مَن نقل المطبخ إلى غرفة النوم؟

كتابة: مريم شعيب

في أحياء البؤس والجرائم واللادولة، في بلد المركزية، وفي بيروت ذات الأبنية الفارهة قبالة الشاطئ المسروق والمطمور بالباطون، هناك، يقبع مالكٌ قبالة حاسوبه باهظ الثمن، يُحمّل على موقع فيسبوك أو غيره، صور شقته أو ما يُسميه “استديو للموظفين/ات-الطلاب/الطالبات” والذي للمفارقة، يقع على أطراف المدينة، في أحياء صغيرةٍ مُظلمة، تخافين فيها على نفسك وحيوانك الأليف من الموت إذا ما قررت أن تأخذيه بجولةٍ صغيرة، لكن مع ذلك ينتظر الاستديو المُفترض المستأجرين/ات أو ينتظرونه.

وفي بلد يُعدّ فيه حق الملكية الخاصة محميّ بموجب الدستور اللبناني، وقانون الإيجارات فيه فضفاضٌ لا يضع أي سقف لبدلات الإيجارات، تشجّع الدولة الاستثمار العقاري على حساب صغار المستأجرين/ات والملّاك/ المالكات كذلك. كما يُضاف إلى ذلك أن قانون الإيجارات منحاز تماماً للمالك، كما أن عدم تدخّل الدولة في وضع ضوابط على بدلات الإيجارات والإخلاءات، يشجّع وضع المستأجر\ة في موقع الأضعف، ويحدّ من إمكانية استخدام قانون الإيجارات كأداة للوصول إلى السكن.

وفي الفترة الاخيرة، ارتفع معدل بدلات الإيجار خلال فترة الحرب بشكل ملحوظ نظراً لزيادة الطلب، ولأن قيمة الإيجارات لا تستند على قيمة المأجور الفعلية ضمن حيّز من الاستغلال الواسع غير المكبوح بأحكام سياسة واضحة وشاملة للحفاظ على الحق في السكن. إذ بلغت قيمة بدلات الإيجار في المناطق الآمنة حدّ الـ1400 دولار أمريكي شهرياً خلال شهر آب 2024 بعد أن كانت بين الـ 200 والـ 300 دولار أمريكي كحد أقصى قبل اندلاع الحرب.

لم تتوقّف بدلات الإيجارات عن ارتفاعها حتى بعد بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، إذ إن كثيراً من سكان القرى الحدودية لا يزالون نازحين في مناطق أخرى، وبالتالي فإن الطلب مُستمر فيما الحاجة إلى الوصول إلى السكن أولوية طارئة.

هذا الارتفاع العشوائي والمفاجئ لبدلات الإيجار عند كل أزمة، ليس جديداً على المُلّاك في لبنان، إذ إنهم يستغلّون كل شيء حتى موعد الفصول الجامعية. مازلتُ أذكر يوم أجاب مالكٌ على استغرابي بطلبه 200$ على السرير في غرفة مشتركة داخل شقة مشتركة فيها ست فتيات من دون احتساب الخدمات، قائلًا: “هلأ موسم جامعات”!

