أجزاء من هدم القاهرة في تحدي لوجودها (تصوير امنية خليل).

تمرّ ذكرى الثورة المصرية في 25 يناير\كانون الأول، بعد تعاقب أربع حكومات حاولت كلٌّ منها – على مستوى شكل حكمها ومدى فعاليتها- ومنذ أول يومٍ لحكمها، أن تُنتج تغييرات توثّر على حياة المواطنات والمواطنين.

لم يشغل تلك الحكومات أن يكون تأثيرها من خلال توفير فرص عمل، أو تخفيض أسعار الإحتياجات الأساسية للمواطنات والمواطنين. فلم نسمع عن حكومةٍ مصرية قرّرت تثبيت أسعار السلع في الأسواق وتعديلها بهدف السيطرة على الاحتكار، أو حكومة تبدأ عملها من خلال النظر في خطة التعليم الأساسي أو في نظام تأمينٍ صحّي شامل منخفض التكلفة. ما اشتركت فيه تلك الحكومات منذ أولى شهور تولّيها الحكم هو طرد الباعة الجائلين من الشوارع الرئيسية في القاهرة والإسكندرية، وإزالة الأسواق الشعبية وطرد السكّان الأكثر تهميشاً من بيوتهم،  وكأن هذا النوع من القرارات هو الضابط والرابط والعاكس لمدى فاعلية الحكومة ومدى انضباطها.

البضائع المتجولة

في شباط\فبراير ٢٠١١، وبعد تولي المجلس العسكري للقوات المسلّحة حكم البلاد بعد تخلّي محمد حسني مبارك عن الحكم، أطلقت ميكروفونات مترو الأنفاق في جميع محطّاته تحذيرات عدّة من التعامل مع الباعة الجائلين في سيارات القطارات. وحمّل النداء جميع راكبي مترو الأنفاق مسؤولية تبليغ الشرطة عن هؤلاء الباعة، كما حملّهم مسؤوليتهم الشخصية عن سلامة حقائبهم وممتلكاتهم. المختلف في نداءات المترو هذه أنّ مرتادي مترو الأنفاق ومستخدميه من طبقة تحتاج بشدّة الى سلع الباعة الجائلين. فالموقع الطبقي للشرائح الاجتماعية من مرتادي مترو الأنفاق يجعلهم بحاجة إلى السلع المقلّدة التي غالباً ما يكون ثمنها في متناول مداخيلهم الشهرية، وتوفّر عليهم عناء الذهاب في مشاوير مخصّصة  لشراء مستلزمات أساسية من مساحيق التجميل، أو السلع الطبية الأساسية في كل منزل، أو الأقلام، إلى أدوات المطبخ وبعض من ألعاب الأطفال، إضافة الى الحلوى التي تعتبر أساسية بين الوجبات لجميع المواطنين وخاصة الموظفين والموظفات منهم.

في سبعينات القرن العشرين، إزدادت حوادث السرقة في لندن، ممّا دفع الحكومة للتجريم العام للباعة المتجوّلين الذين أصبحوا فجأة، لصوص. يومها، قرّر ستيوارت هوول مع مؤلفين آخرين1Hall, Stuart, C. Critcher, Tony Jefferson, John Clarke, and Brian Roberts. Policing the Crisis : Mugging, the State, and Law and Order Second edition. Houndmills, Basingstoke, Hampshire: Palgrave Macmillan, 2013. البحث في الظاهرة وطرح فكرة “الفزع الأخلاقي”، وهي طريقة تتّبعها الحكومات لتجريم مجموعة من المواطنين وخلق الخوف والفزع لدى بقية المجتمع تجاه هذه المجموعة، مثلما حدث في مصر حول مستمعي موسيقى الميتال في التسعينات حين لُقِّبوا ب “عبدة الشيطان”، أو عملية التجريم المستمرّ للكويريات\ين، خاصة في حادثة “الكوين بووت” سنة ٢٠٠١ و حادثة “حمام البحر” سنة ٢٠١٤. وغالباً ما يتبع تلك الهجمات على الجماعات عددٌ من العناوين الرئيسية التي تحتلّ الجرائد اليومية أو مواقعها على الإنترنت، بهدف التهويل وتجريم المجموعة المستهدفة أيّاً كانت، وتحويلها الى العدو الرئيسي للمجتمع.  

