تطال الأزمة كل أشكال المعيشة اليوم في لبنان، لكنّ شكلها الفاقع يظهر بالتحديد على مستوى غياب المحروقات. تكاد تخلو شوارع العاصمة في الأيام الأخيرة من السيارات لكِبَر الأزمة واستفحالها، بينما لا تقدّم السلطة للمواطنات\ين سوى رفع الدعم عن المحروقات حلّاً وحيداً كان يبدو كارثياً في البدء، لكنّها نجحت بفضل بروباغاندا إعلامها أن تُقنع الناس بضرورته.
اليوم، وبينما ينهار القطاع العام، يلمس الناس هذا الانهيار في حياتهم اليومية. لكن النقاش حوله يقتصر على التقني والمباشر، على احتكار السلع بدلاً من أن يكون نقاشاً بنيوياً حول طبيعة الأزمة ونشأتها. ماذا حصل للنقل العام في لبنان وهل الحق حقاً على السكان المتعالين عن استخدامه وكيف يمكننا أن نرى بنيوية الأزمة من خلاله؟
منذ نهاية الحرب الأهلية، تواطأت السلطة المهيمنة مع القطاع الخاص لتدمير العديد من القطاعات على حساب المواطنات\ين. ولا تختلف القصة في إطار النقل العام، بحيث تقاسمته الطبقة المهيمنة بين أفرادها واحتكرته، مدمّرة إيّاه بالكامل. ويمكننا أن نرى أحد أصول هذه الأزمة في مقاربة السلطة لتخطيط الأراضي وتوزيع الثروة، بحيث تركّزت الخدمات منذ إعلان الجمهورية، إلّا في حالات معدودة، في العاصمة. ويتمظهر ذلك من خلال ثلاثة محاور: توزيع الثروة، تخطيط الأراضي، والنقل العام.
توزيع الثروة
تسارع تطبيق السياسات الاقتصادية القائمة على أساسٍ ريعيّ في عهود ما بعد الاستقلال، ومنذ ذلك الحين، إرتسمت حدودٌ داخلية واضحة وقاسية بين العاصمة والأطراف، وجرى تهميش المناطق. اليوم في ظلّ شحّ المحروقات، يجعل توزيع الخدمات غير العادل من الأسهل مثلاً على سكان المدن -بيروت خاصة- الوصول إلى مراكز عملهم، جامعاتهم، مدارسهم والخدمات العامة. بينما يضطرّ سكّان المناطق والقرى، للاعتماد أكثر على السيارات الفردية، للتنقّل في مناطقهم. كما عانى أهل المناطق لسنين ممّا تشهده بيروت الإدارية اليوم من انقطاع كبير للكهرباء، لكن الإعلام لا يغطّي ما تمرّ به المناطق والقرى، في مثال عن تأثير التهميش مستمرّ على الرواية العامة للمشاكل في لبنان.
تخطيط الأراضي
تمّ تخطيط مدننا ومناطقنا وقرانا للسيارات وليس للمشاة. وتفتقد للبنى التحتية والخدمات الأساسية، ممّا يجعل العيش دون سيارة لكل بيت أو فرد، أمراً صعباً أو غير مرغوب فيه. فمنذ نهاية الحرب الأهلية، ولربما منذ الاستقلال، إتّبعت السلطة إجراءات ممنهجة وممارسات لضرب النقل العام والاستعاضة عنه بتنفيذ الطرقات واستيراد السيارات الفرديّة. فبحسب التوزيع القطاعي لاستثمارات إعادة الإعمار، شكّلت البنى التحتية الأساسية من طرق، طاقة واتصالات حتى عام 2004 ما يعادل 56% من النفقات. وإذا نظرنا الى سياسة النقل في لبنان، وغياب التخطيط والنقل العام، نرى أنّ استيراد السيارات أصبح حاجة بحيث أصبحت السيارة المستوردة وسيلة النقل الأساسية لفئات المجتمع كلّها في ظلّ غياب النقل العام. فقد عزّزت هذه الإجراءات منطق الزبائنيّة وذلك عبر التلزيمات التي كانت توّزع على الأحزاب أو من خلال تسهيل عملية استيراد السيارات عبر السياسة الجمركية المهندسة برمتها لحماية الوكالات الحصرية التي تتمتع بها شركات استيراد السيارات التي كان أصحابها من أتباع الأحزاب أو من السياسيين أنفسهم، على حساب المواطن، ومن دون النظر إلى حاجات المجتمع الفعلية. وما زال النهج ذاته متّبعاً حتى اليوم، من خلال القوانين المقترحة لتسهيل مشاريع البنى التحتية الضخمة .
