى مشاريع إسكان منخفضة التكلفة، وهو ما قامت بتنفيذه بعض هذه المؤسسات على مرّ العقود الماضية، كالجمعيات الأرمنية في برج حمود. أمّا المنظّمات غير الحكومية فباتت اليوم اللاعب شبه الوحيد على الساحة، بحيث يعمل بعضها على تجميع البيانات المرتبطة بهذه المناطق وتوثيقها، في غياب البيانات الرسمية عنها، وتنفيذ مشاريع تحسين محدودة فيها22من أبرز اللاعبين، في هذا الإطار، برنامج الأمم المتّحدة للمستوطنات البشرية (الموئل).. مع الإشارة إلى أن جهود هذه المنظّمات تواجه قيوداً تمويلية وترتبط بأجندات خارجية، كما أنها غالباً ما تقتصر على مناطق أو مشاكل محدّدة، ولا ترتقي إلى مستوى التوجّه الشامل للتعامل مع المناطق غير الرسمية على المستوى الوطني.

من الإزالة إلى التحسين: مقاربات التعامل مع الأحياء غير الرسمية في العالم

شهدت العقود الماضية تجربة العديد من سياسات التعامل مع المناطق غير الرسمية في العالم، وتنوّعت هذه المقاربات بين التجاهل السلبي أو المضايقة الفعلية لسكّانها، وبين التدخّلات الهادفة إلى حماية حقوقهم، ومساعدتهم على تحسين دخلهم وظروف معيشتهم.
كان “الإهمال” من أبرز المقاربات السلبية، وهو نهجٌ سيطر في معظم دول العالم الثالث حتى أوائل سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال قائماً في بعض الدول حتى اليوم. يقوم هذا النهج على إنكار وجود المناطق غير الرسمية من قبل السلطات، وبالتالي رفض الاعتراف بحقوق سكّانها. ويتجلّى الإنكار في المستندات والخرائط الرسمية التي تنتجها مؤسسات التخطيط الحكومية، كخرائط استخدامات الأراضي التي تغيب عنها الأحياء غير الرسمية ومنشآتها. كما يتجلّى إنكار وجودها عبر عدم الاعتراف بسكّانها في عمليّات التعداد السكّاني الرسمية، فضلاً عن عدم إمدادها بالخدمات الحكومية كالكهرباء والمياه والصرف الصحي، إلخ.، وإبقائها غير مرئية بالنسبة لأجهزة الدولة المعنية بتوفير الأمن والرقابة.

من الستينات إلى السبعينات، برز نهج “الإخلاء والإزالة/الهدم” كردّ شائع على تطوّر المناطق غير الرسمية، خاصّة في السياقات السياسية التي سادت فيها مركزية صنع القرار وقمعه. في تلك الفترة، قدّر مسؤولون في الأمم المتحدة أن الحكومات تقوم سنوياً بتدمير عدد أكبر من مساكن ذوي الدخل المحدود مقارنة بعدد المساكن التي تقوم ببنائها23Werlin, H. (1999). The Slum Upgrading Myth. Urban Studies, 36(9), 1523-1534. Sage Publications, Ltd.. وبُرّرت الإزالة والإخلاء بتنفيذ مشاريع عقارية، أو مشاريع تطوير بنى تحتية، أو لأسباب صحية أو أمنية كمحاربة الجريمة. وكانت المفاوضات مع السكان قليلة جداً. فنادراً ما عُرضت عليهم حلول بديلة قابلة للتطبيق، مثل إعادة تسكينهم أو توطينهم في أماكن أخرى، وغالباً لم يتمّ دفع أي تعويض للّذين تمّ إخلاؤهم24تقرير بعنوان “The Challenge of slums” نشره برنامج الأمم المتّحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) عام 2003..

