إخلاء وهدم المحلات في برج البراجنة: صراع بين التنظيم والتهميش الاجتماعي

المصدر: مقاطع فيديو متداولة وتنبيه رئيس بلدية برج البراجنة المنشور بتاريخ 24 كانون الثاني 2025

في 24 كانون الثاني 2025، تداولت وسائل إعلام متعددة تقارير عن تنفيذ بلدية برج البراجنة، بالتنسيق مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية، حملة إخلاء وهدم استهدفت عدداً من المحلات التجارية غير النظامية. وأعلنت البلدية عبر صفحتها على فيسبوك عن العملية بمثابة تنبيه من التعديات على الأملاك العامة بعد فترة الحرب. وأكّد رئيس البلدية، المحامي عاطف منصور في بياناته، التزام البلدية بإزالة المخالفات العمرانية واتّخاذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين بالتنسيق مع القوى الأمنية واتّحاد بلديات الضاحية الجنوبية.

شملت المحلات المستهدَفة محلات صغيرة مبنية من ألواح معدنية وخشب، والتي تُستخدم كأكشاك أو مستودعات. وقد أظهرت مقاطع الفيديو التي تداولها السكان انتشار كثيف للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي وشرطة البلدية. وشهدت العملية إشعال إطارات واعتراضات من قبل الأهالي، إلى جانب مواجهات مع الجيش، ممّا أبرز حالة التوتر والغضب التي سادت بين السكان. لكنّنا لم نستطع الوصول إلى المزيد من المعلومات عن عدد المحلّات التي هدمها، وعدد الباعة، وأنواع البضائع التي كانت تُباع هناك، وحتى البدائل التي سيلجأ إليها الزبائن وغيرها من الأمور الضرورية لفهم سياق وتأثير هذا السوق غير النظامي. وقد ساهم امتناع السكان وأصحاب المحلّات المجاورة في التعتيم على ما جرى.

ذكرت البلدية أن المحلات مبنية على الأملاك العامة، وبرّرت عملية الإخلاء والهدم على هذا الأساس. ومع ذلك، أظهرت مراجعتنا لسجلات الملكية أن المحلات كانت مبنية على قطعتي أرض مسجَّلتين كأملاك خاصة، ممّا يكشف عن تناقض كبير بين مزاعم البلدية والواقع القانوني للأرض. يثير هذا التناقض تساؤلات جوهرية حول النوايا الحقيقية وراء عملية الهدم. بالإضافة إلى ذلك، كان من المفروض أن يتمّ تبليغ الباعة بشكل شخصي قبل الإزالة بفترة تسمح لهم بنقل أغراضهم. وبما أن الأملاك خاصة، فمن المتوقّّع أن المالكين هم من تقدّموا بالشكوى، ممّا يعني بأن العملية جارية منذ زمن. وبالرغم من ذلك، لم يتمّ تبليغه الباعة قبل الإزالة. كما كان من المفروض عدم استخدام العنف أو التكسير عند الإزالة، حتى ولو كانت الأكشاك مبنية على أرض الغير.

بدلاً من أن تكون العملية مجرد إجراء تطبيقي لحماية الأملاك العامة، قد تشير هذه الخطوة إلى محاولات فرض سيطرة أكبر على الأنشطة الاقتصادية غير النظامية في المنطقة. كما يدفع هذا الوضع للتساؤل حول مدى الالتزام بإجراءات الشفافية والعدالة في اتخاذ القرارات المتعلقة بإخلاء أو هدم الممتلكات في الأحياء غير النظامية. إن توسّع القطاع غير النظامي بشكل ملحوظ في برج البراجنة ومحيطها جرى تاريخياً نتيجة عوامل متعددة أبرزها غياب الفرص الكافية لدمج السكان من الفئات المهمّشة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي النظامي للمدينة.

