في خطوة ملفتة ومفاجئة مقارنةً مع السنوات السابقة التي لم تشهد حركةً مماثلة، أصدرت وزارة الثقافة مؤخّراً 7 قرارات صنّفت بموجبها عدداً من العقارات والمباني في بيروت والشوف والكورة والبترون، على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية، من بينها ثمانية مبانٍ في محلّة الرميل في بيروت، وإهراءات مرفأ بيروت، وطاحون الفخيتة في الدبية، وموقع قصر أبو حنين في برجا، وتلّ فدعوس الأثري في كفرعبيدا، وغيرها.
ما هي هذه المباني وأين تقع ولماذا أُدرِجَت؟ نقدّم في هذا التعليق عرضاً لمواقع المباني والعقارات التي تمّت إضافتها إلى اللائحة. ونركّز على منطقة الرميل، محاولاتٍ فهم الاستخدامات الحالية للمباني التي أضيفت فيها وحالتها ونوع إشغالها.
وفي نظرة على ماهية لائحة الجرد والإطار القانوني الدولي واللبناني لحماية التراث، نطرح قراءةً لما نحتاجه على مستوى الخطوات العملية الفاعلة للحفاظ على الموروث العمراني المكاني في لبنان.
العقارات التي تمّ إدراجها
ابتداءً من شهر آذار الماضي، صدرت عن وزير الثقافة غسان سلامة 7 قرارات، نُشرت في الجريدة الرسمية، تصنّف عقارات في مناطق لبنانية مختلفة على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية. معظم العقارات المصنّفة لها أهمية معمارية أو أثرية واضحة، سواءً بشكل مذكور في محتوى القرار أو عنوانه (أنظر/ي إلى الجدول التالي).
| المبنى أو المعلم | المنطقة العقارية (القضاء) | رقم العقار | رقم قرار الإدراج على لائحة الجرد | تاريخ القرار | سبب الإدراج على لائحة الجرد بحسب ما ذُكر في القرار |
| طاحون الفخيتة | الدبية (الشوف) | 3069 | 4 | 20/3/2025 | الأهمية من النواحي التراثية والتاريخية والتقنية التقليدية |
| معالم أثرية | أنفة (الكورة) | قسم من العقار 3882 | 69 | 21/8/2025 | ضرورة حفظ المعالم الأثرية المكتشفة بنتائج الحفريات التي جرت في العقار، في مكانها الأصلي، وعرضها للجمهور بعد دمجها ضمن مشروع البناء المزمع إنشاؤه في العقار |
| الجزء المتبقي من إهراءات مرفأ بيروت ومحيطه المباشر | المرفأ (بيروت) | – | 68 | 21/8/2025 | الأهمية من النواحي التاريخية والمعمارية والمدينية والرمزية التي تبيّنت بعد الكشف على مبنى الإهراءات |
| موقع قصر أبو حنين الأثري | برجا (الشوف) | 313، 325، 326، 327، 329، 331، 332، 2930، 2931 | 72 | 4/9/2025 | الأهمية من الناحية الأثرية |
| تل فدعوس الأثري | كفرعبيدا (البترون) | 741, ، 743، 744، 745، 748، 1408 | 74 | 4/9/2025 | اكتشاف معالم أثرية لمدينة صغيرة محصّنة من العصر البرونزي الوسيط. المكتشفات ذات أهمية تاريخية وقيمة علمية بالنسبة لتاريخ المنطقة والقرى الساحلية في فترة العصر البرونزي |
| أبنية | الرميل (بيروت) | 470، 472، 690، 712، 715، 716، 759، 1139 | 75 | 4/9/2025 | الأهمية من النواحي التاريخية والمعمارية والمدينية |
| معالم أثرية | الناعمة (الشوف) | 160، 162، 164 ، 165، 613، 614، 649، 650، 651، 652، 653، 654، 685 | 77 | 25/9/2025 | الأهمية من الناحية الأثرية |
كل المباني التي تمّ تصنيفها خارج بيروت تنتمي إلى فئة الآثار، من حيث عمرها وتفاصيلها العمرانية والدور الذي تلعبه في الموروث الثقافي التراثي للمناطق. أما في بيروت، تمّ إدراج الإهراءات من جهة، نتيجة الدور السياسي الذي لعبته بعد تفجير 4 آب، والضغط الشعبي لحمايتها والحفاظ عليها كأثر رمزي لذلك اليوم بالذات ولممارسات السلطة المستمرة والمتتالية تجاه الناس. في المقابل، ظهرت مباني محلة الرميل كنمط مختلف في هذا الإطار، لذا نركّز عليها بعد إجراء بحث ميداني، أظهر العديد من التفاصيل المهمّة1أجرت البحث الميداني في الرميل الباحثة جهينة ريدان.
