نعيش لحظة إنسانية بامتياز. نلملم ما تبقى من حيواتنا وبيوتنا ومناطقنا، ونواجه حياة يومية متناثرة مشوهة مهشّمة، تبدو لوهلة وكأنّها مغطاة بغبار حرب طويلة وبإحساس بخسارة كبيرة، يعيد نفسه للمرة الألف.
فيما نحاول أن نُمنطِق ما نمرّ به، سرعان ما نعي أنّ المعاناة الفردية والجماعية التي نشهدها ليست عبثية ولا هي من عمل الطبيعة، وندرك معنى أن تُدمَّر مدينة وأن نستمرّ بالعيش فيها، تحت وطأة تجارب إعادة الإعمار الماضية والحالية.
ما نعيشه هو أيضاً لحظةٌ سياسيةٌ بامتياز. إنّ عملية تأهيل واستنهاض الأحياء المنكوبة، من الكرنتينا ومار مخايل والجميزة إلى الجعيتاوي ستكون صراعاً سياسياً حقيقياً. وربما يكون قانون إعادة الإعمار الصادر مؤخراً أبرز دليل على ذلك؛ فهو يفتقد إلى أي سياسة أو رؤية تستفيد من دروس الماضي، بل يعتمد مقاربة تخلو من الشقّين الاقتصادي والاجتماعي وتختزل العمران بالمباني والعقارات، فيما لم يساهم القانون بإعادة تموضع السكان داخل دائرة القرار ومشاركتهم في ترميم أبنيتهم المتضرّرة بشكل سريع، أو إيضاح مسار تسديد التعويضات.
سمح استهتار السلطة بفتح المجال لمسوحات عديدة، وعمليات إغاثة غير موثوقة، وهدرٍ للأموال والوقت والجهود، بالإضافة إلى غموض في مسار ومصير أموال التبرّعات. كما تقاسمت جغرافياً، بعض الجمعيات والمنظّمات المانحة المنطقة المنكوبة، فأنتجت خريطة لتوّزعها على الأحياء، ولكن الخريطة بقيت مخفيّةً حتى الآن، لا يمكن للناس أو أي جهاتٍ أخرى الحصول أو الاطّلاع عليها.
وتستفيد السُلطة من هذا التلكؤ المتعمّد لمؤسسات الدولة، عبر نقل المسؤولية عن كاهلها إلى الجمعيات الأهلية التابعة للأحزاب السياسية، بحيث تقويّ زبائنية الزعماء والطوائف في الأحياء المتضررة، مما يؤدي حتماً إلى انتهاك حقوق السكان وإقصاء أي إمكانية لتعافي المنطقة. فهل نجحت في إعادة بسط سُلطتها وإبعاد الناس المتضررة عن عملية تأهيل بيوتها وأحيائها؟
تعزيز الزبائنية: المشهد من مار مخايل
نُشِرَت العديد من الأبحاث حول مدى تغلغل الزبائنية في الاقتصاد السياسي اللبنانيّ، تحديداً عبر توفير الخدمات الاجتماعية بواسطة المنظمات الخاصة التي تعمل على أساس الانتماء الطائفي والهوية (عماد سلامة). بذلك، يمكن وصف عمل الجمعيات الأهلية في لبنان بأنّه طائفي بحت، حيث تنتمي غالبية المنظّمات غير الحكومية المدعومة من الدولة إلى مجموعات دينية أو عائلات زعماء الطوائف، وهي لا تحتاج إلى إذنٍ مسبق من الدولة، بل تحتاج ببساطةٍ إلى الحصول على علم وخبر لدى وزارة الداخلية (ندى ممتاز). تجزم الباحثة مزنى المصري أيضاً بأنّ نموذج العمل الخيري إلى جانب الطائفية والمحسوبية في المرحلة التي تلت الحرب الأهلية، نقل مركز السلطة وكذلك الفرص الاقتصادية إلى سيطرة نخبة سياسية محتكرة، بيدها مقاليد الأمور، مهمشةً بذلك دور الجهات الفاعلة الأخرى بحسب تسلسلٍ هرميٍّ للعلاقات الزبائنية. وقد تكون جولات الدمار والإعمار المتتالية في لبنان أبرز محطات تثبيت نفوذ النخب السياسية على كافة الأصعدة (مروان غندور ومنى فواز).
