في إطار قراءتنا للتحوّلات التي يشهدها لبنان على المستوى الحضري كتحوّلات عابرة للحدود تتّبعها الحكومات الرأسمالية بتبنّيها للسياسات النيوليبرالية، وتهدف إلى تحويل المناطق والأحياء إلى سلعة في السوق العقاري، من المفيد أن ندرس ما يحصل اليوم في بلدان المنطقة ككلّ، لأن الأدوات التي تستخدمها الرأسمالية في هذا الإطار حتى ولو بدت مختلفة، متشابهة. في هذه المقابلة، يعرض مركز العدالة المكانية في اسطنبول قراءته لما يحصل في العاصمة التركية، بعيداً عن تحليل السلطة الذي يقدّم النموذج التركي كقصة نجاح بنيت أصلاً على قصص الملايين من المسحوقات\ين من ضحايا التهجير والإقصاء.1تأسس مركز العدالة المكانية Mekanda Adalet Derneği باللغة التركية ، مختصر. MAD في عام 2016 ، وهو منظمة غير ربحية تعمل من أجل مساحات حضرية وريفية أكثر ديمقراطية وبيئية وتشاركية وعدالة. عبر تبنّيها لنهج متعدد التخصّصات، يقوم MAD بإنتاج وتجميع وتبادل المعرفة حول القضايا المكانية المبتكرة والقائمة على الحلول والمفتوحة للجميع.
من المعروف أن اسطنبول تمرّ بعملية تطوير حضري واسعة، إذ لا يمكن لأي زائرة للمدينة أن تفوتها الرافعات في ورشات البناء المنتشرة في كل مكان. والإقتصاد التركي هو ثاني أسرع اقتصاد نمواً في العالم، فيما يلعب قطاع البناء وعملية التحضّر بالطبع دورًا في وجهة نموّه. هل يمكنكم إخبارنا المزيد عن ذلك؟ متى بدأت هذه العملية؟ وما هي أكثر السياسات والمفاهيم التي لعبت دوراً في ذلك؟
لطالما كان التحضّر (التمدّد الحضري) جزءً لا يتجّزأ من الإقتصاد في تركيا. فمنذ إعلان الجمهورية (1923)، كانت إعادة تطوير المدن مرادفًا للحداثة والرفاهية، بحيث تم فهم قطاع البناء على أنه المحرّك الحقيقي للنمو الاقتصادي لا سيما من قبل خطاب اليمين. نتيجة لذلك، فإن تجربة تركيا مع التحضّر لم تكن عادلة ولم تتبع خطة ثابتة. نظراً لأن تركيا فشلت في توفير السكن الملائم للعمال والعاملات المهاجرين من الريف إلى المدن، فإن معظم المدن الكبرى والبنى التحتية الخاصة بها هي من صنع السكان أنفسهم. والمكوّنات الرئيسية في هذه المدن، هي ما يسمّى ب”العشوائيات” gecekondus أي الأحياء غير الرسمية، وهي بيوت بناها الأهالي في ضواحي المدينة، نشأت خارج الأطر الرسمية للملكية والتسجيل. مع ذلك، وبدءاً من التسعينيات، أصبحت الأحياء غير الرسمية مناطق مركزية في المدن المتنامية باستمرار، وبالتالي أصبحت نقاط جذب للسكان الباحثين عن أماكن للسكن في المناطق الحضرية. لهذا السبب تم تصنيفها على أنها مكوّنات غير آمنة وغير صحية لمدينة معولمة ونخبوية، وتم استهدافها سعياً لإعادة تطويرها من قبل الحكومات المحلية والوطنية التابعة لحزب العدالة والتنمية منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي. لقد عمل مركزنا مع عدد من الأحياء غير الرسمية القديمة مستلهماً عمله من الحركة المناهضة للتطوير.
