من شأن النزوح الناتج عن النزاعات والحروب أن يؤدي حتماً إلى ظهور ترتيبات سكنية جديدة وغير تقليدية تنبع عن الحاجة الملحّة للإيواء والاحتماء من حالة انعدام الأمن، في ظل الافتقار إلى الخيارات السكنية الرسمية الملائمة. وفي حين قد لا تعترف الأنظمة القانونية المحلية بجميع هذه الترتيبات، لا يعني ذلك وجوب استثنائها عن الحماية القانونية من الإخلاء القسري.
فمع توسّع نطاق العدوان الصهيوني على القرى الجنوبية والضاحية، شهدنا زيادة في حركة النزوح إلى بيروت، وشهدنا معها كيف دفع تقلّص سبل الوصول إلى السكن، نتيجة افتقار “خطة الطوارئ الوطنية” إلى نهج شامل وتصوّر واضح للمأوى اللائق، ووصول أغلب مراكز الإيواء الرسمية إلى قدرتها الاستيعابية القصوى، وارتفاع أسعار الإيجارات بشكلٍ جنوني، وافتقار “خطة الطوارئ الوطنية” إلى نهج شامل وتصوّر واضح للمأوى اللائق، كل ذلك، دفع النازحين لإشغال المباني الشاغرة.
استطعنا رصد حوالي 27 مبنى شاغر في بيروت الإدارية، من فنادق شاغرة، أو مبانٍ تربوية خاصة، أو مبانٍ خدماتية، سكنية، تجارية… تمّ إشغالها من قبل النازحات/ين من خلال وضع اليد، واستطعنا توثيق بعض هذه التجارب.
كما وثّقنا تهديد هذه المباني وسكّانها بالإخلاء، على الرغم من اشتداد الحرب، وعدم وجود البدائل السكنية اللائقة، وتعرّض عددٍ منها للإخلاء بالفعل، بموجب قرارات صدرت عن القضاء الجزائي.
وقد اختلفت الآراء إزاء عمليات الإخلاء هذه بين الاستنكار أو التأييد الكامل ووصف النازحات/ين بالمحتلّين المعتدين على الملكية الخاصة التي تعالت الأصوات لحمايتها. بينما لعبت القوى الأمنية دوراً ناشطاً للحدّ من هذه الممارسات وحماية الأملاك الخاصة.
لا بدّ لنا هنا نقد تعامل السلطات مع فعل البحث عن ملاذ من الحرب والعدوان المتواصل باعتباره جرم. فكما ذكرنا سابقاً، فإن قيام النازحين بالاحتماء في المباني الشاغرة أثناء الحرب، ممارسة نشأت بدافع الحاجة، وليس بالقصد الجنائي.
لم يحدّد القانون الدولي الإنساني أي إطار أو معايير لما قد يشكّل “الحيازة الشرعية للسكن”، مشجعاً الدول والأنظمة القانونية بالاعتراف وضمان الحماية لأكبر قدر ممكن من أشكال الوصول إلى السكن.بالمقابل، وضع القانون نفسه ضوابط وشروط صارمة فيما يخص الإخلاء، وحرّم بشكل قاطع عمليات الإخلاء في أوقات الحروب والنزاعات المسلّحة1 التعليق العام رقم 7 الخاص بعمليات الإخلاء القسري (1997)، الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية..
وفي حين ستتعمق هذه الدراسة في التفاصيل القانونية المحيطة بحالات وضع اليد على المباني الفارغة، لإثبات عدم توفّر العناصر الجرمية اللازمة لتحقّق جرائم الاحتلال والتعدي التي وُصِمت بها، وبالتالي إظهار عدم قانونية الإخلاءات التي استندت إليها، من الضروري أن ندرك منذ البداية أن معاقبة الأفراد على البحث عن سقف يأويهم في أوقات انعدام الأمان أمر يتحدى المنطق والإنسانية.
1- الخلل في التحليل القانوني للقضاء الجزائي: انتفاء الصفة الجرمية عن فعل وضع اليد السلمي على الأبنية الشاغرة
تحرّك القضاء الجزائي بناءً على شكوى جزائية تقدّم بها مالكي المباني الشاغرة، متهمين السكان الذين دخلوها باحتلال ملكيتهم الخاصّة عن طريق الدخول إليها بواسطة كسر قفل وخلع الباب من دون إذن.