يُدخل القرار (75/2025) 8 عقارات تحتوي على 9 مبانٍ، واقعة ضمن منطقة الرميل العقارية في لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية باعتبار “تبيّن أهميّتها من النواحي المعمارية والتاريخية والمدينية”. تتفاوت حالة المباني المصنّفة؛ فبعضها في حالة سيئة، في حين أن البعض الآخر مُجَدّد حديثًا أو هو قيد الترميم، حيث كانت 4 مبانٍ جزءاً من مشروع إعادة التأهيل الذي قاده برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) وجمعية “Live Love Beirut” بعد تفجير مرفأ بيروت. أما من حيث الإشغال، فـ5 منها مشغولة كليًا أو جزئيًا؛ فيما المباني الأخرى فارغة أو مهجورة. ويُشار إلى أن المباني المأهولة لا يسكنها مالكون أو مستأجرون، بل يشغلها سكان يعيشون بموجب “اتفاقية تسامح” مع بلدية بيروت. فالبلدية هي المالك لجميع العقارات بعد أن استملكتها سابقاً لوقوعها على المسار المخطط له لطريق فؤاد بطرس السريع المعطّل.

من المهم أن نذكر أن معظم هذه المباني هي مبانٍ غير فخمة أو عالية الأهمية على المستوى التفاصيل العمرانية بالشكل الكلاسيكي المتوقع، من قناطر ثلاث، أو زخرفات أو قرميد أحمر أو انتمائها للحقبة العثمانية أو الاستعمارية، كما أنّها مبانِ سكنية للطبقة العاملة، وهي صغيرة الحجم نسبياً.
على الرغم من أن تصنيف المباني على لائحة الجرد العام قد يحميها من الهدم والاستثمار والتشويه إلى حدّ ما، يظل التساؤل قائمًا: هل يؤدي هذا الإجراء إلى فقدان المباني وظيفتها الاجتماعية الحالية، إن وُجدت؟ بمعنى آخر، هل يتحول الحفاظ المادي إلى “تجميد” وظيفي يعزل المبنى عن محيطه الاجتماعي؟ وما هي الخصائص المعمارية والتاريخية التي تميّز هذه المباني وتبرّر تصنيفها؟
هذا في العام. أمّا فيما يتعلّق بالمباني الثمانية في محلة الرميل، نضيف تساؤلاً على مستوى تفسير التصنيف كتدخّل من قبل وزارة الثقافة لحمايتها من قرار محتمل قد تتّخذه البلدية التي تملك المباني المذكورة، بما أن تصنيفها يضع عائقاً أمام البلدية التي ستضطّر أن تستحصل على موافقة من المديرية العام للآثار في حال أرادت هدمها.
ما هي لائحة الجرد؟
غالباً ما يتمّ تحديد مبانٍ أو منشآت أو مساحات لتُدرَج على لوائح الجرد باعتبارها ذات أهمية معمارية أو تاريخية، ثقافية، بيئية، اجتماعية خاصة تستحق الحماية للأجيال القادمة. في لبنان، يحصل هذا على مستوى الأهمية المعمارية أو التاريخية فقط.
على المستوى القانوني وعلى مستوى الأطر القانونية الدولية التي تنص على حماية التراث المبني، صادق لبنان على اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، بموجب القانون رقم 19/1990. وبصفة لبنان دولة موقعة على هذه الاتفاقية، يقع على عاتق الحكومة اللبنانية واجب ضمان تحديد التراث الثقافي والطبيعي الواقع على أراضيها، وحمايته، وحفظه، وعرضه، ونقله إلى الأجيال المقبلة (المادة 4).
على المستوى المحلّي، لا يوجد في لبنان قانون خاص لحماية التراث العمراني في لبنان، وبالتالي، تخضع الأبنية التراثية حالياً لـ”نظام الآثار القديمة” الصادر بالقرار رقم 166\ل.ر عام 1933\11\7.
ويحمي هذا النظام “الآثار القديمة” وهي ما تمّ بناؤه قبل عام 1700، فيما تخضع المباني التي شيِّدت بعد عام 1700 للنظام عينه، على اعتبار أنّها “شبيهة بالآثار”، “إذا كان في حفظها صالح عمومي من وجهة التاريخ أو القن وشرط أن تسجّل على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية،” كما تذكر المادة الأولى من قانون الآثار2عملياً، يتطلّب نظام الآثار خطوتين مترابطتين لحماية الأبنية الأثرية: تسجيل العقار في قائمة الجرد العامة أولاً، وتسجيل العقار رسمياً بصفته مبنى تراثي بناءً على مرسوم صادر عن مجلس الوزراء (مكتب الاستشارة القضائية، 2021)..
وفيما لم يحدّد القانون اللبناني مفهوم “الأبنية التراثية”، طابعها التراثي، أو حتى الخصائص المعمارية التي تميّزها أو الحقبة الزمنية التي تنتمي إليها، فإن المفهوم المتّفق عليه ضمنياً يلحظ هذه المباني في خانات محدودة وضيّقة، بدايةً من كونها تعود للحقبة العثمانية أو الاستعمار الفرنسي، ووجود القناطر الثلاث بالإضافة إلى سقف القرميد الأحمر، ووجود الحجر الرملي أو الصخري فيها، كما وتقسيمها الداخلي المتوزّع حول بهو وسطي. علماً أن هذا لا يعني أن كل المباني التي تتواجد فيها هذه الخصائص مصنّفة على لائحة الجرد ، كما أن العديد من المباني والمساحات بالإضافة إلى النسيج العمراني، التي لا تنطبق عليها هذه المواصفات، لها قيمة كبيرة، إن على المستوى الاجتماعي، التاريخي، الثقافي والفني، البيئي، أو حتى المعماري.