برز بعد انفجار مرفأ بيروت وفي ظل تلكؤ السلطة المتعمّد، نشاط الأحزاب الطائفية والجهات الدينية في ترميم منازل بعض السكان، ممّا يشكّل بحدّ ذاته خطراً يتمثل بإعادة بسط سلطة هذه الأحزاب والجهات على الحيّز المديني. في شارع فرعون حيث تقع كنيسة مار مخايل، تكفلّت الكنيسة المارونية ترميم كل مباني الشارع. أمّا الكنائس الأرمنية – وبحسب مقابلات في الحيّ -، فتوزّع المساعدات على أساس التوّجه السياسي لخوري الرعيّة. كما لم تتردّد الجهات الداعمة في المجاهرة بتقديم الإعانة والمساعدات في عملية ترميم المنازل المتضرّرة في أحياء مار مخايل، إن كان من خلال الشعارات أو الخيام التي نُصِبَتْ في الشوارع أو حتّى من خلال الإعلان الشفهيّ، مُعترفةً في الوقت عينه وبشكلٍ صريح بجَميل الأحزاب المذهبية والجمعيات الخاصة عليها.
في أحد المباني المتضررة في شارع أرمينيا والمكوّن من عشر شقق سكنية وحلّاق ودكان، يتجلّى مشهد المحسوبيات في عملية الترميم بشكلٍ واضح، مؤدّياً إلى تدمير أيّ إمكانية للتعاون الجماعي فيما بين المستأجرين؛ بل خلق توتّراً غير معلنٍ ما بين جيران تشاركوا المبنى على مدى عقود.
فقد قام حزب الطاشناق1الجدير بالذكر هنا أن حزبيّ الطاشناق والهنشاك الأرمنيين كانا فاعلين في منطقتي مار مخايل والبدوي منذ نشوئهما. مع اندلاع ثورة ١٩٥٨، وقف حزب الهنشاك إلى جانب اليسار اللبناني معارضاً الرئيس كميل شمعون، نشأ نتيجة ذلك صراع سياسي شرس ما بينهما، أثّر على العلاقات الاجتماعية في الحي. بترميم إحدى الشقق، بينما قام حزب القوات اللبنانية – تحت إسم Ground Zero – بترميم شقة أخرى، وقامت جمعية AGBU -وهي جمعية تعنى بشؤون اللاجئين الأرمن حول العالم- بترميم طابقين يملكهما شخصٌ واحد.2أُنشئت الـ AGBU في العام 1906 وفتحت فرعاً لها في لبنان في العام 1910 وتُعد أكبر جمعية أرمنية في العالم ولعبت دوراً سياسياً واجتماعياً عند قدوم اللاجئين الأرمن الى الكرنتينا. في المقابل، الحلاق “صلّح على حسابه”، بينما قامت السيدة العزباء بالتصليحات على نفقة أخيها القاطن في دبي، وقامت جمعية كاريتاس بتصليح شقة تملكها سيدة متوفية كانت عضواً في الجمعية. أرادت صاحبة الدكّان في الطابق الأرضي الاتّكال على الدولة، لا الجمعيات والأحزاب، لكن بانتظار استجابة الدولة، أنشأ لها بعضٌ من معارفها صندوقاً للتبرعات قامت من خلاله بجزءٍ من التصليحات. أمّا الباقون فلا زالوا بلا تصليحات. فتتساءل صاحبة الدكان : “لماذا دعمت هذه الأحزاب والجمعيات هذا الشخص وليس آخرين؟”
في واقع الأمر، تشكّل العائلات غير المرتبطة بأحزاب أو جمعيات أو لها أقرباء مقتدرين، الحلقة الأضعف وتجد صعوبةً كبيرة في ترميم منازلها. وهنا، يبدو أيضاً أنّ السكان الأجانب من الأكثر هشاشة: أثيوبيات، سوريّون، سودانيون، وغيرهم، يسكنون في مار مخايل. أغلبهم من ذوي الدخل المحدود، ومنهم من أصبح عاطلاً عن العمل بسبب الأزمة الإقتصادية. هم يتمسّكون بوعود الجمعيات وينتظرون وصول دعمٍ تأخّر كثيراً، كما وأنّهم يعانون من شتّى أنواع التمييز ومحاولات البعض منعهم من الاستفادة من المساعدات باعتبار أنّ اللبنانيين هم الأجدر بالحصول عليها، رغم أنّ الجميع دون استثناء، قد قاسى وعانى الشدّة نفسها.
