بعد قراءة السياق الإجتماعي الحضري للمدينة، سنركّز في هذا النص على التراخيص كأداة خرق للأعراف الاجتماعية في عملية البناء، كتغيير للواقع المكاني للمباني والمدينة ككل، وكمحفّز لخلق وصمة اجتماعية لمن لا يصطفّون داخل شبكة الزبائنية للأحزاب الطائفية المهيمنة في المنطقة.
سنقدّم أمثلة عن الممارسات التي تنشأ نتيجة للتراخيص، كما الواقع السياسي المكاني الذي تُنتجه.
منذ أكثر من ستة أشهر، تصدّر خبر المواجهات بين الناس والقوى الأمنية في بعلبك حول مخالفات البناء بدون ترخيص، النشرات الإخبارية المحلية. وفي مقابلة مع إحدى قاطنات المدينة، قالت في تقرير تلفزيوني: “مع كل صبة باطون، بيتضامنوا الأهالي مع بعض وبيقطعوا الطريق على القوى الأمنية. وعند كل مواجهة بتطلع الصرخة بوجه القوة الأمنية. الناس كفرت بعد ما انحرمت 10 سنين من عمار سقف، والضمّ والفرز يلّي بينظّم العمار وبيشرّع للناس تعمّر بأرضها تجمّد الشغل فيه ودُفن بجوارير مجلس النواب. بالآخر مخالفات تمّ هدمها، ومخالفات بقيت، إمّا بغض النظر أو لأنها بالأساس محميّة من أطراف سياسية. بدل هالمخالفات، والمخالفات توّلد مخالفات، من عمار السقف لعدّاد الميّ لعدّاد الكهربا، وينها الدولة وليه ما بتنظّم البناء وبتستوفي هي الرسوم بدل ما تندفع رشاوى؟”
كانت المواجهات المذكورة في التقرير الإخباري قد بدأت إثر إعلان نائب كتلة الوفاء للمقاومة إبراهيم الموسوي في تغريدة خلال شهر أيلول من العام الفائت، بأنه و”بعد جهود كبيرة بذلناها، بشرى إلى أهلنا جميعاً على الأراضي اللبنانية كافة، إلى أهالي بعلبك الهرمل خاصةً، أجاز وزير الداخلية للبلديات منح تراخيص بناء 150 متر مربع خلال شهرين، ويستمر مفعول الرخصة لعام واحد. سيسهم ذلك في إطلاق دورة اقتصادية تساعد الناس في 68 مهنة مختلفة. ونأمل الإلتزام بالضوابط القانونية المرعية”. أدّت التغريدة إلى شراء حوالي مئة عائلة في بعلبك للترابة والباطون إستعداداً لمرحلة البناء القادمة، لكن وزير الداخلية نفى في اليوم التالي بأن القرار قد صدر. وضجّت المناطق بقضية البناء من دون رخص وانتشرت عمليات صب اﻷسطح ليلاً وتكثّفت الدوريات الأمنية وتهافت الإعلام لكتابة التقارير الصحفية.
وهذه الحادثة ليست استثنائية. فمنذ عقود، تعصف المواجهات بين أبناء بعلبك والقوى الأمنية حول ما يسمّى بمخالفات البناء. وتتصدّر التقارير الإعلامية عن المدينة شعارات “كابوس المخالفات في بعلبك” أو “المدينة المخالفة” أو “الفلتان الأمني في ملف البناء في بعلبك”. من جهة أخرى، تستفيد الأحزاب الطائفية المحلية من هذه المواجهات من خلال مواقف شعبوية، مثل ما صرّح به النائب علي المقداد، عضو كتلة الوفاء للمقاومة، حول الحادثة المذكورة، بأنّ “الناس كفرت ونزلت على الأرض. نحنا أمام خيارين، إمّا مننزل نحنا نواجههم ويصير فيه معركة نحنا وياهن، أو ما منتدخل ومنترك القوى الأمنية. الظاهر بهيدي الدولة، فيه ناس بتهتم فيها أكتر من ناس، وفيه ناس بسمنة وناس بزيت.” وأضاف في تقرير آخر: “هؤلاء هم أهلنا الذين يموتون من الجوع”.