اتّبعت حكومة محمد مرسي بعد توليه الحكم في حزيران\يونيو ٢٠١٢، نفس المنهاج تجاه الباعة الجائلين، فتمّ إخلاؤهم من العديد من المواقع الحيوية، شملت شارع النبي دانيال في الإسكندرية، وهو شارع معروف ببيع الكتب المستعملة. واستمرّت حكومة عدلي منصور على نفس المنوال بعد تمّوز\يوليو ٢٠١٣، ومن بعدها حكومة السيسي في ٢٠١٤. وجرى إخلاء الباعة الجائلين من شارع طلعت حرب، وشارع ٢٦ يوليو، ومواقع أخرى مختلفة في أنحاء القاهرة. 

اليوم، يتصدّر الإعلام مشهدُ انضباط الحكومة ورفضها لأي “هرج ومرج” في شوارع المدينة، مشدّدة على صورة مثالية للمدينة النموذجية، في مدينتي القاهرة والإسكندرية بالذات. وبينما تظهر الحكومة على شكل البطل المنقذ ممّا يمثّله الباعة من خطر على شكل المدينة وعلى أمن المواطنين، لم تُعلن وكالاتها عن بدائل لأولئك الباعة. وفي حوادث نادرة، قدّمت الحكومة حلولاً عبثية، كتخصيص مكان للباعة في مكان لا يوجد به مارة، أو تخصيص موقف سيارات في أيام العطلة ليبيعوا فيه، وغيرها من الحلول غير العملية والتي تستنزف موارد الباعة وطاقاتهم وخططهم، ولا تجدي نفعاً سواء على مستوى التنظيم أو في حركة الاقتصاد القائم على عمليات البيع والشراء لتلك المجموعات. 

إخلاءات 

فّذت الحكومة الحالية أكثر عمليات إخلاء قسرية سواء للباعة او للبيوت. فمنذ عام ٢٠١٥ تعاقبت التغييرات العمرانية على القاهرة خاصة لتشمل العديد من الإخلاءات سواء للسكن أو  للمساحات  العامة. في شباط\فبراير عام ٢٠١٦، أصدر رئيس الجمهورية قراراً بإنشاء لجنة تحت رئاسة إبراهيم محلب، تبعه لاحقاً شريف إسماعيل، مهامها الرئيسية استرداد أملاك الدولة عن طريق حصر كافة الأراضي المملوكة للدولة، وحصر كافة الديون المستحقة للدولة واستردادها، ثم التنسيق مع الجهات المعنية لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. منذ إنشاءها، نفّذت اللجنة العديد من الإخلاءات، خاصة في العقارات الواقعة على ضفاف نهر النيل في جميع محافظات مصر، بهدف إزالة كافة الإشغالات الموجودة على أراضي الدولة. وتمّ سجن كل من سوّلت له نفسه الاعتراض على قرارات الدولة. ومن أشهر أعمال اللجنة، إزالة التعدّيات على أرض جزيرة الورّاق في تمّوز\يوليو عام ٢٠١٧، والذي نتج عنها اعتراض الأهالي على قتل أحد السكان، وهو سيد طفشان، فتم سجن عدد من الأهالي وحكم عليهم بأحكام مشددة في كانون الأول\ديسمبر عام ٢٠٢٠.

