من النادر أن يجد الناس نوّاباً يقفون إلى جانبهم في خضّم محنتهم وقهرهم. وهذا ما فعلته بولا يعقوبيان، نائبة بيروت، ليل الإثنين (23 حزيران 2020) عندما أقدمت بلدية بيروت على إخلاء مبنى من سكّانه. فاستطاعت أن تمنع الإخلاء وتعيد الناس إلى بيوتهم. ولم تكن المهمّة سهلة، فقد استعانت بنقيب المحامين ملحم خلف، واستطاعا سوية، بوجودهما على الأرض ومن خلال علاقاتهما ردع شرطة البلدية.
وصوّرت بولا تقريراً عن الحادثة، مستهجنةً تنفيذ بلدية بيروت إخلاءً في منتصف الليل ومتسائلة ما إذا كان المحافظ الجديد على علم بهذه العملية. وفيما تروي بولا تفاصيل الإخلاء، نفهم أنّ المبنى الذي يتم إخلاؤه أمّن سكناً لشريحة من الناس منذ ما يزيد على٦٠ سنة، ومعظم من يسكنه اليوم سكنوا فيه طوال حياتهم. ونفهم أيضاً أنّ سكن هؤلاء هو غير رسمي، فكلمة «مخالفين» تظهر تكراراً في تقرير النائبة فيشعر المشاهد بأنّ الإخلاء مبرر إلّا أنه غير إنساني.
ولكن ماذا تعني كلمة «مخالفين» في سياق إمكانية الوصول إلى السكن في المدن اللبنانية عامة، وفي هذه الحالة تحديداً المتمثلة بـ ٦ وحدات سكنية في حيّ البدوي بمنطقة الأشرفية؟ وهل هنالك ما يبرر الإخلاء؟
50% من سكان لبنان يقطنون في مناطق غير رسمية
على الرغم من كونه حقاً أساسياً من حقوق الإنسان يتمتّع بقيمة دستورية، لطالما كان الوصول للسكن الميسّر واللائق أحد أبرز التحدّيات في لبنان. لم تقم الدولة اللبنانية منذ الاستقلال عام 1943 بوضع أية سياسة عامة بشأن السكن أو الأرض. كما أنها لم تعتمد إجراءات لتأمين السكن الملائم لذوي الدخل المنخفض، فبات السكن في لبنان لا يتوفر إلّا من خلال السوق.
قبل الحرب اللبنانية – وبالرغم من صدور قانون الإسكان في العام 1962 وإنشاء وزارة الإسكان والبلديات في العام 1973 (التي أُلغيت لاحقاً في 2000) – كانت تدخّلات الدولة في مجال السكن ناقصة عبر قوانين متفرقة أو كردّات فعل على كوارث. بعد الحرب، سلّمت الدولة أمر قاطني المدينة وحقهم في السكن لعناية السوق العقارية وتخلّفت السلطة عن وضع سياسات سكنية عادلة. تخلّت الدولة عن أيّ دور لها في إنتاج المساكن الميسّرة أو تشجيع التأجير أو ضبط الإيجار، وباتت السياسة الإسكانية الوحيدة المتاحة هي سياسة التمليك من خلال قروض سمّيت “ميسّرة”، إلّا أنّ الدراسات تشير إلى أنّ 80% من العائلات لا تتقاضى الحد الأدنى المطلوب للحصول على قرض سكني.
في المقابل، تلاشت أيّة معالجات أخرى لإشكالات السكن والتي تعني الفئات الأكثر احتياجاً لدعم الدولة. وعليه، بدا في الكثير من الأحيان أنّ الحل الوحيد المتاح للفئات من ذوي الدخل المتدنّي يتمثل في اللجوء إلى البناء أو الاستئجار أو التملّك بشكل غير رسمي في عقارات إمّا عامة أو خاصة لا تعود إليهم في السجلات الرسمية.