ومن المقاربات الأخرى التي انتشرت هي عملية “إعادة التوطين”25بالإنكليزية Resettlement أو Relocation.، ويتمّ خلالها إخلاء سكان منطقة غير رسمية، وهدم مساكنهم، لنقلهم إلى مكانٍ آخر وإسكانهم في مبانٍ سكنية تابعة للدولة، قد تكون قائمة أصلاً أو تُشيّد خصّيصاً لهم. وفي حين يُفضّل اللجوء إلى هذه المقاربة في الحالات التي تكون فيها المناطق غير الرسمية واقعة في مناطق تهدّد حياة السكان26كالمناطق المهدّدة بالانهيارات الأرضية في البرازيل، أو بالفياضانات في مانيلا (الفلبّين)، أو بحوادث القطارات في مومباي (الهند) ، الخ. ويكون نقل السكان الحلّ الأفضل للحفاظ على سلامتهم، يُلاحظ أن العديد من الحكومات فضّلتها لأنها قد تتمكّن من تنفيذ مشاريع عقارية واستثمارية في المنطقة بعد إخلائها27تقرير بعنوان “جهود دون التوقعات: مقاربات الحكومة في التعامل مع المناطق العشوائية“، نشرته منصّة “تضامن” المصرية عام 2015..

يمكن لمقاربة إعادة التوطين أن تحمل سلبيات عدّة، وتحديداً في ما يتعلّق بالأعباء الاقتصادية التي قد يتحمّلها السكان بسبب بُعد المنطقة الجديدة عن أماكن عملهم، والبنية التحتية الحضرية، أو الخدمات أو وسائل النقل. في المقابل، تحاول مقاربة “إعادة التسكين في نفس الموقع”28بالإنجليزية On-Site Rehousing تجنّب هذه الإشكالية عن طريق هدم المساكن القائمة، والتي تكون منخفضة الارتفاع، وإعادة بناءها على شكل بنايات سكنية متعدّدة الطوابق وذات كثافة عالية29في معظم الأحيان، تلجأ الحكومات لهذه المقاربة عندما تكون القيمة العقارية المحتملة للأراضي التي تقع عليها المنطقة غير الرسمية في المدينة مرتفعة. تفترض هذه المقاربة أنه لو تمّت إعادة تسكين سكان المنطقة غير الرسمية ذاتهم في البنايات، فإن عددهم لن يشغل سوى نسبة محدودة من مساحة الأرض المتاحة، ما يترك مجالاً أمام  بناء مساكن إضافية تُباع أو تؤجّر بأسعار السوق، ممّا يغطّي تكاليف المشروع، ويدرُّ أرباحاً إضافية طائلة.. وبينما تسمح “إعادة التسكين” للسكان بالبقاء بالقرب من وظائفهم وشبكاتهم الاجتماعية، إلا أنها يمكن أن تعطّل الاقتصاد المحليّ الذي يعتمد على المحلات والورش والخدمات الموجودة في الطوابق الأرضية. علاوةً على ذلك، يمكن أن تؤدي الزيادة في الكثافة السكانية إلى إجهاد البنية التحتية ورفع تكاليف الصيانة.

