في الأيام “العادية” والظروف غير الطارئة، تشكّل المدينة مساحة لممارسة حق تطويع المكان، من استخدام المساحات العامة، إلى التفاوض حولها، حتى تغييرها، تطبيقاً للحق في المدينة. ويسري هذا الحق على كل أشكال استخدام المكان، إن على مستوى النشاطات الثقافية، الفنية، التعليمية، الاجتماعية، أو السكنية. فما بالك لو كانت الأيام غير عادية، والظروف طارئة، كما هي الحال اليوم، في ظل الحرب والكوارث المتتالية؟
الحق بالمدينة هو تطبيق لفكرة الوصول إلى المسكن ومساحات المدينة وغيرها من الحاجات المكانية، من خلال الاعتراف بأهمية الدور الاجتماعي للمكان، بما هو دور سياسي يواجه تسليع الأرض، يستقي شرعيته وقيمته من حاجة الناس الأكثر استضعافاً، لا من قيمته المالية في سوق العقارات. وهو، بشكل أو بآخر، ما يجعل المدينة مكاناً حياً، لا عقارات مسيّجة، تفتح القدرة الشرائية طريق الوصول إليها.
إن الحق في المدينة، خاصة اليوم، هو أحد الحقوق التي نحتاجها بشكل كبير، نتيجة فقدان الناس لمنازلهم وأحيائهم ومناطقهم من جهة، ونتيجة تحوّل الوصول إلى مسكن إلى فعل مقاومة، بحيث تتقصّد آلة الحرب الإسرائيلية تهجير الناس، نتيجة معرفتها بقيمة المنازل وتأثير التهجير على الناس.
اليوم، وفي أحد أجمل مباني الحمرا العتيقة1بالمحضر الفني ٦٨٧٢ / ١ – ٣ – ٦٥ أرض قائم عليها بناء مؤلف من مطلع درج ومصعد كهربائي وطابق تحت الارضي وطابق ارضي وثمانية طوابق علوية تحت الارضي مستودع أرضي، شمالا مخزن ومتخت ومنافع، غربا مخزن ببابين ضمنه غرفة ومتخت وتحته مستودع، غربا جنوبا مخزن زاوية بثلاثة ابواب ضمنه قطعتان صغيرتان، جنوبا مخزن ومنافع للطابق ١ و٢ و٣ و٤ و٥ يحتوي كل منها على خمس غرف وغرفة مقطوعة مكشوفة ومدخل وممرين وزاروب وغرفة صغيرة وحمامين ومتخت. الطابق السادس يحتوي على مدخل ودار وصالون وغرفتان وحمام وزاروب وقطعتان صغيرتان ومنافع الطابق السابع يحتوي على مدخل ودار كبير وغرفة وحمام ومطبخ ومنافع الطابق الثامن يحتوي على مدخل وغرفة ضمنها حمام ورواق مسقوف قائم على أعمدة بجانبه قطعة صغيرة ضمنها منافع على السطح غرفة لموتور المصعد. المبنية في الستينيات (مبنى عبد الباقي)، يحاول عدد من النازحين تطبيق مفاهيم الحق بالمدينة وبالسكن من خلال وضع يدهم على الشقق المهجورة الميتة وتحويلها، لمدّة تنتهي مع انتهاء الحرب، إلى مسكن آمن لعدد منهم. وليس هذا المبنى غريباً عن استقبال من لا مأوى لهم. فمنذ ال2019، أصبحت الأدراج التي تغطي الجهة الجنوبية للمبنى مأوى ليلي لعدد من العائلات والأفراد، نتيجة حرمان اللاجئين السوريين من حقوقهم الأساسية من جهة، والانهيار الاقتصادي الذي هدّد الأمن السكني للجميع، من جهة أخرى.