وفي حين سادت العادة أن يلجأ المالكون إلى القضاء الجزائي للاستحصال على أمر إخلاء سريع بهدف حل النزاعات المتعلقة بعقاراتهم (والتي بمعظمها تعتبر ذات طابع مدني وتقع ضمن اختصاص المحاكم المدنية)، لحظنا في تحليلنا للحالات المرصودة، أنّ الجهة التي تولّت ملاحقة النازحين الذين دخلوا المباني الشاغرة كانت النيابة العامة التمييزية، ما يشكّل سابقة باعتبار أنها أعلى مرجع في القضاء الجزائي وتقع عليها مسؤولية متابعة الجرائم الأكثر خطورة التي تمس بالسلم الأهلي؛ وبالتالي، ليس من اختصاصها الدعاوى المرتبطة بالاحتلال والتعدي على الملك الخاص. الأمر الذي يثير الشكوك حول وجود قرار سياسي للتعامل بسرعة مع ملف دخول النازحين الأبنية الشاغرة وإخلائها فوراً، ما يفسّر أيضاً ملاحقة القضاء للأهالي ملاحقة مجرمين مطلوبين للعادلة، لا نازحين من الحرب يحتاجون إلى دعم وحماية.
التهمة الموجهة للنازحين: احتلال الملك الخاصّ عن طريق الدخول إليه بواسطة الكسر والخلع
في نص القانون الجزائي اللبناني، يُترجم جرم “إحتلال الملك الخاص” بالأفعال التالية:
جرم “خرق حرمة المنزل”، المنصوص عنها في المادة 571 من قانون العقوبات2تنص المادة على :” “من دخل منزل أو مسكن آخر أو ملحقات مسكنه او منزله، خلافا لإرادته وكذلك من مكث في الأماكن المذكورة خلافا لارادة من له الحق في إقصائه، عوقب بالحبس مدة لا تجاوز الستة أشهر. ويقضى بالحبس من ثلاثة اشهر الى ثلاث سنين إذا وقع الفعل ليلا، أو بواسطة الكسر أو العنف على الأشخاص، أو باستعمال السلاح، أو ارتكبه عدة أشخاص مجتمعين. لا تجري الملاحقة في الحالة المنصوص عليها في الفقرة الاولى الا بناء على شكوى الفريق المتضرر”، والذي يطال “كل من يدخل منزل أو مسكن الغير أو ملحقاته، خلافاً لإرادته، كما يطال الجرم من مكث في الأماكن المذكورة خلافاً لإرادة من له الحق في إقصائه” ويشتد الجرم “إذا وقع الفعل ليلاً، أو بواسطة الكسر أو العنف على الأشخاص، أو باستعمال السلاح، أو ارتكبه عدة أشخاص مجتمعين”.
أو جرم “الاستيلاء على العقار”، المفصّل في المواد 737 و 738 عقوبات3المادة 737 عقوبات: “من لا يحمل سندا رسميا بالملكية او بالتصرف واستولى على عقار او قسم من عقار بيد غيره عوقب بالحبس من شهر الى سنة و بالغرامة من مائتي ألف إلى مليون ليرة تشدد العقوبة وفقا للمادة 257 في كل من الحالتين التاليتين: 1- إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الاشخاص او الاشياء. 2- إذا وقع الغصب على كل أو قسم من الطرقات العامة أو أملاك الدولة والأملاك المشاعية.” المادة 738 عقوبات: “من استولى دون مسوغ شرعي على عقار أو قسم من عقار، بقصد السكن أو الاشغال أو الاستثمار أو الاستعمال لأي غاية أخرى، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وبالغرامة تشدد العقوبة في كل من الحالات التالية:إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الأشخاص أو الأشياء. إذا وقع الاستيلاء على بناء تشغله احدى ادارات الدولة أو احدى الهيئات الادارية أو احدى المؤسسات العامة أو ذات المنفعة العامة. إذا لم يبادر الفاعل إلى ترك العقار واخلائه ضمن مهلة أسبوع من تاريخ تبلغه انذاراً خطياً أو إذا استمر في وضع يده عليه مدة تزيد عن الشهرين”، والذي يطبّق على كل “من لا يحمل سنداً رسمياً بالملكية أو بالتصرف واستولى على عقار أو قسم من عقار بيد غيره”، ويشتدّ الجرم في حال “رافق الفعل تهديد أو عنف على الاشخاص أو الاشياء.”