الكرنتينا: ولاءات ممزّقة
والحال مشابهة في الكرنتينا المحاذية لمرفأ بيروت. فما شَهِدَهُ أحد المباني في شارع أرمينيا، يتكرّرُ أيضاً على صعيدٍ أوسع. فقد تَهافتتْ بعض الجهات الطائفيّة والدينية، مباشرةً أو تحت قناعِ الجمعيات، إلى ترميمِ المنازل المتضرّرة وإعادة إعمارها، كما وتوزيع المساعداتِ العينيّة والمادية، بشكلٍ عشوائي وغير عادل بحسب الإنتماء الحزبي والمحسوبيات. وغايةُ هذه الأخيرة الحدّ من وطأةِ الفقر -كشكل من أشكال إسكات الناس والتخفيف من غضبهم إثر التفجير والوضع الاقتصادي المتردّي- وليس القضاء عليه وذلك بهدف الإستغلال المستمرّ للظروف المعيشيّة المأساوية والدمار الواسع الذي فُرضَ على سكان الكرنتينا من دون خيار، لتعيدَ تموضُعِها وتزيد من قوّة شبكتها الزبائنية التي كانت قد تزعزعت بعد انتفاضة ١٧ تشرين.
في شارع الخضر، حيث تعود ملكية العقارات بغالبيّتها إلى عرب المدوّر، وهم ينتمون إلى المذهب السني، نَشَطَتْ جمعية بيروت للتنمية الإجتماعية3الجمعية مسجلة لدى مصلحة الشؤون السياسية والادارية عام ١٩٩٧ وتعنى بكافة أنواع الدراسات والأبحاث، النشاطات الثقافية والأعمال الخيرية على أنواعها.. أهلك وناسك. قامت هذه الجمعيّة، التابعة لتيّار المستقبل، بأعمالِ الترميم لعددٍ من المنازلِ المتضرّرة، وقد شكا بعض السكّان من أنّها لم تَكُنْ متقنة، كما شكا البعضُ الأخر أنّها لم تفي بوعودها المستمرّة بأعمال الترميم التي شابها سوء التنظيم. أمّا نظير تيار المستقبل، الحزب التقدميّ الإشتراكي، فقد نصبَ لنفسه خيمةً في إحدى الأراضي الفارغة، كتثبيت وجود أو “تشبيح”، دون تقديم أيّ نوعٍ من أنواعِ المساعدات، بِحَسبِ بعض السكان الموالين لتيّار المستقبل. وفيما خصَّ المساعدات الغذائيّة فقد توجهّت بعض هذه الجمعيات إلى “زعيم الحيّ” حصراً وسلّمته المساعدات مباشرةً، ليقوم هو فيما بعد بتوزيعها على من يشاء من سكانِ المنطقة ومن خارجها، وبيع ما تبقى منها بعد علمية التوزيع الإنتقائيّة، تاركاً بذلك عدداً من العائلات الأكثر حاجةً ترزح تحت نير الفقر.