النقل العام
وهو غير موجود، يحلّ عنه النقل المشترك وهو غير مضمون، غير آمن دائماً، وسعره محكوم بمافيات النقل.
في بيروت مثلا، مع نهاية الحرب الأهلية، كانت خطة النقل جزءاً من مخطّطها التوجيهيّ (1986)، فكان من المهمّ تحسين وسائل النقل العام. وفي عامي 1994-1995، تمّ تبنّي خطة نقل جديدة تمتدّ على مدى 20 عاماً، أوصت بتطوير الطرقات والمواقف وإشارات السير، وإنشاء شبكة مترو وخطوط ترام وشبكة حافلات للنقل العام في بيروت. وزعمت الدولة حينها أن كل ما جاء في هذه الخطة قيد التنفيذ أو سيتّم تنفيذه. ومع ذلك، لم يتّم تنفيذ أيّ عنصر من خطة النقل العام، فقد تذرّع رئيس الوزراء حينها بمقاومة ثقافة اللبنانيين لوسائل النقل العام. وبينما كانت خطة النقل لا تزال قيد الدراسة، أطلقت عدة إدارات إجراءات مجزّأة شجّعت زيادة حركة السيارات الفردية وسيارات الأجرة والحافلات الصغيرة، على حساب خطة شاملة للنقل العام.
يمكن لهذه الأزمة أن تجعلنا واعيات\ين لقيمة هذه القضايا، وثقل تأثيرها على حياتنا. فلو كنّا نحظى بتخطيطٍ أفضل، وبتوزيعٍ أكثر عدلاً للثروات والخدمات، وخاصة للنقل العام، لما أحسسنا بالأزمة بهذه القوة اليوم. كما أن السكّان كانوا ليستطيعوا اختيار العيش في المنطقة التي يريدون، بدلاً من تكدّسهم سوياً في العاصمة رغماً عنهم سعياً للدراسة والعمل، أو بدلاً من حاجتهم للتنقّل كل صباح ومساء من مناطقهم إلى بيروت.
هذا في العام، أمّا فيما يتعلّق بالنقل العام بالذات، فالأمر أصبح فاقعاً اليوم، بسبب النقص في البنزين، ممّا يؤثّر مباشرة، من منطلق العدالة المكانية، على حق الناس بالتنقّل. فلغياب النقل العام تأثير على تنقّل الناس من وإلى أعمالهم، ممّا يضرّ بشكل ملموس بوضعهم الاقتصادي، المتردّي أصلاً بسبب الأزمة الاقتصادية.
وقد طالَعَنا وزير الطاقة ريمون غجر الأسبوع الماضي، بتصريح يقول فيه بأنه يجب على المواطن “الذي لا يستطيع دفع سعر صفيحة الوقود وهي 200 ألف ليرة سيتوقف عن استخدام السيارة وسيستخدم وسيلة أخرى.” وفي حديث مشابه للنائب محمد قباني، توجّه إلى محاوريه الذين كانوا يشتكون من أسعار المحروقات مقارنة مع معاشاتهم: “ليش تشتري سيارة؟ فيه سرفيسات متلّاية البلد. بكل دول العالم، الناس بيروحوا بالنقل العام. ما تشتري سيارة”، دون النظر إلى أن النقل العام غير موجود في لبنان أصلاً. لكن هذان التصريحان لا يقفان وحيدين في حقل البيانات وتصريحات السياسيين الآخرين، ممّن يقول بأن رفع الدعم عن المحروقات أفضل ممّا نمرّ به الآن وبأنه يجب على المواطنين التعوّد على أن الدعم سيتوقّف.
