إن علاقة الإذعان الاقتصادي هي واقع متأصّل يسعى الفكر السياسي إلى تغييبه، بطرحه انطباعات كاذبة، في حين تظهر أمامنا واقعية العلاقات بين الدولة والأفراد، والقائمة على ميزان القوى.
فردريك غرو، العصيان
إنه مزاج الحاكم الذي أعطى المدينة شكلها. إذا مررت تصفر وأنفك فرس صغير وراء الصافرة، سوف ترى المدينة من الأسفل. أطر النوافذ، الستائر التي ترفرف، عيون الماء. وإن سرت برأس مرفوعة وأظافرك تحفر في راحتي يديك، سيستقر تحديقك بالأرض، وفي المجرى، في أغطية البالوعات وموازين السمك والأوراق المهملة. لا يمكنك القول إن ملمحاً من ملامح المدينة هو أكثر صدقاً من الآخر…
ايتالو كالفينو، مدن غير مرئية
«الرينغ». هذا مدخل وسط بيروت. ليس مألوفاً أن تهبط\ي إلى قلب المدينة عبر جسر، أو على الأقل ليس أليفاً، أو ودوداً لتلك الدرجة التي ترغبينها. إذا كنت آتية\آتياً من الغرب، فأنت تأتي\ن من القنطاري، وبالتالي ثمة احتمال أنك تأتي\ن من الحمرا أو من رأس بيروت إلى قلبها. وهذا يعني، أنك تأتي\ن من المركز إلى المركز. تدورين في مكانك، بحثاً عن مكان لك فيه. وإذا كنت تأتي\ن من النواصي السكنية المزدحمة، التي تواجه صعوبة بما يوجد «بعد الجسر»، كونه ليس سكنياً تماماً، ويبقى محاطاً بالأبراج ومسيّجاً بها، فهذا يعني أنك تأتي\ن من زقاق البلاط أو من الباشورة أو من الخندق. وقد تكون\ين من العارفات\ين بالمدينة وبتاريخها. لكن هذا لا يعني أنها تعرفك بدورها. وقد تكون\ين، ذات يوم ماطر في أواخر السبعينيات، رأيت متراساً هنا، وأكياس من رمل ميزتها الأساسية أنها بلا ملامح، مثل المدينة بعد التحسين، أو الإحلال، والنتيجة واحدة، لعابر\ة قديم\ة من البسطة ي\تتجول قرب «شارع فوش»، أو لقادم\ة من بعيد، في حي المدوّر، بحثاً عن «سوق الصاغة». وقد تكون\ين رأيت ما يكفي من الصور. لكنك ستشعرين أنك في مدينة غير مرئية، بالمعنى الذي يقصده ايتالو كالفينو، وبمعانٍ أخرى، تخصّك وحدك وشعورك المستمرّ بعدم الاقتناع بسردية إعادة الإعمار تلك، وبعدم شرعية فصل وسط المدينة عن الناس، وبمعانٍ تخصّ اللواتي والذين نزلن\وا في 17 تشرين الأول، بحثاً عن مدينة تخصّهن\م.
من هنا، تذهبين إلى الجمّيزة. لكن السور إلى يمين الجسر خدعة. سرعان ما يخطف برج الغزال بصرك. هذا برج آخر في المدينة، ولكنّه ليس البرج المقصود، عندما نقول «ساحة البرج». وليس ذلك البرج، بالتأكيد، «برج المر». المعلم الثاني يذكّر بالحرب، لأسباب تخصّ ضحاياها وحدهم، والمعلم الأول يذكّر بالتحسينات النيوليبرالية بعد الحرب، لأسباب اتّضح بعد اللجوء المتكرّر إلى وسط المدينة، أنها تخصّ الجميع. من هذا الجسر الدائري أيضاً، يمكنك أن تتابع\ي صعوداً باتجاه الأشرفية. مثل الجمّيزة القريبة وسرسق، راقبت الأحياء البورجوازية ما يحصل في الشارع خلال الانتفاضة، تململت، شاركت، ثم حدّدت لنفسها بقعةً في الحدث، وأخذت تنفلش فيها، ومثل بقية المجموعات القلقة، حاولت أن تهيمن على الأرض، لأن الأبراج كما هو واضح، هيمنت على السماء.
