بين الحين والآخر، تبرز محاولةٌ جديدة لخصخصة أصول الدولة وأملاكها من خلال اقتراحات عديدة، قد تختلف شكلاً لكنّها عادةً ما تتشارك الجوهر نفسه. اليوم، يُطرح اقتراح قانون من الروحية نفسها من قبل نواب القوات اللبنانية. يقوم هذا الاقتراح على إنشاء مؤسسة مستقلة تتولى مسؤولية إدارة أصول الدولة، من ضمنها الأصول العقارية، بهدف تغذية صندوق إعادة تكوين الودائع من الأرباح التي ستحقّقها هذه المؤسسة. يأتي هذا الاقتراح في تناسٍ تام لمسؤولية المصارف في ترتيب الخسائر على المودعين، محملاً الدولة -بمعنى آخر المجتمع- كافة الخسائر، وطارحاً الخصخصة المقنّعة كحلّ لتحسين حوكمة أصول الدولة ورفع ربحيتها. من خلال مشروع القانون هذا – كما الاقتراحات السابقة – يتمّ عرض الخصخصة كأنها المسار الوحيد المنطقي/الحتمي للأمور في ظل الأزمة التي يمرّ بها لبنان. تكمن خطورة هذه السردية في أنّها تُغفل الدافع الأساسي للسلطة والمدافعين عنها وراء تحميل الدولة كافة الخسائر -وهو ما روّج له النظام منذ بدء الأزمة. فغالباً ما يتمّ تبرير اللجوء إلى الخصخصة ونقل مسؤوليات الدولة إلى القطاع الخاص كجزء من النهج الرأسمالي وسعيه الدائم إلى التوسّع مكانياً من خلال إيجاد المزيد من الأسواق والأرباح المستقبلية.
باختصار، ما هو القانون المقترح؟
يقوم اقتراح هذا القانون على إنشاء مؤسسة مستقلة على شكل هيئة خاصة تتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي ولا تخضع لأي نوع من أنواع الوصاية. تتولّى هذه المؤسسة مسؤولية إدارة أصول الدولة ومؤسساتها التي تتّسم بالطابع التجاري، من ضمنها الأصول العقارية.
ما هي الأسباب الموجبة التي يذكرها القانون؟
- لا يجوز أن يكون المودع هو الجهة الأكثر تضرراً أو يتحمّل عبء الجزء الأكبر من الخسائر وديون القطاع العام، فيجب على الدولة تحمل مسؤولياتها في مقاربة إعادة تكوين الودائع.
- تنصّ مقاربة التعافي واقتراح قانون إعادة التوازن للقطاع المالي، على إنشاء صندوق لإعادة تكوين الودائع يتضمّن أصول بعض المصارف ومساهمة من فائض ميزانية الدولة.
- أصبحت أصول الدولة ذات الطابع التجاري والربحي تحقّق خسائر وتشكّل وعبئاً على الخزينة جراء عجز الدولة عن إدارتها بالطريقة المطلوبة، فيما تتدهور نوعيّة الخدمات بشكل مستمرّ.
- لم يتمّ استثمار أصول للدولة بطريقة فعالة لتعزيز مصادر الدخل.
تبرّر هذه الأسباب -بالنسبة لمقترحي مشروع القانون- الحاجة الملحة لإدارة أكثر فاعلية للشركات والمؤسسات التابعة للدولة وتعزيز قيمتها للمساهمة في تعويض جزء من الخسائر.
أي نواب اقترحوا القانون؟
نواب القوات اللبنانية: غسان حاصباني؛ جورج عدوان؛ جورج عقيص؛ رازي الحاج؛ الياس اسطفان؛ فادي كرم.
