من الغريب -ولكن من المتوقع- أن يواجَه تحويل المباني الشاغرة إلى مأوى مؤقّت للنازحات\ين باستهجان، خاصة وأن مراكز الإيواء المتاحة غير قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة للنازحات\ين، وأن البديل الوحيد يبقى البقاء في الشارع. ففي حالات كالحرب الحالية، تكون النجاة والحفاظ على كرامة الناس وحقوقهم الأساسية، مسؤولية الدولة والمجتمع أيضاً.
فقد أصبح أوتيل هيلدون المهجور منذ أكثر من ثلاث سنوات، والواقع في شارع أستراليا في محلّة الروشة، ملاذاً مؤقتاً للنازحات\ين نتيجة الحرب الإسرائيلية، لعدم توفّر البدائل في ظلّ إهمال الدولة الواضح تجاه المتضررين/ات. في مرحلةٍ أولى، وبعد تواصل النازحين/ات مع ابن المالكة وتفاوضهم معه، وافق على استخدام المبنى كمأوى لهم، حيث دخل النازحون/ات إلى المبنى المهجور في أواخر شهر أيلول. لكن، وبعد مرور حوالي ثلاث أسابيع على إقامتهم فيه، تدخّلت القوى الأمنية بشكل قسري وطردتهم بالقوة، دون تقديم أي بديل أو حل مناسب لهم.
نستعرض في هذا المقال قصة إخلاء هذا المبنى الذي يشكّل مثالاً حول كيفية إعطاء الدولة وأجهزتها الأولوية لحماية الملكية الخاصة على حساب حقوق النازحين جراء الحرب، بالأخصّ حقهم في السكن. كما نسلّط الضوء على ضرورة استغلال المخزون السكني الشاغر كحل من الحلول الممكنة لأزمة الإيواء المتفاقمة، خصوصاً في مدينة بيروت حيث معدلات الشغور مرتفعة بشكلٍ مقلق.
كيف كان الدخول إلى المبنى
مع تصاعد حدّة العدوان الإسرائيليّ، وتفاقم أزمة النزوح، ووصول العدد الإجمالي المقدّر للنازحات/ين إلى أكثر من مليون وثلاثمائة ألف شخص، وفي ظلّ تقاعس الدولة التام عن تحمّل مسؤوليّاتها تجاه النازحات/ين، بالأخصّ فيما يتعلّق بتأمين المأوى المناسب لجميع المتضررات/ين، أُجبر بعض من هؤلاء إلى اللجوء إلى مبانٍ شاغرة كملاذٍ مؤقّت لحين انتهاء الحرب. وهذه كانت الحال في أوتيل هيلدون، الواقع على العقار 1888 في محلة راس بيروت، والذي تعود ملكيته بالكامل – بحسب الصحيفة العقارية – لـ “امال وديع تابت” والدة المحامي “ألان رنّو”، حيث دخل بعض النازحات/ون في أواخر شهر أيلول، بعد أن شهد لبنان غارات جوية مكثفة ابتداءً من 23 أيلول 2024 طالت مناطق عديدة في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية. يتألّف المبنى من طابق سفلي وأرضي وثمانية طوابق علوية، يضمّ سبع طوابق منها تسع غرف ضمن كلٍّ منها حمام، بينما يحتوي الطابق الثامن على خمس غرف ضمن كلٍّ منها حمام. يجدر الذكر أيضاً أنّ أوتيل هيلدون ليس المبنى الوحيد المهجور الذي لجأ إليه النازحات/ون. فقد نجح النازحات\ون في تحويل مبنى خالٍ آخر (وهو لم يُشغَل منذ إنشائه عام 2015) في شارع جان دارك في منطقة الحمرا، إلى مسكن مؤقّت والبقاء فيه حتى اليوم، كما نذكر مبنى “حمرا ستار” الواقع في المنطقة نفسها، والذي يتعرّض سكانه الحاليون للتهديد بالعنف والإخلاء، بالإضافة إلى مبنى عبد الباقي في الحمرا أيضاً، والذي سننشر عنه قريباً.