وقد أسهم غياب سياسة وطنية للأرض المتاحة بأسعار معقولة، وإيلاء اهتمام ضئيل جداً للمسكن صغير الحجم وميسور التكلفة، في انتشار واسع لهذه المساكن والمناطق غير الرسمية في كافة المدن اللبنانية، أبرزها بيروت وطرابلس وصور وصيدا. مع العلم أنّ مدى هذا الانتشار ليس حالة استثنائية للبنان. في ظلّ تفاقم المضاربات العقارية وبالتالي تزايد الضغط على أسواق السكن في كافة دول الجنوب العالمي، أصبحت التجمّعات غير الرسمية الخيار الوحيد ميسور التكلفة بالنسبة للأسر منخفضة الدخل للوصول إلى السكن. في لبنان، اتّسعت هذه المناطق مع وصول النازحين من الأرياف إلى المدن في خمسينيات القرن الماضي – لا سيّما بسبب تمركز الاقتصاد في العاصمة وتهميش باقي المناطق – ثم مع موجة النزوح الداخلي في خلال الحرب الأهلية. وعام 2001، قُدّرت نسبة سكان المناطق غير الرسمية بـ50% من النسبة الكليّة لسكان المدن في لبنان (المصدر: UN-Habitat).
تحتضن تلك المناطق غير الرّسمية السكان ذوي الدخل المنخفض من مختلف الجنسيات والأديان والأعراق، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيّين والعاملات والعمال المهاجرين من مصر، وسوريا، وسريلانكا، والعراق والسودان وغيرها من البلدان.
فهل يعني أنّ 50% من سكان لبنان مخالفون؟ وإذا ما اعتبرنا أنّ القوانين الراهنة لا تعترف بوجودهم وبالتالي لا تحميهم، فهل يُعقل أن نكون أمام سيناريو حيث نقوم بإخلاء 50% من الناس من بيوتهم من دون توفير البدائل؟ وفي ظل تجاهل تام من قبل الدولة لعدد سكان هذه المناطق وبالتالي عدم وضع سياسات لتحسينها أو معالجتها، يعاني معظم سكانها من سوء نوعية السكن وتدهور البنى التحتية، ومن اعتمادهم على شبكة علاقاتٍ سياسيةٍ لتأمين حاجاتهم الأساسية، مما يساهم في اعتماد السكان على الأحزاب الطائفية لتوفير الخدمات في الأحياء وأيضاً الخضوع لنظام الحماية الحزبية من التهديد بالإخلاء عبر الولاء السياسي لإحدى القوى النافذة. وهذا ما يؤدّي بشكل مباشر إلى تعميق التمييز ضدّ هذه الفئات الفقيرة، ليس فقط لجهة حقها في السكن في مسكن لائق، بل أيضاً لجهة هشاشتها الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.
من هذا المنطلق، لا بدّ من إرساء مقاربة أكثر عُمقاً – تأخذ في عين الاعتبار السياق التاريخي والمكاني والاجتماعي والسياسي – لقضية السكن غير الرسمي في لبنان، وتسليط الضوء على مسؤولية الدولة في الاعتراف أولاً بوجود هذه المناطق – وبحسب خصوصياتها – حمايتها و\أو تحسينها و\أو إضفاء الشرعية عليها و\أو تقديم البدائل عنها، ضمن إطار أوسع لسياسة وطنية عادلة اتجاهها. تعقيدات هكذا قضية من غير الممكن اختصارها بوصف السكان على أنهم “مخالفون”.