لكن، لفتني مؤخراً مفهوم “الاستديو” في بيروت، وأحياناً خارجها أو على أطرافها. هو مفهوم مُصغّر للسكن؛ غرفة نوم صغيرة، ومفروشة بطبيعة الحال، سرير صغير إلى جانب خزانة صغيرة، لكنهم أدخلوا عليها ما يُسمّى بالـ “Kitchenette”\كيتشِنيت أو المطبخ الصغير. حينما رأيتُ استديو مع كيتشِنيت بنفس الغرفة لأول مرةٍ في بيروت، صُدمتُ واعتراني سؤالٌ واحد: “مَن نقل المطبخ إلى غرفة النوم؟!”
الـكيتشِنيت هو مطبخ صغير الحجم ويكون عادةً جزءاً من غرفة النوم، كان يُعتمد في بعض النزل وغرف الفنادق والشقق الصغيرة والسكن الجامعي أو المكاتب، وغالباً ما يحتوي على الأساسيات فقط، كثلاجة صغيرة وفرن ميكروويف أو غازٍ صغير وحوض غسيل. بدأ هذا المفهوم بالظهور في الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن العشرين، وكان ظهوره مرتبطاً بالحاجة إلى مساحات معيشية بأقل تكلفة، خاصة في المدن الكبرى. وقد انتشر في أنواع من الشقق الصغيرة في المجتمعات الأمريكية الأفريقية في شيكاغو ونيويورك، نظراً للمساحة المحدودة في توازٍ مع التزايد السكاني، إذ أصبح من الصعب العثور على شقق كبيرة تحتوي على مطابخ كاملة، بحيث يحدّد قانون البناء في مدينة نيويورك مساحة المطبخ الصغير بأقل من 7.4 متر مربع. وهو ما يطرح سؤالاً في الأفق حول إذا ما كان هذا انتزاعاً لحقٍ من حقوق السكن بحجة المساحة والتكلفة، لكن بشكل يهدّد راحة المستأجر، ويرفع من أرباح الملّاك وأصحاب العقارات.

كيف لقى مفهوم الـكيتشِنيت طريقه من الولايات المتحدة الأميركية إلى لبنان وبيروت تحديداً؟!

في الوقت الذي تشتهر فيه المنطقة بمطبخها وأكلاتها، يشكّل المطبخ كمكان، ذاكرة حسيّة اجتماعية جماعية. كلنا نذكر تلك الكنبة مع التلفاز الصغير في مطابخ جداتنا، ولا أعتقد أنه كان بوسعهن إعداد ورق العنب ولفه في هذا الـكيتشِنيت. لكن ذلك غير مستغرب، في ظلّ قوانين البناء المفتوحة على مصراعيها والسياسات المتعلقة بالسكن والتي تسمح للمطوّرين العقاريين والتجّار بألا يفوتوا فرصة لاستنزاف القاطنين واستغلالهم.

بدأ أصحاب العقارات بتقسيم المنازل أو الشقق الكبيرة إلى وحدات أصغر بهدف زيادة الاستفادة من المساحة وإضافة المطبخ الصغير إلى وحدات سكنية صغيرة مثل الاستوديوهات، بذلك أصبح بإمكان شركات عقارية أو ملّاك الشقق تأجير هذه الوحدات كمساحات مستقلة ما يُتيح لهم تقسيم المباني إلى عدد أكبر من الوحدات السكنية، وبالتالي زيادة الدخل من الإيجارات.

كانت الفئة المستهدفة في أغلب الأحيان من الطالبات والطلاب أو الموظفات والموظفين، إذ إنهم/ن لا يملكون/يملكن دخلاً يمكّنهم\ن من استئجار شقة كاملة، وهو الأمر الذي يدفعهم\ن إلى خيارات الشقق المشتركة-الفواييه أو الاستديو مع كيتشِنيت. وتكون ظروف المعيشة في تلك الشقق مع هذه المطابخ الصغيرة بائسة في كثير من الأحيان، لا تحمل أدنى مقومات الحق بالسكن، وهو ما عايشته شخصياً أثناء فترة دراستي الجامعية.، فيمكن للمالك (أو وسيط عنه بمثابة وكيل يدير أملاكه) أن يقسّم الشقق وفقاً لما يريد وأن يؤجّرها لأكبر عدد ممكن بهدف جني المزيد من الأرباح متجاهلاً ما قد ينتج عن هذا الاكتظاظ في شقةٍ سكنيةٍ واحدة، وإذا ما حدثت أية مشكلة بين المستأجرات، يتنصّل من مسؤوليته عن الشقة وما يدور داخلها كمالك، معتبراً أنها مشاكل شخصية، بنفس الطريقة يتنصّل عن تحمّل تكاليف أي تصليحات في الشقة باعتبار أن لا عقد إيجار يُلزمه بشيء من هذه المسؤوليات. وتعود الأزمة بالأساس إلى أن القانون لا يحدّد المساحة القانونية الصحية والآمنة للفرد، ممّا يسمح بتقسيم البيوت والشقق إلى مساحات غير مريحة، ومن ضمنها حشر كيتشِنيت بجانب المخدّة.

