مرّ لبنان منذ بداية العام ٢٠٢٠ بسلسلة من الانهيارات، أوّلها انهيار اقتصادي أدّى إلى إفلاس المصارف وحجز ودائع الناس، وثانيها انهيار اجتماعي وإفقار للناس نتيجة تدهور سعر الصرف والتضخّم الذي واكبه، وثالثها انهيار صحي مع جائحة كورونا، وآخرها تفجير مرفأ بيروت الذي قضى على أحياء برمّتها وأظهر إهمال المسؤولين وعدم مبالاتهم بحياة مئات العائلات ومقتنياتهم وأحيائهم.
وقد راقبنا كيف فاقم مسلسل الانهيارات الأزمة السكنية في المدن الرئيسية وخاصة في العاصمة بيروت، فبرزت مسألتان أساسيتان في إطار إشكالية السكن في المدن الرئيسية وخاصة في العاصمة بيروت: عبء نفقات الإيجار على السكّان وصعوبة العثور على سكن معقول الكلفة. هذا بالإضافة إلى تردّي الظروف السكنية إجمالاً وتدهور البنى التحتية والخدمات الأساسية خاصة في الأحياء الشعبية.
يصوّر الإعلام اللبناني التقليدي أزمة السكن هذه على أنّها صراع بين مالك ومستأجر، مغيّباً دور السلطة في تنظيم الإيجارات وتحديد استخدامات الأراضي وإدارة الأملاك وفق المصلحة العامة. ويستعيد الإعلام تجربة المستأجرين القدامى ليحذّر منها بلسان مالكين يهدّدون بعدم تجديد عقود الإيجار ويدعون إلى إبقاء الوحدات السكنية شاغرة إذا ما بقيت الإيجارات تحتسب وفق سعر صرف ١٥٠٠ ليرة. عام ١٩٨٤، كان تضخّم العملة هو المسألة الفعلية التي فصلت بين ما يسمّى الإيجار القديم (حتى ١٩٩٢) والإيجار الجديد (بعد ١٩٩٢). ومنذ ذلك الحين، لم يتم طرح أي معالجة شاملة لضمان الحقوق السكنية للأجيال القادمة وحماية المسنين من هجمة التطوير العقاري.
فمع نهاية الحرب اللبنانية، حلّت مرحلةٌ نيوليبرالية تمدّدت على كل أشكال الحياة. عملت الحكومات المتتالية على تسهيل شروط عمل المستثمرين في العقارات، وقامت سياسة قوامها التسليف من أجل تملّك مسكن. وكان راعي هذه السياسة هو المصرف المركزي، ممّا اختصر السياسة الإسكانية للدولة بتحقيق مصلحة المصارف تحت ذريعة قدسيّة الملكية الخاصّة. وبدلاً من إقرار قانون موحد للإيجارات وفق مستوى الدخل، توقّف العمل بنظام ضبط الإيجارات للعقود الجديدة، واستُبدل بنظام استثماري للإيجارات بعنوان الحرية التعاقدية. أما عقود الإيجارات التي أُبرمت قبل العام ١٩٩٢ والتي أصبحت على تناقض مع ارتفاع أسعار العقارات الجنوني، فتمّ تحويلها وفقاً لاحتياجات السوق العقاري ومصالح المطوّرين. وعليه، تفاقمت نسبة الاخلاءات من المدينة إلى الضواحي البعيدة في غياب النقل العام، وانتشرت المباني الشاهقة الخالية التي حلّت مكان أحياء تاريخية، وكثرت الترتيبات السكنيّة البائسة وغير اللائقة في أحياء المدن وضواحيها. في النهاية، انهارت منظومة المصارف التي اختزلت السياسة الوطنية السكنية، بعدما نجحت في تحويل النضال للوصول إلى الحقوق السكنية والمصلحة المشتركة إلى معارك فردية.
يشبه التضخّم الحاصل اليوم، ذاك الذي حصل في الثمانينيات، وليس التدني في الإيجارات إلّا أحد نتائجه. ولكن هذه المعادلة يفوتها أن الإيجارات كانت عالياً أساساً، كما أن الفرق الشاسع بين أسعار العقارات يُنتج مظالم عديدة من جهة، وأن الأجور منخفضة وهناك تفاوت صارخ فيما بينها من جهة أخرى.