بالفعل، يلجأ غالبية سكان بعلبك إلى البناء من دون الاستحصال على تراخيص بناء قانونية، ويعلن نواب المنطقة بأنّ حوالي 90% من المباني في المدينة مخالفة. فما الذي يدفع الناس للبناء بشكل “غير قانوني” على مدى عقود؟ وما معنى أن تُعتبر مدينة بكاملها “مخالفة”؟ ما تداعيات هذا المصطلح من ناحية تموضع هذه المدينة ضمن السياق الوطني وتصوّر الناس لأنفسهم من حيث الوصمة التي تنتجها هذه التسميات؟ ومن هي الفئات الإجتماعية الأكثر تضرراً من هذا الوضع؟
للإجابة على هذه الأسئلة، قمنا بتوثيق ممارسة التنظيم المدني في بعلبك، ونظرنا بشكل نقديّ في قوانين البناء والقرارات الصادرة وخرائط استخدامات الأراضي، وفي الآليات التي أنتجتها والطرق التي أثّرت بها على الناس. كان واضحاّ بأن المشاكل المستمرّة حول إمكانية البناء في مدينة بعلبك هي نتيجة للتناقض المتأصل بين المفاهيم الاجتماعية والأعراف الميدانية وأنظمة تخطيط الدولة الحديثة. وسرعان ما التفتنا إلى أنّ المعاناة الفردية أو الجماعية التي شاهدناها، والحالة التي غالباً ما تلقّبها السلطة بالفوضى، ليست عبثية ولا هي بحكم الواقع، بل هي إلى حدٍ كبير نتيجة تخطيط سيء أو رؤية ناقصة للمدينة تؤثّر على حياة سكانها والعلاقات في ما بينهم.
تتميّز غالبية العقارات الواقعة في مدينة بعلبك بتعدّد الشركاء فيها وبالتالي بكونها ملكية مشتركة. في أغلب حالات هذه الملكيات المشتركة، يزيد عدد الشركاء فيها عن المئة شخص، ويتقاسم الورثة البناء حبيّاً دون معاملات الفرز ونقل الملكية. وبما أنّ الرخصة التي يحدّدها قانون البناء الحداثي تتطلّب موافقة جميع الشركاء في العقار، لجأت غالبية الناس إلى البناء دون رخص رسمية، وحدّدت مساحاتها وفق تفاهمات شعبية اجتماعية ولجأوا في كثير من اﻷحيان (في السنوات العشر اﻷخيرة) إلى ما بات يعرف بتحديد اﻷرض لدى كاتب العدل وليس في الدوائر العقارية.
ولعلّ النتيجة المدمّرة الأبرز لهذا الإرباك بين القانون العرفي والقانون الرسمي هي وسم مدينة بكاملها على أنّها “مخالفة” وإطلاق تسمية “الخارجين عن القانون” على السكان. من جانبها، لم تتناول المديرية العامة للتنظيم المدني جوهر المشكلة، وفشلت عموماً بمعالجة الأسباب الجذرية للتهميش الذي لطالما عانت منه محافظة بعلبك – الهرمل.
معارك البناء في مدينة بعلبك
إذاً، كما رأينا في المقال السابق، تساهم التصاميم التوجيهية بحدّ ذاتها والعمليات الناشئة عنها في تفاقم الوضع “اللاشرعي” في المدينة. ويتعقّد هذا الأمر أكثر فأكثر مع شكل العقارات في بعلبك وطبيعة الملكية فيها.