ومقارنةً بمطبخ كامل، فإن تكلفة بناء وصيانة الـكيتشِنيت تكون أقل بكثير، ممّا يساهم في خفض تكاليف البناء أو التجديد. هذا يعني أن الملّاك يمكنهم توفير المزيد من المال عند تطوير الشقق أو تجديدها. ساعد الكيتشِنيت إذاً ملّاك العقارات في زيادة الربح من خلال استخدام أكبر للمساحة على حساب المستأجرين/ات. ويسمح التقسيم بزيادة الدخل، وهو ما يصعب جداً الحصول عليه من عائلة واحدة\ مستأجر واحد، ذلك لأن المداخيل المتاحة لا تسمح بتغطية أسعار الإيجارات المطروحة ممّا يعني بأن قلّة قليلة من السكان تستطيع تحمّل مثل هذه الإيجارات المرتفعة، ليبقى المخزون السكني شاغر في معظم الأحيان، أو يتم تقسيم الشقق لمضاعفة الأرباح.
الـكيتشِنيت مفهومٌ دخيلٌ على مجتمعاتنا وثقافتنا في الطبخ والمطبخ، لا يتناسَب وحياتنا اليومية أو قيمة دخلنا التي لا تسمح باستهلاك الأكل السريع يومياً. كيف يطبخ المرء في مطبخ لا تتعدّى مساحته السبعة أمتار مربعة في أحسن الأحوال، ويشترك مع هذه الأمتار غرفة النوم أيضاً. كنتُ أضطر لفتح باب “الاستديو” كلما أعددتُ أبسط أنواع الطعام، وأنام مع رائحة البصل أو البهارات وغضبي، كلما أوقعت غرضاً من أغراض المطبخ لضيق المساحة. فكرتُ أحياناً أنه بوسع المرء أن تتعايش مع هذا المطبخ الصغير لو أنها لا تُعدّ طعامها في المنزل، معتبرةً أنه ربما يكون المطبخ بمساحته الطبيعية امتياز الأغنياء فقط في العصر الحديث. ضحكتُ يومها على الأفكار التي قد تدفعنا الرأسمالية لاختلاقها. نعم قد يُصبح طبيعياً انتزاع الحق بإعداد الطعام في المنزل في زمن اللاعدالة المكانية، وقد نعتاد رائحة البصل، الأبواب المفتوحة وسقوط الأغراض عشوائياً. لكنني -غير آسفةٍ -لم أعتدها، وظللت أتنقّل بين الشقق، باحثةً عن مطبخ طبيعي!
هذا المفهوم-المطبخ الصغير-أتى من أكثر الدول التي تعاني أزمةً بالسكن، محاولةً ترقيعها بأدوات الرأسمالية. المطبخ الصغير لم يكن حلاً لشيء، ولم يأتِ ليُنقذ الفئات الأكثر تهميشاً، الطبقة المفقّرة، النساء، الطالبات والموظفات من التشرد، بل أتى لاستغلالهن، ووضعهن تحت الأمر الواقع بين اللامسكن والمسكن السيئ مع انتزاع حقٍ من حقوقهن البسيطة بالسكن بهدف زيادة الربح من الإيجارات.