ومن الجدير بالذكر أنَّ “عرب المدوّر” -والذين يبلغُ عددُ الناخبينَ منهم على لوائح الشطب ٦٢٠٠ ناخبٍ في منطقة المدور فحسبْ- المعروفونَ “بعرب المسلخ” بعدما بدأوا بذبحِ المواشي وبيعِها قبل سبعينَ عاماً تقريباً، قد هُجِّروا قسراً خلال الحرب الأهلية إلى الساحلِ الجنوبي لبيروت في خلدة والناعمة والسعديات وبشامون وعرمون ودوحتيهما ودوحة الحص، ولم يعدْ منهم إلّا القليل إلى المنطقة. وقد أضْحَتْ بعدَ ذلك ولاءاتِهم “ممزقة”. فرغم انضوائِهِم ْتحتَ عباءةِ الزعامةِ السنيةِ بعد الطائف، ينقسم ولاؤهم بين الولاء الإنتخابي وسواهُ: بين تيّار المستقبل، الحزب التقدمي الاشتراكي، كما والحزب الديمقراطي اللبناني، وبعضهم يوالي أحياناً حزب الله. وقد انعكس هذا الإنشقاق على مشهد المساعدات على أنواعها التّي قدّمتَها بعضُ هذه الأحزاب والتي كان ظاهرها تعاضديّاً، خدماتيّاً أمّا باطنها فيتّوزع بين العنصري والطائفي والسياسي والاستثماري. فمن وحدّتهم الفاجعة ومن عانوا طويلاً من العزلِ وحرمانِ الحقوق، عادت الأحزاب مجدداً لتُفَرِّقَهم محاولةً استمالة بعضِهِمْ إلى حُضنِها من جديد.
وقد ساهم أيضاً تعدّد هذه الجمعيّات والنمط المعتمد لتوّزعها الجغرافيّ على الأحياء، إلى تكريسِ الإنشطارِ الحاصلِ بين الأحياء المسيحيّة والأحياء المسلمة في الكرنتينا والذي تعود جذوره إلى الحرب الأهلية. فحتّى بعد عودة بعض المُهجّرين إلى بيوتهم عام ١٩٩٤، لم تتمّ المصالحة بين السكان وبقيَ حاجزُ الخوفِ الوهميّ الذي لم تشفى منه النفوس حتّى الآن يفرِّقُ بينَهم. نلاحظ مثلاً، أنَّ الجمعيّات الدينيّة التي تدخّلت في شارع الخضر كجمعية الإرشاد والإصلاح الخيرية الإسلامية، لم تَكُنْ نفسَها التّي تَدَخّلتْ في الشوارعِ الأخرى كشارعِ السيّدة وشارعِ السنغال حيث إهتمَتْ جمعيّة فرح العطاء بأعمال الترميم. في المقابل، يجدرُ الإشارة إلى أنَّ بعضَ الجمعيات كمنظمة بسمة وزيتونة حاولتْ التَنسيقَ، ولو بشكلٍ خجول، مع أحد السكان في الكرنتينا فيما خصَّ توزيع المساعدات بشكلٍ منظّم، والقيام بنشاطاتٍ متنوّعةٍ كحملة “نحنا حدّك” بدعم من جمعيّة صدى، جمعتْ من خِلالِها سكان المنطقة على إختلافِ جنسياتِهم (سوريّة، فلسطينيّة ولبنانيّة)، وانتماءاتهم الحزبيّة والدينيّة، إذْ أنَّهُم يتشاركونَ الهمومَ والمشاكلَ وتجمَعُهُم المآسي والقهر على حدِّ سواء.