قدّمت مقاربة “المواقع والخدمات” (Sites and Services) خياراً آخر للحكومات، بحيث اعتمدت على تقديم قطع أراضٍ لسكان المنطقة غير الرسمية30تؤمّن لهم حيازتها، سواءً عبر بيعها لهم مقابل سندات ملكية أو من خلال التأجير.، وتجهيزها ببنية تحتية أساسية مثل المياه والصرف الصحي، ثمّ تشجيعهم على تمويل وبناء مساكنهم بأنفسهم عليها31وفقاً لمعايير محدّدة.، وقد يكون ذلك بمساعدة من الحكومة. واعتبر مروّجو هذه المقاربة، كجون تيرنر32لمعماري والأكاديمي الإنكليزي جون تيرنر، الذي انتقد الآليات التي يجري عبرها إنتاج السكن الحكومي، ونادى إلى التحوّل إلى نهج يكون فيه تدخّل الدولة ضئيل، ويكون للسكّان دور في إنتاج وتحسين المناطق التي يعيشون فيها بجهودهم الذاتية. عام 1976، نشر تيرنر كتابه “السكن بسواعد الناس: نحو الاستقلال في بناء البيئات” Housing by people: Towards Autonomy in Building Environments.، أنها تخفّض إلى أدنى حدّ تدخّل الدولة، وتؤدّي إلى خفض تكلفة المسكن والخدمات على ذوي الدخل المحدود، مقارنةً بتكلفة المساكن الحكومية المكتملة والمُجهّزة ببنية تحتية كاملة33ولتخفيض التكلفة، تمّ خفض المعايير، والتشجيع على استخدام مواد بناء منخفضة التكلفة (محلية في الغالب)، واعتماد جودة تشطيب أقل، وتوفير شبكات صرف صحي مشتركة بدلاً من شبكات فردية، وتشجيع البناء بكثافة أعلى، مع تقليل مساحات الوحدات السكنية.. وفي حين تهدف هذه المقاربة إلى تمكين السكان وتقليل التكاليف، واجهت تحديات مرتبطة بإيجاد أراضٍ غير مبنية أو مطوّرة للتنفيذ، وأسعار الأراضي، والإجراءات البيروقراطية المعقدة، وغياب التسهيلات المالية للسكان. وبسبب هذه التحدّيات، وتحديداً صعوبة إيجاد أراضٍ لتنفيذ مشاريع المواقع والخدمات، حظيت مشاريع “التحسين في الموقع” (Upgrading in Situ) اهتماماً أكبر لدى البنك الدولي وغيره من المموّلين، وكذلك لدى الحكومات34 Werlin, H. (1999). The Slum Upgrading Myth. Urban Studies, 36(9), 1523-1534. Sage Publications, Ltd.، وبدت أقلّ كلفة من التدخّلات الأخرى. تهدف عملية التحسين إلى إحداث تحسين نوعي في حياة سكان المناطق غير الرسمية، فهي تتضمّن تحسين المباني والبنية التحتية القائمة بشكلٍ تدريجيٍّ حتى تصل إلى مستوى مقبول، مع تجنّب تدمير النسيج العمراني أو تهجير/إخلاء السكان إلى منطقة أخرى أو إلى موقع آخر في ذات المنطقة35 Del Mistro, R., & A. Hensher, D. (2009). Upgrading Informal Settlements in South Africa: Policy, Rhetoric and what Residents really Value. Housing Studies, 24(3), 333–354.. ويمكن للتحسين أن يشمل نطاقاً واسعاً من التدخّلات المحتملة. في حالة التطوير المحدود، يمكن القيام بتحسين إضاءة الشوارع، وتسوية مناسيب الطرق، أو دهان واجهات المنازل. أما في حالة التطوير الأوسع نطاقاً، فمن الممكن إنشاء بنية تحتية للغاز الطبيعي والكهرباء والمياه، ومدّ شبكة صرف صحي إلى جميع المنازل، وتقديم الخدمات الصحية وخدمات التعليم وغيرها من الخدمات العامة، أو تجديد والقيام بترميم إنشائي لعدد ملحوظ من المساكن36 Patel, S (2013).  Upgrade, Rehouse or Resettle? An Assessment of the Indian Government’s Basic Services for the Urban Poor (BSUP) Programme.  Environment and Urbanization 25: 177-88.. وقد تشمل بعض برامج التحسين تأمين وصول السكان للائتمان (مصادر تمويل)، وتأمين الحيازة.

وبموازاة برامج التحسين، برز على مدى العقود الثلاثة الماضية، “إضفاء النظامية” على المناطق غير الرسمية (Regularization) أو “تسوية أوضاع الحيازة غير القانونية” فيها، كأحد أهم التدخّلات التي حظيت باهتمام الباحثين وصنّاع القرار في العديد من بلدان العالم الثالث. وعلى الرغم من أن برامج إضفاء النظامية محدودة العدد حتى الآن، إلا أنها شكّلت جزءاً رئيسياً من سياسات الإسكان في بعض الدول37 Durand-Lasserve, A., & Clerc, V. (1996). Regularization and integration of irregular settlements: lessons from experience. In Urban Management and Land (UNDP, UN-Habitat, World Bank, Urban Management Program (UMP), Working Paper n°6, pp. 113). يقوم إضفاء النظامية على دمج الحيازة غير الرسمية في نظام معترف به من قبل السلطات العامة38 Durand-Lasserve, A., Selod, H. (2009). The Formalization of Urban Land Tenure in Developing Countries. In: Lall, S.V., Freire, M., Yuen, B., Rajack, R., Helluin, JJ. (eds) Urban Land Markets. Springer, Dordrecht.، بهدف ضمان أمن حيازة سكان المناطق غير الرسمية، أي ضمان عدم تهجيرهم وإخلائهم، والسماح لهم بالبقاء على الأراضي التي سكنوها، مع توفير ظروف معيشية أفضل. وقد تصدّى البعض لهذه المقاربة باعتبار أنها تشجّع على إنتاج اللا رسمية، كونها بمثابة “تسوية” نتيجة رضوخ الحكومات للضغط. إلّا أن التجارب الميدانية أظهرت ان هذه “التسوية” تبقى أقلّ خطورة وتكلفة من أي من الإجراءات الساعية إلى إزالة هذه المناطق، وإحلالها، والتعويض عن سكّانها، ونقلهم إلى أماكن سكن أخرى غير متوفّرة أصلاً39تقرير “السياسات الإسكانية والحيازة السكنية والعقارية في منطقة الإسكوا“، الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، في تشرين الثاني 2003..