نوع القانون
اقتراح قانون
الفاعلون
نواب القوات اللبنانية، المصارف، كبار المودعين، القطاع الخاص (شركات لبنانية أو شركات أجنبية)
المناطق المتأثرة
أصول الدولة بينها الأملاك العامة على كافة الأراضي اللبنانية
لتحميل القانون
بين الحين والآخر، تبرز محاولةٌ جديدة للاستيلاء على أصول الدولة وأملاكها من خلال اقتراحات عديدة، قد تختلف شكلاً لكنّها عادةً ما تتشارك الجوهر نفسه. من ضمن هذه المحاولات، يُذكر اقتراح إنشاء صندوق سيادي يهدف إلى تحميل الدولة الخسائر بدلاً من تحميلها لأصحاب المصارف، وذلك عبر تنازل الدولة عن الأصول العامة وضمّها إلى هذا الصندوق. وقد شكلّ هذا الطرح، الاقتراح الأوّل لجمعيّة المصارف التي لم تخفي رغبتها، منذ بداية الأزمة، في السيطرة على “أسهم في شركات تملكها الدولة (مثلاً شركات الاتصالات) و\أو أراضٍ عامة وأصول عقارية و\أو حقوق\امتيازات استثمار (مثلاً واجهة بيروت البحرية)”، كما جاء في تقريرها “المساهمة في خطة الحكومة للتعافي المالي”. وقد تقدّم وزير البيئة السابق محمد المشنوق باقتراح مشابه، فيما لم تخلُ مسودة موازنة عام 2022 من بنود تمهّد لهذا التنازل.
اليوم، يُطرح اقتراح قانون من الروحية نفسها من قبل نواب القوات اللبنانية. فما هو قانون “إنشاء مؤسسة مستقلة لإدارة أصول الدولة” وأين تكمن خطورته؟
ما هي المؤسسة المستقلّة لإدارة أصول الدولة؟
يقوم هذا الاقتراح على إنشاء مؤسسة مستقلة على شكل هيئة خاصة تتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي ولا تخضع لأي نوع من أنواع الوصاية، لتتوّلى مسؤولية إدارة أصول الدولة ومؤسساتها التي تتّسم بالطابع التجاري، من ضمنها الأصول العقارية.
أمّا المهام الأساسية لهذه المؤسسة فهي إبرام عقود تشغيل مع جهات أو شركات لبنانية ذات خبرة عالمية واسعة أو شركات أجنبية، إضافةً إلى تعيين مجالس إدارات المؤسسات الموضوعة تحت إشرافها وإدارتها دون نقل التشغيل إلى جهات أخرى، بحيث يكون من صلاحيات هذه المؤسسة تلزيم استثمار المرافق للقطاع الخاص، أو إدخال القطاع الخاص كشريك فيها بالتعاون مع الهيئات الناظمة في كل قطاع. بموجب اقتراح هذا القانون، يتمّ أيضاً إنشاء مؤسسة أخرى، وهي “المؤسسة العقارية المستقلة” على شكل شركة قابضة، تُعنى بإدارة العقارات العامة المبنية وغير المبنية واستثمارها، وتكون تحت إشراف المؤسسة المستقلة لإدارة أصول الدولة.
ويتكوّن مجلس إدارة هذه المؤسسة من 8 أعضاء من ذوي الاختصاص يتمّ تعيينهم بالأكثرية المطلقة من قبل هيئة عامة مؤلّفة من حاكم مصرف لبنان، رئيس المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، رئيس هيئة الشراء العام، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، نقيبي المحامين في بيروت وطرابلس، نقيبي المهندسين في بيروت وطرابلس، نقيب المحاسبين المجازين في لبنان.
بحسب هذا الاقتراح، تتوزّع مداخيل الشركة على الخزينة وعلى صندوق إعادة تكوين الودائع بالتساوي. كما لا يجوز تعديل ملكية المؤسسة المستقلة إلا بموجب قانون. إلا أنّه يمكن طرح أسهم المؤسسة في سوق أسهم بيروت بعد 5 سنوات من إنشائها. ويمكن لهذه المؤسسة الاستدانة في المدى المنظور لتأمين السيولة للجهات المالكة في المرحلة الأولى، على ألا تتخطى نسبة الدين 20% من قيمة أصولها، وعلى أن تقيَّم هذه الأصول بشكلٍ يأخذ بعين الاعتبار مجموع الأرباح التي يمكن تحقيقها بشكلٍ متراكم على المدى البعيد.
