14 يومًا من الحجْر الصحّي
يوم 16 أيار، استيقظنا في حيّ راس النبع على مشهد تطويق مبنيَين سكنيَين لم أكن أعرف شيئًا عنهما سوى تفاعلي مع الأولاد الذين كانوا يلعبون دومًا على الرصيف المقابِل لهما. يومها، سألتُ سكان الشارع عمّا يحدث، فجاء الجواب اكتشاف انتشار فيروس كورونا بين سكان أحد المبنيَين، وتحديدًا المبنى الأصغر حجمًا المكوّن من ثلاثة طوابق يقطنها عمالٌ من التابعية البنغلادشية. أما المبنى الثاني الأكبر حجمًا الواقع على نفس العقار، فيتكوّن من ستة طوابق تقطنها عائلاتٌ سورية. وعلى الرغم من عدم تأكيد أيّ إصابةٍ بالفيروس بين أفراد العائلات السورية، جرى تطويق كِلا المبنيَين ومنع سكانهما من الخروج منعًا باتًا.
في اليوم الأول، كان الرصيف خاليًا من الأولاد. ولتطويق المبنيَين، استعانت قوى الأمن ببعض البراميل الحديدية خضراء اللون استعارتها من مركز حركة أمل المواجِه للمبنيَين، وعددٍ من السلال البلاستيكية من دكان الخضار الواقع على زاوية الشارع. كذلك فُرزَ رجل مهمّته الوقوف أمام مدخل المبنى الكبير حاملًا عصا خشبية.
وما إن مرّ يومان حتى أصبح رجال الأمن جزءًا لا يتجزأ من الشارع، إذ يقفون طيلة النهار على الرصيف المقابِل للمبنيَين. كما أنشئَت نقطةٌ لإجراء الفحوص العشوائية للراغبين من سكان الحيّ. وسرعان ما استُبدلت البراميل والسلال البلاستيكية بحواجز حديدية، وأصبح “حارس” المبنى عبارةً إما عن دراجةٍ ناريةٍ مركونةٍ أمام المدخل، أو حاجزٍ حديدي يلعب الأولاد على سطحه أحيانًا. وأصبح لرجال الأمن كراسي بلاستيكية للاستراحة وطاولة تُقدم عليها فناجين القهوة، كما انضمّ إليهم على الزاوية المقابِلة، عناصرُ الأمن الخاص التابع للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان الذي يسكن برجًا يقع في آخر شارع محمد الحوت. كذلك بدأت المنظمات الدولية ووفودٌ من جامع الحيّ بتقديم المساعدات والحصص الغدائية لسكان المبنيَين. ونظرًا لمنعهم من مغادرة المبنى، لم يكن أمام السكان إلا رمي نفاياتهم أمام مدخلَي المبنيَين، ما حوّل الرصيف إلى تلّة قمامةٍ على مدى يومَين، قبل أن تتطوّع بعض الجهات لإزالتها.
يوم 23 أيار، صرّحت رئيسة برنامج الترصّد الوبائي في وزارة الصحة لجريدة النهار أن عدد المُصابين بفيروس كورونا بلغ 68، كلّهم من التابعية البنغلادشية حصرًا، وقالت: “بسبب الاكتظاظ السكاني والاختلاط الناتج عن العدد الكبير داخل الشقة الواحدة، قررنا الفصل بين الحالات الإيجابية والحالات السلبية لضمان عدم انتقال العدوى إليهم .” وفي ساعاتٍ متأخرةٍ من تلك الليلة، شاهد السكان الصليب الأحمر يُجلي أشخاصًا مشتبهًا بإصابتهم بفيروس كورونا من المبنى الصغير إلى خارج الحيّ عبر المناداة عليهم بالاسم. لاحقًا، علمنا بأنّ العدد كان 81 حالة غير مؤكدةٍ نُقلَت إلى فندقين مخصّصَين للحجْر الصحّي في بيروت.
وعلى الرغم من انقضاء مدة الحجْر الصحّي البالغة 14 يومًا، ما زال سكان المبنى الكبير من العائلات السورية مطوّقين في داخله. ضاقت بهم الدنيا، فباتوا يقضون أيامهم بكاملها على الشرفات والشبابيك. أراهم جالسين رجالًا وأطفالًا بعضهم فوق بعض، يتفرّجون على الحيّ وثرثرة السكان، غير مدركين ربما أنّ مجرد وجودهم في الحيّ بات سببًا لممارسة التهديد والإقصاء عليهم.