يعيش اليوم 79 شخصاً في مبنى عبد الباقي في الحمرا، نتيجة نزوحهم من ضاحية بيروت الجنوبية والجنوب (خاصة قريَتَي الزرارية والنبطية) اللتان تُقصَفان بشكل إرهابي، ليجدوا مأوى في مبنى مهجور في شارع الحمرا الرئيسي. وبعد أن أرسل صاحب المبنى منذ حوالي الشهر شكوى أمام النيابة العامة أفضت إلى طلب إخلاء، يعيش السكان اليوم حالة قلقٍ دائمة. “نحنا منا بعيننا البيوت!” يقول أحد السكان، “هو بس يعلنوا وقف الحرب بتلاقونا كلنا رجعنا. لي بيته نهد بحط خيمة محلّه وبيقعد فيها، بس المهم يرجع ع ضيعته. ” لم يحصل الإخلاء، إلّا أنّنا من خلال رواية التهديد، نريد أن نفتح نقاشاً جدياً وواقعياً حول وضع اليد، خاصة في زمن الحرب، والأولويات التي تدفع بها هذه المسألة، وموازين القوى التي تُظهّرها، خاصة وأن هذا المبنى ليس استثناء وأن ظاهرة وضع اليد واستخدام المباني الفارغة أصبحت ضرورة وواقعاً، خلال الحرب.
عن المبنى والدخول إليه
كما حصل بالنسبة لعدّة مبانٍ أخرى في منطقة الحمرا، قام شباب من الحي بفتح المبنى وإرشاد النازحين إليه، وكان عددهم حينها 120 نازحة ونازح. ولم يمانع أحد المالكين، من عائلة عبدالباقي، إشغال النازحين لمبناه، بل ساعدهم في مدّ اشتراك المياه والكهرباء إلى المبنى، كما كان ينسّق مع أحد السكان لتأمين حاجات المبنى. لكنّه اشترط ألا يتم إشغال الطابق الأول والطابقين الأخيرين المقفلين.
يتألّف المبنى من ثمانِ طوابق، وأقسامه المشتركة بحالة جيّدة، تخلو من تشقّقات ظاهرة أو علامات قد تشير إلى عدم سلامته.
بالمقابل، لا يوجد إضاءة أو درابزين على الدرج، وهو ما يشكّل صعوبة في التنقّل بحريّة في المبنى، خاصة أن معظم النازحين من كبار السن، وبعضهم مقعد. صُمِّمت معظم وحدات المبنى كعيادات ومكاتب، وهي مهجورة وليست مجهّزة للسكن، بحيث تغيب المساحات للمطبخ وتقلّ الحمامات. وقد قام السكّان بتركيب كراسي للحمامات ووصلها بشبكة الصرف الصحي على نفقتهم. حالياً، المبنى نظيف والأقسام المشتركة أيضاً، ويواظب السكان على المحافظة على نظافتها، فيُمنع ترك الأغراض على المدخل كما يُمنع الأولاد من اللعب على الدرج.
ويروي السكان عن رحلة دخولهم إلى المبنى:
“من 8-9 أيام (يعني 30 أيلول) خلعنا البناية وقعدنا فيها مثلنا مثل هالمهجرين. قعدنا عالطريق بالأول.
أنا تهجّرت من الجنوب، بيتي بالجنوب راح، جيت عند أولادي عالضاحية، وتهجرنا من الضاحية، ما فيه مطرح نروح. نمنا بمدرسة قريبة من هون، بس كانت مليانة وما سايعة. نمنا على البحص برا. ضلينا يومين على البحص برا. قالولنا ما فيه مطارح. إجوا ناس فتحولنا هون البناية. فيه أربع غرف عالطابق، وكل غرفة عم ينام فيها 10-12 شخص. الحمام مشترك بكل طابق.
هيدي البناية ما كان فيها شي. مجوية ومهجورة والدهان مقبع وما كان فيها ميّ ولا كهرباء. زبّطنا الحمامات ع حسابنا، وفيه ناس تبرعولنا بخزانات ميّ ومدّولنا كهربا. ومدّينا ميّ ع حسابنا. بس ما عم تجي المي. لما جينا، كان كل شي خربان. ما فيه أبواب. الشبابيك خربانة. كان فيه أوراق مفلوشة عالأرض. شكلها كانت بناية مكاتب.
بكل البناية فيه شي 90 أو 100 شخص.”
