وسط حيّ البسطة في بيروت، تُنذِر ورقة معلّقة على جدار أحد المباني التراثية:
“عقار خطر [..] آيل للسقوط [..] قرار من محافظ بيروت الابتعاد عن هذا العقار.”
هذا العقار والآخر الملاصق له يحتويان على مبنيين مهدّدين بالانهيار جرّاء أسباب عديدة. فبالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بهما جرّاء إحدى الغارات الإسرائيلية التي استهدفت الشارع خلال الحرب الأخيرة، كانت حالة المبنيين متهالكة أصلًا بسبب الإهمال المزمن الذي أدّى إلى تدهور بنيتهما الإنشائية، والذي يتحمّل مسؤوليّته كل من الجهات الرسمية والمالكين، الذين يبلغ عددهم 10 أفراد ينتمون إلى عائلتين توزّعت عليهما ملكية الحصص عبر الإرث والبيع والشراء.
المبنيان مدرجان على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية التاريخية (قرار وزارة الثقافة رقم 203 تاريخ 31/12/2013)، ممّا يمنع القيام بأي عمل من شأنه تغيير وضعهما دون موافقة المديرية العامة للآثار في الوزارة، وخصوصاً هدمهما. وتبيّن بأن المالكين قدّموا طلبات سابقة لهدمهما ولكنها رُفضت، ممّا يثير الشكوك حول إهمالهم المبنَيَين عن قصد حتى تتهالك وتصبح خطراً على السلامة العامة ليتخلصوا منها بغية تحقيق مكاسب عقارية، وهي ممارسة قائمة عند عدد من أصحاب المباني التراثية. ويرجّح وجود نشاط عقاري في العقارين، إذ تُظهر الصحف العقارية أن كل عقار شهد 4 معاملات بيع و4 معاملات استثمار في السنوات الأخيرة.


اجتمعت هذه العوامل في النهاية، وأدّت لا إلى تحذير المارّة من خطر انهيار المبنيين وحسب، بل وإلى إخلاء السكّان منهما. ففي ليلة الميلاد، في 24 كانون الأول 2024، وجّهت بلدية بيروت بتوقيع محافظ بيروت مروان عبّود كتاباً إلى قيادة شرطة بيروت في قوى الامن الداخلي جاء فيه: “حيث أن العقارين رقم 1343 و1339 من منطقة المزرعة العقارية مهدّدين بالانهيار ويشكّلان خطراً على السلامة العامة وخاصة سلامة القاطنين فيهما. لذلك نأمل الإيعاز لمن يلزم لإخلاء العقارين المذكورين أعلاه بالسرعة القصوى حرصاً على سلامة شاغليهما والمارّة”. وبحسب روايات الجيران، كان يقطن في المبنيين ما بين أربعة وستّة أزواج من العمّال والعاملات الأفارقة، الذين لم نستطع الوصول إليهم لمعرفة المزيد عن تاريخ وصولهم إلى المبنى وسكنهم فيه، ولا تفاصيل عن الإجراءات المتعلّقة بتنفيذ الإخلاء.

التشرذم الإداري بين البلدية ووزارة الثقافة
تتمثّل تعقيدات المشكلة في تشتّت المسؤوليات وعدم وضوح آلية متابعة الملف إدارياً. فحين توجّهنا إلى مصلحة الهندسة في بلدية بيروت أواخر الشهر الماضي للاستفسار عن حالة المبنى وإجراءات الإخلاء، لم نحصل على إجاباتٍ شافية. فقد تمّ إعلامنا بأنّ الحرب الإسرائيليّة الأخيرة قد ألحقت الضرر بالحيّ والمبنى، لكن الحروب السابقة في الثمانينيات كانت قد قضت على الخرائط. بالإضافة إلى ذلك، أنكر موظف البلدية الذي قابلناه معرفته بعمليّة الإخلاء أو حتى بملفّ المبنى بشكل عام؛ ناصحًا إيّانا بتقديم كتابٍ للاستفسار رسمياً إمّا لدى المحافظة أو وزارة الثقافة.
عند التواصل مع أحد المسؤولين في وزارة الثقافة، تأكّد لنا من جديد أنّ العقارين مدرجين ضمن الجرد العام للأبنية التراثية، مما يمنع هدمها؛ وهو ما يتعارض بالفعل مع طلبات سابقة قدّمها المالكون لهدم المبنى، والتي تمّ رفضها، بحسب المسؤول. وأوضح المسؤول أنه ليس على علم بأيّ تطوّرٍ جديد، لكن، حسب تعبيره، “الوضع لا يطمئن.”
نُصِحنا في وزارة الثقافة بمراجعة البلدية للحصول على التقرير الهندسي الرسمي الذي يؤكّد أنّ المبنيين آيلين للسقوط، والسؤال عن سبب عدم تدخّل البلدية لاتّخاذ إجراءات تدعيم، وهو إجراء تسمح به صلاحياتها القانونية شرط استرداد التكاليف لاحقاً بوضع إشارة على العقار. ومع أن هذه النصيحة تبدو منطقية وقانونية، إلّا أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ دائرة الهندسة هي من وجّهتنا في البداية للتواصل مع وزارة الثقافة، ممّا يعكس حالة من التشرذم الإداري و/أو محاولات للتستر على ممارسات المالكين.
الحفاظ على المدينة قضية شاملة
هذه القضية ليست مجرد أزمة مبانٍ مهدّدة بالسقوط، بل هي نموذج واضح للتعقيدات التي يُخفيها ملف المباني التراثية المهملة، والإخفاقات المؤسساتية في إدارته. كما تفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول كيفية التوفيق بين الحفاظ على السلامة العامة وصون الإرث التاريخي، وكيفية حماية الفئات الأكثر هشاشة التي تسكن هذه المباني، في مواجهة تطلّعات المالكين لتحقيق مكاسب مادية منها.
في واقع الأمر، ولعقود مضت، اعتمدت الدولة الهدم كسياسة منهجية في تخطيط المدينة، وشجّعت الاستثمار الذي نتج عنه تدميرٌ هائلٌ للنسيج العمراني التاريخي، بحيث استُبدلت المباني والمساحات القديمة بمبانٍ جديدة على حساب بيئة عمرانية سليمة وسياق تاريخي واجتماعي عمراني، وغابت معها ثقافة إعادة التأهيل وممارستها بمفهومها الواسع. مع تشكيل الحكومة الجديدة، نعوّل على وزارة الثقافة في استعادة دورها في هذا الشأن. من ناحية، يلحظ قانون الممتلكات الثقافية 37/2012 حماية التراث غير المادي؛ وبموجبه، يحقّ لوزير الثقافة منفردًا وضع اليد على أيّ عقارٍ مطابقٍ لمعايير الممتلكات الثقافية، ويرزح تحت خطر الإهمال أو الانهيار أو تغيير وجهة الاستعمال. من ناحية اخرى، تُعدّ التصاميم التوجيهية بمثابة أدواتٍ أساسيةٍ في قانون التنظيم المدني، فهي التي تصنّف المناطق، وتحدّد وجهة استخدامها، وتوجّه طُرُق وأسباب استعمال المدينة والجهات المستفيدة من ذلك، إذ لا يحقّ لأيّ كان أن يبني ما يشاء أينما يشاء. من هنا، على الجهات المعنية مراجعة التصميم التوجيهي لبيروت وإعادة تنظيم المدينة بشكل يحافظ على ما تبقى من نسيجها ويضمن سكن قاطنيها.