وإذا ما راجعنا الأسباب الموجبة لهذا الاقتراح، نعود إلى الأسطوانة نفسها المتعلّقة بحقوق المودعين وبمسؤولية الدولة في إعادة تكوين الودائع. فبحسب الأسباب الموجبة، لا يجوز أن يكون المودِع هو الجهة الأكثر تضرُّراً أو يتحمل عبء الجزء الأكبر من الخسائر وديون القطاع العام. تنصّ الأسباب الموجبة أيضاً على أنّ مقاربة التعافي واقتراح قانون إعادة التوازن للقطاع المالي ينصّ على إنشاء صندوق لإعادة تكوين الودائع يتضمّن أصول بعض المصارف ومساهمة من فائض ميزانية الدولة، غير أنّ الدولة غير قادرة حالياً على تغطية ما يكفي من هذه الفجوة المالية، ما يبرّر الحاجة الملحة لإدارة أكثر فاعلية للشركات والمؤسسات التابعة للدولة، ويدفع نحو إنشاء هذه المؤسسة المستقلّة لإدارة أصول الدولة وللمساهمة في تعويض جزء من الخسائر، وسدّ الفجوة من الأرباح التي ستحقّقها المؤسسة.
سردية الخصخصة
في مشروع القانون هذا – كما الاقتراحات السابقة – يتّم عرض الخصخصة على أنها المسار الوحيد المنطقي/الحتمي للأمور في ظل الأزمة التي يمرّ بها لبنان. تكمن خطورة هذه السردية في أنّها تُغفل دافع السلطة والمدافعين عنها في تحميل الدولة كافة الخسائر -وهو ما روّج له النظام منذ بدء الأزمة- مقابل تناسي مسؤولية المصارف في ترتيب الخسائر على المودعين، على أنّ الخطّة الرئيسيّة للسلطة، وبالتآمر مع المصارف وجمعيتها، تُختصر بتحميل عبء الخسائر للمجتمع وحماية المصارف وكبار المودعين. وهو ما دفعها إلى الانقلاب أوّلاً على خطة لازار وإسقاطها بحججٍ واهيّة. فرغم أنّ هذه الخطّة كانت قد ضمنت سداد 98% من الحسابات المصرفيّة، لكنّها نصت أيضاً على اعتماد هيركت تصاعديّ على كبار المودعين، إلى جانب تحديد الخسائر وتوزيعها بشكلٍ أساسي من أصول المصارف وليس من المال العام. بعد إسقاط هذه الخطّة، تمّ اتخاذ سلسلة تدابير بدت متفرقة، كمجموعة التعاميم الصادرة عن مصرف المركزي، الهيركات على صغار المودعين، إعفاء المصارف من تحمّل خسارتها عبر ألاعيب حسابية لخدمة المصارف، لكنها عكست حقيقةً الهدف الأوّل وغير المعلن للسلطة، الذي يهدف إلى حماية المصارف ومصالحها على حساب المجتمع1علي نورالدين (4 آذار 2023)، ثلاث سنوات على الإفلاس: خطّة الظلّ، By megaphone – ميغافو تمّن، الاسترداد من: https://www.facebook.com/MegaphoneNews/videos/160808296812816.