التقينا بكامل (إسم مستعار)، أحد سكّان المبنى الحاليين، وهو في الأصل أحد سكان الضاحية ويملك محلاً لبيع الألبان والأجبان هناك. يغادر كامل الضاحية مساءاً كل يوم قبل بدء القصف، ويعود إليها فجراً عند انتهاءها، لتفقّد بيته وفتح محلّه حيث يستأنف نشاطه التجاري حتى الساعة الرابعة عصراً. أخبرنا كامل بأن العديد من سكان الضاحية يتصرّفون مثله.
مع ظهور بوادر إنشاء لجنة بناية، تواصلنا مع “هارون”(اسم مستعار)، وهو المسؤول الحالي عن المبنى، والذي أخبرنا بأن السكان يتداورون حراسة المبنى لمنع أي غريب من الدخول إليها، إذ أن الدرك اشترط عليهم ألا يدخل المبنى أي نازح جديد. كما يتم إغلاق مدخل المبنى و إقفاله عند الساعة 11 مساءً. “نحن منا بحاجة لا لأحزاب، ولا جمعيات ولا دولة،” تقول إحدى النازحات من الجنوب، “نحن منحرس بعض.”
زرنا الشقة على الطابق الثاني، وهي تأوي 25 شخصاً، من بينهم امرأتان مقعدتان، تعاني إحداهما من مرض السرطان والأخرى مبتورة الرجلَين. يحاول سكان المبنى تأمين كراسي متحركة لهما. و قاموا بتجهيز حمام خاص لهما بالقرب من غرفتها.
يقوم هارون بجولة على جميع سكّان المبنى كل يوم ويدوّن أبرز حاجاتهم، بينما تقوم بعض الجمعيات في الحمرا بتأمين الأكل للسكان يومياً، كما تؤمّن لهم إحدى المبادرات بعض الأدوية، على الرغم من الشح في الأدوية.
حالياً، يقوم السكان بجمع المال من بعضهم البعض لشراء غسالة و قارورة غاز للطهي، كما يقوم هارون بتنظيم وضع السكان في المبنى، عبر توثيق معلومات حول عدد الأشخاص في كل طابق، واحتياجاتهم.
لما حصل التهديد بالإخلاء وكيف؟
بدأ الخلاف حين قام الشباب الذين سهّلوا دخول النازحين إلى المبنى بإحضار المزيد من النازحين، ففتحوا الطوابق التي منع المالك إشغالها، وعلى هذا الأساس تقدّم الأخير بشكوى أمام النيابة العامة. “مبارح (الإثنين 14 تشرين الأول) بعتولنا أنه جاي صاحب البناية ومعه محامي بده يطلعنا.” تقول إحدى السكان، “وهلق (الثلاثاء الساعة 4) إجا الدرك وإلنا شي ساعتين عم نتباحث. ما رح نطلع. بدن يانا نروح نموت بالضاحية؟ من هون مش طالعين، وعلى طرابلس مش رايحين وعلى المدينة الرياضية مش رايحين. باقيين هون.
عم نسمع أخبار أنه عم ياخدوا النازحين ببوسطات على طرابلس ويكبوهم بالشارع. بيقولولن مأمنين ورح يحطوهم بمدارس، بس عم يكبوهن بالشارع. ما بدنا يصير فينا هيك. ما بدنا طرابلس. بدنا نبقى ببيروت. قالولنا فينا نروح على مدرسة الراهبات حد كليمنصو. بعتنا حدا ليروح يشوفها، طلع ما فيه مطارح. ما بيساع إلّا 4 عيل بغرفة. على أساس نحنا غنم. قلنالن خلونا نحكي مع صاحب البناية، نحنا مش ناس محتلين، نحنا بدنا نرجع على بيوتنا، حتى لو بيوتنا بعدها عالأرض، منقعد بخيمة حد البيت. نحنا منكتبله تعهّد، بس تخلص الحرب ويقولولنا فلّوا على بيوتكن، رايحين نقعد بخيم بضيعنا.”