يُعدّ تطوير الأحياء مكوّناً مهماً لمعضلة تركيا الحضرية، ومع ذلك فهذه المناطق هي واحدة من العديد من المكوّنات. خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، أدّت التشريعات التي تفتقر الى بيانات علمية الى تغيير المناطق في تركيا بشكل حادّ وتعسفي، وذلك من خلال الإستثمارات الكبيرة، وطفرة واسعة في مجال بناء المولات – المجمّعات التجارية، ومشاريع التجديد الحضريمشاريع التجديد الحضري2مشاريع تأتي في سياق المقاربة النيوليبرالية لعمل الدولة\البلديات، بحيث تستملك الدولة\البلدية عدداً من الأراضي وتزيل ما فيها، وتسلّمها لمطوّرين خاصين بهدف تطويرها لمصلحة الشركات الكبرى. وتؤدّي هذه المشاريع إلى تهجير السكان أو منعهم من استخدام المكان بشكل اعتادوا عليه، وتدمير النسيج الاجتماعي والموروث الثقافي العمراني للمنطقة. Urban Renewal، وعبر تشكيل مجمّعات مسوّرة. كما أصبحت المشاريع الضخمة ظاهرة عمرانية تحظى باهتمامٍ واسع. فقد قدّمت الحكومة مشاريع مثل الجسر الثالث والمطار الثالث وقناة اسطنبول كخطوات أساسية للتطوير والتنمية. بهذه الطريقة، يتمّ إنتاج رأس المال وتوزيعه من خلال مشاريع المضاربة العقارية واسعة النطاق والتي تراكم التكاليف البيئية والبشرية. فقد تسبّبت هذه المشاريع بظلم مكاني لا رجعة فيه للأشخاص الذين يعيشون في المدن، وأدّت إلى ولادة معارضة شعبية واسعة تطالب بالعدالة المكانية والبيئية.
أخيراً وليس آخراً، يشكّل الخطر المستمرّ للزلازل قلقاً مستمراً بالنسبة لكل ما يتعلّق بالسياسة الحضرية في تركيا، لا سيما في اسطنبول. وهو ذريعة كل تدخّل كبير في المدينة. ومع ذلك، ونظراً لأن الربح هو الذي يشكّل اقتصاد البناء، وليس سلامة الإنسان والمساواة، لا يزال سكّان إسطنبول قلقين بشأن الزلزال الكبير القادم، لأن معظمهم يعلم جيداً أن مساكنهم ليست آمنة.
ما يجري هو فقاعة، وفي عملية خلق الفقاعة، يتمّ تشريد الناس. كان هناك الكثير من النضالات ضد الطرد والتشريد في اسطنبول. أين جرت عمليات الإحلال الطبقي والإخلاءات؟ وكيف قاومها السكان؟
ركّزت مشاريع التجديد العمراني والبناء في تركيا بشكل أساسي على الأحياء غير الرسمية والفضاءات المستخدمة من قِبل الفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً في المجتمع. لم تؤدِّ هذه العمليات غير المبررة إلى النزوح القسري وفقدان المساكن فحسب، بل أدّت أيضاً إلى تدمير النسيج الاجتماعي وأشكال التضامن واستراتيجيات الصمود. وأحد الأمثلة الأولى لمشاريع التجديد الحضري في اسطنبول هو المشروع الذي تمّ تنفيذه خلال الجزء الأول من الألفينيات في حيّ سولوكولي Sulukule، الذي كان مأهولاً بالسكان الغجر. يقع الحيّ على تخوم الأسوار التاريخية لاسطنبول في وسط المدينة الحالي، وقد تمّ إعلان هذا الحي منطقة مدمّرة. المشروع الذي أعدّته البلدية للحيّ لم يشمل الغجر كجزء من سكّان الحي الجديد: لم يتمّ أخذ المستأجرين الذين يشكّلون الأغلبية في سولوكولي في الاعتبار لمجرد أن المشروع ركّز على حقوق أصحاب العقارات بدلاً من الحق في السكن للأشخاص الذين يعيشون هناك بالفعل. على الرغم من التضامن طويل الأمد والمعارضة الشعبية ضد المشروع، تم تدمير الحي. كما تمّ إجلاء العديد من الأشخاص الذين كانوا يعيشون في المنطقة إلى أطراف بعيدة عن المراكز الحضرية حيث لا يمكنهم الحفاظ على ظروفهم المعيشية وعاداتهم القائمة بالفعل. لذا، لم يمضِ وقتٌ طويل حتى عادوا وسكنوا المناطق المحيطة بسولوكولي الجديدة.