وما يرشح من هذه المواقف يغمز إلى أن للسكان -من مواطنات\ين ولاجئات\ين وعاملات وعمال أجانب- خيارات أخرى غير السيارات الخصوصية، وبأنهم يتعالون عن استخدام النقل العام، وبأن النقل سيكون متاحاً للمقتدرين فقط، إمتيازاً جديداً يرمى في وجه السكان في لبنان، بشكل يتعارض ومفهومي الحق في المدينة والعدالة المكانية في آن معاً. فبينما عملت السلطة لسنين على تدمير النقل العام من جهة، وخلق نقل مشترك بديل تسيطر هي عليه، وخلقت ثقافة شراء سيارة لكلّ فرد، تأتي اليوم وتقول بكل تكبّر للناس غير القادرين على استخدام سياراتهم في حال رفع الدعم “إستخدموا شيئاً آخر”، بينما عملت جاهدة لسنين لتدمير أي “شيء آخر” في قطاع النقل.
وليست واقعة “الكاروسا” سنة 1997 سوى مثال على استهتار السلطة بموارد الناس وعلى محاولاتها المستمرة للاستفادة من أي مشروع أو مبادرة. يومها، اشترت الدولة اللبنانية مئتي حافلة «كاروسا» من تشيكوسلوفاكيا، وصلت 100 حافلة منها معطّلة. ولم تمضِ أيام قليلة حتى ظهرت أعطال في الحافلات الأخرى، كما تبع ذلك تعيين خمسمائة موظف دون الحاجة إليهم بعد تعطّل الحافلات، ودون موافقة مجلس الخدمة المدنية، في صفقة توافق سياسي بين أطراف السلطة، ممّا أدّى إلى إرهاق ميزانية المصلحة، التي أصبحت تهدر تسعين بالمئة من موازنتها على معاشات الموظفين.
بالإضافة إلى ذلك، شجّعت السلطة ثقافة الاستهلاك الفردي للسيارت، عبر كارتيل الوكالات الحصرية لاستيراد السيارات إلى لبنان، بالتعاون مع المصارف التي سهّلت الحصول على قروض لشراء السيارات. كذلك فإن طرح تعبيد المزيد من الطرقات وبناء الجسور وتوسيع الاتوسترادات -يحتاج وجود السيارات إلى طرقات أوسع، بينما توفّر الحافلات والقطارات من ذلك- والأنفاق كحلول لمشاكل الزحمة الناتجة عن العدد الكبير للسيارات، يسمح للسلطة وشركائها في مجال شركات الهندسة ومواد البناء بالاستفادة من هذه المشاريع. كما يطالعنا كل حين خطر مشاريع المرائب التي تهدّد الحدائق العامة كل حين، كما حصل في حديقة المفتي حسن خالد.
اليوم، تتكبّر السلطة المهيمنة على السكان دافعة بهم إلى المجهول، في اقتطاعها من حقهنّ\م بالتنقّل، وبالوصول إلى خدمات أساسية رخيصة وذات جودة، وبمناطق آمنة من المشاكل والتعديات. تدخل مطالبتنا بالعدالة المكانية اليوم، حيزاً أكثر جدية وأكثر إلحاحاً، إذ تختفي في غيابها، المقوّمات القاعدية لحياة كريمة، ويتمّ تفعيل آليات الاستمرار والبقاء، بشكل عدواني وبفردانية تنافسية عنيفة، تجعل الحياة اليومية في لبنان غير آدمية.