نحو مدينة عادلة: حلول شاملة ومستدامة للمناطق غير الرسمية

لا يوجد حلٌّ واحدٌ أو مقاربةٌ واحدةٌ اتُّبعت في العالم للتعامل مع المناطق غير الرسمية، فلكلّ منطقة خصائصها، ولكلّ حكومة حساباتها. إنّما لتحقيق مدينة عادلة، يجب على الحكومات تطوير حلول شاملة ومستدامة تتناسب مع احتياجات سكان هذه المناطق. قد تكون هذه الحلول خليطاً من المقاربات (غير السلبية) المعروضة أعلاه أو غيرها.

في لبنان، يمكن أن تستفيد المناطق غير الرسمية من برامج تطوير متكاملة، تماشياً مع الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاجتماعية لعام 2011 التي أطلقتها وزارة الشؤون الاجتماعية40 للاطّلاع على الاستراتيجية: https://faolex.fao.org/docs/pdf/leb181091E.pdf. وينبغي على السلطات اللبنانية البناء على المبادرات في البلدان الأخرى، وتكييفها مع السياق المحليّ من خلال اتّباع نهج مناطقيّ متعدّد القطاعات، على أن تنطلق هذه العملية أوّلاً من تعريف الدولة للمناطق غير الرسمية، وإجراء الدراسات والإحصاءات لها، وإظهارها على الخرائط الرسمية، بدلاً من التعتيم عليها وحجمها وأعداد الساكنين فيها، وتغيير الخطاب الرسمي وبالتالي الشعبي حولها. قبل أن توضع خطّة قوامها “التحسين” و”إضفاء النظامية” أو تأمين أمن الحيازة، والتي يمكن تحقيقها من خلال إنشاء المساكن الإضافية، تأمين تمويل محدود، توسيع وتحديث البنية التحتية الرسمية (المياه، الصرف الصحي، الكهرباء، إلخ) والمرافق والخدمات الأساسية (المدارس، دور الرعاية، والمؤسسات الصحية، ومراكز التنسيق المحلية41لتحسين التواصل والتعاون بين الجهات المختلفة من مؤسسية ومجتمعية لتطوير السياسات ومراحل التنفيذ، وضمان التنمية المجتمعية المتقدمة.، إلخ)، كما رأينا أعلاه. مع التأكيد على ضرورة أن تترافق هذه الخطوات مع حلول نقل مبتكرة لتعزيز التواصل بين الأحياء وتأمين الوصول إلى أسواق العمل الرسمية والمرافق المدينية الأخرى، وحملات توعية وإعلام للسكان والسلطات المحلية بالحقوق والواجبات المتعلقة بتوفير السكن، وتحوّلات لتأمين الاستقرار على الصعيد القانوني في ما يخصّ حقوق الإقامة والعمل المرتبطة بالعمال والعاملات الأجانب واللاجئات/ين الذين يشكّلون جزءاً أساسياً من سكان المناطق غير الرسمية.