هشاشة السكن في غياب السياسات السكنية: قصة مبنيَي الآغا
كانوا بنايات مرتبة. كانوا لبيت بكداش، مالكي مطابع الـ OPP. المبنى الصغير كان فيه المطبعة والمكاتب. وقتها، جاء رشيد كرامي لافتتاحه. أما المبنى الكبير، فكان يسكنه آل بكداش. وبتذكّر كان الأستاذ جمال الدين مستأجر بالطابق الأول، وكانوا يجتمعوا ببيته مع السيد موسى الصدر قبل تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. كان السيد موسى الصدر ساكن ببناية الشعار في راس النبع في الستينات. كانوا مباني مزبوطة، مش مثل هلق. من حوالي 10 سنين باعوا العقار لشخصٍ من آل الآغا، وهو صار يأجّره لعمالٍ أجانب.
هكذا يصف مختار في الحيّ تاريخ المبنيَين. في واقع الأمر، تردّدت عبارة “كانوا بنايات مرتبة” على ألسنة عددٍ من سكان الحيّ ممّن تحدثتُ إليهم، وإن لم تُستخدم في كل مرةٍ للغاية أو المعنى ذاته. البعض اعتبر – كالخضرجي الذي سكن في الحيّ منذ عقود – أنّ “كل الناس خير وبركة، بس نحنا مقهورين على الاكتظاظ اللي صرنا عايشين فيه. الحيّ ما كان هيك. كانت الناس مرتاحة ببيوتها وكان الشارع مليان بساتين وملاعب للعب، صارت اليوم كلها أبراج”. أما البعض الآخر، فكان كلامه مفخخًا بخطابٍ طبقي وعنصري يدافع عن تاريخ الحيّ الراقي والمتماسك اجتماعيًا.
بالفعل، العلاقات الاجتماعية السلسة والمتينة هي أحد أبرز ميزات راس النبع، حيث يحضر الناس بكثرةٍ في الحيّز العام، وتحدث اللقاءات في شوارع الحيّ. تتكوّن المنطقة من عائلاتٍ بيروتيةٍ أساسيةٍ متوسطة الدخل، تربطها في الوقت عينه علاقةٌ قويةٌ جدًا بالأسَر البيروتية البرجوازية. في ما مضى، كانت المنطقة تتكوّن بالكامل من بيوتٍ بحدائق، لكن الحرب الأهلية أفرغتها تمامًا. ومع انتهاء الحرب، عاد السكان إليها وبدأت عملية إعادة الإعمار التي أدّت إلى هدم مبانٍ عديدة.
اليوم، يتكوّن الحيّ من ثلاثة أجزاء: الفوقاني الأكثر فقرًا؛ والوسطاني الذي يمتاز ببناءٍ منخفض العلوّ وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ متينة؛ والتحتاني من ناحية سبق الخيل، وهو الجزء الأكثر رقيًا واختلافًا عن الجزأين الأوّلَين. بعض المالكين من الجيل الجديد يرغب في بيع أملاكه ومغادرة الحيّ، بينما يبدي البعض الآخر إصرارًا كبيرًا على البقاء. أولئك الذين اختاروا الرحيل انتقلوا إلى وادي الزينة والجيّة، إذ يرون أنهم مختلفون طبقيًا وطائفيًا عن سكان عرمون ومحيطها. عن ذلك، يقول المختار: “الناس الذين تركوا الحيّ لم يتركوه فرِحين. والذين بقوا فيه، يفتقدون مَن تركوه”.
يقع المبنيان المعروفان اليوم بمبنيَي الآغا على الحدّ الفاصل بين القسمَين الوسطاني والتحتاني من شارع محمد الحوت. عندما عمد آل بكداش إلى بيع العقار للآغا ومن ثم مغادرته وإخلاء العائلات الثلاث المستأجِرة فيهما، كان المالك الجديد ينوي هدم المبنيَين، لكنه عدل عن ذلك لأسبابٍ غير واضحة. بعدها، ظهر في المشهد وكيلٌ استثمر المبنيَين من الآغا بغية تأجيرهما وتقاسم الأرباح معه، ما يعني أن زيادة عدد المستأجرين وبالتالي بدلات الإيجار تصبّ في صالح الوكيل. وتزامن هذا الترتيب مع ازدياد عدد اللاجئين السوريّين في لبنان وارتفاع الطلب على شققٍ سكنيةٍ ميسورة التكلفة نوعًا ما داخل المدينة.