منطقة المدابغ في حي مصر القديمة قبل وبعد الاخلاء

شهد عام ٢٠٢٠ إزالات لعدد من الأسواق العامة والتي تشتهر ببيع الخضروات والسلع الأساسية. أطلقت الدولة إسم الأسواق العشوائية على تجمعات البيع تلك، منها سوق الجمعة في السيدة عائشة، وسوق التونسي، والبساتين بالقاهرة. وقد ارتبط وجود تلك الأسواق بالتطور العمراني التاريخي للأحياء القديمة والشعبية في القاهرة. فمنذ القرن الثامن عشر، طوّر أهالي تلك المناطق عدد من الحرف، كانت الأساس الذي بنيت عليه الأسواق لبيع المنتجات الحرفية، والتي تحوّل بعضها إلى أسواق تجارية مع انهيار طوائف الحرف واستبدالها بالماكينة الصناعية في القرنين التاسع عشر والعشرين. 
منذ سنوات، رفعت الحكومة المصرية شعار “مصر بدون عشوائيات” وعليه تضمّنت الإخلاءات الأسواق والمناطق السكنية التي تصنّفها الدولة بالعشوائية. واستغلت الدولة أزمة جائحة الكورونا (كوفيد-١٩)، وقرّرت وقف عمل عدد كبير من الأسواق في عدة مناطق شعبية في القاهرة، وعليه تم إيقاف الدخل الشهري من العمل اليومي لباعة تلك الأسواق، والذين راحوا يحاولون إيجاد نواحي ونواصي تضم أعمالهم بعيداً عن إزعاج السلطات لهم، كما توقّف العديد منهم عن العمل لشهور مما سبّب لهم أزمة اقتصادية طاحنة خلال الجائحة وظروفها القهرية.

منطقة مثلث ماسبيرو قبل وبعد الاخلاءات

لم تكن الأسواق هي الوحيدة التي تزعج السلطات، فكل ما هو “عشوائي” بوصف الدولة هو ظاهرة مرفوضة من الدولة المصرية الحالية. تضع الدولة تصوّرات عمرانية خيالية وسياسات غير واقعية للمدينة والعاصمة وسكانها، فترسم المدينة بنموذجية سوريالية يعيش فيها أشخاص لا يمتّون بصلة إلى السكّان الحقيقيين ويستخدمون فضاءاتها بطريقة لا تشبه الواقع.

تم إخلاء عدة آلاف من الأسر المصرية من مناطق من القاهرة منها الرزاز وشمال الحرفيين ومحجر فوزي عليوة وسلم قلعة الكبش، والمواردي، وتل العقارب بالسيدة زينب، وحكر السكاكيني القديم بالشرابية، وأبو رجيلة بالسلام وعين الحياة والجبخانة وعزبة العرب بغرب مدينة نصر والمدابغ وعزبة المدابغ وأكشاك أبو السعود، وجزء كبير من عرب اليسار، هذا إلى الجانب حكر السكاكيني الجديد بالشرابية بالمنطقة الشمالية ، وثلاث  مناطق بالمرج والسلام أول ، وحيّ منشأة ناصر، ومناطق بأحياء مصر القديمة والخليفة ودار السلام والسيدة زينب، بالإضافة إلى العصارة وعشش المهاجرين وشرق السكة الحديد بالسلام أول، والمحجر والسحيلة وبطن البقرة والحطابة والطيبي. ونذكر أسماء هذه المناطق كلّها، لأنّها تشكّل قلب القاهرة وتاريخها، ومكان عمل من يقدّمون الخدمات الأساسية والحيوية لكل سكان القاهرة كل يوم. مقابل ذلك، تتّهمهم الدولة بالإجرام والعشوائية وتنتج وصماً مجتمعياً يطالهم ويطال نشاطاتهم. نتحدث هنا عمّا لا يقلّ عن ١٥ ألف أسرة مصرية، تمّ إخلاءهم وتسلّم بعضهم وحدات سكنية بديلة في مشروعات الدولة النموذجية كالأسمرات وبشاير الخير. ونتيجة لإحصائية قامت بها الباحثة وكاتبة هذا النص، فما يقارب نصف من يخلون هم فقط من يتسلّمون وحدات سكنية بديلة تقع في مناطق صحراوية في أطراف القاهرة، وتخلو من الخدمات الأساسية كما تبعد عن أماكن العمل الأصلية للسكان، بينما يتشرّد النصف الآخر في شوارع القاهرة، إن كان عبر السكن في مناطق أخرى لم يتمّ إخلاءها بعد، أو السكن لدى أقارب من الدرجة الثانية في وحدات سكنية أخرى. 