ومن الضروريّ الاستفادة من التدخّلات هذه لتطوير العمل على تنظيم الأراضي على الصعيد الوطني، وبدء ممارسات تخطيطية أكثر ملاءمة للتوسّع العمراني المستقبليّ. وفي هذا الإطار من المهمّ الاطّلاع على تجارب الدول الأخرى في “المقاربات التخطيطية الوقائية” التي تهدف من خلالها إلى وقف توسّع أو ظهور المناطق غير الرسمية في المستقبل.

المراجع:

  • 1
     Ruppert, H (1999). Beyrouth, une ville d’Orient marquée par l’Occident. Les cahiers du Cermoc n 21, Beirut.
  • 2
    لمشاهدة التقرير الإخباري: https://www.youtube.com/watch?v=0NWwuEIsiZk&t=160s
  • 3
    قال شمعون حرفيّاً أن الأمر “لم يكن قاسياً… مُنح السكان إمكانية الوصول إلى المواصلات للخروج…ما بدا قاسياً هو أنّنا أزلنا العشوائيات. هذه ملكية خاصة ويمكن الآن استخدامها للتطوير العقاري. نحن نعاني نقصًا حادًا في الأراضي، وأنا متأكد من أن الناس سوف يستخدمونها للتطوير بشكلٍ صحيحٍ”.
  • 4
     Ramadan, A. (2009). Destroying Nahr El-Bared: Sovereignty and Urbicide in the Space of Exception. Political Geography. 28. 153-163.
  • 5
    أصرّ الجيش، على سبيل المثال، على توسيع الشوارع والأزقة الضيقة، التي كانت سابقًا غير سالكة لمركباته ليتمكّن من المراقبة.
  • 6
    Fawaz, M. (2000). Informal Networks and State Institutions in Housing: 50 years and 3 Generations of Developers in a Lebanese Informal Settlement. Unpublished Paper, MIT, Cambridge.
  • 7
     للمزيد حول مشروع الضمّ والفرز، والتهديد الناتج عنه، يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة
  • 8
    Charafeddine, W. (1985). Formation des secteurs illégaux dans la banlieue-sud de Beyrouth, etude de cas: le secteur Raml. Unpublished Master’s Thesis, DESS Paris VIII, Paris.
  • 9
    مقال بعنوان “إزالة المخالفات في الأوزاعي. 450 مستوعباً لجمع النفايات”. نُشر في جريدة السفير بتاريخ 29 أيلول 1982.
  • 10
    بدأ تشييد أوتوستراد الجنوب السريع قسم الزهراني-صور بعد الحرب اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠)، ولكنه توقّف عند الهضبة الواقعة بعد حاجز الجيش عند نقطة أبو الأسود، ليتحوّل الأوتوستراد إلى طريق فرعية يمرّ فيها. تضمن استكمال الأوتوستراد اختراق تجمعات سكنية غير رسمية، كتجمّع شبريحا في العباسية الواقع على الهضبة والمعشوق في صور، وذلك وفق المرسوم الأساسي لتخطيط الأوتوستراد والذي صدر عام ١٩٩٣. إلاّ أنه تمّ تعديل التخطيط عام ١٩٩٥، فحيّد الأتوستراد عن منطقة المعشوق، وبالمقابل أصاب عدداً أكبر من البيوت في منطقة الشبريحا. بقيت هذه المخططات حبراً على ورق حتى عام 2017.
  • 11
    يمكن قراءة تفاصيل عن حالة الشبريحا في مقال استديو أشغال عامة بعنوان:”الأرض لمن يزرعها: أصحاب الحقوق في الشبريحا”. نُشر منشور “إنتاج اللا مساواة في تنظيم الأراضي اللبنانية”.
  • 12
    من مقال بعنوان “المنازل المخالفة في الاوزاعي والرمل العالي المجلس الشيعي يرفض الهدم قبل إعادة مهجري المتن والجنوب”. نُشر في جريدة السفير بتاريخ 20 تشرين الأول 1982.
  • 13
    لقراءة تفاصيل عن هذه الخطّة يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “الأراضي المخصّصة للسكن: كان للدولة مشاريعَ سكنية“.
  • 14
    التي ضمّت وزراء، وممثلين عن الأحزاب السياسية، والبلديات، الخ.
  • 15
    ومع ذلك، فقد فشل في تنفيذ أي مشاريع أخرى، وسرعان ما توقّف عن العمل بسبب تطوّر الحرب اللبنانية.
  • 16
    Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements”.
  • 17
    Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements”.
  • 18
    Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements”.
  • 19
    Fawaz, M. & Peillen, I. (2003). The Case of Beirut, Lebanon. Part of “Understanding Slums: Case Studies for the Global Report on Human Settlements
  • 20
    الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “إخلاء جماعي في بئر حسن: الدولة تستمرّ بتجاهل المناطق غير الرسمية“.