على عكس ما قد يعتقده البعض، وكما ذكرنا في مقدمة هذا المقال، وبحسب الناشطات/ين في المنطقة من مبادرة التنسيقية الشعبية الذين دعموا السكان النازحات/ين خلال إقامتهم في المبنى وعند الإخلاء، لم يدخل النازحون/ات بالقوة إلى المبنى، بل بموافقة ابن المالكة، بعد أن تفاوض معه أحد النازحين الذين استقرّوا في المبنى، وهو “مالك القادري” الذي تعهّد، وبحضور شيخ كشاهد، أنّ يتكفّل بالسكان ويضمن إخلاءهم للمبنى عند انتهاء الحرب. وعلى هذا الأساس، سلّم ابن مالكة المبنى مفاتيح الأوتيل لـ”مالك”. كما يُحكى عن دفع هذا الأخير مبلغ من المال لقاء السماح له وللنازحين/ات الآخرين بإشغال الأوتيل.
بحسب الناشطات/ين أيضاً، وصل عدد النازحين/ات الذين استقرّوا في المبنى إلى حوالي 600 شخص، وهم بمعظمهم من العائلات (حوالي 150 عائلة) من مختلف المناطق التي تعرّضت للنزوح، مع وجود عدد ملحوظ من الأطفال، وكبار السن الذين يعانون من أمراض مزمنة، وعددٍ من الأشخاص من ذوي الإعاقة. وقد قام هؤلاء، بعد دخولهم إلى المبنى وعلى أساس أنّ ابن المالكة كان قد وافق على بقائهم في المبنى، بتوفير إمدادات الكهرباء للأوتيل، وشراء خزان مياه، وقد قاموا بعدد من أعمال التصليح والتنظيف في أنحاء المبنى لجعله صالحاً للسكن، إذ كان الأوتيل مهجوراً ومهملاً لمدّة ثلاث سنوات. كلّ ذلك على نفقتهم، وبمساعدة بعض الجمعيات، مبيّنين بذلك رغبتهم وإصرارهم على الاهتمام بالمكان الذي يؤمّن لهم سقفاً يعيشون تحته، وحرصهم على الحفاظ عليه.
تهديدات بالطرد باستخدام القوة ومن دون توفير البدائل
بدأ الضغط على النازحين/ات ومطالبتهم بإخلاء المبنى بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله في 27 أيلول 2024، وذلك بالرغم من محاولة النازحين/ات التفاوض مع ابن المالكة لعدّة مرات، وبالرغم من عرضهم دفع بدلٍ للإقامة في الأوتيل، بالإضافة إلى توقيع تعهّدات أمام كاتب العدل بالإخلاء بعد انتهاء الحرب. وبحسب سكان المبنى النازحات/ين والناشطات/ين، هناك إشاعات غير أكيدة حول ارتباط المالكة بالمدعي العام الذي أصدر قرار الإخلاء. بغض النظر عن ذلك، من الواضح أنّ المالكة قدّمت شكوى بالتعدي على الممتلكات للنيابة العامة، وعلى هذا الأساس صدر أمر الإخلاء وتحرّكت قوى الأمن الداخلي. ومن المفترض أن تظهر القوى الأمنية أمر الإخلاء الصادر عن النيابة العامة للسكان قبل إخلائهم، وهو ما لم نتأكّد أنّه حصل، ويُعدّ ذلك تصرفاً غير قانوني.
حاول الدرك إخلاء السكان عدّة مرّاتٍ. في المرّة الأولى امتنع السكان عن الإخلاء وحاولوا مرّةً أخرى التفاوض مع ابن المالكة والقوى الأمنية، كما تدّخلت بعض الجهات الحزبية (حركة أمل) كوسيط، لكن دون نتيجة. عندها، وبحسب الناشطات/ين، رفعت المالكة دعوى على “مالك القادري” وطالبته فيها بتعويض مقابل أضرار تدّعي أنها أُلحقت بالمبنى جرّاء إشغال النازحين للمبنى بقيمة 40,000 دولار. وفي اليوم التالي، قام عناصر من قوى الأمن بإلقاء القبض على “مالك”، وحاولوا إخلاء النازحين/ات من الأوتيل، واستعملوا إلقاء القبض على “مالك” كورقة ضغط على السكان، حيث بلّغوهم بإنّه سيتمّ إطلاق سراحه في حال وافق السكان على إخلاء المبنى. وبالفعل، قام النازحين/ات بإخلاء المبنى في 12 تشرين الأوّل 2024، بحضور الجيش والمخابرات الذين طوّقوا المنطقة بالكامل أثناء الإخلاء وكأنه حدثٌ أمنيٌ خطير. ولم يتم إخلاء سبيل “مالك” إلّا بعد دفعه كفالة مالية.