كما تقع صفة الاستيلاء على من: “… استولى دون مسوغ شرعي على عقار أو قسم من عقار، بقصد السكن أو الإشغال أو الاستثمار أو الاستعمال لأي غاية أخرى، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة. وتشدد العقوبة:
- إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الأشخاص أو الأشياء.
- إذا لم يبادر الفاعل إلى ترك العقار واخلائه ضمن مهلة أسبوع من تاريخ تبلغه إنذاراً خطياً أو إذا استمر في وضع يده عليه مدة تزيد عن الشهرين”
وفي حين لا يمكن ملاحقة جرم خرق حرمة المنزل إلّا بشكوى من المتضرر، يحق للنيابة العامة أن تتولى تحريك الدعوى الملاحقة بوجه جرم الاستيلاء بمعزل عن شكوى أو ادّعاء المتضرر.
وفي معظم الحالات التي رصدناها، تحرّكت النيابة العامة بناءً على تقديم المالكين شكوى بحق النازحين، وقيامها بتثبيت الصفة الجرمية على فعل الدخول ووضع اليد على المباني الشاغرة، من خلال زعم إمكانية مطابقة واحدة (على الأقل) من العناصر التي تشكّل إحدى هذه الجرائم الثلاث، (أو الثلاث معاً)، على الفعل، ما وفّر لها حجة قوية لتبرير قرارها بالإخلاء.
من الناحية الموضوعية، وبالنظر إلى الوقائع، إذا اعتبرنا أن النازحين دخلوا هذه المباني دون مستند قانوني، ودون موافقة مالك العقار بقصد السكن فيها، فإننا نصل إلى نتيجة مفادها أن هؤلاء النازحين، بالفعل، ارتكبوا جرم الاحتلال و التعدي. إنما هذا النوع من التحليل الأحادي النظر الذي يتبنّى المفهوم الضيق والحَرفي للقانون، لا يبحث في غاية القانون ونية المشرّع عند وضعه، ولا ينظر في البعد الاجتماعي والأمني للحالة.
عن غياب العناصر المكوّنة لجرائم “خرق حرمة المنزل” و”الاستيلاء على عقار” من فعل وضع اليد الهادئ والسلمي على المباني الشاغرة
من خلال مراجعة الاجتهادات السابقة الصادرة في حالات مماثلة، يمكن التماس اتجاه المحاكم الجزائية للحكم بشكل ثابت نحو اعتبار عدم توفّر عناصر جرائم “خرق حرمة المنزل” و “الاستيلاء على عقار” في فعل وضع اليد السلمي بهدف الإيواء، على المباني الشاغرة أثناء أوقات الحروب والصراعات المسلّحة.
فخلال فترة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، رفض القضاء الجزائي إخلاء النازحين الذين دخلوا على المباني والمحلات التجارية الشاغرة وحوّلوها لمساكن مؤقتة، حيث اعتبر أن:
“احتلال منزل غير مأهول لا يعتبر جرم اغتصاب العقار او جرم خرق حرمة المنازل وإنما إشغال دون مسوّغ شرعي يوجب النظر به أمام المحاكم المدنية.4 القاضي المنفرد الجزائي – بعبدا رقم 365 تاريخ 26/04/1983“
ونزع الصفة الجرمية عن الدخول السلمي على المباني الشاغرة، ليعلن عدم اختصاصه، ويسلّم الحالة للقضاء المدني.
بذا نستغرب تحرّك النيابة العامة بوجه النازحين الذي احتموا في المباني الشاغرة اليوم، رغم تشابه الظروف والدوافع. حتى أن الحجج القانونية المستخدمة اليوم لإدانة هذه الحالات، يمكن دحضها بسهولة، عند التعمّق في تفسير المواد القانونية التي تستند إليها.