فتتميّز غالبية أراضي بعلبك بنظام ملكية يُعرف بإسم “خليط وشريك”. ويشير مصطلح خليط إلى الملكية التي بدأت فرديةً ثم باتت مُشتركة (قطيع الأغنام مثلًا) مقابل الملكية المفردة نظرياً أو الفائدة المملوكة والموزّعة بالتشارك بين عددٍ من الأشخاص. في هذا السياق، يطرح المزارعون أنفسهم كأعضاء خليط وشريك في رابطةٍ مخصّصةٍ للزراعة بالشراكة.
في هذا السياق، يصعّب قانون البناء عمليات البناء إلى حدٍ كبيرٍ، حيث تقاسم الوَرَثة تاريخياً العمار حبياً دون معاملات اﻹنتقال ونقل الملكية، وقد يقوم البعض أحياناً ببيع حصتهم المفترضة دون أوراق. وبما أن الرخصة القانونية للعمار تتطلّب موافقة جميع الشركاء في العقار وهو أمر صار إتمامه مكلفاً مادياً، لجأت غالبية الناس إلى البناء دون رخص رسمية، وحدّدوا مساحاتهم وفق تفاهمات شعبية اجتماعية ولجؤوا في كثير من اﻷحيان (في السنوات العشر اﻷخيرة) إلى ما بات يُعرف بتحديد اﻷرض لدى كاتب العدل وليس في الدوائر العقارية.
في مقابلة مع النائب إيهاب حمادة (عضو كتلة الوفاء للمقاومة)، يشرح أنّ ما حصل في بعلبك هو بسبب “الفقر، لأن تكاليف الفرز لإزالة الشيوع ما بين الورثة غالي. وفيه عدم إهتمام الناس بالفرز، لأنهم معوّدين يعمروا عبر التقسيم حبياً. وأصلاً ما كان فيه للأرض، يعني ما فيه دافع للبيع وبالتالي الفرز. وهون بتصير أول مخالفة (خصوصاً خلال الحرب الأهلية وغياب الدولة) ولما تصير مخالفة، ما بقى حدا فيه يفرز أو يقدّم رخصة بدون تسوية المخالفة. وهيك صارت تتفاقم المخالفات. إنمّا مع تطوّر الحياة وحاجة البعض لرهن أرض مع البنك أو الحصول على قرض سكني أو زراعي، صار الوضع غير القانوني عائقاً أمام الناس.”
لم يعالج مسؤولو المدينة والمديرية العامة للتنظيم المدني حاجة السكان إلى البناء بشكل متكامل عبر تصاميم توجيهية جديدة تراعي خصوصية العملية العرفية للبناء وأنظمة الملكية المحلية، بل لجؤوا إلى سلسلة من القرارات العبثية الصادرة عن وزارة الداخلية، والتي تجيز للبلديات منح تراخيص بناء بمساحة 150 متر مربع كما وإضافة طبقة واحدة بالمساحة نفسها على بناء موجود.
فيما نستعرض هذه القرارات في جدول زمني ممتد بين عامي 2008 و2020، يبيّن هذا الأخير تداعيات هذه التعاميم على المستوى المحلي في بعلبك والتعامل الأمني معها. منذ عام 2013، توقّفت أعمال البناء في بعلبك بشكل تام إلّا المدعومة منها بتغطية حزبية، ما دفع الناس إلى رفع الصوت عالياً لحلّ هذه المشكلة خصوصاً في ظلّ التزايد السكاني وحاجة النازحين السوريين وسكّان القرى المجاورة للسكن. كان آخر هذه الأعمال في تشرين الثاني 2020 عندما أصدر وزير الداخلية محمد فهمي تعميماً يجيز فيه مجدداً لرؤساء البلديات منح تصاريح بناء ضمن مهلة شهرين من صدور التعميم. وعقب تداول وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي الخبر، سارع مكتب الوزير إلى إصدار بيان أكّد فيه أن “الكتاب المتداول به لم يسلك مجراه الإداري بعد ولم يتمّ تعميمه على الإدارات المعنية، وقد تمّ توقيف العمل به ريثما يصار إلى تأمين النصوص القانونية البديلة والموافقات الإستثنائية الإدارية اللازمة لجهة إعفاء بعض رخص البناء من الرسوم بهدف تسهيل أمور المواطنين”.