عند حضور الدرك، قام النازحين الرجال بمغادرة المبنى تاركين النساء والأطفال، على أمل ألّا يتعرّض الدرك لهنّ أو يحاولوا إخلاءهنّ بالقوة. ونتيجةً لمقاومة السكان، تمّ طرح الموضوع ليصبح نقاشاً عاماً، ممّا دفع الناشطين أيضاً والداعمين للانضمام، وقد انضممنا لهذه المجموعات. وقد سرّع ذلك من إطلاق المفاوضات مع أحد المالكين. وقد ظهر من خلال المفاوضات أن المالكين غير متّفقين على الإخلاء. ومن خلال محادثاتنا مع المالك الذي جرى تعيينه بشكل غير رسمي لإدارة المبنى (وهو المالك ذاته الذي ساعد النازحين للانتقال إلى المبنى ووصله بشبكتي الكهرباء والماء)، علمنا بأن بعض المالكين امتعضوا من النش الذي يصل إلى الطبقات السفلى، فطالبوا بالإخلاء. وهو المالك نفسه كان متردّداً، لكنّه اطمأن للوعد بعدم إدخال المزيد من النازحين إلى المبنى، وبأن الطابق الأول والطابقين الأخيرين ستبقى طوابق شاغرة. إن حقيقة عدم حدوث الإخلاء تشير إلى أن المالك الذي تفاوضنا معه على الأرجح قد أبلغ المالكين الآخرين بنتيجة المفاوضات، وتوّصل أغلبهم إلى اتفاق لإلغاء الإخلاء.
بالرغم من ذلك، فقد ترك العديد من النازحين المبنى ليصبح عددهم الحالي 79 شخص، معظمهم من الكبار في السن اللواتي والذين نزحوا من الزرارية وجوارها في الجنوب.
وتكمن المشكلة في عملية التهديد هذه، حقوقياً وقانونياً، على مستويات عدّة. من ناحية، فقد تمّ إصدار أمر إخلاء في وقت الحرب وفي ظل عدم توفير البديل للنازحات\ين. من المهّم التأكيد إلى أنّه لا يحق للسلطات القيام بعملية إخلاء دون تقديم بدائل واقعية وآمنة وقابلة للتنفيذ. من ناحية أخرى، وصلت القوى الأمنية إلى المبنى لإخلائه من السكان بعد يوم واحدٍ من تبليغهم بقرار الإخلاء، وهي فترة قصيرة جداً بالنسبة للمقاييس الدولية التي تقتضي بإمهال الشخص المطلوب إخلاءه “مهلة معقولة” يمكنه خلالها تأمين ترتيبات سكنية أخرى، كي لا يصبح مصير السكان التشرّد.
أما من ناحية قانونية الإجراء، فعلى طلب الإخلاء أن يأتي من المالكين جميعاً – أو بوكالة منهم. كما يجب على عناصر الدرك عند تبليغهم السكان بقرار الإخلاء وعند التنفيذ، إبراز نسخة عن القرار، وهو ما لم تفعله القوى الأمنية. كما نذكّر بأنه جرى إصدار القرار من قبل المدّعي العام، وهو المرجع الأعلى في المحاكم الجنائية، بسرعة واجتهاد قاضٍ يُلاحق مجرمين، لا نازحين من الحرب يحتاجون إلى دعم وحماية. كما ينتج عن هكذا قرار صادر عن المدّعي العام، اعتبار دخول المبنى “جرماً”، وهو أمر غير منطقي من جهة، وظالمٍ في حالة الحرب والنزوح بالذات.
إذاً، يتخطّى أمر الإخلاء الظالم هذا عدداً من القوانين والأعراف ويتعدّى على حق النازحات\ين بالسكن وبالمدينة، ويعمل على تجريم النازحات\ين في هذا المبنى، وعلى خلق حالة من الخوف من تحويل مبانِ أخرى مهجورة وشاغرة، إلى مساكن مؤقتة لمن هنّ\م الأكثر حاجة لها اليوم.