جرم”خرق حرمة المنزل” يقع على الأشخاص وليس على العقارات
عند البحث في مفهوم “المنزل” المقصود في نص المادة 571، يتضح أن “المنزل أو المسكن” المحمي بموجب هذه المادة، هو المكان المستعمل لسكن الشخص سواء بصورة مستمرة أو متقطعة5تمييز، غرفة رقم 6، قرار 134، 31/5/2001.
وعند البحث في غاية المشرّع عند وضع هذه المادة، نفهم أن القصد منها هو حماية الإنسان في مسكنه أو في منزله ليبقى في منأى عن تدخّل الغير في خصوصياته. فالحرمة هي للإنسان الذي يشغل المنزل وليس المنزل بحد ذاته، خاصةً إذا كان شاغراً أو غير مأهول6 للتوسع في القراءة، مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 21. والدليل على ذلك هو ورود هذه المادة ضمن الباب المخصص للجرائم التي تقع على الأشخاص، أي الباب الثامن من قانون العقوبات اللبناني، وليس ضمن الجرائم الواقعة على الأموال والممتلكات، والتي خُصِّص لها الباب الحادي عشر من القانون نفسه.
جرم”الاستيلاء على العقار” لا يتحقّق إلا بانتزاع الحيازة عن العقار
جرم الاستيلاء المنصوص عليه في المادتين 737 و738 يتم بانتزاع الحيازة من صاحب اليد الشرعي، غصباً وتعدياً، بالتهديد والعنف وبغير ذلك من الوسائل غير المشروعة. وهو إذاً الفعل الذي يعترض حيازة الغير وينتزعها دون رضاه ليُدخلها في حيازة جديدة دون وجه حق7 تمييز،غرفة 3، قرار 135، 1/6/2005. بمعنى آخر، يفترض تحقق الجرم أن يُنهي الفاعل حيازة من بيده العقار دون رضاه، ليُدخلها في حيازته8تمييز، غرفة رقم 7، قرار 354، 9/11/2006.
إنّما في الحالات المعروضة هنا، كان دخول النازحين هادئاً وسلمياً، نظراً لأن المباني كانت غير مأهولة ومهجورة ومهملة من قبل أصحابها منذ فترة طويلة، وبالتالي لم يستوجب الدخول إليها اعتراض أي حيازة، أو إخراج العقار منها، ولا أن يترافق وضع اليد عليها بالعنف والقوة .
من جهة أخرى، يُشتَرَط لتحقّق الجرم المنصوص عليه في المادة 737، قصدٌ خاصٌ مفادُهُ توفّر النية لدى الفاعل، أي من يستولي على العقار، بتملّك العقار. وتفترض هذه النية ألّا يعترف المحتل بحق المالك على عقاره، ولا أن يعزم على رد العقار له. وهذه النية تنتفي في حال تبيّن أن الفاعل لا يهدف من استيلائه على العقار سوى أن ينتفع منه ويردّه9مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 22.
بذا فإن العنصر المعنوي، أي نية استحواذ وسرقة العقار، غير متوفّرة في هذه الحالة، باعتبار أن بعض النازحين أعربوا عن استعدادهم لتوقيع تعهّد بالإخلاء عند إعلان الهدنة، في حين عرض البعض الآخر دفع بدل إيجار للمالكين مقابل فترة إشغالهم المبنى، ما يدل على اعتراف الشاغلين بملكية أصحاب العقارات وحقوقهم عليها، ونيّتهم بردها إليهم عند انتهاء الحرب.
يبقى أن جرم الاستيلاء المقصود في المادتين 737 و738 يفترض قيامه دون موافقة صاحب الحق فيه أو من يقوم مقامه. ففي حال جرى وضع اليد بناءً على مثل هذه الموافقة، واستمر رغم انقضائها أو رجوع صاحب الحق عنها، ينتفي بذلك أحد العناصر القانونية لهذا الجرم، و يصبح النزاع مدنياً غير متّصف بطابع جزائي10المرجع نفسه.
ونذكر هنا الحالات حيث دخل النازحون المبنى بموافقة المالك، أو حصلوا على موافقته الصريحة بعد دخولهم، ليعود المالك بعد ذلك ويعدُل عنها، إمّا بسبب وقوع خلاف بينه وبين شاغلي المبنى، أو بسبب تدخّل الأحزاب السياسية أو غيرها. وهي حالة تكرّرت في معظم المباني التي سكنها النازحون، كون مدّ المياه والكهرباء على هذه المباني المهجورة استوجب رضا المالكين وتدخّلهم.