إلّا أنّ العديد من البلديات سارعت إلى إبلاغ الخبر لأبنائها بدءاً من ليلة التغريدة، ممّا أدّى إلى قيام حوالي مئة عائلة في بعلبك بشراء الترابة والباطون إستعداداً للعمار، تبِع ذلك مواجهات مع القوى الأمنية بعد التراجع عن القرار.
تشكّل التعاميم الصادرة خرقاً وانتهاكاً لأبسط مبادئ المصلحة العامة؛ فهي تعرّض حياتنا للخطر في ظلّ غياب أي إجراءات رقابية مناسبة، وتدمّر الطابع المميّز للمناطق عبر السماح بتمدّد البناء. وبشكل عام، فهي تُسرّع في تدهور سبل عيشنا ومعالم البيئة الطبيعية المحيطة بنا.
من جهة ثانية، يجب أن تواكب هذه الإجراءات أطرٌ تنظيمية شاملة تضمن الحقوق والمسؤوليات بشكل متساو بين الناس، فلا يتمّ التعاطي معهم كأنّهم زبائن محكومون بقاعدة بيع الخدمات وشرائها. ففي آخر المطاف، يكرّس الطابع الاستثنائي واللاقانوني للتعاميم بحجة الاستجابة لحاجات السكن من خلال توسيع نطاق تصريح البناء، وضعاً شاذاً يجعل من عملية البناء وتأمين السكن عملية عَرَضية وظرفية تلبّي خدمة بدلاً من أن تستجيب إلى حق. كما أنّ أطر “الخدمة” التي كرّستها التعاميم تجعل الناس “متلقين للمنح”، ليصبحوا مدينين لشخص أو للأحزاب السياسية التي منحتهم هذه الخدمة، وتتخلخل علاقتهم بالدولة، المؤمّن الشرعي المُفترَض لهذه الخدمات. وعليه، يضحي هؤلاء مجردين من أي حقوق، كزبائن للنائب المنتمي إلى الحزب ذي الشعبية الواسعة في بعلبك، ممّا يُعتبر باباً مشرَّعاً لإعادة إحياء الولاءات أو تدعيمها. هكذا، باتت التعاميم تكريساً للزبائنية، تُستخدم بمثابة عُرف في وزارة الداخلية. وبحسب النقيب جاد تابت، “كل وزير يأتي، يُصدر هكذا تعاميم”.
لكن الاستنسابية بل الإنتهازية التي تشوب التعاميم تتطلّب المزيد من التدقيق، لا سيّما في سياق بعلبك. فبعيداً عن محاولة إضفاء أي شرعية على التعاميم، لكن يُسجّل أنها تتناول حاجة فعلية تتمثّل بالصعوبة التي يواجهها الناس لجهة شراء أراض قابلة للبناء أو توسيع البيوت ومساحات العمل.
تتطرق التعاميم إلى تحدٍ حقيقي يجب الاستجابة له عبر سياسات واقعية، وهو أنّ الأرض في لبنان أصبحت عقاراً ذي ثمن مرتفع بسبب رفض صانعي السياسات الاعتراف بقيمته الاجتماعية. وفي حين تتيح هكذا تعاميم إضافة طابق أو توسيعه على أرض زراعية، للذين يصارعون لبناء سكنٍ لهم ولأسرهم، وبمعزل عن مخالفة هذا الأخير للقوانين والأنظمة، فإنّ التعاميم تبقى قاصرةً عن صون مصلحتهم باعتبار أن الإشكالية الأساسية تكمن في الأطر التنظيمية التي تمنعهم من الوصول إلى الأرض بشكل يتناسب مع حاجاتهم الملّحة.