عقار ٣٩٤٠ في البدوي، فرصة بلدية بيروت لتفعيل نموذج السكن الاجتماعي
تُظهر الصحيفة العقارية للعقار ٣٩٤٠ الأشرفية أنه ملك بلدية بيروت منذ عام ١٩٥٠ وذلك بناء على قرار قاضي والمجلس البلدي. كما تظهر الصحيفة محتويات ووصفاً للعقار في العام ١٩٦٢ على الشكل التالي:
قطعة أرض ضمنها خمسة أبنية من حجر
البناء الأول الشمالي الشرقي يتألّف من غرفتين من حجر ودار وغرفة طعام ومطبخ
صغير ضمنه منافع من حجر شاحط توتيا
والبناء الثاني الشرقي يتألف من غرفة ودار ومطبخ ومنافع
والبناء الثالث الشمالي الغربي يتألّف من غرفة ومطبخ صغير ومنافع وبجانبه يوجد
قطعة صغيرة ومطبخ شاحط تنك معدّ للهدم والبناء
والبناء الرابع الغربي يتألّف من مسكنين كل منهما يتألف من غرفة ومطبخ صغير
ولحده يوجد منافع شاحط توتيا
والبناء الخامس الجنوبي يتأّلف من غرفة ومطبخ ضمنه منافع شاحط توتيا
قام آباء بعض السكّان الحاليين، ببناء هذه الوحدات والبعض الآخر اشترى لاحقاً بموجب وكالات. ادّعت ثلاث عائلات على بلدية بيروت لإثبات «ملكية وملكية إنشاءات»، متحمّلة تكاليف المحامي التي أثقلت كاهل البعض منهم، بينما بقي الياس الخويري، الرجل الثمانيني من دون محامي لأنّ لا موارد لديه تخوّله الوصول إلى حق التمثيل القانوني.
ولكن كيف تملّكت بلدية بيروت هذا العقار وكيف سكنت بيوته هذه العائلات طوال هذه السنين؟ لنجيب على هذا السؤال نعود إلى تاريخ حيّ البدوي. منطقة البدوي هي إحدى المناطق المجاورة للنهر التي انتقل إليها اللاجئون الأرمن الهاربون من المجازر في منطقة كيليكيا. وصلوا في البدء إلى منطقة الكرنتينا حيث أقاموا في مخيّمات وابتداءً من العام ١٩٢٦ وبمبادرة من جمعيات أرمنية وبمساعدة من سلطات الانتداب، تم اقتراح حلول دائمة لسكن اللاجئين الأرمن خارج المخيمات، وبالتالي تم نقلهم تدريجياً إلى مناطق مجاورة خارج منطقة الكرنتينا، مثل برج حمود وكرم الزيتون وكامب هاجين وشارع خليل البدوي.
تأسّس شارع خليل البدوي حوالي العام 1930 وسُمّي على إسم مالك الأراضي في الموقع. يروي سكان الحيّ أن عائلة البدوي اشترت هذه الأراضي في العام 1914 مقابل ثلاثة أكياس من البن. في تلك الفترة، وهب خليل البدوي أرضاً للأرمن ليبنوا عليها مدرسة وكنيسة حيث يتواجد قبره حتى اليوم. بالنسبة لكبار السن في الحيّ، كان هدف هذه الخطوة من خليل البدوي هو تشجيع الأرمن على البناء والسكن في أراضي البدوي، مما سيوّلد ربحاً مالياً له. وبالفعل، قامت جمعية أرمنية ناشطة بجمع المال من أعضائها وشراء – بوساطة الجمعية – الأراضي التي يملكها خليل البدوي في غرب نهر بيروت. قامت الجمعية، بالاستعانة بمعماريين أرمن، بتخطيط شارع خليل البدوي وفرز الأراضي وتوزيعها كقطع صغيرة للعائلات الأرمنية. تم بناء المباني والبيوت من قِبل اللاجئين أنفسهم (بفضل قروض من الجمعية). مع مرور الوقت، كثرت عمليات البناء والبيع والشراء في الحيّ، وازداد عدد سكانها، مستقطبة عائلات من كافة المناطق اللبنانية ترغب في السكن في المدينة. يصف أحد السكان أنّ شارع البدوي تاريخياً «أرمن وعرب وأكراد وسُنّة وشيعة ودروز ومسيحيي».