2- الخلل في إصدار قرارات الإخلاء: تجاهل القضاء للمبادئ الدولية التي تحكم الإخلاء
حتى ولو أردنا للحظة تجاهل التحليل القانوني الذي تم عرضه، والتسليم جدلاً بقانونية تحرّك النيابة العامة ضد النازحين اللواتي والذين وضعوا يدهم على الأملاك الشاغرة، يبقى الخلل في صدور قرار الإخلاء نفسه، والظروف المحيطة بتنفيذه، والذي خالف عدداً من المبادئ المكرّسة في القانون الدولي لحقوق الإنسان.
فتنتهك عمليات الإخلاء القسري جملة من حقوق الإنسان، أبرزها الحق في الحياة والأمن ومستوى معيشي لائق؛ ومن شأن هذه الانتهاكات أن تتفاقم في ظل الحروب. بذا شدّدت الهيئات الدولية المعنية بالحق بالسكن والحقوق المتاخمة له، على حرص الدول، خلال أوقات الطوارئ، على ألّا تتم عمليات الإخلاء دون اتّباع الإجراءات القانونية الواجبة أو التشاور أو توفير بدائل مناسبة.
عن الامتناع عن عمليات الإخلاء خلال أوقات الحرب
بالمبدأ، كرّس القانون الدولي لحقوق الإنسان منع وتجريم عمليات الإخلاء التي تحصل أوقات الحروب والنزاعات المسلّحة، حيث نصّ على: “عدم القيام بالإخلاء عندما تكون الأحوال الجوية سيئة بشكل خاص أو أثناء الليل أو أثناء حالات الطوارئ والحروب وانتشار الأوبئة11التعليق العام رقم 7 الخاص بعمليات الإخلاء القسري (1997)، الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.“، وأوصى “بالامتناع عن تنفيذ قرارات الإخلاء التي تؤدي إلى تشّرد الأفراد، أو فقدانهم لإحدى حقوقهم الأساسية12المرجع نفسه“.
وهو مبدأ أكّدته المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة الخاصة بالنزوح الداخلي حين نصّت على “أن النزوح، سواء بسبب الحرب أو عمليات الإخلاء، لا ينبغي أن يؤدّي إلى التشرّد أو انتهاك حقوق أخرى. ويتعيّن على الدول توفير مساكن بديلة، وضمان الوصول إلى المساعدات الإنسانية، وحماية كرامة النازحين13المبدأ 18 من المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة الخاصة بالنزوح الداخلي الصادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، 17/04/1998“.
وهنا يكمن أول انتهاك للسلطة القضائية، حيث لم تتردّد في إصدار أمر بإخلاء النازحين في أوقات الحرب، في حين كانت على دراية كاملة بأزمة امتلاء مراكز الإيواء وتخبّط الدولة والمنظمات الدولية لإدارة الأعداد المتزايدة للنازحين، ولم تكترث لخطر تعريض هؤلاء الأشخاص للتشرّد في ظل انعدام الأمن والعدوان المتواصل.
عن وجوب اتّباع الأصول القانونية وعدم استخدام العنف عند الإخلاء
إذا كان لا بدّ من تنفيذ الإخلاء، اشترط القانون أن يتمّ الإخلاء من خلال اتّباع الإجراءات القانونية والعادلة. لذا، يتعيّن على أي جهة أو سلطة تسعى لاتخاذ هذا النوع من الإجراءات الحصول أولاً على إذن رسمي وقانوني بالإخلاء وأن يتبلّغ السكان هذا الإذن. كما أوجب القانون ضمان وصول المتضررين إلى سبل التقاضي والعدالة في جميع مراحل عملية الإخلاء.
وهنا تكمن الإشكالية الثانية لقرارات الإخلاء الصادرة عن النيابة العامة التمييزية، التي لا يمكن نشرها أو طلب نسخة عنها قبل إغلاق الملف، وهي لا تقبل أي طريق من طرق الطعن، ما أغلق فعلياً الطريق أمام شاغلي المباني الشاغرة للدفاع عن أنفسهم ضد خطر طردهم إلى الشوارع.