خطاب السُلطة وتوصيات بديلة
ترافقت تعاميم رخص البناء المذكورة سابقاً مع خطاب عام مفاده أنّ مدينة بعلبك تعيش حالة من الشلل الاقتصادي والاجتماعي شبه التام بسبب توقف عمليات البناء، وأنّ الشيوع (أو الخليط والشريك) ينتج شللاً في الحركة “الإنمائية” والاقتصادية على صعيد قطاع البناء وعلى صعيد حرمان صندوق البلدية من عائدات التراخيص. وقد صرّح رؤساء البلديات سابقون أنّ مدينة بعلبك تعاني، بدءاً من تجّار الترابة والحديد ومواد البناء وصولاً إلى عمّال الباطون والحدادة والنّجارة والدهان والبلاط.
بالعودة إلى النائب إيهاب حمادة، يشرح أنّ كتلة الوفاء للمقاومة تعمل اليوم على مسودة قانون لتسوية المخالفات: “التنظيم المدني بيعمل مسح لأرض الواقع، وبيسوي المخالفة، وبيعطيك العقار الفردي المستقر من خلال عملية إفراز فيه، فبتتقسم العقارات وبينعمل طرقات.” وعندما سألناه لماذا هذا القانون الآن، ردّ: “بالموضوع الإقتصادي الراهن، شفنا أنه حلّ مشكلة الأرض بيساهم بالأزمة الاقتصادية. بيحرّك الإقتصاد.” بشكل ما، يأتي القانون المقترح في سياق قوانين متتالية في لبنان لتسوية المخالفات. في مطلع عام 2018، على سبيل المثال، أحالت الحكومة إلى مجلس النواب مشروع قانون لتسوية مخالفات البناء الحاصلة خلال الفترة الممتدة من 1971 ولغاية 2016. وقد صوّرت الحكومة هذا المشروع على أنه أداة من شأنها الإسهام في التخفيف من أزمة السكن. وهذا ما نقرأه في الأسباب الموجِبة للمشروع، بحيث يعلن بأن أحد “أهم أهداف الدولة تخفيف أزمة السكن ممّا يساهم في حلّ جزءٍ من مشكلة قوانين الإيجارات، ويخفّف عبء تكاليف السكن على المواطن”. يوحي مشروع القانون – زيفاً – أنه الحلّ لمخالفات “إرتكبت من قبل بعض تجار البناء والمواطنين في ظل عدم إمكانية أجهزة الدولة مراقبتها”. والحقيقة هي أن عدداً كبيراً من هذه المخالفات في لبنان لم تُرتكب بشكل فردي إنما منهجي من خلال تواطؤ السلطات الرسمية المركزية والمحلية مع المخالفين، وليس بسبب التقصير في الرقابة عليها. هكذا استمرّت السلطة بلعب دورها في إنتاج المخالفات بنفس وتيرة إصدارها لقوانين التسويات والتعديلات عليها، ومضامينها القابلة للتأويل.
من ناحية أخرى، لعلّ الكلمة الختامية للسيّد إيهاب تجسّد صلب المشكلة: “إنّ السماح للمضاربة العقارية وقطاع البناء بالازدهار عن طريق تحديث أنظمة الأراضي وأدوات التخطيط المديني سيحلّ مشاكل التنمية الإقتصادية المزمنة التي تواجهها بعلبك والمنطقة بشكلٍ عام”. في هذا السياق، وفيما هناك ضرورة لمعالجة الحاجة إلى البناء، من الضروري أن ترتكز تلك العملية على دراسة حاجات السكن في المدينة ومعاينة مخزون المباني والوحدات الخالية أو المهجورة. إنّ أيّ حلٍ لمشكلة البناء لا يلحظ ملامح الإرث الثقافي، الأثري، الطبيعي والزراعي في المدينة، سيؤدّي في نهاية المطاف إلى تدمير العوامل التي لطالما ميّزت المدينة ورفدَتها بميزتها المحلية – وهي تلك العوامل التي يجب البناء عليها نحو تنمية إقتصادية منتجة.