في نهاية المطاف، حوّل الوكيل المبنى الصغير إلى مساكن لعمالٍ من بنغلادش يعملون جميعًا في شركةٍ للتنظيف. ويضمّ كل طابقٍ من طوابق المبنى الثلاثة شقةً تبلغ مساحتها 250 مترًا مربعًا، قسّمها الوكيل إلى غرفٍ يقطن كلًا منها عددٌ من العمال. ويقول سكان الحيّ إنّ الاتفاق تمّ مباشرةً بين الوكيل والشركة التي اعتادت أن ترسل يوميًا شاحنةً تقلّ العمال إلى مقرّ عملهم قبل فرض الحجْر. والطابق السفلي من المبنى، أي الذي كان سابقًا معمل شركة OPP لآل بكداش، فأجّره الوكيل كمحلٍ لبويا السيارات.
أمّا المبنى الكبير المؤلّف من ستة طوابق يضمّ كلٌ منها شقتَين تبلغ مساحة كلٍ منهما ٢٥٠ مترًا مربعًا، فقسّمه الوكيل إلى شققٍ أصغر حجمًا لسكن العائلات (غرفتان وحمام ومطبخ)، باستثناء الطابق الأول الذي قُسّم إلى غرفٍ مخصصةٍ لسكن الشباب. وتتضارب المعلومات بشأن بدلات الإيجار، إذ يقول أحد المستأجرين السابقين إنّ إيجار الشقة كان يبلغ منذ سنتين 550 ألف ليرةٍ لبنانيةٍ شهريًا، تتضمّن نفقات المياه والطاقة الكهربائية. أما ناطور المبنى الموكل مهمّة جمع بدلات الإيجار والتواصل مع الوكيل وتسليم الحصص الغذائية للسكان في فترة الحجْر، فيقول إنّ بدلات الإيجار تتراوح بين 150 و200 و300 ألف ليرةٍ بحسب حجم العائلة.
وبحسب منظمة “أطباء بلا حدود” في مقابلة معهم، يبلغ مجموع سكان المبنى الصغير 179 عاملًا. أما المبنى الكبير، فيصل عدد سكانه إلى 300، بينهم 30 طفلًا لا تتجاوز أعمارهم العامَين. وفي ضوء هذه الأرقام، نستخلص أنّ الكثافة السكانية مرتفعةٌ جدًا في المبنيَين، وأنّ بدلات إيجار المبنى الكبير وحده تبلغ حوالي عشرة ملايين ليرة شهريًا، لقاء ظروف سكنٍ هشّةٍ ومتردّيةٍ تتسم بالكثافة العالية، وغياب الصيانة وافتقار بعض الشبابيك إلى إطاراتها التي أُزيلَت في السابق تمهيدًا لهدم المبنى.
في الواقع، ظاهرة تقسيم الشقق بغرض زيادة الأرباح من دون توفير أدنى مستوًى من السكن اللائق لا تقتصر على مبنيَي الآغا، بل تنتشر على نحوٍ واسعٍ في بيروت، حيث يحبّذ المالكون بشكلٍ عامٍ تحويل أملاكهم إلى مساكن مؤقتة. وشهدت بيروت في الأعوام العشرة الأخيرة – لاسيّما مع ازدياد عدد العائلات اللاجئة من سوريا – تحويل عددٍ من المباني والشقق إلى غرفٍ تؤجّر لفئاتٍ اجتماعيةٍ مهمّشة، وتنتج في أحيانٍ كثيرةٍ أوضاعًا سكنيةً غير لائقةٍ تفتقر إلى الخدمات الأساسية والصيانة. فتقسيم الشقق إلى غرفٍ يسمح للمالك بمضاعفة الأرباح مستغلًا حاجة شريحةٍ هشةٍ من الناس للسكن بالقرب من أماكن عملهم، لاسيّما في ظل غياب الضوابط والسياسات العامة للدولة لضمان السكن ميسور التكلفة في المدينة.
تهديداتٌ ومطالباتٌ بطرد العمال الأجانب والسكان السوريّين
في اليوم الرابع من الحجْر الصحّي، وبعد اتخاذ وزارة الصحة والقوى الأمنية سلسلة إجراءات، وجّهت رابطة أهالي رأس النبع الاجتماعية برئاسة عبد الودود النصولي كتابًا إلى بلدية بيروت ينصّ على ما يلي:
نظرًا لما انتشر إعلاميًا عن الوضع السيء لقاطني مبنى الآغا والمعروف بمبنى بكداش على شارع محمد الحوت، ونظرًا لما كانت من نتائجه إصابات بينهم بجائحة الكورونا وهذا ما سبب خوفًا ورعبًا بين الأهالي من حوله ما سبب بإخلاء بيوتٍ هربًا، نتمنى منكم العمل السريع على إخلاء المبنى ورشه بالمبيدات اللازمة حرصًا على أهالينا السكان من حوله وخاصة لما فيه من مشاكل ومخالفات لم تُحل منذ عهد بلدياتٍ سابقة.