إقصاء السكان في قانون إعادة الإعمار
لطالما ساهم الغياب المزمن والمتعمّد لسكان المدينة عن صنع السياسات العامة في تفشي الزبائنية في كافة تفاصيل حياتنا. حتى الآن، يتمّ تغييب الناس عموماً وسكان الأحياء المتضررة خصوصاً، عن مواضيع عديدة تتعلّق بحياتهم. فهم مغيّبون عن النقاش حول إعادة الإعمار ويتم التعاطي معهم فردياً لا جماعياً – وقد تمّ تحويلهم إلى “متلقّي مساعدات”. وجاء قانون إعادة الإعمار ليفاقم هذا الإقصاء ويعزّزه. في تشرين الأوّل 2020، أصدر مجلس النوّاب قانون “حماية المناطق المتضررة بنتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها” (القانون رقم 194/2020). وفقاً لأسبابه الموجبة، يضع القانون خارطة طريق من أجل معالجة الضرر اللاحق ببيوت وأحياء بيروت جراء إنفجار المرفأ. في بنده الأول، ينشأ القانون لجنة تنسيقية لمسح الأضرار والإغاثة والتعويض، يترأسها ممثل عن وزارة الدفاع / قيادة الجيش، وتضم ممثلاً عن كل من وزارة الداخلية (محافظ مدينة بيروت وبلدية بيروت)، وزارة الأشغال العامة (المديرية العامة للتنظيم المدني)، وزارة المالية (المديرية العامة للشؤون العقارية)، وزارة الثقافة، مجلس الإنماء والإعمار، المؤسسة العامة للإسكان، الهيئة العليا للإغاثة، وممثل عن نقابة المهندسين في بيروت. مهام اللجنة جمع المعلومات المتعلقة بمسح الأضرار ورفع تقارير دورية الى رئاسة مجلس الوزراء وتخمين كلفة إعادة الإعمار وتقدير قيمة التعويض المناسب لكل عقار، والتأكد أن عمليات الترميم والتدعيم للأبنية التراثية تتمّ وفقاً للقوانين. لا تتضمن اللجنة أي تمثيل لأصحاب الحقوق والمتضرّرين والسكّان، مما كان ليعزّز الشفافية والتشاركية الضروريتين تحديداً بعد انهيار ثقة المجتمع بالمسارات الرسمية، بخاصة بعد انتفاضة 17 تشرين والمطالبات بتغيير جذري للمنظومة الحاكمة. فرغم كل المطالبات بوضع آليات تشاركية وشفافة ترافق أعمال الجهات الرسمية، ما زال الناس مبعدين عن دوائر أخذ القرارات حيث يتم تحديد مصائرهم. إنّ غياب مشاركة المتضررين سوف يؤدي إلى تفاقم سلطة دوائر القرار المُقتصرة على العلاقات الشخصية والمحسوبيّات، وبالتالي إبعاد الناس المتضررة عن عملية تأهيل أحيائهم.
نحو تنظيم سكاني قادر على استعادة صوت الناس
يشعر سكان الأحياء المدمّرة بفعل الانفجار، بالسخط والغضب إذ إنّهم أصبحوا مجرد متلقي مساعدات. فخلال الاجتماعات التي نعقدها معهم ضمن عملنا في تفعيل نقاشات بين أهل الحي وبهدف تأسيس لجان أحياء، يشرح هؤلاء بأن “بعض الناس لا يملكون الخيار، فيجدون أنفسهم مجبرين على قبول مساعدات الأحزاب على مضض، و يتلقونها بخجلٍ، زاعمين أنّهم تلقّوا العون من أحد أفراد العائلة للقيام بأعمال الترميم”. كما يجدر الإشارة إلى أنَّ اعتماد هؤلاء على شبكات الزبائنية، لم يعِقهم عن المشاركة في اجتماعات الأحياء هذه.
لقد استغلّت السلطة كل زوايا الأزمة الحالية والأزمات التي مرّ بها الناس منذ نهاية الحرب الأهلية، لصالحها، متهرّبة من المسؤولية تارةً ومكرّسةً العلاقة الزبائنية طريقة وحيدة للحصول على الإغاثة والخدمات، تارةً أخرى. يصبح إذاً ارتباط الناس عامّة والمتضرّرين من الأزمات خاصة بالسلطة ومؤسّساتها، الشكل الوحيد للاستمرار بالعيش والنجاة حتى، في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي تخلقها هذه السلطة.