من جهةٍ أخرى، وكما ورد في الأسباب الموجبة، أصبحت أصول الدولة ذات الطابع التجاري والربحي تحقّق خسائر وعبء على الخزينة جراء عجز الدولة عن إدارتها بالطريقة المطلوبة، فيما تتدهور نوعية الخدمات بشكل مستمرّ. فغالباً ما يتمّ تبرير اللجوء إلى الخصخصة ونقل مسؤوليات الدولة إلى القطاع الخاص كجزء من النهج الرأسمالي وسعيه الدائم إلى التوسّع مكانياً من خلال إيجاد المزيد من الأسواق، وزمانياً من خلال الاستهداف الحالي لأرباح مستقبلية استجابة لأزمة الربحية والتراكم الزائد2David Harvey, (November 1, 1985), The Urbanization of Capital: Studies in the History and Theory of Capitalist Urbanization.David Harvey, (November 1, 1985), The Urbanization of Capital: Studies in the History and Theory of Capitalist Urbanization.، تحت ذريعة تردّي الأداء وارتفاع تكاليفه، مقابل الرغبة في تخفيف الأعباء عن الدولة، تحسين كفاءة وحوكمة الأصول والشركات التي تتمّ خصخصتها ورفع ربحيتها. وقد أدّى هذا النمط المتبع في الكثير من الأحيان إلى الاستيلاء على أصول الدولة بأثمان بخسة من قبل المتموّلين، في ظل غياب مسارات شفافة، أو أطّر رقابة ومحاسبة. وقد لا تؤدّي الخصخصة بالضرورة إلى تحسين نوعية الخدمات في الواقع اللبناني، وهي عادةً ما تساهم في زيادة التكاليف على المستهلكين. كما والرهان على الخصخصة كعلاج للمسائل الاقتصادية ليس دائماً في محله، ويتوقّف على قدرة الدولة على إدارة هذه العمليّة. من ناحيةٍ أخرى، تشكّل أصول الدولة على أنواعها، ومن ضمنها الأصول العقارية، مقدّرات الدولة وحقاً للأجيال المقبلة، وأن تُباع أو تُخصّص إدارتها لجهات خاصة، يُعطي الأولوية للأرباح المالية والسياسية الفردية على حساب العدالة والمصلحة العامة؛ ممّا يعني أن نتنازل عن نظام تلعب فيه الإدارة العامة للموارد، المفوّضة ديمقراطيّاً، دوراً مركزيّاً.
يشددّ اقتراح القانون، في عدّة مناسبات وضمن أهدافه، على أنّ إدارة أصول الدولة من قبل هذه المؤسسة المستقلة يجنبّ خصخصتها بشكلٍ متسرّع، بل يفعّل إدارتها وتعزيز أرباحها بشكلٍ شفاف وفعّال لتغذية خزينة الدولة والصندوق المختصّ بإعادة تكوين الودائع، وأنّ الهدف من هذا الاقتراح ليس تجريد الدولة من ملكيتها بل ترشيد إدارة الأصول للحدّ من الهدر والفساد من دون الانتقاص من سيادة الدولة أو حقوق المواطنين كافة وحقوق الأجيال القادمة. لكنّ الخصخصة وإدارة كافة أصول الدولة من قبل المؤسسة المستقلة والصلاحيات الواسعة المناط بها وقدرتها على التحكّم في كافة أصول الدولة وفق هذا الاقتراح، ليسا إلّا وجهان للعملة نفسها، بالنظر إلى المخاطر والخسائر التي سيتكبّدها المجتمع في حال تمّ تمرير هذا الاقتراح، وهو ما سنتوّسع في الحديث عنه فيما يلي، وبالتحديد فيما يخصّ أصول الدولة العقارية وأملاكها العامة. كما لا يمكننا كل حين، الانطلاق في مشاريع أثبتت التجربة أنّها تجرّد الدولة والناس من حقوقهن\م وتضعهن\م وحدهن\م أمام شركات خاصة مَنَحَها القانون -المنحاز لها- حقوقاً أكثر ممّا للدولة والناس، ودون رقابة الدولة أو قدرة الناس على محاسبتها، تماماً كما جرى في حالة قطاع الاتصالات، الريجي، طيران الشرق الأوسط وغيرها من مؤسسات الدولة التي تمّ التخلّي عنها3Kostanian, Albert. “Privatization of Lebanon’s Public Assets: No Miracle Solution to the Crisis.” Online: Issam Fares institutes (2021)..
أملاك الدولة العقارية
كما ذكرنا سابقاً، وبالنسبة لأملاك الدولة العقارية، ينصّ هذا الاقتراح على إنشاء مؤسسة لإدارة هذه العقارات تُعرف بـ”المؤسسة العقارية المستقلة” على شكل شركة قابضة – هي الشركة أو المؤسسة التي تمتلك الأسهم المتداولة لشركاتٍ أخرى، والغرض منها تملّك أسهم في شركات أخرى فقط – وتكون كياناً تجارياً يتعاطى الأعمال الاستثمارية ويحقّق أرباحاً وخسائر، ويمكنه إصدار سندات دين، ويكون تحت إشراف المؤسسة المستقلة لإدارة أصول الدولة. كما يتمّ تعيين مجلس إدارته بحسب الأصول عينها المتّبعة لتعيين مجلس إدارة المؤسسة المستقلة.