وقد توفّي خليل البدوي من دون ورثة، ممّا قد يفسّر كيفية استحواذ بلدية بيروت على العقار ٣٩٤٠ الذي يطّل على كورنيش النهر وليس على شارع البدوي الداخلي. إلاّ أن عملية البناء على هذا العقار والسكن فيه حصل بغض النظر عن ملكيته واستناداً للحاجة إلى السكن في ظل انعدام فرص أخرى. ويبرز السكّان الحاليون مستندات وحججاً تثبت حقّهم في بيوتهم. فمثلاً اشترى الياس الخويري بيته عام ١٩٧٨ من صالح كامل الذي بدوره كان قد اشترى من يوسف زيادة، لكي ينقل أهله من بوتشاي إلى مكان آمن على أثر معارك الكتائب والأحرار. عمل الياس كحداد، وبعد وفاة والديه، استقرّ في البيت الذي أمّن له الملاذ الأخير وكان الياس قد تقاعد عن العمل منذ عشرين سنة. انكّب الياس على هندسة بيته وجعله مريحاً وجذاباً لضيوفه، ومن بين لمساته عريشة العنب التي تفيّئ السطحية المطلّة على بيت جيرانه ومحطة البنزين وأوتوستراد النهر.
أمّا باقي العائلات الثلاث فهي أقدم من الياس، وجميعهم سكنوا بموجب عقود أبرمت عند كتّاب عدل إمّا معهم أو مع ذويهم. وقد كبر عيسى سليمان في هذا البيت مع أمه الأرملة وأخوته الأربعة، غير مدرك أنّه في يوم من الأيام سيحتاج إلى إثبات حقه في بيته. يبرز عيسى مستند ضبط بحق أمّه نظّمته دورية من قوى الأمن الداخلي عام ١٩٧٩ عندما كان لا يزال قاصراً، وقد نظّم المحضر على أساس مخالفة المادة الأولى من قانون البناء وكانت والدة عيسى تقوم بإعادة بناء الغرفتين الكائنتين لجهة كورنيش النهر بعد إصابتهما بقذائف من دون الاستحصال على رخصة لغرض السكن فيهما مع أولادها الخمسة القصّر. يسكن عيسى اليوم مع زوجته وأولاده الثلاث ولديه محل دوليب في العقار يعتاش منه.
طيلة السنوات الماضية، لم يتم التشكيك في شرعية سكان عقار البلدية وهم لم يشعروا بأي تهديد في سكنهم، بل قاموا بترميم بيوتهم وصيانتها وتصليحها مراراً من دون مساعدة من أحد. ماذا حصل فإذاً؟ ولماذا تقوم بلدية بيروت بالتضييق على السكان وتهديد أمن سكنهم بدلاً من أن تمارس إحدى مسؤولياتها وواجباتها في تأمين السكن الاجتماعي في المدينة. فهذا العقار وبفعل ملكيّته التي تستوجب استخدامه للمصلحة العامة يشكّل فرصة لتفعيل نموذج السكن الاجتماعي، حيث يتم الحفاظ على السكّان الحاليين وزيادة المخزون السكني لذوي الدخل المحدود.
التهديد بالإخلاء والإخلاء التعسّفي
بدأ تهديد السكّان بالإخلاء مع ولاية محافظ بيروت السابق زياد شبيب، وتحديداً في ١٢ نيسان ٢٠١٦ حين أقّرت البلدية أنها وضعت العقار بتصرّف مطرانية الأرمن الأرثوذكس في لبنان. وأعطى المحافظ السكّان مهلة ثلاثة أيام لإخلاء العقار «وإلا سوف تلجأ البلدية إلى إخلاء العقار بالقوة وبمؤازرة الشرطة». يقول أحد سكّان الحيّ أنّ ما حصل هو عملية «مداكشة» بيت البلدية والمطرانية، حيث تخلّت المطرانية عن عقار في وسط بيروت لصالح البلدية مقابل هذا العقار المسكون منذ منتصف القرن الماضي!