معنى “وضع اليد” في سياق مفهوم الحق في السكن والمدينة
من الضروري أن نرى قصور القانون اللبناني عن فهم الواقع الحالي من جهة، أو غياب حساسيته تجاه حقوق أساسية كالحق بالسكن، لتكون حماية الملكية الخاصة أولويته. فلا يُخفى على أحد أن القانون اللبناني منحاز، بشكل عام، للأقوى، وهو مخطوط بروحية رأسمالية. مع ذلك، فإن القانون اللبناني يتضمّن مفهوم “وضع اليد” في قوانين الملكية، وهو ما نستعمله كبديل عن تعبير “احتلال” الذي غالباً ما كان يُستخدم في الإعلام والمجتمع في هذه الحالة، كما في سياق الحرب الأهلية اللبنانية. وبالرغم من احتوائه على هذا المفهوم، فإن تعريف القانون اللبناني لوضع اليد، وبعكس عديد من البلدان (كالسودان والبرازيل وغيرها) التي تعترف بوضع اليد وسيلةً شرعية لتحويل استخدام المساحات الشاغرة وغير المستعملة لا بل وتغيير ملكيتها في أحيانٍ كثيرة، فإنه أيضاً تعريف قاصر ومحدود. إذ يتحدّث قانون الملكية عن إمكانية اكتساب الملكية بمرور الزمن عبر وضع اليد على الأراضي غير الممسوحة فقط2بحيث نصّت المادة 257 من هذا القانون على اكتساب “حق القيد في السجل العقاري، فيما يتعلق بالعقارات والحقوق غير المقيدة في السجل العقاري، بوضع يد الشخص بصورة هادئة علنية مستمرة مدة خمس سنوات، هو بنفسه أو بواسطة شخص آخر لحسابه، بشرط أن يكون لدى واضع اليد سند محق. وإذا لم يكن لديه سند ،فمدة خمسة عشرة سنة.”. ممّا يعني أن القانون يعترف بمفهوم وضع اليد، إنما يجعله حقاً فقط في حدود ضيقة جداً؛ وبالتالي نستخدم المصطلح لارتباطه باكتساب الحقوق في سياق القانون المحلي .
وتُعيدنا السياسات العمرانية والأطر القانونية في لبنان بشكل عام إلى الأزمة الأساسية في الوصول إلى الأرض، والسكن والمدينة: فبدلاً من العمليات الجماعية أو الفردية لاستخدام المكان وتطويعه بحسب الحاجة لا بحسب وضع الملكية فقط، يجعل القانون اللبناني الوصول إلى الأرض مقتصراَ على الملكية الخاصة، ويحدّ استخدام الملكية العامة بحالات محدودة جداً، ويجعل وضع اليد مسموحاً في حالة استثنائية. في الوقت عينه، فقد أقرّ لبنان المواثيق والمفاهيم الدولية المتعلّقة بالحق بالسكن والمدينة -وما زلنا نأمل أن يضعها موضع التنفيذ- والتي تعترف بوضع اليد وتمنع الإخلاء التعسفي، خاصة في زمن الحرب.
من ناحية أخرى، وربما اليوم بشكل أكبر من ذي قبل، تظهر المقاربة الاجتماعية السياسية كالحل الأنجع في هذا الإطار، إن على مستوى التواصل والتفاوض مع المالكين، أو\و على مستوى خلق دعم شعبي وتضامن وتفهّم لواقع الأزمة وتأثير الحرب على حقوق الناس الأساسية، وبالتالي على دور المدينة في تأمين هذه الحقوق. فالأساس هنا هو الاعتراف بأن للمدينة دور اجتماعي، وبأن إبقاء المباني شاغرة مناقض لهذا الدور. وبالتالي فللبيئة المبنية دور كبير اليوم خلال الحرب، وهو ما يجب أن نرى مفهوم وضع اليد من خلاله.
كما أن وضع اليد هو عملية نقد للعلاقة السائدة بين الاحتياجات القائمة والطريقة (الوحيدة المسموحة) التي يمكن بها تلبية هذه الاحتياجات في مجتمعاتنا. بمعنى أنّه تحويل للمساحات غير المستخدمة، الشاغرة، الميتة، إلى مساحات تستجيب لحاجات الناس. وهو ما نرى الحاجة إليه اليوم خاصة خلال الحرب، من تأمين المساحات والجهد المطلوبين للسكن وللتطوّع أو لتشكيل عمل سياسي، أو للطبخ وتبادل المعرفة والنقاش والتفاعل الاجتماعي بشكل آمن وصحي، وهي حاجات أولوية، أهم وأكبر وأكثر تأثيراً على الناس، من الدفاع ملكية خاصة مهجورة. وفيما تبرّر الدولة الرأسمالية غياب المساواة من خلال أولوية تحقيق الربح من الملكية الخاصة، فهي تدمّر لا حق الناس بالوصول إلى الأرض والمدينة فقط، بل حقّها بالبقاء والاستمرار والصمود.