وأُتبِعَ الكتابُ على الفور بما سُمّيَ عريضةً موقّعةً من سكان راس النبع موجّهةً إلى بلدية بيروت أيضًا، تطالبها بإخلاء البؤرة الوبائية فورًا ونقل سكان المبنيَين إلى مخيّماتٍ تؤويهم، بالإضافة إلى تعابير أخرى تنضح بالتحيّز العنصري والطبقي. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ أحدًا ممّن تحدّثتُ إليهم من سكان راس النبع لم يسمع عن تلك العريضة المفترضة. بعدها، توالت التصريحات الإعلامية لرابطة أهالي رأس النبع الاجتماعية، ولاسيما موقع الهديل الإلكتروني الذي تحوّل راعيًا لذلك الخطاب العنصري والطبقي من خلال نشر نصوصٍ كالتالي:
إفادة العديد من أهالي المنطقة أنّ المبنى يشهد أعمال منافية للحشمة بشكل دائم، بالإضافة إلى أنّ قاطنيه بأغلبيتهم من المقيمين بطريقة مخالفة للقانون على الأراضي اللبنانية، وهم يستأجرون المبنى من صاحبه بلا أي عقد إيجار قانوني (….) الأهالي قالوا إنّهم ناشدوا طويلًا منذ ما قبل كورونا التدخّل لإخلاء أو تنظيم السّكن في المبنى، لأسباب عديدة أبرزها الخطر الصّحي الذي يشكله القاطنون والذين يؤكد الأهالي أنّ أغلبهم لا يهتمون بنظافة السّكن، ما أدى لانبعاث روائح كريهة بشكل دائم منه، عدا عن الإزعاج الذي كان يسببه الصراخ المستمر في المبنى بفعل الإشكالات بين قاطنيه…
وبلغت التصريحات حدّ التهديد باستخدام الوضع القانوني للعمال الأجانب الذين فُرض عليهم نظام الكفالة، ما أرغم العديد منهم على الإقامة في لبنان بشكلٍ لا يستوفي شروط الأمن العام. هكذا، تستغلّ رابطة الأهالي وضع العمال الهشّ لممارسة الإقصاء والتهديد عليهم. وفي أحد تصريحاته، يطالب رئيسُ الرابطة عبد الودود النصولي مديرَ عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان إلى متابعة الملف، لاسيما أنّ المبنى المذكور يقع بالقرب من منزله، داعيًا الأمن العام إلى التدقيق في إجازات العمل وإقامات العمال قاطني المبنى وترحيل المخالفين منهم إلى سفاراتهم.
ولم تقف الرابطة عند هذا الحدّ، بل طالبت أيضًا بإخلاء أربعة مبانٍ أخرى في راس النبع يقطنها عمالٌ أجانب. هذه التصريحات والتهديدات لم تكن مجرد كلامٍ صادرٍ عن رابطةٍ لا صفة تمثيلية لها، بل تركت تداعياتٍ فعليةً على ستة شبّانٍ سوريّين يقطنون مبنًى آخر في الحيّ. وروى أحدُ الشبّان ما حدث:
من يومين (25 أيار) جاء المختار ومعه الدفاع المدني وشخص من بلدية بيروت، ودقوا على أبواب الشقق. قاعدين الشباب جوا، والمختار حامل كاميرا عم يصوّر ويقول للكاميرا ليكوا شوفوا. أنا فتحت الباب، ضهرت، فاتوا دفعة واحدة بدون استئذان، ما حسّيت إلا صاروا جوا. قلتلهم انقلعوا لبرا ونزّل الكاميرا. قال هلق منجبلكن وزارة الصحة. أنا ردّيت جيب اللي بدك، نحنا عملنا فحص كلنا لما كانت الخيمة برا وما طلع عنا شي. لما تركوا لبرا، صاروا يعتذروا، بس من بعد شو. الشباب شعروا بالضغط وتركوا، لأن قالولنا بدنا نجبلكن يشمعوا البناية بالأحمر، وقالولنا بدنا نجيب وزارة الصحة وبدهم يطرقوكم ضبوطة، وقالوا وقالوا… خافوا الشباب. فضّلوا يطلعوا بسلام. كل شاب راح عند حدا من قرابته بمناطق تانية.