  • 21
    لتفاصيل أكثر عن واقع المخيّمات الفلسطينية، يمكن الاطّلاع على مقال استديو أشغال عامة بعنوان “واقع المخيمات الفلسطينية في لبنان: فصولٌ من الإقصاء والعزل“.
  • 22
    من أبرز اللاعبين، في هذا الإطار، برنامج الأمم المتّحدة للمستوطنات البشرية (الموئل).
  • 23
    Werlin, H. (1999). The Slum Upgrading Myth. Urban Studies, 36(9), 1523-1534. Sage Publications, Ltd.
  • 24
    تقرير بعنوان “The Challenge of slums” نشره برنامج الأمم المتّحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) عام 2003.
  • 25
    بالإنكليزية Resettlement أو Relocation.
  • 26
    كالمناطق المهدّدة بالانهيارات الأرضية في البرازيل، أو بالفياضانات في مانيلا (الفلبّين)، أو بحوادث القطارات في مومباي (الهند) ، الخ.
  • 27
    تقرير بعنوان “جهود دون التوقعات: مقاربات الحكومة في التعامل مع المناطق العشوائية“، نشرته منصّة “تضامن” المصرية عام 2015.
  • 28
    بالإنجليزية On-Site Rehousing
  • 29
    في معظم الأحيان، تلجأ الحكومات لهذه المقاربة عندما تكون القيمة العقارية المحتملة للأراضي التي تقع عليها المنطقة غير الرسمية في المدينة مرتفعة. تفترض هذه المقاربة أنه لو تمّت إعادة تسكين سكان المنطقة غير الرسمية ذاتهم في البنايات، فإن عددهم لن يشغل سوى نسبة محدودة من مساحة الأرض المتاحة، ما يترك مجالاً أمام  بناء مساكن إضافية تُباع أو تؤجّر بأسعار السوق، ممّا يغطّي تكاليف المشروع، ويدرُّ أرباحاً إضافية طائلة.
  • 30
    تؤمّن لهم حيازتها، سواءً عبر بيعها لهم مقابل سندات ملكية أو من خلال التأجير.
  • 31
    وفقاً لمعايير محدّدة.
  • 32
    لمعماري والأكاديمي الإنكليزي جون تيرنر، الذي انتقد الآليات التي يجري عبرها إنتاج السكن الحكومي، ونادى إلى التحوّل إلى نهج يكون فيه تدخّل الدولة ضئيل، ويكون للسكّان دور في إنتاج وتحسين المناطق التي يعيشون فيها بجهودهم الذاتية. عام 1976، نشر تيرنر كتابه “السكن بسواعد الناس: نحو الاستقلال في بناء البيئات” Housing by people: Towards Autonomy in Building Environments.
  • 33
    ولتخفيض التكلفة، تمّ خفض المعايير، والتشجيع على استخدام مواد بناء منخفضة التكلفة (محلية في الغالب)، واعتماد جودة تشطيب أقل، وتوفير شبكات صرف صحي مشتركة بدلاً من شبكات فردية، وتشجيع البناء بكثافة أعلى، مع تقليل مساحات الوحدات السكنية.
  • 34
     Werlin, H. (1999). The Slum Upgrading Myth. Urban Studies, 36(9), 1523-1534. Sage Publications, Ltd.
  • 35
     Del Mistro, R., & A. Hensher, D. (2009). Upgrading Informal Settlements in South Africa: Policy, Rhetoric and what Residents really Value. Housing Studies, 24(3), 333–354.
  • 36
     Patel, S (2013).  Upgrade, Rehouse or Resettle? An Assessment of the Indian Government’s Basic Services for the Urban Poor (BSUP) Programme.  Environment and Urbanization 25: 177-88.
  • 37
     Durand-Lasserve, A., & Clerc, V. (1996). Regularization and integration of irregular settlements: lessons from experience. In Urban Management and Land (UNDP, UN-Habitat, World Bank, Urban Management Program (UMP), Working Paper n°6, pp. 113)
  • 38
     Durand-Lasserve, A., Selod, H. (2009). The Formalization of Urban Land Tenure in Developing Countries. In: Lall, S.V., Freire, M., Yuen, B., Rajack, R., Helluin, JJ. (eds) Urban Land Markets. Springer, Dordrecht.
  • 39
    تقرير “السياسات الإسكانية والحيازة السكنية والعقارية في منطقة الإسكوا“، الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، في تشرين الثاني 2003.
  • 40
     للاطّلاع على الاستراتيجية: https://faolex.fao.org/docs/pdf/leb181091E.pdf
  • 41
    لتحسين التواصل والتعاون بين الجهات المختلفة من مؤسسية ومجتمعية لتطوير السياسات ومراحل التنفيذ، وضمان التنمية المجتمعية المتقدمة.
إدارة الأراضي والتنظيم المدني السكن لبنان
 