من جهة أخرى، حتى مع توفّر الإذن الرسمي، ينبغي أن تتوافق عمليات الإخلاء مع معايير حقوق الإنسان، بما في ذلك مبدأ احترام كرامة الإنسان، ما يعني الامتناع عن استخدام القوة أو العنف أو أي نوع من أنواع التهديد أو الترهيب لتحقيق الهدف. بل يجب أن يتمّ ذلك من خلال التفاوض، مع الأخذ في عين الاعتبار الظروف المعيشية الصعبة والقاهرة التي يمرّ هؤلاء النازحون/ات بها.
ويظهر تجاهل السلطة القضائية التام لهذه الشروط، حيث تم تنفيذ معظم حالات الإخلاء من خلال اقتحام القوات المسلّحة للمباني، وانتهاك خصوصية النازحين، واستخدام أساليب الإرهاب والتهديد بوجه مجموعات تضم كباراً في السن، والنساء والأطفال، عدا عن استخدام القوة البدنية والعنف لإزالة النازحين من العقارات.
عن وجوب توفير البديل اللائق في الحالات التي لا بدّ فيها من الإخلاء
أخيراً اشترط القانون الدولي توفير بديل في الحالات التي لا بد فيها من نقل السكان. وعليه، لا يحق للسلطات القيام بعملية إخلاء دون تقديم بدائل واقعية وآمنة وقابلة للتنفيذ وملائمة للأشخاص المعنيين، بالتشاور والتحاور معهم، فلا تُفرض الخيارات البديلة عليهم، ولا يتم نقلهم إليها دون موافقتهم الصريحة.
لكن اتّضح من بين الحالات التي قمنا بمتابعتها، أن الجهات المنفِّذة للإخلاء حاولت إجبار النازحين بالقبول على الانتقال إلى مراكز غير مناسبة، غير مجهّزة، وبعيدة دون حتى توفير وسائل النقل لهم. وفي بعض الحالات تبيّن أن البدائل المعروضة على النازحين تقع في مواقع خطرة، في حين أنه في بعض الحالات الأخرى لم يتم عرض أي بدائل.
كما أن معظم النازحين الذين رفضوا الانتقال إلى البدائل المقترحة، انتهى الأمر بهم بافتراش الأرصفة، دون أن تحاول قوى الأمن التشاور معهم للبحث في حلول أخرى.
خلاصة
يهمّ في هذا السياق أن نشير إلى قصور القانون اللبناني عن فهم الواقع الحالي، إذ أنّ قرارات الإخلاء هذه ليست سوى انعكاس لسياسة الدولة القائمة على حماية الملك الخاص على حساب مقتضيات المصلحة العامة، ورفضها ترسيخ مفهوم القيمة الاجتماعية للأرض.
في حين أننا استخدمنا مصطلح “وضع اليد” كبديل عن تعبير “احتلال” الذي غالباً ما كان يُستخدم في الإعلام والمجتمع في هذه الحالة، والذي من شأنه إضافة دلالة سلبية إلى الفعل وتجريمه، فإن تعريف القانون لمفهوم “وضع اليد” ينعكس أيضاً على محدودية في التفكير، والإصرار على ربط الحقوق المرتبطة بالأرض بالملكية. إذ يتحدّث القانون عن إمكانية اكتساب الملكية بمرور الزمن عبر وضع اليد على الأراضي غير الممسوحة (غير المقيّدة والمملوكة) فقط14بحيث نصّت المادة 257 من هذا القانون على اكتساب “حق القيد في السجل العقاري، فيما يتعلق بالعقارات والحقوق غير المقيدة في السجل العقاري، بوضع يد الشخص بصورة هادئة علنية مستمرة مدة خمس سنوات، هو بنفسه أو بواسطة شخص آخر لحسابه، بشرط أن يكون لدى واضع اليد سند محق. وإذا لم يكن لديه سند، فمدة خمسة عشرة سنة.”، ولا يمتدّ لإضفاء الشرعية على أنواع أخرى من الحيازة والاستخدام الإيجابي للمساحات الشاغرة وغير المستعملة، كما هو الحال في عديد من البلدان الأخرى (كالسودان والبرازيل وغيرها).