لا تزال العديد من الأحياء في اسطنبول تكافح بشكل تشاركي ضد مشاريع التحوّل الحضري urban transformation.3التحوّل الحضري هو كل عملية تغيير إجتماعية عمرانية طبقية للأحياء ولدى سكّان هذه الأحياء خبرة لا تقلّ عن خبرة المحامين\ات ومخطّطي\ات المدن. وهم يطالبون بعدم التجاهل وببقائهم في أحيائهم من خلال مشاريع تتماشى مع عاداتهم ومعاييرهم وحاجاتهم. وقد أصبحت المنظّمات المحليّة فاعلة نتيجة لتدخّلات طويلة الأمد للدولة في أحيائهم، وهي تدخّلات غالباً ما تأتي دون مشاركة السكان في أخذ القرار.4في معظم حالات التغيير الحضري في اسطنبول ، تتمّ عملية التدخل دون موافقة أصحاب المصلحة الذين يعيشون في منطقة المشروع. نادرًا ما نشهد حالات تحاول فيها أجهزة الدولة أخذ رأي ولو بعض أصحاب المصلحة في الاعتبار. في معظم الأوقات، تمّ حرمان السكان من الأدوات القانونية أو السياسية لإظهار معارضتهم فيما يتعلق بالمشاريع. لذلك، فإن دور المنظّمات المحلية مهم لإظهار مطالب السكان ومخاوفهم والطبيعة غير الديمقراطية لعمليات التحول الحضري التي تقودها الدولة. من خلال تطوير استراتيجيات ضد هذه التدخلات، يقوم السكان بتنويع تقنيات المقاومة، عبر العمل مع منظّمات مختلفة مثل جمعيات الأحياء والتعاونيات والمبادرات المختلفة. على سبيل المثال، مقابل مشاريع التحوّل الحضري، شكّلت الأحياء جبهة مع الجامعات لتقديم مشاريع بديلة، كما بدأ السكان في أحياء مختلفة بإنشاء مقترحاتهم الخاصة في مناطق تمّ تحديدها لتكون عرضة للتحوّل الحضري.5على سبيل المثال، عمل قسم التخطيط العمراني في جامعة المعمار سنان وقسم الهندسة المعمارية في جامعة بيلغي (كلاهما في اسطنبول) مع المنظمات المحلية في أحياء “باشبويوك” و”غوليوسو/غولنسو” Başıbüyük and Gülsuyu/Gülensu على خطط التحوّل الحضري البديلة بما يتماشى مع احتياجات السكان الذين يعيشون في هذه المناطق واهتماماتهم. مثال آخر في دوزجي Düzce (وليس في اسطنبول)، كان أيضًا مثاليًا من حيث مشاركة الفاعلين المحليين والمتطوعين والجامعات. يمكن اعتبار كل هذه الأمثلة ممارسات معارضة ملهمة وباعثة للأمل.
من الواضح أن الحركات الاجتماعية – الحضرية كانت مهدّدة من قبل هذه المشاريع الضخمة التي صمّمتها الحكومة للمدينة. عندما تمّ الإعلان عن مخطّط حديقة غيزي، كان رد الفعل متوقعاً. كيف ارتبط نضال حديقة غيزي بعمليات ذات نطاق أوسع والسياسات المختلفة في تركيا؟
نعم، كان رد الفعل متوقعاً، لكن بالتأكيد ليس بالحجم الذي شهدناه في صيف 2013. قليلات وقليلون هم من يذكرون التفاصيل، ولكن قبل عامين من انتفاضة غيزي كانت هناك محاولة في الحديقة لبدء اعتصام مفتوح على نمط “أوكيوباي وول ستريت”، بشكل موازٍ للتعبئة في حديقة زوكوتي في نيويورك. فشلت محاولة الترجمة المباشرة هذه في ذلك الوقت فشلاً ذريعاً، ولم ينضمّ إليها سوى عدد قليل من الأشخاص.6لقد كانت حديقة غيزي مناسبة فريدة ونتيجة تراكم العديد من القضايا ليس على مستوى المساحات العامة فقط، بل على مستوى إمكانية الحفاظ على / إظهار الاختلافات في استخدام الأماكن العامة. لذلك، يمكن أن يُنظر إلى القضية على أنها تكتّل المطالب الاجتماعية والسياسية المتعددة من قبل عدد لا يحصى من الجهات الفاعلة مما أدّى إلى احتجاجات ضخمة