أبراجٌ نتأت في “سيلويت” المدينة، تلفظ الناس وتُكدّس رأس المال ليصبح مكانياً، مادياً وملموساً في فضاء المدينة وحركة الناس والحدود التي ترسمها لها. وفي مواجهة هذه الأبراج، يمتدّ برج وحيد، هو برج الناس وساحتهم. وإذا كان البرج لم يعد موجوداً، فالساحة ما زالت في مكانها، تحارب من أجل اسمها، ومن أجل أن تبقى على حالها: ساحة بلا شهداء، وبلا زعماء صاروا نصباً في منتصفها، رغم شدة الالتباسات في تاريخهم، وليس في تاريخها. برج واحد كان كافياً. ربمّا لا يعرف أغلبية مرتادوه تاريخه، لكنّهن\م في حركتهن\م منذ نهاية الحرب الأهلية حتى الانتفاضة، أحيوه وحرّكن\وا فيه الوظيفة الجنينية للساحات والأماكن العامة، وأسبغن\وا عليه بالذات ما حاولت عملية إعادة الإعمار إلغاءه. أو ربّما كانت حركتهن\م تلك، أداة بحثٍ عن معني المكان وقيمته، معنى مكان أفرغته السلطة من مقوّمات الحياة ورمته، تماماً كما رمت كل الساحات العامة في المدينة، للشمس والشتاء، مفتوحاً، لا حياة فيه، كفمٍ فاغرٍ أمام البحر.
الانتفاضة، كانت في الأساس، عملية بحث عن المدينة. عندما تبحثين عن شيء ما، بالحفر والتنقيب، أو خلف الهياكل العملاقة وتحتها وفوقها، فهذا يعني، أنك تعتقد\ين، وربما تحدس\ين، بأن ما تبحثين عنه موجود فعلاً، وأنك غير قادر\ة على رؤيته في هذه اللحظة. لكن عملية البحث عن المدينة، تعني بلا ريب أن المدينة موجودة في مكانٍ ما، هنا، تمتد إلى ما بعد الجسر، وتصل إلى البحر، وإن كانت غير مرئية قبل بداية الحفر. في 17 تشرين الأول، بدأ البحث عن قطع ناقصة من بيروت.
ربّما نجد ثلاثة طرق لوصف الخندق الغميق، وخمسة طرق لوصف الجمّيزة، وربما سبعة أو أكثر لوصف الأشرفية. هناك طرق كثيرة لوصف المدينة، التي اتفق أهلها على شيء واحد، وهو أن يختلفوا، وذهبوا إليها عندما غادرت.
عابرون في شوارع عابرة
في الشكل، لا فارق كبيراً بين اللواتي والذين ينصبن\ون خيمهن\م في ساحة عامة. سواء كان الانقسام عمودياً، في لحظة الاعتراض على حكومة فؤاد السنيورة بين عامي 2006 و2008، أو كان أفقياً، كما حدث في 17 تشرين الأول 2019، في لحظة الاعتراض على النخبة الحاكمة. فالخيم تعني نية قاطناتها\يها الإقامة، ومعنى ذلك شعورهن\م بأنهن\م يملكن\ون الحق بالإقامة فوق هذه الأرض. من دون تردّد، أحضر هؤلاء معهن\م عدة إقامتهن\م وبالتالي فرضن\وا شروطاً لجيرتهن\م. وهذا ما يحدث عادةً، على مراحل، عندما ينهب الإحلال الطبقي العمراني الشوارع، فتستبدل طبقة بأخرى، لعدم قدرة الثانية على مجاراة الأولى في أنماط حياة الأولى، وهيمنة الأولى على المحرّك الأساسي لصكوك الحقوق في عالم رأسمالي، أي رأس المال نفسه. ذهب الذاهبات\ون إلى الساحة، بحثاً عن المدينة، لعلهم\ن يجدونها هذه المرة، فوجدن\وا بعضهن\م البعض. كان هذا على ما يبدو بداية الحفر.