 
 

شرعية المساكن أم الحق بالسكن فيها؟

مشاريع سكنيّة وتحوّلاتها غير الرسمية في صيدا وطرابلس

۱.المقدمة المدن هي أماكن للتفاعل والتبادل بين أشخاص يختلفون حول معظم الأشياء. فالمدينة، بكثافتها وجاذبيتها المستمرة للوافدين الجدد والمهاجرين، تُشكّل نسيجاً من عدم التجانس، وهو نسيج قد يضمن “اللقاء مع الاختلاف” (ميتشل، ٢٠٠٣) …

الأحياء غير الرسمية: من هنا تبدأ المدينة العادلة

الجزء الأول: النقاشات والنشوء

“الأمر لم يكن قاسياً… مُنح السكان إمكانية الوصول إلى المواصلات للخروج…ما بدا قاسياً هو أنّنا أزلنا العشوائيات. هذه ملكية خاصة ويمكن الآن استخدامها للتطوير العقاري. نحن نعاني نقصًا حادًا في الأراضي، وأنا متأكد …

التغيير المناخي والسكن:

الأحياء المهمشة هي الأكثر تأثرًا

يَعِد التغيير المناخي بتغيير المواسم، ومناخ المناطق وأنماطه، حتى شكل الحياة التي نعرف. ونتيجةً لسيطرة النموذج الرأسمالي على الكوكب، ستؤثّر هذه التغييرات بالدرجة الأولى، على قدرة الناس على الوصول إلى الموارد وتأمين الأساسيات. …

إخلاء جماعي في بئر حسن:

الدولة تستمرّ بتجاهل المناطق غير الرسمية

في منطقة بئر حسن، يقع مبنى تسكنه حالياً حوالي 17 عائلة كانت انتقلت إليه منذ منتصف الثمانينات. معظم هذه العائلات مُهجّرةٌ ومُقتلعةٌ من الجنوب، ومن ضواحي بيروت الشرقية (النبعة، الدكوانة، المكلس، تل الزعتر)، …

عن واقع المخيمات الفلسطينية في لبنان

فصولٌ من الإقصاء والعزل

لسنين مضت، تستخدم السلطة في لبنان عملية قضم الحقوق المكانية للاجئات\ين الفلسطينيين في لبنان، كأسلوبٍ ممنهج لـ “تطفيشهم”، علّ حياةً غير عادلةٍ أو مريحةٍ في لبنان تجعلهن\م يهاجرون. والهجرة هنا لا تعني العودة …

نحو قانون شامل للحق في السكن

أوراق بحثية حول إصلاحات ضرورية

غالباً ما تتردّد إشكالات السكن والإسكان في الخطاب العام اللبنانيّ منذ فترة الاستقلال على الأقل. لكنّها ازدادت حضوراً في العقود القليلة الماضية، بفعل مضاربات السوق التي تعمل في سياق يفتقر تماماً إلى سياسات …