تهدف هذه الشركة إلى إدارة العقارات المبنية وغير المبنية للدولة واستثمارها، بناءً على اقتراح وزير المال والوزير المختص بملكية كلّ عقار. وفيما يشدّد الاقتراح على أنّه لا يأتي ليجرّد الدولة من أملاكها وأصولها، يفتح مجالاً للاستثناء، إذ إنّه لا يسمح لهذه المؤسسة ببيع العقارات، أو تلزيم استثمارها لمدة تزيد عن 50 سنة، إلّا أنّ ذلك يصبح ممكناً بموجب قانون صادر عن مجلس النواب. وفي بلدٍ يقوم الإطار التشريعيّ فيه على منطق “الاستثناء عن القانون” بوجوهٍ مختلفة، يُعدّ فتح الباب أمام أيّ استثناء جزءاً أساسياً من المشكلة، وتهديداً جديّاً يطال أملاك الدولة العقاريّة، وتمهيداً لخصخصتها. يضاف إلى ذلك، إعطاء هذه الشركة صلاحية إصدار سندات دين، وهو ما يمهّد أيضاً لوضع اليد على الأصول العقارية مقابل هذه الديون لاحقاً، في حال عدم القدرة على السداد.
فيما يخصّ قوام هذه المادّة المتعلّق بإيلاء إدارة العقارات المبنية وغير المبنية للدولة للـ”المؤسسة العقارية المستقلة” التي تقوم بتلزيم استثمارها لجهات خاصة، بهدف تحقيق أرباح تمكّن الدولة من إطفاء الخسائر وإعادة تكوين الودائع، تكمن خطورة هذه المجازفة بمقاربة هذه الأملاك من الناحية المادية فحسب وتغييب دورها الإجتماعي البيئي المكاني، من حيث أهمية ربطها بمشاريع ذات مصلحة عامة من إسكان شعبي، ومساحات وحدائق عامة، إلى مراكز فنية وثقافية، ومحميات طبيعية، وغابات تقع تحت الإدارة الجماعية، ومشاريع زراعية جماعية تدريبية، وسياحة بيئية وغيرها من المشاريع القادرة على الحفاظ على الأملاك والبيئة وإشراك الناس وتشجيع ارتباطها بها. لا يجدر أيضاً ربط إدارة أراضي الدولة بأعمال استثمارية تهدف إلى تحقيق أرباح تصبّ في تغذية صناديق لإنقاذ المصارف وكبار المودعين، بل ينبغي أن يكون في إطار إدارة هذه الأملاك وضمانها كحق للأجيال القادمة وليس لمجموعة من المتمولين.
إنّ الغوص في ماهية هذه الأملاك (أملاك الدولة الخصوصية وأملاك الدولة العمومية) وقيمتها الاجتماعية، يسمح لنا أن نتصور بشكلٍ ملموس الخسائر الفادحة التي من الممكن أن يتكبّدها المجتمع والأجيال القادمة، إذا ما تمّ المساس بهذه الأملاك وخصخصة إدارتها، ومن بينها خسائر في القطاع الزراعي، في قطاع السكن، في علاقة الناس بالأرض وخسائر في البيئة الطبيعية.
تتكوّن أملاك الدولة الخصوصية، والتي يصل عددها إلى 57201 عقار، من أملاك الجمهورية والخزينة (54%)، ومشاعات (8%)، وأملاك لوزارات مختلفة (6.5% غالبيتها لوزارات الطاقة، الأشغال، الدفاع، والتربية) ومجلس الإنماء والإعمار (2.5%)، ومصرف لبنان (2%)، وأملاك بلديات على امتداد المناطق اللبنانية، وإدارات أخرى.