وبعد أن تكبّد النازحون/ات عناء تأهيل المبنى بالحدّ الأدنى للسكن، نجح ابن المالكة، وبعد أن غيّر موقفه وقرر طرد النازحين/ات، بإخلاء المبنى. عند الإخلاء، وعدت قوى الأمن النازحين/ات بتأمين سكن البديل في مدرسة يتمّ تجهيزها في الكرنتينا. لكن حتى تاريخه لم يتمّ التواصل معهم بعد أو نقلهم إلى أي مركز إيواء. وفي يوم إخلائهم، لم يعرف النازحونن/ات إلى أين يتوجّهون، ولم يكن أمام بعضهم سوى العودة إلى منازلهم في الضاحية والأوزاعي، معرّضين بذلك حياتهم للخطر.
التعامل مع إشغال المباني الشاغرة نتيجة الحرب والنزوح
في حين يفترش بعض النازحات/ين ممرات مراكز الإيواء، أو ينامون في العراء على الأرصفة والشواطئ وبعض الحدائق العامة، أو يعودون الى منازلهم في مناطق غير آمنة ويعرضون حياتهم للخطر، تُلامس معدّلات الشغور في كافة أنحاء مدينة بيروت الـ 20%، وهو ما يُعرف بالشغور المفرط. بهذا، يتمّ تناسي القيمة الاستخدامية والاجتماعية للوحدات السكنية وحاجة الناس – وفي هذه الحال عدد كبير من النازحات/ين – إلى السكن، مقابل قيمتها التبادلية والاستثمارية لأفرادٍ معدودين، باعتبارها استثمارات طويلة الأجل، في ظلّ نظامٍ ضريبيّ يعزز هذا الشغور ويعفي الشقق الفارغة من ضرائب البلدية والملكيّة. بالنتيجة، تبقى وحدات بيروت الشاغرة قبل توسع الحرب، شاغرة اليوم، ويُجبر النازحات/ون الذين حرصوا على الاهتمام بمبنى شاغر أثناء الفترة القصيرة التي سكنوه فيها، كما نجحوا بتحويله من مبنى متروك غير فاعل في المدينة، إلى مساحة سكنية حيّة يتمّ إدارتها بشكل جماعي، على الإخلاء باستخدام القوة ومن دون توفير البدائل. وبالرغم من محاولة السكان النازحات/ين إعطاء ضمانات للمالك بالإخلاء بعد نهاية الحرب وعرضهم دفع بدل إشغال المبنى، تمّ تشريد بعضهم، ليعود البعض الآخر إلى المناطق الخطرة التي نزح منها، في ظلّ غياب أي بديل.
تتكرّر حوادث إخلاء النازحين من مبانٍ شاغرة كانوا قد دخلوا إليها بضمانةٍ ما، وتتزايد معها الحاجة لأن تتّخذ الحكومة إجراءات فورية للتعامل مع قضية النزوح وضمان الحق في السكن خلال الحروب والكوارث. بهذا الصدد، وبالنسبة لإشغال هذا المبنى وغيره من المباني، من المهّم الإشارة إلى أنّه لا يحق للسلطات القيام بعملية إخلاء دون تقديم بدائل واقعية وآمنة وقابلة للتنفيذ وملائمة للأشخاص المعنيين، والتفاوض حول هذه البدائل بشكلٍ عادل. كما يجدر الامتناع عن اتّخاذ إجراءات تعسفية، أي غير قانونية، وبالتالي يجب أن يتمّ الإخلاء من خلال اتباع الإجراءات القانونية والعادلة. لذا، يتعيّن على أي جهة أو سلطة تسعى لاتخاذ هذا النوع من الإجراءات الحصول أولاً على إذن بالإخلاء رسمي وقانوني وأن يتحقق السكان من هذا الإذن. وحتى مع توفّر الإذن الرسمي، ينبغي أيضاً الامتناع عن استخدام القوة أو العنف أو أي نوع من أنواع التهديد أو الترهيب لتحقيق الهدف. بل يجب أن يتمّ ذلك من خلال التفاوض، مع الأخذ في عين الاعتبار الظروف المعيشية الصعبة والقاهرة التي يمرّ هؤلاء النازحون/ات بها.