طبقاً لأرشيفات الجرائد المصرية، تم انتشار وصف العشوائيات فيها منذ عام ١٩٩٨، رغم بداية استخدامه في التشريعات الرسمية في قرار محافظ القاهرة رقم ٧٥ لسنة ١٩٩٠. وتم وصفها بشكل سلبي، وبأنّها الظاهرة التي تدمّر المدينة وتجلب السطوة من جانب بناة تلك البيوت. في مقال صدر عام ٢٠٠٠ لآصف بيّات وإريك دينيس تحت عنوان “من يخاف من العشوائيات؟ تغييرات عمرانية وسياسية في مصر”، قرّر الكاتبان تحدّي الفرضية المتعارف عليها بأن سكان الريف يهجرون قراهم ويأتون إلى المدينة لتكوين مدن للقرويين. لا يمكن إغفال السياسات الحكومية للتمدّد العمراني للمدن الجديدة والصناعية كعامل أساسي في هذا السياق.  فبالرغم من السردية المهيمنة تقول بأن القرويين هم السبب الأساسي في نمو القاهرة، إلّا أن نمو المدينة يحتوي طابعاً مدينياً لا علاقة بالفلاحين والقرى به، بالإضافة إلى أن نمو المدينة وحياة سكانها وتوفيرهم مساكنهم لنفسهم وبنفسهم يَعتبر أساساً عنفاً سياسياً من الدرجة الأولى بسبب عدم توفير الدولة للسكن كأحد الإحتياجات الأساسية. يحتجّ كاتبي المقال على تعبير “العشوائية” لأنّه أصبح وصفاً لكل مناحي الحياة لساكنيها، كما يكتسب هذا التعبير مضمون الإجرام والخروج عن المألوف. فمن غير المنطقي أو العادل أن يتمّ وصف المناطق وسكّانها بهذا الوصف، أو وضعهم في خانة الخطر على المدينة وتشكيلها أو بناء علاقة خوف وحذر بينهم وبين سكان مناطق أخرى.  
من المخزي أّننا ما زلنا بحاجة لذكر تلك الأطروحات بعد مرور عشرين عاماً على كتابتها، وما زالت خطط الدولة تشمل إخلاءات قسرية هي بمثابة عنف سياسي تمارسه الدولة بكل سلطتها ومؤسساتها ضد المواطنين والمواطنات المصريين. 

من يصالح؟ 

فيما تعود فكرة البناء المخالف في مصر إلى حوالي ٦٠ سنة وهو ما حاولت الدولة تغييره على مدى سنوات ولم تنجح، يبلغ حجم البناء غير الرسمي ٧٧٪ من القطاع الخاص سنويا. بهدف منع نمو العشوائيات والبناء المخالف، صدر في نيسان\أبريل لعام ٢٠١٩ ما يسمّى قانون التصالح والذي ينصّ على أّنه يمكن للمواطنين المقيمين في بناءات مخالفة للقوانين قوننة أوضاعهم عن طريق “التصالح” مع الدولة ودفع غرامة. 