تشكّل “الأراضي الأميرية” حيث المُلك للدولة والتصرّف للناس، النسبة الأكبر من أملاك الدولة العقارية، إذ يبلغ عددها على صعيد لبنان 31907 عقاراً، أي أنّ 52% من إجمالي أملاك الدولة الخصوصية هو من النوع الأميري. تشكّل الأراضي الأميرية مجالاً زراعياً بامتياز وتقع 78% منها في منطقة البقاع حيث يعتمد ٧٠ إلى ٧٥% من القاطنين على الزراعة في تكوين مدخولهم، إضافة إلى مساهمتها بنسبة كبيرة من الإنتاج الزراعي الإجمالي في لبنان. كما تملك المصلحة الوطنية لنهر الليطاني 5026 عقاراً ووزارة الزراعة 88 عقاراً من الأراضي الصالحة للزراعة. إنّ انضواء هذا المجال الزراعي تحت أملاك الدولة ساهم في حمايته من مضاربات السوق وعدم تراكمه بيد الأقليّة المقتدرة، ليستمرّ بالمحافظة على وظيفته الإنتاجية على الصعيد الوطني والمحلي في ظلّ الاقتصاد الريعي المهيمن.
إضافةً إلى الأراضي الأميرية، تملك الدولة اللبنانية حوالي 4000 عقاراً مخصّصاً للسكن مسجّلاً في السجلات العقارية تحت أسماء وزارات أو مصالح أو مديريات تُعنى بالسكن وباتت ملغية اليوم. فلا بد من المحافظة على هذه الأراضي التي تستطيع أن تكون جزءاً من استراتيجية وطنية لحلّ الأزمة السكنية الحالية وتأمين السكن الميسّر.
كذلك، هناك 125 عقاراً بيدراً في لبنان، و 408 عقاراً مخصّصاً كمرعى، و 1253 عقاراً مسجّلاً تحت اسم «عموم أهالي و/أو سكان و/أو مالكي بلدة ما»، و2773 عقاراً مسجّلاً تحت اسم «مشاع»، وهي أراضٍ يشترك في استغلالها عامة الناس بالتساوي ودون استثناء، أو تُكدَّس عليها غلال القمح والشعير، أو تنبت فيها الأعشاب والنباتات المناسبة للرعي. فيها، شعر الناس بالحريّة والمساواة في الوصول للأرض والموارد؛ وتكمن أهميتها في كونها تعزّز العلاقة العضوية ما بين الناس والأرض على الصعيد المحلي، كتعبير ملموس لأنماط العيش المتنوعة، والتقاليد، والأساليب الاجتماعية-الثقافية للقاطنات\ين.
إلى جانب أملاك الدولة الخصوصية، تتكوّن أراضي الدولة من أملاك عمومية هي بسبب طبيعتها، مُعَدّة لاستعمال الجميع وهي لا تُباع ولا تتغيّر ملكيتها بمرور الزمن. وقد خسرنا نسبة من هذه البيئة الطبيعية عبر عقود من تشريع التعديات عليها أو السماح باستثمارها، أو عبر عملية الإسقاط التي ابتكرتها السلطة كمخرج مُقونن للتخلي عن هذا النوع من الأملاك، بحجة تحقيق المنفعة العامة التي تبقى مفهوماً فضفاضاً، تتغيّر دلالته بحسب من يتحّكم به وبحسب الرؤية الاقتصادية السائدة وشبكة المصالح الفردية. بالنسبة للأملاك البحرية على وجه الخصوص، وبالنظر إلى حجم التعديات عليها، كان من الأجدى فرض غرامات مالية على هذه التعديات، بدلاً من التفكير بتلزيم إدارتها لجهاتٍ خاصة، وما ينتج عنه من حصر لاستعمالها ومنع الجميع من الوصول إليها لتكون مساحةً عامة ومفتوحةً الممارسات الاجتماعية والاقتصادية المحليّة على أنواعها.