لذا، على قراءتنا لعمليات وضع اليد، أو تحويل المساحات الخاصة منها والعامة في المدينة، أن تعتمد على هذه العدسة، وترى الأمور من خلالها. أي من الضروري أن يكون لنظرتنا إلى العمليات المدينية مقاربة اجتماعية تسعى لاستنباط موازين القوى الموجودة. وإلّا تكون نظرتنا قاصرة، فإمّا تنحاز لهوياتنا وتجاربنا الخاصة وطبقتنا ومصالحنا، أو تكون محدودة بالتحليل الظاهري لما يجري والمتأثّر بالبروباغاندا المهيمنة، دون الغوص في ما هو أعمق. لذلك، فإن ما نسعى إليه في هذا الإطار، هو النظر إلى ما هو أبعد من المظاهر، لفهم الأسباب الأساسية لما يجري، والسؤال عن المستفيد، من خلال فحص دور السلطة السياسية والبنى الاجتماعية التي تخلقها وما ينتج عنها من علاقات الهيمنة والقوة والاستغلال.
يشكّل مبنى عبدالباقي اليوم، بالإضافة إلى عدد لا بأس به من المباني الأخرى التي جرى التفاوض مع مالكيها لوضع اليد عليها، نموذجاً نحن بأمسّ الحاجة إليه. فهو من جهة، يؤمّن تطبيق الحق بالسكن والمدينة، سامحاً لعدد من النازحين بالحصول على مأوى آمن وتحريك الشقق والمباني الشاغرة، ومن جهة أخرى، يفتح النقاش والمساءلة حول موقف الدولة من الملكية الخاصة، وحمايتها لها، حتى في ظرف يُسمح به بإعلان حالة طوارئ، وبالتالي، يقدّم فيه حق الجماعة بالوصول إلى السكن، عن حق الفرد بالاحتفاظ بملكيته وعدم استخدامها.
المراجع
- 1بالمحضر الفني ٦٨٧٢ / ١ – ٣ – ٦٥ أرض قائم عليها بناء مؤلف من مطلع درج ومصعد كهربائي وطابق تحت الارضي وطابق ارضي وثمانية طوابق علوية تحت الارضي مستودع أرضي، شمالا مخزن ومتخت ومنافع، غربا مخزن ببابين ضمنه غرفة ومتخت وتحته مستودع، غربا جنوبا مخزن زاوية بثلاثة ابواب ضمنه قطعتان صغيرتان، جنوبا مخزن ومنافع للطابق ١ و٢ و٣ و٤ و٥ يحتوي كل منها على خمس غرف وغرفة مقطوعة مكشوفة ومدخل وممرين وزاروب وغرفة صغيرة وحمامين ومتخت. الطابق السادس يحتوي على مدخل ودار وصالون وغرفتان وحمام وزاروب وقطعتان صغيرتان ومنافع الطابق السابع يحتوي على مدخل ودار كبير وغرفة وحمام ومطبخ ومنافع الطابق الثامن يحتوي على مدخل وغرفة ضمنها حمام ورواق مسقوف قائم على أعمدة بجانبه قطعة صغيرة ضمنها منافع على السطح غرفة لموتور المصعد.
- 2بحيث نصّت المادة 257 من هذا القانون على اكتساب “حق القيد في السجل العقاري، فيما يتعلق بالعقارات والحقوق غير المقيدة في السجل العقاري، بوضع يد الشخص بصورة هادئة علنية مستمرة مدة خمس سنوات، هو بنفسه أو بواسطة شخص آخر لحسابه، بشرط أن يكون لدى واضع اليد سند محق. وإذا لم يكن لديه سند ،فمدة خمسة عشرة سنة.”