بالطبع لم يخل السكّان بعد هذا الانذار، فقام الدرك بعد فترة بجرجرة السكّان إلى المخافر من دون أي إذن قضائي، بل على العكس، استطاع السكّان الحصول على قرار من قاضي الأمور المستعجلة المكلّف في بيروت يمنع الإخلاء «حفظاً للحقوق ومنعاً للضرر وسنداً للمادة ٦٠٤ أ.م.م.» لمدّة أربعة أشهر من تاريخ صدور القرار في ١٧/١٠/٢٠١٧ وتكليفهم بتقديم دعوى أمام المحكمة المختصة لإثبات حقهم.
وقد قامت العائلات الثلاث بالفعل بالإدّعاء على بلدية بيروت. وفي إحدى الدعاوى المرفوعة في شباط ٢٠١٨ للدفاع عن حق السكّان وإثبات الضرر الذي ألحق بهم من محاولة الإخلاء التعسفيّة من قبل البلدية، جاء النص التالي:
إن قرار الإخلاء والمباشرة بتنفيذه بالقوة وبمؤازرة الشرطة جعل من هذا القرار نافذاً ويتعدى الإنذار أو الكتاب تحت طائلة مراجعة القضاء المختص، بل بات قرار إداري نافذ وضار، والأهم أنه لا يؤدي إلى تحقيق منفعة عامة تتوخاها الإدارة بل في حالتنا يحتوي على مفاضلة بين مصلحة خاصة وأخرى أيضاً خاصة عائدة لمطرانية الأرمن الأرثوذكس في لبنان، ما يجعل من تشريد عائلات من البناء الموضوع بتصرفها وبعلم وموافقة البلدية ودون الرجوع إلى القضاء متحققاً نفعاً لمصلحة خاصة متعلقة بالمطرانية كما ويتعدى على حقوق الشاغلين الناتجة عن علاقتهم التأجيرية الأساسية مع المالك الأساسي.
مع استبدال المحافظ، تنفّس السكّان الصعداء وظنوا أن محافظ بيروت الجديد مروان عبّود سيعمل وفق مصالح السكّان، إلاّ أنّ كابوس عام ٢٠١٦ عاد وهذه المرّة بوحشية أكبر. فقد أتت شرطة البلدية مرّتين في يوم الثلاثاء في ٢٣ حزيران ٢٠٢٠، خلال النهار وأجبرت السكّان على الخروج من بيوتهم، لتحصيهم ربما، فعند رحيلها عاد السكّان إلى منازلهم، ليفاجأوا بعودة الشرطة الساعة التاسعة ليلاً لتخليهم بشراسة. وقد تعرّض لعنف معنوي من قبل البلدية حوالي ال١١ شخص من المقيمين في العقار، كاد أن يكون قاتلاً للبعض منهم. فمن بين هؤلاء العجوز الياس خويري الذي كان نائماً حين ركل عناصر البلدية بوابة بيته الحديد بإلحاح، وقفز آخر من الشرفة إلى غرفة نومه. ومن بينهم ثلاثة أولاد وأم سوريون أقارب إحدى العائلات في المبنى، سكنوا في إحدى الغرف بعد أن تم إخلاؤهم من منزلهم لعدم قدرتهم على دفع الإيجار. وقد قام عناصر البلدية بترهيب الأولاد مرّتين في يوم واحد.
بقي السكّان، مجبرين، خارج بيتهم على الطريق لغاية الساعة الثالثة صباحاً، تخللت هذه الساعات الكثير من المواجهات مع عناصر بلدية لا تحمل أي ورقة أو مستند قانوني يخوّلها تنفيذ الإخلاء، ويبدو أن القصة كبرت قبل أن تصغر ويأتي الأمر من الداخلية للتراجع عن الإخلاء.