أملاك الدولة: مساحات للناس لا أرقام لإطفاء الخسائر
إنّ التشديد الدائم على هكذا طروحات لا يخفي وراءه إلّا طموح السلطة المالية والسياسية والقطاع الخاص اللبنانيّ أو الأجنبي لمراكمة الثروات أو لإخراجها من مأزقها، من خلال الدفع باتجاه خصخصة القطاع العام، خصخصة إدارته، أو ألاعيب وممارسات أخرى مشابهة، على مثال اقتراح القانون موضوع هذا المقال، وما تمارسه السلطة من ضغوطات في هذا الصدد عبر اقتراحات منتظمة لصناديق وهيئات وقوانين مختلفة ومشبوهة. ومن جهةٍ أخرى، تُظهِر الاعتداءات التاريخية الممنهجة على الملك العام والمحاولات القديمة والحديثة للاستيلاء عليه، كيفية تعامل السلطات مع أملاك الدولة، ونظرتها إلى كلّ ما هو عام. كما تُظهر هذه الاعتداءات مفهوم السلطات العامة للأرض كسلعة وضمانة تُستخدَم لتأمين الربح المالي، أو من خلال توزيعها كجزء من عملية توزيع المنافع والزبائنية في “زمن البحبوحة”، أو لتحميل المجتمع الخسائر في زمن الانهيار، وإنقاذ المصارف وكبار المودعين والمقتدرين من أصحاب النفوذ -أي الشبكة نفسها المرتبطة بالسلطة وممثّلي الطبقة المهيمنة التي استفادت سابقاً- مفرّطةً بثروات الأجيال القادمة وحقوقها.
فإنّ أراضي الدولة، ومن بينها أملاكها العقارية غير المبنية والتي تُقدّر مساحتها بنسبة 25% من مساحة لبنان4Kostanian, Albert. “Privatization of Lebanon’s Public Assets: No Miracle Solution to the Crisis.” Online: Issam Fares institutes (2021).، هذه الأملاك التي تكوّن بيئتنا الطبيعية، وتشكّل مصدر رزق وسكنٍ لشريحة واسعة من الناس، وترتبط مباشرةً بطُرق حياتنا ومعيشتنا المتنوّعة على امتداد المناطق اللبنانية، مهدّدة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وأيّ استثمار فيها يعني حتماً خصخصة وجهة استعمالها وحصر المستفيدين منها. وقد أثبتت العقود المنصرمة أن إدراج القطاع الخاص في إدارة موارد المجتمع يضرّ بالمفقَّرات\ين. كما أنّه من المرجّح أن هذا الاستثمار لن يُنتج أرباحاً كافية لإطفاء الخسائر، ممّا سوف يؤدي عملياً إلى بيعها وتصفية مقدّرات الدولة. وينبغي أخيراً التشديد على أهمية التصدي لأيّ شكل من أشكال التنازل عن أراضي الدولة، لأن ما نحتاجه ونحن في قعر هذا الانهيار، هو تماماً عكس ما يطرحه هذا الاقتراح، بل هو إعادة التشديد على قيمة الملك العام، وإدارة الدولة المباشرة له، مع ما يقدّمه من مصدر للعيش والإنتاج والسكن.
المراجع
- 1علي نورالدين (4 آذار 2023)، ثلاث سنوات على الإفلاس: خطّة الظلّ، By megaphone – ميغافو تمّن، الاسترداد من: https://www.facebook.com/MegaphoneNews/videos/160808296812816
- 2David Harvey, (November 1, 1985), The Urbanization of Capital: Studies in the History and Theory of Capitalist Urbanization.David Harvey, (November 1, 1985), The Urbanization of Capital: Studies in the History and Theory of Capitalist Urbanization.
- 3Kostanian, Albert. “Privatization of Lebanon’s Public Assets: No Miracle Solution to the Crisis.” Online: Issam Fares institutes (2021).
- 4Kostanian, Albert. “Privatization of Lebanon’s Public Assets: No Miracle Solution to the Crisis.” Online: Issam Fares institutes (2021).
خصخصة الأراضي العامة: الخطر قد يصبح حقيقة
تمّ تقديم اقتراح القانون في 13/02/2023، أحيل إلى الحكومة في 22/02/2023 وإلى لجنتي الادارة والعدل والمال والموازنة في 6/12/2023 وهو قيد الدرس في اللجان. وقد عقد إجتماع للجنة الادارة والعدل بتاريخ 6/03/2024 وكانت ...