وتحصل عملية “التصالح” عن طريق تقييم رسومات مباني السكان ووحداتهم المخالفة، وتقدير قيمة مبلغ التصالح الذي يفترض أن يدفعه المخالفون. وتُعتبر مبالغ التصالح هذه عالية جداً، في بلدٍ يعيش تبعات تعويم عملته ممّا أدّى إلى خفض قيمة المداخيل بشكل كبير، وارتفاع أسعار كل الاحتياجات الأساسية منذ عام ٢٠١٧. هذا بالإضافة إلى أن عام ٢٠٢٠ هو عام الجائحة التي تسبّبت بأزمة اقتصادية لكافة الأسر في كل دول العالم.

حي الاسمرات، اسكان الدولة البديل

لقد أدّى تأطير الحداثة لفكرة الدول والقوميات وقوننة العلاقات المجتمعية في فترة ما بعد الاستعمار في العالم، إلى تنظيم – نظري -للعلاقة بين الحاكم والمحكومين من خلال عدد من القوانين التي سُنّت عالمياً على مدار عقود2يحيي شوكت. ست عقود من تقنين المباني غير الرسمية. مرصد العمران.. لكن في الوقت ذاته، نرى السؤال ضرورياً حول “من يجب أن يتصالح مع من؟” في القطاع غير الرسمي، والذي لم يلجأ المواطنون إليه إلّا حين لم يجدوا في السبل الرسمية نفعاً. فأمام كل هذه الإخلاءات وأشكال الطرد المتنوّعة، لا يجد الأشخاص حلاً إلّا اللجوء إلى كل المظاهر غير الرسمية لأنها الوحيدة المتاحة ممّا يستطيعون تحمّل كلفته. ولا أقصد هنا أن أزيح المسؤولية كاملةً عن الأفراد، ولكن تصرّفات الفرد تُبنى مجتمعياً من خلال منظومة المجتمع وقوانينه، وهي ممارسات يومية تُكتسب في الحياة بشكل يومي، لا تَكتب ولا يتمّ تعليمها في المدارس. وعندما تطلب الحكومة من المواطنات والمواطنين أن يتصالحوا معها فتقدّر مبالغ طائلة قيمة لهذا التصالح- ممّا سوف يعود بالنفع على الحكومة بمفهومها النيوليبرالي أكثر من الناس- فهي إذّذاك تقول لهم بأن مصلحتهم ثانوية عندها.

ما الذي يضمن للمواطنين المتصالحين مثلاّ ألّا تدخل عقاراتهم في حيّز مشاريع استثمارية بعد قوننة أوضاعهم؟ فقانون نزع الملكية “للمنفعة العامة” والذي تم تعديله في عام ٢٠٢٠، لا يضمن لأي مواطن\ة في هذا القطر ألّا تُنتزع ملكيته\ا في أي لحظة بغض النظر عن دينه\ا أو جنسه\ا أو سنه\ا أو عرقه\ا أو طبقته\ا. وذلك لأن مصالح الدولة النيوليبرالية والطبقة الحاكمة تأتي في المقام الأول وهو ما نشهده منذ عام ٢٠١٨ عبر كمية الإخلاءات القسرية التي تشهدها مصر عامّة لا القاهرة فقط. 

لم يهتم الملايين من المصريين والمصريات بقانون التصالح، لأنهم يشعرون أساساً بأنهم ضيوف في هذا البلد، لا يملكون فيه شيئا. فالمشاهدات اليومية والأخبار تنقل هنا حرمان سكان من مساكنهم وإخلائهم قسرياً من قبل قوات الأمن، أو إزالة أسواق هناك تصنّفها الدولة عشوائيةً رغم قيمتها التراثية وأهمية منتجاتها للمواطنات والمواطنين أو طرد العمّال بهدف تقليل العمالة. 