توضح هذه الدراسة البحثية أن الإشكالات المستمرّة حول إمكانية البناء في مدينة بعلبك هي نتيجة للتناقض المتأصّل بين المفاهيم الاجتماعية (التقليدية) للأرض التي تعود إلى العهد العثماني وأنظمة تخطيط الدولة الحديثة التي لطالما أطلقت على سكان بعلبك تسمية “الخارجين عن القانون” ووصمتهم كأشخاص متورطين في ممارسات غير شرعية للبناء.
تتفاقم الإشكالات وتتصاعد التوتّرات حول قضية البناء، وتتّخذ أشكالاً مختلفة نظراً للطرق التي استفادت بها الأحزاب الطائفية المحلية من هذه التوتّرات لناحية ترسيخ سيطرتها. من ناحية أخرى، فقد اقترحت هذه الأحزاب حلولاً شعبوية لا يتم تنفيذها أبداً، كما تشير تصريحات إبراهيم الموسوي وعلي المقداد. من جانبها، لم تتناول المديرية العامة للتنظيم المدني جوهر المشكلة، وفشلت عموماً في معالجة الأسباب الجذرية للتهميش الذي لطالما عانت منه محافظة بعلبك – الهرمل.
في السياق العام، تقتضي معالجة هذه المعضلة بلورة سياسات تحمي القيمة الاجتماعية للأرض من خلال فرض ضرائب على المضاربة العقارية ووضع حد لها. في سياق بعلبك بشكل خاص، لا بدّ من ترسيخ أطر الملكية المشتركة بدلاً من حلّها وبذلك فهم الموروثات العُرفية والتعلّم منها والبناء عليها، وبالتالي السماح لتلك الأراضي ذات الملكية المشتركة بحجب أثر السوق العقارية عن بعض الأراضي ممّا يسهّل عمليات بناء المساكن لذوي الدخل المحدود. من هذا المنطلق، ينبغي تخصيص المناطق ذات الملكيات المشتركة في بعلبك بحيث يتمّ إبقاء أسعار الأراضي فيها بمستوى منخفض عن أسعار السوق، ويتمّ توجيهها وتنظيمها بشكل يتناسب مع خصائصها وحاجات المدينة، في ظل احترام حاجات الناس السكنية وحماية الإنتاج الزراعي والتنوّع البيئي.
إن استغلال الأحزاب الطائفية المهيمنة لحاجة الناس للخدمات الأساسية ليس جديداً. لكن الوصمة الاجتماعية التي أنتجها هذا الاستغلال، بالإضافة إلى التمدّد الحضري الذي يقضم الأراضي الزراعية، والاكتظاظ الذي ينتج عن غياب الأطر الناظمة المراعية لحاجات السكان الاجتماعية النفسية والبيئية في البيئة المبنية، تُنتج مُركّباً حضرياً هو غايةٌ في التعقيد، جديده هو اعتبار الأرض سلعة المنطقة الأساسية، بعد تفريغها من قيمتها الاجتماعية. هنا يلعب فهم الأعراف في عملية البناء دوره في تقريب حاجة الناس من البيئة واحترام استخدام الأراضي بشكل مستدام، في محاولة لتوسيع آلية عمل قانون البناء وتحويله من نصّ جامد يطبّق في كل الحالات دون النظر إلى التفاصيل والاختلافات المكانية الاجتماعية البيئية، إلى إطار يوجّه عملية البناء إعتماداّ على السياقات المحلية المتنوّعة.
نواب المنطقة يقترحون مشروع قانون للضّم والفرز يضحّي بالأراضي الزراعية في الهرمل ويونين
اقتراح قانون معجّل مكرّر حول الضم والفرز في منطقتي الهرمل ويونين العقاريتين في محافظة بعلبك الهرمل
تبين للجنة أن اقتراح القانون يحتاج الى مزيد من الدرس والتدقيق، وعليه قررت تأجيل البت به والطلب الى الإدارات المعنية تقديم بعض الملاحظات التي لها علاقة بتطبيق الاقتراح في حال تمّ إقراره.