يقول السكّان أن الشرطة أمهلتهم حتى آخر الشهر! ويقول الياس خويري “الرحيل عن هذا البيت يعني نهايتي”. ويقول الآخرون إنّهم لن يرحلوا عن هذا العقار، فهنا بيوتهم وحياتهم وهذه الأرض لهم ولآخرين لديهم حق في السكن مصان بالدستور والمعاهدات الدولية. بالتأكيد لن يتركوا هذا العقار لصالح المطرانية لتحوّله إلى موقف سيارات أو إلى مشروع لا يحتاجه المجتمع. فالعقار ملك بلدي، والحاجة اليوم، في ظل أكبر أزمة اقتصادية يمّر فيها البلد في تاريخه ترافقها جائحة كورونا، هي بوضوح حاجة إلى السكن.
علم مرصد السكن أنه لم يصدر أي قرار بالإخلاء من أي جهة قضائية لتاريخه، وأن الدعوى موضوع العقار لا تزال قيد النظر أمام القاضي المنفرد المدني في بيروت الناظر بالقضايا العقارية. فشكّل قرار البلدية، الذي نفّذته القوى الأمنية، إن لناحية الإخلاء أو إعطاء مهلة للإخلاء، تعدياً واضحاً على الحقوق ومخالفة صارخة لأحكام القانون لاسيما لجهة إلزامية الحصول على قرار واضح من السلطة القضائية بالإخلاء. هذا من جهة ومن جهة اخرى، لا بدّ من الإشارة إلى المخالفة الثانية التي ارتكبتها القوى الأمنية لناحية إبلاغ ومحاولة تنفيذ قرار إخلاء، إذا سلّمنا جدلاً أنه قانوني، فقد وقع خارج الدوام الرسمي، الأمر الذي يشكّل تعدياً على حرمة المنزل ومخالفة قانونية مرة أخرى.
وأكثر من ذلك، فما قامت به البلدية تجاه سكان المحلّة يشكّل تعسّفاً في استعمال الحق، فمن الواضح من مجريات الأحداث أنها قامت باستغلال السلطة الموكلة إليها لأهداف غير قانونية وخارجة عن صلاحيتها، بخاصة لكونها طرفاً في منازعة قانونية لا زالت عالقة أمام السلطة القضائية.
السياسة والإغاثة
من الجميل أن يلقى السكّان دعم نوّاب لهم في محنتهم، ولكن من الأجمل أن يبني هؤلاء النواب على هذه النضالات لرسم السياسات. فبولا قامت بتغطية الحدث كصحافية، وبإنقاذ السكّان من موقع سلطتها، إلا أننا لا نعرف ما هي رؤية بولا لسياسات تضمن حق السكن في لبنان. لم تستطع بولا نقض قرار البلدية في استرجاع ملكها لصالح المطرانية على حساب السكاّن، فاكتفت بفعل إغاثي وسمّت سكّاناً لا تراهم البلدية بصفة «مخالفين»، وهو مصطلح يصحّ استخدامه لوصف التعديّات على الأملاك العامة البحرية والنهرية من قبل المنتجعات السياحية التي تحرم العامّة من الوصول إلى الموارد الطبيعية، وليس لاختزال قضية أساسية في السياق اللبناني وهي الحق في السكن، حيث السكن غير الرسمي من أهم تحدياتها. نتوقع أكثر من نوابنا ونستأهل أكثر بكثير، وهذه الأزمة لا تحتمل أن يحجّم النائب دوره بأفعال الإغاثة، وإن كانت ضرورية في بعض الأحيان كما حصل مع سكان البدوي. إلّا أنّ حجم الأزمة الاقتصادية الراهنة، تتطلب العمل الجاد على سياسات وتشريعات تنبع من حاجاتنا وتحمي حقوقنا الأساسية وسبل عيشنا.