بعد أربعة أيامٍ على تلك الحادثة، بدأت التهديدات والضغوط تطال باقي السكان السوريّين في المبنى، ما دفع بقاطني أربع شققٍ أخرى إلى تركها ومغادرة الحيّ بالكامل. وتشهد بعض المناطق اللبنانية ممارساتٍ مماثلة، على الرغم من عدم قانونيتها وعدم صلاحية أي جهةٍ لفرضها، فالإخلاء من دون أمرٍ قضائي يُعدّ إخلاءً تعسّفيًا.
نحو لجان أحياءٍ قاعديةٍ تمثّل السكان فعلًا
نتيجةً لتلك التصريحات والتهديدات الضاغطة، ازدادت معاناة فئةٍ مهمّشةٍ ومعرّضةٍ أساسًا للإقصاء والتمييز، في ظلّ غياب أيّ روابط أو لجانٍ أو أطُرٍ تمثيليةٍ تتشكّل عادةً في أحياء المدينة.
لا تقتصر مشكلات لجان الأحياء – غير الموجودة فعليًا – على إقصاء غير اللبنانيين، بل تتعدّى ذلك لتطرح السؤال التالي: ما هو الحيّ ومن يتحدث باسمه؟
كلنا يعي تمامًا كيف فكّكَت سنواتُ الحرب الأهلية وما بعدها “الحيّ” وشوّهت علاقة السكان بأحيائهم ومدينتهم، مولّدةً روابط طائفية ترتبط بمفهوم “العائلة” وتحتكر تمثيل الأحياء. ويشرح أحد سكان راس النبع أنّ اللجان العائلية في الحيّ أساسيةٌ جدًا، لكنها لا تمثل العائلات فعليًا، فهي لا تنجز شيئًا للحيّ. وفي هذا الصّدد، يقول أحد السكان: “رابطة أهالي راس النبع أسّسها شخصان، أحدهما رئيسها الحالي. تناصر الرابطة تيار المستقبل وتربطها به علاقة مباشرة أيضًا لجهة التمويل. وتتكوّن الرابطة من ثلاثة أو أربعة أشخاص، وتعقد جمعيةً عموميةً مرةً كل سنةٍ لتحافظ على رخصتها.”
بمرور الوقت، ومنذ انتفاضة 17 تشرين، باتت واضحةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى ضرورةُ إطلاق مبادراتٍ جماعيةٍ على صعيد الحيّ للدفاع عن حقوق جميع السكان ومصالحهم المشتركة. فالأحياء هي الخلية الأساسية في بنيان المدينة؛ فبيروت تتألّف من أحيائها أولًا، ثم من عائلاتها وطوائفها. المدينة عبارةٌ عن سكانٍ يعيشون معًا جنبًا إلى جنب، بغضّ النظر عن روابطهم العائلية أو الطائفية أو مكان تسجيل نفوسهم؛ يتقاسمون المشكلات نفسها، ويحتاجون للحلول ذاتها ويستخدمون المرافق والمنشآت عينها. تجاربهم ومعاناتهم واحدة.
لذا، إذا ما وُجدت لجانُ أحياءٍ ذات تمثيلٍ حقيقي، يمكنها أن تكون ناطقًا أمينًا باسم الحيّ ومشاكله ومطالبه وحاجاته وآماله، وأن تتحوّل إلى عنصرٍ فاعلٍ في حياة المدينة. لكن في بلدٍ تتمّ فيه الانتخابات على أساس مكان القيد لا مكان السكن وتسديد الضرائب، يغدو شبه ممنوعٍ تشكيل لجان أحياءٍ ذات تمثيلٍ فعلي. فالنظام الحاكم يفضّل التعامل مع الأزلام والروابط العائلية والوفود الطائفية، وهي كلّها أطرٌ تقايض مصالح الحيّ الفعلية وتفاوض عليها مع السياسيّين ورجال الدين والعائلات النافذة.
يبقى الأمل أن تكون حادثة مبنيَي الآغا في حيّ راس النبع المتنوّع دافعًا لإطلاق عملٍ جماعي قاعدي يهدف للدفاع عن حقوق جميع السكان، ويستعيد صوتهم ممّن يدّعون التكلّم باسمهم.