من هنّ\م اللواتي\الذين نزلن\وا إلى الساحات في 17 تشرين الأول؟ الإجابة الأسهل: الشعب اللبناني. هذه إجابة لطيفة. ي\تتمنّى المحبّ\ة أن تكون صحيحة. ولكنها قد تكون متسرّعة قليلاً. إنهنّ\م أشخاص غالباً يبحثن\ون عن أنفسهن\م في أقرب «فضاء عام»، من خلال بحثهن\م عن مشتركات تجمعهن\م. الحفريات، عمليات بحث متعددة، نتائجها النهائية غير مرئية للباحثات\ين أنفسهن\م في لحظة الانطلاق، وفي حالة التظاهر، غير معترف بها كعمليات بحث. بحث «طبقة عاملة» عن محدد تاريخي يجمعها، بحث المهمشات\ين عن حقّهن\م في المدينة، وبحث الطبقة الوسطى عن امتيازات ناتجة عن عمليات التحسين المتراكمة. لكن لا يتوقف الأمر على عمليات التحديث والتحسين كعمليات حضرية بحد ذاتها، بل يندرج في نهاية الأمر بتطوّر لا يتوقف، بوتيرة غير متكافئة، وهو مرتبط في نهاية الأمر بنظام رأسمالي قادر على إعادة إنتاج نفسه ضمن مستويات جغرافية متعددة، لكي يتمكن من احتواء أزماته والانطلاق في دورة جديدة.
جزء كبير من المشاركات\ين في 17 تشرين الأول وما بعده، جاء لتجديد الاعتراض على الاستيلاء على وسط المدينة بوصفه نموذجاً معلناً للاستيلاء على كل شيء. يمكن أن نسمّي ما حدث هناك بالإحلال الطبقي بلا تردد. لكن المفارقة، أن هذا الجزء كان ينتمي بسلوكه وامتيازاته إلى الطبقة التي فرضت أنماطاً جديدة من الاستهلاك، أو استهلاك الحياة، في الشوارع التي تظلّل ساحة الاحتجاجات، مثل الجمّيزة ومار مخايل.
فقد بات واضحاً أن الانتفاضة افتقدت إلى النظرية القادرة على التصدّي لمرونة النظام اللبناني، الذي يستفيد من الطائفية كأداة غير نهائية لإدارة مصالح [كونسورسيوم] متجدد/ة. من دون أن تكون هذه خلفية الاحتجاجات بالضرورة، بالنسبة للمحتجات\ين، لكنهن\م كنّ\كانوا يمرّون في الطريق إلى ساحة الاحتجاج الرئيسية، في طريق تلتبس فيها العلاقة بين شارع مونو ووسط المدينة، وقبل ذلك بين رأس النبع والأشرفية، حيث قطعت الطريق بنفق يجعل السير بالاتجاهين مسألة عويصة، كتكريس ساذج لمجموعة خطوط متوازية ومنعها من الالتقاء. يمررن\يمرّون من مونو، الذي قد يكون شارع الغائبين الأبرز في بيروت، حيث اختفى السكان، وحلّ مكانهم «آخرين»، ثم اختفى الحيّ نفسه، وصار أشبه بمختبئ خلف المدينة. والأخيرة غير مرئية بالأساس. ومثلما احتوت الجمّيزة أزمة مونو، احتوى شارع مار مخايل الجمّيزة، وكان مخططاً أن تتمدّد حاجات الطبقة التي حلّت في المكانين إلى البدوي. إحدى القواعد الأساسية التي قامت عليها عمليات الإحلال في بيروت تاريخياً هي أن «البلد ماشي»، والذين غابوا، عليهن\م أن يعرفوا أن الأمكنة لن تنتظرهن\م. كان من المفترض، على الأقل، أن تبقى الأمكنة في مكانها، رغم انكفائهن\م، هم أصحابها، إلى الضواحي.
متراس الطبقة والمعرفة
وصل جزء من المشاركات\ين في الانتفاضة إلى «الرينغ»، من فوق، وتمترسن\وا في المكان الذي يمكنهن\م التمترس فيه. ثم قطعن\وا الجسر. نتحدث عن فئة من اللواتي والذين تلقّين\وا تعليماً جيداً، ويتحدثن\ون بأكثر من لغة، ولديهن\م حسب شروط وحسابات علاقات القوة في المجتمع حصة معقولة من المعارف المنتجة. ومن ناحية طبقية، كانوا\كنّ يستطيعن\ون حتى مرحلة متأخرة من الانتفاضة أن يحصلن\وا على كل شيء تبعاً لشروط السوق، وأن يستفيدوا\يستفدن من وسائل التواصل الاجتماعي على نحو منظّم. هذا لا يعني بأن الفئات الأكثر امتيازاً منفكّة بطبيعتها عن الأحزاب المهيمنة، بل على العكس، فهي جزء لا يتجزّأ من قاعدتها الاجتماعية، وعلاقاتها التجارية والخدماتية. لكنّ ما حصل خلال الانتفاضة، هو أن جزءاً من هذه الفئات -لأسباب مختلفة، بعضها واضح وبعضها غير واضح بعد، وذلك لعدم وجود الأبحاث الكافية عن الموضوع بعد- بات غير راضٍ عن أداء الدولة، معتبراً بأن شكلاً على الأقل من أشكال ممارسة السلطة أصبح غير مقبول. ممّا يعني أيضاً بأن مطالب أبناء وبنات هذه الفئة اختلفت في مفاصل عدّة من مفاصل الانتفاضة، عن مطالب الطبقة العاملة المهمّشة فيها.