كي لا نستعيد السيناريو القديم، لا يمكن للسلطات العامة تجاهل الأزمة المتفاقمة والقلق الدائم من التشرّد، الإخلاء وعدم العثور على خيارات سكنية تلبي حاجات السكّان. وهذا يتطلّب وضع السلطات أمام مسؤوليتها في وضع سياسة عقارية ترافقها سياسة سكنية عادلة وشاملة، بما فيها تنظيم الإيجارات وفرض ضرائب على الشقق الخالية.
قد يخشى المالكون أمرين عند المطالبة بتنظيم الإيجارات والحدّ من الشغور، وهما تقليص المردود المالي من الإيجارات وكلفة الصيانة. غير أنّ تدهور الإيجارات وحالة المباني هما بالفعل نتيجة غياب تنظيم البيئة العمرانية وفق رؤية مبنية على حاجات الناس للسكن، مقابل تسخيرها للمضاربة العقارية. ومع ذلك فقد يعتمد بعض المالكين على الإيجارات كمدخول رئيسي خاصة عندما تُغيّب حقوق أخرى كضمان الشيخوخة، الضمان الصحيّ الشامل وحق التعليم المجاني. وهذه حال كل الناس على الأراضي اللبنانية ولا يمكن اعتبار حق الملكية مبرِّراً لخصخصة باقي الحقوق على حساب حق السكن. فمن واجب السلطات العامة، تماشياً مع الدستور وقوانين الملكية والتنظيم المدني، التدخّل بتنظيم البيئة العمرانية وفق حاجات المجتمع، وأن تشمل دعم هؤلاء المالكين وإدخالهم في برامج سكنيّة تنتج سكناً ميسّراً ودامجاً في المدينة.
يتمّ إنتاج السكن الميسّر في المدن اللبنانية من خلال تنظيم طرق استخدام البيئة العمرانية المبنية وليس بالمزيد من البناء. فقد أصبحت مدننا بحوراً من الأسمنت، تنتشر فيها المباني الشاهقة والخالية من السكان، ويتناثر هنا وهناك، نسيج عمراني تراثي مهمل. في ظلّ الأزمات، تزداد مسؤولية السلطة في الحفاظ على حق السكن وصونه والتدخّل للحد من الإخلاء والتشرّد.
لذلك جئنا نطالب بتفعيل هذه البيئة بما يتناسب مع حاجات الناس من خلال تدابير ملحّة وبرامج للسكن الميسّر، وأوّلها وأوّلها موجه للمجلس النيابي والمؤسسة العامة للإسكان:
- تنظيم سوق الإيجارات وتحديد بدلات عادلة وفق معايير واضحة واستخدام العملة الوطنية حصراً،
- إتّباع سياسة صفر إخلاء وتفعيل دور السلطات العامة والمحليّة في تأمين السكن البديل الملائم – عند الضرورة- والقريب من مقوّمات العيش،
- الحدّ من شغور الوحدات السكنية وغير السكنية عبر فرض ضرائب تصاعدية تستهدف أوّلاً مستثمري العقارات، وترتبط بتفعيل برامج سكنية تزيد من نسبة المخزون السكني المتاح والملائم والدامج وتدعم مالكين صغار يعتاشون من بدلات الإيجار،
- تفعيل آليات لرقابة معايير السكن الدامج والملائم والقضاء على كل أشكال التمييز بالسكن،
- حماية السكان في المناطق المتضررة، وتعديل المادة الخامسة من قانون ١٩٤ لتصبح الإيجارات ممدّدة طيلة فترة إعادة التأهيل والترميم، كما تأمين السكن البديل لمن لا زال ينتظر الترميم أو قد تمّ إخلاؤه منذ التفجير.
إن تحمّل الناس عبء تأمين مسكن وعبء المصاريف اليومية دون شبكة إجتماعية هو نتيجة تخلّي الدولة عن لعب دورها كدولة. وتصبح مسألة الوصول إلى السكن اللائق بالذات، مثلها مثل الوصول إلى الخدمات الأساسية، مستحيلة بغياب سياسات حكومية ترعى هذا الحق وتضمنه للجميع.
اقتراح قانون الضربة القاضية، نحو تدمير ما تبقى من مصالح الناس ومن النسيج العمراني
اقتراح قانون يهدف إلى تحرير الإيجارات القديمة غير السكنية.
أنهت اللجان (لجنة الإدارة والعدل في 5/7/2022 ولجنة المال والموازنة في 21/7/2022) دراسة اقتراح قانون الإيجارات للأماكن غير السكنيّة، وبات من المنتظر وضعه، بصيغته المعدلة من قبل لجنة الإدارة والعدل، على جدول أعمال ...