اختلفت عن المحاولات السابقة. من ناحية أخرى، نمت احتجاجات حديقة غيزي بشكل غير متوقّع، وبطريقة مرتجلة وغير منظّمة بما يتجاوز أحلام أي ناشط\ة في القضايا الحضرية. أساس هذه الاحتجاجات، كان ردّة فعل على تدخّل كبير آخر للحكومة المركزية في التنمية الحضرية لاسطنبول. تمّ التخطيط لهدم حديقة غيزي، وهي واحدة من أكثر المساحات الخضراء الحضرية مركزية في المدينة، وممّا تبقّى من نسيجها الأخضر، بهدف إعادة تطويرها كمركز تجاري/مجمّع سكني فاخر. واندلعت معارضة واسعة غير عادية ضدّ هذا المشروع، في ردّ فعلٍ جزئيٍ على وحشية الشرطة ضد الاحتجاجات المبكرة. واستمرّت الاشتباكات بين المتظاهرين والشرطة لمدة ثلاثة أيام وانتهت باحتلال المتظاهرين للحديقة وإنشاء بلدية غيزي التي استمرّت لمدّة أسبوعين. على الفور، أصبحت الإشتباكات وعملية الإحتلال الذي أعقبها، رمزاً لمطالب العدالة المكانية ليس فقط لجمع الناشطين في الحقلين الحضري والبيئي، ولكن أيضاً لمجموعة كبيرة ومتنوعة من المواطنين\ات الذين عكست غيزي المظالم واسعة النطاق التي يعيشونها. بعد القضايا الحضرية والبيئية، أصبحت هذه الأحداث رمزاً للمعارضة ضد جميع التدخّلات المكانية التي تتم دون معرفة المواطنات\ين ومشاركتهم\ن وموافقتهم\ن.
أطلقت هذه المعارضة مساءلة واسعة النطاق لآليات صنع القرار بشكل غير تشاركي فيما يتعلق بالتدخّلات المكانية. وقد أدّى ذلك مثلاً إلى قول شخصيات بارزة مثل رئيس بلدية اسطنبول بأنهم لن يغيّروا “حتى موقع محطة الحافلات دون أخذ إذن الناس”. على الرغم من أن الاحتجاجات لم تستطع تغيير السياسات المكانية الحالية بالكامل، إلّا أنّها أظهرت للسلطات أنه يمكن للناس رفع أصواتهم ضد التدخّلات المكانية التي يتم تنفيذها دون موافقتهم وبأنه لا يمكن التفكير بالمناطق الحضرية بشكل منفصل عن الأشخاص الذين يعيشون فيها. في هذا الصدد، وبصرف النظر عن حماية منطقة المنتزه من مشروع مفروض على الناس، غير تشاركي وغير مرغوب به، كان أهم إنجاز لاحتجاجات حديقة غيزي هو تذكير الجميع بالطبيعة المشتركة للمكان. نما الاهتمام بالمسائل الحضرية والبيئية والوعي بشكل أكبر بعد لحظات غيزي، ممّا جعل المدينة والطبيعة عنصرين جديدين على جدول أعمال السياسة الوطنية.
بينما تكتسب الخطابات المعارضة وضوحًا، كيف تقوم الدولة بتسويق سياساتها ومشاريعها وبأية طريقة تعمل وسائل الإعلام المهيمن على تصوير هذه السياسات، وشيطنة الجماعات المهمّشة ذات الدخل المنخفض؟
ابتداءً من عام 2010، ركّزت الحكومة على المشاريع الضخمة التي تهدف إلى تغيير المساحات الحضرية. تمّ الإعلان عن مشاريع ضخمة جديدة من قبل الحكومة، ك”قناة اسطنبول” والتي اعتبرها الكثيرون “مشاريع مجنونة”. خطاب الدولة بشكلها الحالي هو أداة مهمة للشعبوية. كرموز للمكانة والسلطة، تستخدم الحكومة المشاريع الضخمة للتأكيد على مشروع تحديث تركيا. قامت اسطنبول، على وجه الخصوص، بإصلاح صورتها العامة في محاولة لجعل المدينة واحدة من أكثر الوجهات المرغوبة في أوروبا، كجزء من خطاب “المدن العالمية المتنافسة”. كما يتم تصوير المشاريع الضخمة على أنها أداة علاجية لإصلاح المشاكل الهيكلية الحضرية طويلة الأمد، مثل مخاطر الزلازل والنمو غير المخطّط له والبنى التحتية وقضايا النقل.