عموماً، كنّ وكانوا أولئك اللواتي والذين يشعرن\ون، أنهن\م وفق هذه المعطيات يستحقون الوجود في مصاف «النخبة»، ويتوقّعن\ون أنهن\م يملكن\ون دوراً أساسياً في التغيير- لقدرتهن\م على الانسلاخ عن الأحزاب الطائفية، ليس لشيء إلّا لامتلاكهن\م الرأسمال الاجتماعي والثقافي الذي يمكّنهن\م من دفع ثمن الخدمات بدلاً من الاعتماد على الوفاء الطائفي لتأمينها- إن كان شيء مثل هذا قابل للحدوث فعلاً. غالباً، جاء هؤلاء من مواقع مارسن\وا فيها إحلالاً طبقياً، ليس بالضرورة أن يكون جغرافياً وحسب، ليعترضن\وا على شعورهن\م بالإحباط، واستثنائهن\م من العملية السياسية. جئن وجاؤوا، وهن\م يستغربن\ون، بكل الإمكانات التي يعتقدن\ون أنهن\م يملكونها، يعترضن\ون على إقصائهن\م. هل كان ممكناً ردم الهوّة بينهن\م وبين القادمين من الجهة الأخرى، اللواتي والذين لا يملكن\ون سلوكاً مختلفاً فقط، بل رأسمال اقتصادي اجتماعي تاريخي مختلفٍ أيضاً؟ لقد جاء الآخرين كمهمّشات\ين تماماً. ولكنهن\م، ولعدّة أسباب، وجدن\وا الجسر مقطوعاً بالاتجاهين. من جهة الطبقة الوسطى شرق الرينغ، ومن جهة العصي الطائفية غربه، الجاهزة لإعلان العنف حلاً وحيداً لتسوية النزاعات.
هناك هوّة لا يمكن ردمها بسهولة، بين محبّات\ي الأبنية التراثية والعارفات\ين بدورها في الحفاظ على نسيج اجتماعي، وبين قاطناتها\يها من أصحاب الدخل المحدود [وقد صار معدوماً اليوم]. هناك فارق، لا يمكن تجاهله، بين المهمّشات\ين، طبقياً وحقوقياً، وبين اللواتي والذين «يتفهّمون» التهميش. وذلك كلّه مردّه، إلى أن ثمة فارق في النهاية، في إنتاج المعرفة، وفي توزيعها، وفي الحصول عليها. وهو فارق، لا يمكن إنكاره بسهولة، أو التأكيد عليه كحالة إكزوتيكية، تضيف إلى تفوق «النخب» نقطةً بتفوقهن\م في الاعتراف. في الوقت نفسه، لا يمكن القبول بشروط المهمشات\ين الطائفية، التي لم تبلغ أشد مآلاتها عنفاً. وكان لا بد من مكان تردم فيه الهوّة، ويستمر البحث عن المدينة. وهذا يعيد النقاش إلى نقطة البداية، إلى الأسئلة الأولى. من هن\م المتظاهرات\ون؟ ما هي الطبقة الوسطى؟ ماهي «الدولة»؟
فبالرغم من “وعي” أو “شعور” هنا وهناك، عند عدد من متظاهرات\ي الرينغ، بأن هناك حاجة للتواصل مع “الجهة الأخرى” من الجسر-لا الجهة التي يصلها الجسر بما يواجهها، بل الجهة التي يفصلها الجسر عن وسط المدينة وعنهم- لم يُترجم هذا الشعور واقعاً.