اليوم، يجب استرداد صوت الناس من ناحية همومهم الجماعية ودورهم في تحديد أولوياتهم المشتركة، إن كان لجهة ضمان سكنهم، أو عبر إنتاج السياسات العامة لإعادة الإعمار، أو في العلاقة مع الجهات المانحة والجمعيات. فإنَّ أيّ فرصة لاسترداد الحقوق وضمان تعافي حقيقي للأحياء في فترة ما بعد الانفجار مرتبط بشكل مباشر بالعمل الجماعيّ على صعيد هذه الأحياء وإمكانية تحديد أولويات سكانها ومَطالبهم المشتركة. في واقع الأمر، إنّ هكذا عمل تنظيمي هو وحده القادر على قلب موازين القوى و إبطال مفاعيل وآثار السياسات المدينية النيوليبرالية التي تَعَرَّضتْ لها هذه الأحياء، وستكون أكثرَ عرضةً لها بعد الانفجار. فهذه السياسات المعتمدة على مدى السنوات التي تلت الحرب الأهلية، لم تكتفي بتدمير علاقة السكان بين بعضهم البعض، بل شوّهت مفهوم “الحيّ” وعلاقة أهله به.
تتكوّن المدن قبل كلِّ شيء من الأحياء، من السكان الذي يعيشون معاً وممّا يخلقون من خلال تفاعلهم مع الحي وتغييرهم وتطويعهم له؛ هنا تكمن أهمية لجان الأحياء والحاجة الملحّة لتشكيلها، كي تعكس حاجات السكان والتمثيل الحقيقيّ لهم، لجان تكون بمثابة منصة موّحدة لاهتمامات الأحياء، مطالبها، احتياجاتها، آمالها وتطلّعات سكانها، والتي يمكن أنّ تتحوّل إلى جزءٍ حيويّ وفعّال من الحياة اليومية في المدينة.
نحن اليوم أمام فرصة، بعد الإنفجار تحديداً -وكما كانت السُلطة دوماً تستفيد من إعادة الإعمار لفرض واقع جديد لمصلحتها- لفرض واقع جديد نطمح إليه، ولن يكون ذلك ممكناً من دون الأطر والبُنى التي سوف تسمح للمشاركة الحقيقية للسكان. بالتالي، لا بدّ من العمل الجماعي لتثبيت مطالب واضحة في هذا الصدد:
- أولاً، تشكيل أطر تمثيلية لأصحاب الحقوق والمتضرّرين والسكان، وإشراك ممثّلين عن المتضررين، لا سيما الفئات الأكثر هشاشة (النساء، الأشخاص المعوّقين، المستأجرين، اللاجئين، وغيرهم) في لجان التنسيق الرسمية.
- ثانياً، تحرير عمل لجان التنسيق من الصلاحيات الإستثنائية الممنوحة للجيش اللبناني.
- ثالثاً، ضبط عمل الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار الذين يطغى عليهما النهج التنازلي والطابع الريعي على حساب التنسيق والتشاركية.
- رابعاً، إعتماد معايير واضحة وشفّافة في تقدير حجم الأضرار وتوزيع المساعدات، وتحسين إمكانية الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بالهبات وبعمل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المعنية بإعادة الإعمار.
- 1الجدير بالذكر هنا أن حزبيّ الطاشناق والهنشاك الأرمنيين كانا فاعلين في منطقتي مار مخايل والبدوي منذ نشوئهما. مع اندلاع ثورة ١٩٥٨، وقف حزب الهنشاك إلى جانب اليسار اللبناني معارضاً الرئيس كميل شمعون، نشأ نتيجة ذلك صراع سياسي شرس ما بينهما، أثّر على العلاقات الاجتماعية في الحي.
- 2أُنشئت الـ AGBU في العام 1906 وفتحت فرعاً لها في لبنان في العام 1910 وتُعد أكبر جمعية أرمنية في العالم ولعبت دوراً سياسياً واجتماعياً عند قدوم اللاجئين الأرمن الى الكرنتينا.
- 3الجمعية مسجلة لدى مصلحة الشؤون السياسية والادارية عام ١٩٩٧ وتعنى بكافة أنواع الدراسات والأبحاث، النشاطات الثقافية والأعمال الخيرية على أنواعها.