من الإيجابي أن يكسر اليوم تصنيف هذه المباني هذا التعريف الضيق لما يجب الحفاظ عليه في موروثنا العمراني والمكاني وهو اعتراف بأن الهوية التاريخية والثقافية أبعد من الجماليات وهي جزء من فهم النسيج العمراني للمدينة والمنطقة ككلّ، خاصة فيما يتعلّق بمباني الطبقة العاملة والأحياء المفقّرة. لكن التصنيف وحده ليس كافياً لحماية المباني، إن على المستوى المادي أو من ناحية الاستخدامات.
يضيء هذا الموضوع اليوم على ضرورة إقرار قانون لحماية الأبنية التراثية (علماً أنه تم اقتراح مشروع قانون بشأن حمايتها وأقرّه مجلس الوزراء بالمرسوم 1936/2017، لكنه أحيل إلى اللجان لدراسته لما يحتويه على نقاط إشكالية ولم يطبق حتى الآن)، يحدّد التعريف أولاً، بشكل واسع وشمولي ويكسر التعريف المجتزأ للموروث العمراني والمكاني ويجعل من النسيج العمراني جزءاً منه، ويقوم على إقرار ممارسات وخطوات عملية لحماية هذه الأبنية والمساحات والأحياء، وللتفكير بكيفية إدماجها في النسيج العمراني الاجتماعي الثقافي للحؤول دون تحويلها إلى مساحات معزولة ميتة، ثانياً.
الخطوات المأمولة
لعقود مضت، اعتمدت الدولة الهدم كسياسة منهجية في تخطيط المدينة وشجّعت الاستثمار. نتج عن ذلك تدميرٌ هائلٌ للنسيج العمراني التاريخي، مع ما يحوي من قيمة ثقافية مادية وغير مادية، بحيث استُبدلت المباني والمساحات القديمة بمبانٍ جديدة على حساب بيئة عمرانية سليمة وسياق تاريخي واجتماعي عمراني، وغابت معها ثقافة إعادة التأهيل وممارستها بمفهومها الواسع.
من المهم أن نعود للأطر القانونية الدولية، المادة الخامسة خصيصاً، والتي تشير إلى ضرورة دمج الدولة حماية التراث الطبيعي والثقافي في برامج التخطيط الشاملة، وإنشاء خدمات لحماية التراث والحفاظ عليه، وإجراء البحوث التي من شأنها أن تساعد في التصدّي للأضرار التي تلحق بالتراث، واعتماد التدابير المناسبة اللازمة لتحديد هذا التراث، وحمايته، وحفظه، وعرضه، وإعادة تأهيله. من هنا، نحث الوزارة على الاستعانة بكافة الخبرات والمجموعات العمرانية للضغط نحو مراجعة التصاميم التوجيهية – في بيروت تحديداً – وإعادة تنظيم المدينة بشكل يحافظ على ما تبقى من نسيجها.
بالتالي، وفيما يتعلّق بالمواقع التي تمّ إدراجها اليوم، فمن الضروري أن نرى موضوع الإدراج وحده، دون المفاعيل العملية للحماية والدمج، خطوة هشة، كان سبق أن رأينا ضعفها في حماية العديد من المباني والمواقع. كما يُثبت تفصيل في قرارات الوزارة، وهو إزالة عدد من المباني كانت على لائحة الجرد -سنناقشها قريباً- عدم قدرة الإدراج وحده على حماية هذه المباني، خاصة تحت ضغط المالكين.
وأخيراً من الضروري النظر إلى الحماية على أن تكون عملية تدخّل من الدولة، لا على مستوى الحفاظ على شكل المبنى أو غلافه أو حتى وجوده ككل فقط، بل بشكل أساسي أيضاً على مستوى استخدامه واستعماله والإبقاء على دوره الاجتماعي الثقافي الفني ووظيفته المدينية حيةً فاعلةً، كما لم يحصل في حالة مسرح بيروت مثلاً. فمنع هدم المباني والمواقع لا يحمي السكان والمستخدمين، خاصة في حالة الرميل مثلاً، حيث يشغل السكان البيوت بموجب اتفاقية تسامح مع البلدية، وهي صيغة إشغال ضعيفة لا تمنحهم الحماية القانونية اللازمة من الإخلاء.
المراجع:
- 1أجرت البحث الميداني في الرميل الباحثة جهينة ريدان
- 2عملياً، يتطلّب نظام الآثار خطوتين مترابطتين لحماية الأبنية الأثرية: تسجيل العقار في قائمة الجرد العامة أولاً، وتسجيل العقار رسمياً بصفته مبنى تراثي بناءً على مرسوم صادر عن مجلس الوزراء (مكتب الاستشارة القضائية، 2021).