وفي ظلّ أزمة النزوح الناتجة عن الحرب، لا يمكن أبداً الاستمرار بالتغاضي عن ضرورة تغيير نظرة الدولة للمباني والشقق الشاغرة، ومقاربتها كمخزون سكني يجدر بها الاستفادة منه كإحدى الخيارات الأكثر فعالية في حلّ مشكلة الوصول إلى المسكن الآمن للأكثر حاجة، لا بل وفتح المجال أمام ديناميكيات اجتماعية صحية، لإدارة المباني والمساكن بشكل جماعي، ودعم التعاضد بين النازحين أنفسهم وبينهم وبين الأحياء المستقبِلة.
المراجع:
- 1التعليق العام رقم 7 الخاص بعمليات الإخلاء القسري (1997)، الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- 2تنص المادة على :” “من دخل منزل أو مسكن آخر أو ملحقات مسكنه او منزله، خلافا لإرادته وكذلك من مكث في الأماكن المذكورة خلافا لارادة من له الحق في إقصائه، عوقب بالحبس مدة لا تجاوز الستة أشهر. ويقضى بالحبس من ثلاثة اشهر الى ثلاث سنين إذا وقع الفعل ليلا، أو بواسطة الكسر أو العنف على الأشخاص، أو باستعمال السلاح، أو ارتكبه عدة أشخاص مجتمعين. لا تجري الملاحقة في الحالة المنصوص عليها في الفقرة الاولى الا بناء على شكوى الفريق المتضرر”
- 3المادة 737 عقوبات: “من لا يحمل سندا رسميا بالملكية او بالتصرف واستولى على عقار او قسم من عقار بيد غيره عوقب بالحبس من شهر الى سنة و بالغرامة من مائتي ألف إلى مليون ليرة تشدد العقوبة وفقا للمادة 257 في كل من الحالتين التاليتين: 1- إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الاشخاص او الاشياء. 2- إذا وقع الغصب على كل أو قسم من الطرقات العامة أو أملاك الدولة والأملاك المشاعية.” المادة 738 عقوبات: “من استولى دون مسوغ شرعي على عقار أو قسم من عقار، بقصد السكن أو الاشغال أو الاستثمار أو الاستعمال لأي غاية أخرى، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وبالغرامة تشدد العقوبة في كل من الحالات التالية:إذا رافق الفعل تهديد أو عنف على الأشخاص أو الأشياء. إذا وقع الاستيلاء على بناء تشغله احدى ادارات الدولة أو احدى الهيئات الادارية أو احدى المؤسسات العامة أو ذات المنفعة العامة. إذا لم يبادر الفاعل إلى ترك العقار واخلائه ضمن مهلة أسبوع من تاريخ تبلغه انذاراً خطياً أو إذا استمر في وضع يده عليه مدة تزيد عن الشهرين”
- 4القاضي المنفرد الجزائي – بعبدا رقم 365 تاريخ 26/04/1983
- 5تمييز، غرفة رقم 6، قرار 134، 31/5/2001
- 6للتوسع في القراءة، مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 21
- 7تمييز،غرفة 3، قرار 135، 1/6/2005
- 8تمييز، غرفة رقم 7، قرار 354، 9/11/2006
- 9مجموعة اجتهادات حاتم، موسوعة رقم 177، 1983، ص 22
- 10المرجع نفسه
- 11التعليق العام رقم 7 الخاص بعمليات الإخلاء القسري (1997)، الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- 12المرجع نفسه
- 13المبدأ 18 من المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة الخاصة بالنزوح الداخلي الصادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، 17/04/1998
- 14بحيث نصّت المادة 257 من هذا القانون على اكتساب “حق القيد في السجل العقاري، فيما يتعلق بالعقارات والحقوق غير المقيدة في السجل العقاري، بوضع يد الشخص بصورة هادئة علنية مستمرة مدة خمس سنوات، هو بنفسه أو بواسطة شخص آخر لحسابه، بشرط أن يكون لدى واضع اليد سند محق. وإذا لم يكن لديه سند، فمدة خمسة عشرة سنة.”