يرى أنصار المشاريع الضخمة أنها محرّكات بالغة الأهمية لنمو الاقتصاد التركي القائم على البناء. تعود هذه المشاريع بالمنفعة على المطورين، وتؤدّي إلى تراكم رأس المال وخلق فرص العمل. كما يتم الترويج للمشاريع الضخمة من قبل الحكومة كأدوات للقانون والنظام في المدينة. تزامناً مع حظر الاحتجاجات العامة في ميدان تقسيم في عام 2013، تمّ إنشاء مساحتين كبيرتين للتجمّع على طول بحر مرمرة، يمكن أن يستوعب كل منهما أكثر من مليون شخص. هكذا، تمّ فرض قيود على أماكن الاحتجاج من جهة، مثل ميدان تقسيم، في حين تم إنشاء أماكن تجمّع ضخمة جديدة، لكنّها مساحات يمكن السيطرة عليها بشكل أكثر فعالية.
يجادل معارضو المشاريع الضخمة بأنها غير مستدامة بيئيًاً: يؤدّي إنشاء مشاريع البنى التحتية الضخمة، مثل المطار الجديد والجسر الثالث عبر مضيق البوسفور، إلى ضررٍ لا رجعة فيه على مستوى موارد إسطنبول الطبيعية، بما في ذلك خزّانات المياه والغابات والأراضي الزراعية. في بعض الحالات، تفتقر المشاريع الضخمة إلى تقييمات التكلفة، مما أدّى إلى إهدار الموارد العامة. كما يثير الافتقار إلى الشفافية في عمليات صنع القرار مخاوف بشأن الفساد والمخالفات.
على الرغم من الموقف القمعي للحكومة، لا تزال هناك مقاومة لهذه المشاريع من قبل السكان والمنظّمين\ات على مستويات مختلفة. ولكن من المؤكد أن حجج الحكومة مقنعة بالنسبة لعدد كبير من الناس، وبعضهم يقبل المشاريع الضخمة كجزء من الفخر الوطني. يتم تصوير المعارضة في الغالب على أنها “إرهابية” من قبل الحكومة من خلال وسائل الإعلام الرئيسية التي تصوّر عمل الحركات الاجتماعية على أنها أنشطة غير قانونية.
ما هي آليات التكيّف والتأقلم التي تُجبَر الجماعات المهمشة عليها نتيجة هذه السياسات والمشاريع؟
غالباً ما تُترك الجماعات التي تقف ضد مشاريع التطوير الحضري والبيئي القاسية وحدها، بحيث تكافح، إذا استطاعت، بالاعتماد على قدراتها الخاصة. حتى وقت قريب، وبالتأكيد قبل انتفاضة غيزي، كانت الصراعات الحضرية والبيئية خارج نطاق اهتمام قوى المعارضة الموجودة. لذلك، فهم الناس بأنه لا توجد فرصة سوى عبر التنظيم الذاتي. لكن أولئك الذين يستطيعون تنظيم أنفسهم هم أولئك الذين يستطيعون الاستفادة من رأس المال المالي والاجتماعي والثقافي، أولئك الذين يملكون شبكة علاقات كبيرة، ولديهم إمكانية الوصول إلى المحامين والصحفيين دون مقابل، وهم جزءٌ لا يتجزّأ من الشبكات المحلية المدعومة جيداً، ويمكنهم حتى أن يتحمّلوا التكاليف القانونية، لذا هم في وضع أفضل فيما يتعلّق بمقاومة المشاريع المفروضة عليهم من قبل الدولة.