بالنسبة لي، كان الـكيتشِنيت أحد كوابيسي في شقق بيروت المظلمة، إذ بدأت رحلة بحثي عن “مطبخ طبيعي” وانتقلت من شقةٍ إلى أخرى، أكثر من سبع مراتٍ خلال خمس سنوات، وهو رقمٌ كبيرٌ بالنسبة لشخصٍ تكره التنقل، كما يعكس ذلك حالة عدم الاستقرار المكاني الذي نعانيه في هذه المدينة بما أنني تشاركت هذه التجربة مع أكثر مَن أعرفهم\ن. تنقّلت كثيراً داخل مدينةٍ لا تتعدّى مساحتها العشرين كلم2، قصرياً كل مرة، متافديةً قدر المستطاع كل الـكيتشِنيت في طريقي، متعثرةً بها مجدداً، مُجبرةً على التعايش معها لفترات مؤقتة إذ لا خيارات أخرى ولا بدائل بأسعار واقعية.

أعادت الـكيتشِنيت إلى خاطري فكرة العودة إلى القرية، تحت عنوان “مُجبرٌ أخاك لا بطل”، إذ ضاقت بي كل هذه المطابخ الصغيرة وكتمت على نفسي مع رائحة البصل حتى باتت تُزعجني، أنا عاشقة المطبخ والطبخ حتى دموع البصل. في القرية لا كيتشِنيت لدينا، وغالب الظن أني لم أعرف معناه واقعياً حتى انتقلتُ للعيش في بيروت وشققها المظلمة والمُقسّمة على أهواء الملّاك لا القاطنة فيها فعلاً، نوماً وطبخاً. في القرية لا تزعجني رائحة البصل في المطبخ، إذ إن نافذةً عريضةً تغطي نصف مساحة الحائط، أما في الكيتشِنيت فلا نوافذ للتهوئة. تدفعني هذه الفكرة للتساؤل حول حريتنا في اختيار المكان، مكان عيشنا؛ قد يبدو سبب كمطبخ صغير، تافه أو غير كافٍ لشخص ما أن يقرر على ضوئه ترك ما بناه خلال خمس سنوات من عمل، أصدقاء، بيئة ومجموعات، لكنه في لحظة ما، كان كافياً بالنسبة لي. عندما تخيّلتُ حريتي في مطبخي الواسع في القرية، وفي نفس اللحظة، أحسستُ بحريةٍ أخرى، سُلبت مني، حريتي باختيار المكان وحقي بالعدالة المكانية. في لحظة منفصلة، أحسستُ أنه ربما هذه الكيتشِنيت تُعيد ترتيب علاقتنا بالأرض والمساحة لتعيدنا إلى جذورنا. لكن لا، ما يُفرض علينا مبنيّ على مبدأ العرض والطلب، بعيداً عن أي مشاعر فعلية، تربطنا بالمطبخ، لا بل ربما يُجبرنا أحيانًا على التأقلم مع مطبخ أميركي لم يشبه الأمريكيين حتى، بل فُرض عليهم\ن، مثلنا تماماً.

خلال خمس سنوات من حياتي في بيروت، لم أنعم لسنةٍ واحدة بسكنٍ طبيعي، انتقلت من الفواييهات التي اضطررتُ فيها لمشاركة الغرفة مع فتاةٍ أخرى أحياناً، إلى الاستديوهات ومطابخها الصغيرة التي لا أستطيع قليَ بيضةٍ فيها، ثم الشقق التي تضطرين للعيش فيها مع شخصٍ أو أكثر لنستطيع تسديد بدل الإيجار الجنوني في مدينة مجنونة، وصولًا إلى البيوت التي بُنيت بمواد بناء رخيصة، تكون درجة الحرارة داخلها أقل بكثير من خارجها. كلها شققٌ وغرفٌ تشترك بمدى بؤسها وعدم أهليتها للسكن في ظل غياب قانون شامل للحق في السكن. لا أعرف بالضبط مَن نقل المطبخ إلى غرفة النوم، لكنني حتمًا أعرف أنه لم يُرد “مصلحتنا”.

السكن لبنان