وربّما كان ذلك مستحيلاً، لانفصال الجهتين، لا منذ بداية الانتفاضة، بل لسنين قبلها. والانفصال هذا، كان قد وضع الجهة المحتلة للرينغ، لسنين طويلة إذاً، في خندق الطبقة الحاكمة والوسط المُعاد إعماره، مقابل الخندق المدافع عن الطبقة الحاكمة اليوم بالرغم من تذوّقه لسنين، مرارة العيش تحت رحمة هذه الطبقة، التي حرمته مدينة تمتدّ أمامه بغنجٍ ودلال.
فربّما يعرف محتلّات\و الرينغ طعم الظلم والقمع منذ بداية الانتفاضة أو قبلها بقليل، لكنهن\م لم يعرفن\وا يوماً، طعم النظر إلى وسط المدينة النظيف اللاهي المتخاتل زهواً، بينما يغوص خندقهن\م أعمق كل يوم، في وحل القهر والتهجير والصمت والخفاء.
شتّان بين أن تكون واجهة المدينة، قلبها الرسمي والسياحي، وخندقها الغميق غير المرئي، المحجوب عمداً، عن عيون الإعلام والناس، وذاكرتهم.
وهذه القراءة متعبة، مؤلمة ربّما، ليس لاعترافها بتغيير المواقع، بل لتظهيرها عمق قهر من حملن\وا خلال الانتفاضة، العنف سلاحاً ضدّ أنفسهن\م، في الجهة المقابلة من الخندق.
عموماً، وصل عدد كبير من الدراسات الحضرية إلى خلاصة مفادها أن الدولة في لبنان ضعيفة بدور الرعاية اجتماعية، ترفض التدخل حينما تكون حقوق عامة الشعب على المحك، لكنّها قوية تستشرس للدفاع عن مكتسبات الطبقة المهيمنة.
وقد بات واضحاً أيضاً، وجزء من الفضل في ذلك يعود إلى 17 تشرين الأول، أن هذا الجهاز، في النهاية، يملك القدرة على التخطيط والتشريع وعلى إطلاق يد العنف. وبالتالي، عندما يكون هذا الشكل من الدولة قوياً، فإن قوّته تصب في مصلحة الفئة المهيمنة. من أبرز إنجازات الانتفاضة، هو إعادة تدوير النخبة المهيمنة، وتحديد أدوار عناصرها، فظهر دور الرأس المال والمصرف والمحتكر، من ضمن عدة عناصر أخرى، كلاعبين أساسيين في البنية الاقتصادية للنظام اللبناني، وبالتالي، السياسية. اكتشف المتظاهرات\ون اختلافاتهن\م، واكتشفن\وا تغييب المدينة. حدث التغييب بمشاركة «الدولة» عبر التخطيط، التلزيم، التنفيذ، الإعفاء، التمديد، ومن خلال رعاية واشراف النخبة الحاكمة التي قدّمت الإحلال الطبقي بوصفه تحسيناً، كما يُحكى عن «إعادة إعمار وسط بيروت»، أو عن الأبراج الناتئة، والمضاربة العقارية الجنونية، في ظل صمت النخبة الحاكمة كسُلطة، ومشاركتها الفعالة كمستثمر في التحوّلات الجديدة، على حساب السكان الأصليين. خلال الانتفاضة، وعند استنفاذ قوة اليد اليسرى، استخدمت السلطة اليد اليمنى: البطش والترهيب.
إحلال داخل الإحلال
إذا كان التحسين غير ممكناً، من دون تطوير الفضاء العام، وتعزيز قدرته على أن يكون عمومياً، بالاستناد إلى الأنسجة الاجتماعية الموجودة، فسيجد السكان أنفسهن\م خارج المدينة، وتجد المدينة نفسها خارجها. إن كان ممكناً استعارة مفهومي الغياب والإحلال نفسهما، وقياسهما على واقع 17 تشرين الأول نفسها كفضاء مستقل بحد ذاته يبحث عن جغرافيا، فهذا يتيح الافتراض بأن غياب/ تغييب سكّان المدينة، فرض شروطاً جديدة لتحسين الانتفاضة نفسها، ما خلق واقعاً جديداً ومتسارعاً.