اليوم، في المناطق الحضرية أو الريفية وعلى مستويات مختلفة، يحاول الناس التواصل والتعلّم من بعضهم البعض.7تُعدّ الاهتمامات المشتركة بشأن العادات والمعايير وأماكن المعيشة من العوامل الرئيسية التي تجمع الناس معاً للتضامن، خاصة من خلال الآليات غير الرسمية كاللقاءات اليومية. يدرك الناس بسرعة أن الآثار السلبية للتحوّل الحضري أو مشاريع البنية التحتية الضخمة منتشرة في جميع أنحاء منطقتهم و/ أو تركيا ويحاولون التعلّم من تجارب بعضهم البعض لمعالجة مشاكلهم الفورية. في بعض الحالات، تتطوّر هذه الآليات غير الرسمية وممارسات التعلم/المشاركة وتتنظّم لتتحوّل إلى منظمات رسمية مرة أخرى بما يتماشى مع التجارب السابقة من سياقات مختلفة في تركيا. يمكنك أن تري بأن المقاومة ضد مشاريع التعدين في منطقة البحر الأسود تشبه الحركات الاجتماعية ضد مشاريع التجديد الحضري مثلاً. ببساطة، في كلتي الحالتين، يدافع الناس عن أماكن عيشهم، بحيث تتفاعل الحركات الناشئة عن التغييرات المكانية والمطالِبة بالعدالة الاجتماعية مع بعضها البعض. ومع ذلك، فإن خطاب الشيطنة الذي تستخدمه الحكومة يهدّد الحركات الاجتماعية خاصة بعد محاولة الإنقلاب في عام 2016. كما أنه من الصعب المضي قدمًا في حين أن الآليات القانونية غير فعّالة.
ما هي الأدوات المتاحة لمواجهة هذه التحدّيات؟
على الرغم من تدهور سيادة القانون في تركيا، لا تزال الإجراءات القانونية أداةً شائعة. في حين أن النظام القانوني غالباً ما يخيّب أمل الناس، فإن الجماعات المقموعة والمستغَلّة تتنظّم حول الممارسات القانونية، وتقدّم دعاوى قضائية وتكتب الالتماسات لوقف المشاريع غير المرغوب بها. حتى عندما تخيّبهم المحاكم8من الصعب القول بأن النظام القانوني مستقلّ في تركيا، خاصة فيما يتعلّق بالمسائل المكانية ومطالبات الجهات الفاعلة المختلفة على مستوى أحيائها. من جهة أخرى، هناك العديد من الحالات التي تكون فيها أحكام المحكمة لصالح المشتكين بقرارات تقدمية. ومع ذلك، يمكن بسهولة نقض هذه الأحكام من خلال آليات قانونية أخرى في الغالب مع تأثير الحكومة المركزية، لا سيما بسبب وجود الكثير من المناطق الرمادية والثغرات في التشريع. مهما كان الأمر، لا تزال الآليات القانونية مهمّة بالنسبة للحركات المحلية من أجل أن يعرف الناس بها وأن تكتسب الشرعية.، فإن هذه العملية تساعد في التعبئة، وتعزيز الرؤية، وتأجيل الاستثمارات (أحيانًا إلى حد الإلغاء). من جهة أخرى، تظهر المقاومة في الميدان كأداة أخرى لمواجهة السياسات الحضرية. على سبيل المثال، في مقاطعة أرتفين الشمالية الشرقية، قاوم السكان المحليون مشروع تعدين الذهب من خلال إقامة الخيام وحواجز الطرق بشكل متوازٍ مع إقامة الدعاوى القضائية. في اسطنبول، ينصب سكان الأحياء في نضالهم ضد مشاريع التجديد الحضري أيضاً، الخيام ويكتبون الالتماسات ويقيمون حملات توعية في الساحات الرئيسية في المدينة. ومع ذلك، فإن الاستبداد المتفشّي في البلاد يجعل الحفاظ على مظاهرات الشوارع والمخيمات وحواجز الطرق أمراً صعباً، حيث يتعرّض الناشطون\ات البيئيون والمدنيون للاضطهاد الآن بشكل مستمرّ. لذلك تظهر وسائل التواصل الاجتماعي كأداة فعالة لأولئك الذين واللواتي يسعون إلى نشر أفكارهن\م بطريقة منخفضة التكلفة. في بعض الحالات، يتم إيقاف المشاريع أو على الأقل تعديلها نتيجة لحملات التواصل الاجتماعي. وتجدر الإشارة، مع ذلك، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مكاناً آمناً. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، اتخذت الحكومة عددًا من الإجراءات لتنظيمها.
مراجع
- 1تأسس مركز العدالة المكانية Mekanda Adalet Derneği باللغة التركية ، مختصر. MAD في عام 2016 ، وهو منظمة غير ربحية تعمل من أجل مساحات حضرية وريفية أكثر ديمقراطية وبيئية وتشاركية وعدالة. عبر تبنّيها لنهج متعدد التخصّصات، يقوم MAD بإنتاج وتجميع وتبادل المعرفة حول القضايا المكانية المبتكرة والقائمة على الحلول والمفتوحة للجميع.