علاقة حي الاسمرات بقلب القاهرة

المثالية أو المدينة المستحيلة

كتب هنري لوفيفر عن فكرة إنتاج الفضاءات، والتي تتحوّل، في نظره، إلى “أماكن” بفعل النشاط المجتمعي3Lefebvre, Henri, Donald Nicholson-Smith, and David Harvey. The Production of Space. Oxford, UK: Blackwell Publishing, 1991. أي أن النشاط هذا، أياً كان نوعه، هو شيء أساسي لتكوين الأماكن وإنتاجها. عليه، فإن إنتاج الفضاءات بشكل يعتمد على نموذج “مثالي” للواقع المديني من حيث تكوين مبانٍ عالية وغالية الثمن ومصممة لأشخاص مُتَخيّلين، يُلغي الجزء المجتمعي للنشاط المتعارف عليه. 

فنرى مثلاً أبراجاً على كورنيش النيل بالقاهرة لا تتخطى إشغالاتها ال١٠٪، وهي مسألة اقتصادية أساسية لا تراعيها الدولة المصرية في تخطيطها لهذا الكم من المدن الجديدة وبنائها لها -وآخرها العاصمة الإدارية الجديدة- أو في مظاهر الإحلال الطبقي العمراني داخل القاهرة. للكاتب ذاته نص عن الممارسات اليومية ومفهومها4Lefebvre, Henri. Critique of Everyday Life. London: Verso, 1991 والذي يعتمد أساساً على تعريف فكرة الإغتراب لدى الأفراد في نص “رأس المال” لكارل ماركس. واعتماداً على الكتاب المذكور، فإن عمليات التغيير العمراني تزيل الصفة الإجتماعية عن الأماكن، لأنها ممارسات مُختارة طبقاً لرأس المال، بمعنى أنّها ممارسات مصمّمة بالورقة والقلم كي تدر الأرباح فقط. وبذلك، فهي تُنتج اغتراباً أكثر مما تجلبه العجلة الأساسية للرأسمالية ودورة الإنتاج.

في شوارع المدينة، يشاهد أغلب القاهريين إعلانات باللغة الإنجليزية لا يعلمون عمّا فيها غير أنّها ليست موجهة إليهم. تخاطب هذه الإعلانات العملاقة المواطن النموذجي والذي سوف يقطن مع عائلته الخيالية في مدينة مثالية. وهو ما يظهر في إعلانات التلفزيون أيضاً، حيث يعلن ممثّلون مشهورون – باللغة العربية هذه المرّة- عن التجمّعات السكنية المسّورة في العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، بينما يحيط بهم أشخاصٌ لا يشبهون المواطن\ة الذي\التي نراه\ا يومياً في شوارع القاهرة. لا نرى في الإعلانات باعة جائلين ولا سيّدات منهكات من العمل يشترين منهم، ولا مناطق شعبية تشبه ما يسكنه عددٌ كبيرٌ من سكّان القاهرة وقلبها التاريخي. تخصّ هذه الإعلانات طبقة بعينها، أعتقد أحياناً بأنّها مُتخيّلة، تعيش حياة غير حقيقية في التلفزيون فقط وتعيش في مدينة مثالية ليست موجودة إلا في عقول صانعيها. فقد تم نفي المجتمع المصري من أحيائه ومساكنه والشوارع التي عرفها، كما حُرم من ممارساته اليومية من خلال عمليات متعدّدة ومستمرّة من الاغتراب في شوارع المدينة ومساكنها.

المراجع

  • 1
    Hall, Stuart, C. Critcher, Tony Jefferson, John Clarke, and Brian Roberts. Policing the Crisis : Mugging, the State, and Law and Order Second edition. Houndmills, Basingstoke, Hampshire: Palgrave Macmillan, 2013.
  • 2
    يحيي شوكت. ست عقود من تقنين المباني غير الرسمية. مرصد العمران.
  • 3
    Lefebvre, Henri, Donald Nicholson-Smith, and David Harvey. The Production of Space. Oxford, UK: Blackwell Publishing, 1991
  • 4
    Lefebvre, Henri. Critique of Everyday Life. London: Verso, 1991
السكن مصر