كذلك، في ظلّ أزمة النزوح الناتجة عن الحرب، لا يمكن أبداً الاستمرار بالتغاضي عن ضرورة تغيير نظرة الدولة للمباني الشاغرة، ومقاربتها كمخزون سكني يجدر بها الاستفادة منه كإحدى الخيارات الأكثر نجاعةً في حلّ مشكلة الوصول إلى المسكن الآمن للأكثر حاجة، لا بل وفتح المجال أمام ديناميكيات اجتماعية صحية، لإدارة المباني والمساكن بشكل جماعي، ودعم التعاضد بين النازحات\ين أنفسهن\م وبينهم وبين الأحياء المستقبِلة.
وأخيراً، من الواجب أيضاً تحديث خطة الطوارئ باستمرار لتتناسب مع الأعداد الحقيقية والمتزايدة للنازحين/ات، إذ أنّ الخطة الحالية لم تلحظ موارد وأماكن إيواء تتناسب مع حجم النزوح. ويفترض أن يترافق ذلك مع إصدار مرسوم تعبئة عامة على نحو منح الدولة هامشاً واسعاً لتوفير الموارد الوطنية اللازمة لحاجات الإيواء.
حماية الملكية الخاصة في مواجهة تحويل المباني الشاغرة
على الرغم من تجاربنا العديدة في الكوارث والحروب، فإن الدولة وأجهزتها اليوم وفي ظل أزمة النزوح الحالية القاسية والصعبة، مازالت تُكمل في إيلاء الأولوية للدفاع عن الملكية الخاصة. فنراها تتسارع في إصدار قرارات الإخلاء بشكلٍ مستعجل، لا بل وتنفّذ هذه الإخلاءات باستخدام القوّة، وذلك على حساب الصالح العام وعلى حساب النازحات/ين وحقوقهن/م. ونتيجة ذلك، فهي تتغاضى عن الدور الذي يمكن أن يلعبه المخزون السكني الشاغر، بحيث يمكن له، كما سبق وذكرنا، أن يكون الحلّ الأمثل لإيواء الناس. في حالات الطوارئ كما التي نعيشها، للدولة حقّ بمصادرة الأبنية والأماكن الخاصّة لتأمين المسكن، وذلك للصالح العام. فللبيئة المبنية دور اجتماعي موجود في كل وقت، لكنّه يظهر بالذات في أوقات الحروب والكوارث. وبالتالي فإن الدولة تستطيع أن تُسائل قدسية حقوق الملكية لصالح الحقوق الاجتماعية الأخرى وأولوية حماية الملك الخاص لصالح الاستخدام العام ولو المؤقّت، بالأخصّ الحقّ في السكن ولاسيما في أوقات الحرب والأزمات. كما تسمح القوانين المرعية الإجراء باستخدام الأملاك الخاصة في مقابل تعويضات لأصحابها تقرّرها الدولة. كما للبلديات مسؤولية وصلاحية في تحديد المباني والشقق الشاغرة وتطوير خطة للسكن المؤقت والآمن فيها. في هذا الإطار، يمكن تصنيف المباني الشاغرة تحت ثلاثة أنواع، واعتماد خطة لكل نوع: المباني العامة الشاغرة التي تملكها الدولة أو مؤسساتها أو البلديات؛ المباني أو الشقق ذات ملكية الخاصة؛ ومباني الأوقاف الشاغرة. ولا يقتصر المخزون السكني القائم على الشقق الفارغة التي يتطلّب استخدامها إعلان التعبئة العامّة، بل يشمل أيضاً الغرف فندقية والشاليهات والغرف المفروشة المعروضة على Airbnb في لبنان، والذي يتطلّب فتحها ضمانات بالتعويض أو تحمّل الكلفة من قبل الدولة.
ختاماً، يتطلّب الوضع الحالي إجراءات عاجلة وفعّالة على الدولة اتّخاذها لضمان حقوق النازحين/ات ولتأمين السكن اللائق لهم، وهو واجبها الدستوري أساساً، في ضمان الحق بالسكن. وما استخدام المخزون السكني الشاغر سوى خطوة واحدة لكنّها فاعلة، في تحريك المساحات المدينية الراكدة، وفي تحويل غير المُستخدَم إلى مساكن ومساحات اجتماعية حيّة. هو إذاً خيار الدولة، بين ترك المباني الشاغرة والناس بلا بيوت، وبين إنعاش المدينة وأحيائها وإيواء الناس بشكل يُعطي الأولوية للحق بالسكن.