كما لا يمكننا أن نرى هذا التصرف بشكل منفصل عن الممارسات العامّة للسلطة، المحليّة خاصة. فبين تدمير سوق البالة الشهير في طرابلس، وما سبقها من أحداث مهّدت لها طوال أشهر، وإزالة الأكشاك على مدخل صور، حتى إزالة هذه المحالّ في برج البراجنة، تكرّس هذه الحملات عدم اعتراف البلدية بالاقتصاد غير النظامي. وفيما يزاول 65% من نسبة العمّال الإجماليين أعمالاً غير نظامية، فهذه العمالة لم تكن يوماً إستثناءً للقاعدة في الاقتصاد اللبناني، بل هي “سمة بنيوية فيه“. ويشمل هذا القطاع أنشطة متنوعة، منها الأنشطة السكنية والاقتصادية غير المرخّصة، والتي باتت ظاهرة شائعة في العديد من ضواحي بيروت الجنوبية. إذ ساهمت الحروب المتكرّرة وفترات ما بعد الحرب في تدهور البنية التحتية وإضعاف الفرص الاقتصادية، ممّا دفع العديد من السكان إلى اللجوء إلى القطاع غير النظامي كوسيلة للبقاء وتلبية احتياجاتهم اليومية. وهو ما جعل القطاع غير النظامي حالياً أحد القطاعات المنتجة القليلة التي يستطيع صغار التجّار والحرفيين الولوج إليها في الوقت الذي تتزايد أسعار إيجارات المحال التجارية؛ كما أنّه أصبح الشكل الوحيد لشريحة -تكبر يوماً بعد يوم- من السكّان اللواتي والذين أصبحوا غير قادرات\ين على تأمين حاجياتهن\م اليومية من السوق النظامية. كما أن الأسواق والبسطات غير المرخّصة مبادرة ناجحة وفعّالة من قبل أصحاب البسطات، لتطويع المكان وتغييره ليتناسَب مع حاجاتهم وحاجات السكان والمدينة، ليكونوا بذلك، قد أنتجوا مكاناً عاماً بشكل ناجح أكثر ممّا استطاعت فعله السلطة، وبالذات البلدية.

وبالتالي، فإن تمسّك السلطة\البلدية بمفهوم التنظيم كأولوية وبمقاربة المدينة كمساحة وكممارسة من منظور قانوني بحث، هو تخلٍّ كاملِ عن مسؤوليّتها في تقديم مصلحة الفئات الأكثر تهميشاً، ورعايتهم والتأكّد بأن حقوقهم الأساسية، من الوصول إلى المواد الأساسية أو الحصول على عمل، مؤمّنة بشكل كافٍ. لذا فمن الضروري أن تعامل البلدية سكان المدينة وعمّالها كشركاء في تنظيم الأسواق والمحلات غير النظامية، وأن تعترف بوجود هذا النوع من الاقتصاد غير النظامي، وتطرح إنشاء البسطات على شكل هياكل مؤقتة في أماكن محدّدة تضمن حماية مصادر رزق الناس إلى حين توفير بدائل مستدامة وحلول لمشكلة البطالة في الحيّ والمنطقة، في سبيل وضع سياسات فعلية تتعامل مع نتائج الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتأثيراتها على المجتمع.

في ظل الظروف الاقتصادية الاجتماعية الحالية، تبدو الحملة بمثابة محاولة من البلدية لفرض سيطرتها وإظهار التزامها بتنظيم المنطقة ومنع تكرار “أخطاء” الماضي المرتبطة بالتوسّع العشوائي. ومع ذلك، فإن هذه الجهود تأتي في سياق اجتماعي واقتصادي قاسِ، حيث قد تُنفذ التدابير بطرق تؤدي إلى مزيد من تهميش الفئات المستضعفة التي تعتمد بشكل كبير على هذا القطاع في معيشتها. هذا ويجب أن نرى وجود الدولة وبسط سيادتها، كما يجري تداوله اليوم والضغط باتّجاهه، لا يكون بفرض شكل بوليسي للسلطة يحرم الناس حقوقها ويُغلق عليها الأبواب القليلة المفتوحة، بل يكون بوجود الدولة كراعٍ لحقوق الأكثر تهميشاً وداعمٍ لهم للوصول إلى الممارسات الاقتصادية المدينية النظامية.

الأملاك العامة برج البراجنة قضاء بعبدا لبنان محافظة جبل لبنان