- 2مشاريع تأتي في سياق المقاربة النيوليبرالية لعمل الدولة\البلديات، بحيث تستملك الدولة\البلدية عدداً من الأراضي وتزيل ما فيها، وتسلّمها لمطوّرين خاصين بهدف تطويرها لمصلحة الشركات الكبرى. وتؤدّي هذه المشاريع إلى تهجير السكان أو منعهم من استخدام المكان بشكل اعتادوا عليه، وتدمير النسيج الاجتماعي والموروث الثقافي العمراني للمنطقة.
- 3التحوّل الحضري هو كل عملية تغيير إجتماعية عمرانية طبقية للأحياء
- 4في معظم حالات التغيير الحضري في اسطنبول ، تتمّ عملية التدخل دون موافقة أصحاب المصلحة الذين يعيشون في منطقة المشروع. نادرًا ما نشهد حالات تحاول فيها أجهزة الدولة أخذ رأي ولو بعض أصحاب المصلحة في الاعتبار. في معظم الأوقات، تمّ حرمان السكان من الأدوات القانونية أو السياسية لإظهار معارضتهم فيما يتعلق بالمشاريع. لذلك، فإن دور المنظّمات المحلية مهم لإظهار مطالب السكان ومخاوفهم والطبيعة غير الديمقراطية لعمليات التحول الحضري التي تقودها الدولة.
- 5على سبيل المثال، عمل قسم التخطيط العمراني في جامعة المعمار سنان وقسم الهندسة المعمارية في جامعة بيلغي (كلاهما في اسطنبول) مع المنظمات المحلية في أحياء “باشبويوك” و”غوليوسو/غولنسو” Başıbüyük and Gülsuyu/Gülensu على خطط التحوّل الحضري البديلة بما يتماشى مع احتياجات السكان الذين يعيشون في هذه المناطق واهتماماتهم. مثال آخر في دوزجي Düzce (وليس في اسطنبول)، كان أيضًا مثاليًا من حيث مشاركة الفاعلين المحليين والمتطوعين والجامعات.
- 6لقد كانت حديقة غيزي مناسبة فريدة ونتيجة تراكم العديد من القضايا ليس على مستوى المساحات العامة فقط، بل على مستوى إمكانية الحفاظ على / إظهار الاختلافات في استخدام الأماكن العامة. لذلك، يمكن أن يُنظر إلى القضية على أنها تكتّل المطالب الاجتماعية والسياسية المتعددة من قبل عدد لا يحصى من الجهات الفاعلة مما أدّى إلى احتجاجات ضخمة اختلفت عن المحاولات السابقة.
- 7تُعدّ الاهتمامات المشتركة بشأن العادات والمعايير وأماكن المعيشة من العوامل الرئيسية التي تجمع الناس معاً للتضامن، خاصة من خلال الآليات غير الرسمية كاللقاءات اليومية. يدرك الناس بسرعة أن الآثار السلبية للتحوّل الحضري أو مشاريع البنية التحتية الضخمة منتشرة في جميع أنحاء منطقتهم و/ أو تركيا ويحاولون التعلّم من تجارب بعضهم البعض لمعالجة مشاكلهم الفورية. في بعض الحالات، تتطوّر هذه الآليات غير الرسمية وممارسات التعلم/المشاركة وتتنظّم لتتحوّل إلى منظمات رسمية مرة أخرى بما يتماشى مع التجارب السابقة من سياقات مختلفة في تركيا.
- 8من الصعب القول بأن النظام القانوني مستقلّ في تركيا، خاصة فيما يتعلّق بالمسائل المكانية ومطالبات الجهات الفاعلة المختلفة على مستوى أحيائها. من جهة أخرى، هناك العديد من الحالات التي تكون فيها أحكام المحكمة لصالح المشتكين بقرارات تقدمية. ومع ذلك، يمكن بسهولة نقض هذه الأحكام من خلال آليات قانونية أخرى في الغالب مع تأثير الحكومة المركزية، لا سيما بسبب وجود الكثير من المناطق الرمادية والثغرات في التشريع. مهما كان الأمر، لا تزال الآليات القانونية مهمّة بالنسبة للحركات المحلية من أجل أن يعرف الناس بها وأن تكتسب الشرعية.