صارت الانتفاضة نفسها تشبه المدينة التي تبحث عنها، دائرة في دائرة، وهكذا إلى ما لا نهاية. ففيما يبدأ الإحلال باستبدال مجموعة بمجموعة أخرى، أكثر قدرة وامتيازاً، تتغيّر طبيعة الفضاء تبعاً لأمزجة السكّان الجدد.
وهكذا، وبسبب تفشّي النزعة الطائفية أحياناً، وفي أحيان أخرى بسبب قوة رأس المال، حاول المتظاهرات\ون فرض شروط إقامة خاصة في الانتفاضة، الباحثة لنفسها عن مدينة. وإذا كانت المدينة نسيجاً اجتماعياً قائماً، بعمرانها وأهلها، فإن الانتفاضة تملك الصفة نفسها، وقد عرفت ما عرفته المدينة: إحلال في صفوفها، مثل الإحلال اللاحق بمدينتها، في حالة بيروت، إذا وافقنا أن اللامركزية كانت شرطاً غير معلن من شروط الانتفاضة. ومثلما انسلخ عدد كبير من ضحايا الإحلال الطبقي في بيروت عن بيوتهن\م وأحيائهن\م، عانى جزء كبير من العائدات\ين بحثاً عن المدينة، من الانسلاخ عن انتفاضتهن\م، بسبب قوة «رأس المال الرمزي»، الذي يملكه القادمات\ون من طبقة أكثر حداثة، بفعل امتلاكهن\م لرأس المال ومفاصل أساسية وعلاقات تمكّنهن\م من الوصول إلى الخدمات بشكل أسهل في المدينة.
يبقى التعريف فضفاضاً وقابلاً للسجالات، فالجنتريفيكايشن- الإحلال، هو مفهوم محمّل بأبعاد سياسية/ سوسيولوجية ثقيلة. يحدث على أساس الطبقة، ويلعب هنا العامل الاقتصادي دوراً حاسماً في عمليات الإحلال. لكن المؤكد، أن الإحلال يعني استبدال مجموعة بأخرى. وهذا ما حدث بعد 17 تشرين الأول، إذا انطلقنا من الفرضية الأساسية لهذا النص، التي تقول بأن الانتفاضة، من بين جوانبها الكثيرة، كانت بحثاً عن المدينة. لم يكن بحثاً عن مدينة «واحدة» بتصوّرات متّفق عليها. وبالتالي، أدّى الاختلاف إلى التشرذم بين المشاركات\ين، نتيجة التّصورات المختلفة، لا للحقوق والعملية السياسية فقط، بل للمدينة أيضاً. ومن أبرز النقاط الخلافية، التي لم تجد حلاً ضمن المشهد اللامركزي، كانت الفصل الواضح بين العداء للنظام الطائفي، وبين ارتباطه الوثيق برأس المال، ما أدّى إلى ضبابية في تصوّر المدينة ودورها وهوية سكّانها أحياناً. كما أدّى ذلك إلى إعادة إنتاج الخلافات نفسها بأشكال قديمة، وهو ما أنتج في النهاية سلسلة من الاعتداءات على المتظاهرات\ين، من قبل «متظاهرين» آخرين. هؤلاء، الذين يشكّلون أوضح تصوّر عن العنف، لأنهم لا يملكون أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم كأصحاب حق في المدينة، سوى العنف.
ليس لبنان بلداً سهلاً. الأوليغارشية لا تجمع ثروتها من قيمة العمل وحسب، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل بمصادرة “العام” من جهة، وبالتالي، سلب آخر ما تبقّى للطبقة المضطهدة من زوايا تستطيع التحرك فيها.
خلال الإنتفاضة، خطت الطبقة المهمّشة باتّجاه مسائلة واقعها السياسي المكاني، وعملت بذلك على اقتصاص بعض من المجالين اللذين حُرِمَت منهما لسنين، أي النقاش السياسي والفضاء الحضري، قبل أن تحاول النخبة الحاكمة بالقوة إعادة هيكلة كل شيء- المكان، الهوية، الوقت، إلخ- على قاعدة رأسمالية.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، لا في مرحلة الرأسمالية المتأخرة عامّة، ولا في لبنان بالذات.
فالطبقتان ليستا منفصلتين تماماً، وطريق الأكثر تهميشاً نحو مصالحهن\م وحقوقهن\م، ليس بالضرورة واضحاً. اليوم، عاد البحث إلى الصفر، عن الهوية، عن الوقت… وبالطبع عن المدينة.