لم تكُن الآمال المُعلّقة على انتفاضة 17 تشرين الأوّل من العام 2019 حالمة أو خياليّة. لم يكُن متوقّعاً حصول ثورة تقلب النظام رأساً على عقب، أو الإطاحة بزعامات طائفيّة حصلت قبل عامٍ واحدٍ من الانتفاضة على أصوات أكثر من 85% من المقيمين، ولا القضاء على مصالح طبقة اجتماعيّة بعضها مُتجذّر منذ ما قبل نشوء لبنان. لكن في المقلب الآخر، لم يكُن متوقّعاً أيضاً أن ينجح حلف زعماء الميليشيات الطائفيّة وأصحاب المال بالصمود أمام إحدى أكبر الأزمات الاقتصاديّة في العالم خلال الأعوام المئة الماضية1صنّف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية في المرتبة الثالثة بين أكبر الأزمات في العالم خلال الأعوام المئة الماضية.، وإعادة تجديد نفسه على حساب تحميل المجتمع والأجيال المُقبلة إرثاً مُثقلاً بديون وخسائر سوف يدفعون ثمنها فقراً وهجرة ومستقبلاً قاتماً.

أن يحصل انهيار بهذا الحجم نتيجة أزمات مُتعدّدة: نقديّة بحكم انهيار الليرة نتيجة شحّ الدولارات، واقتصاديّة بسبب تدهور النمو، وماليّة مُتمثّلة بتراجع إيرادات الحكومة وتنامي عجزها، وأن يصمد المُمسكون بالقرار السياسي من دون تحمّل أي خسارة أو دفع أي ثمن عمّا تسبّبوا به فهو أمر خيالي، بل أكثر سورياليّة من إمكانيّة نشوء ثورة في مجتمع تتفوّق فيه البنى الطائفيّة بعصبيّاتها على التفاوتات الكامنة ضمن البنى الطبقيّة، وأكثر سورياليّة حتّى من قبول جيل الحرب بزعماء الميليشيّات الطائفيّة حكّاماً له بعد انقضاء حربهم.

مراحل الانهيار

من انتفاضة استثنائيّة أعطت أملاً بتغيير ما، إلى مصير مشؤوم يُبدِّد المجتمع الحالي بالفقر والهجرة، ومستقبل قاتم لأجيال مُقبلة لم تولد بعد، إذ يتوقّع البنك الدولي أن يلزَم لبنان بين 12 إلى 19 عاماً ليتعافى، ويعود إلى الحال التي كان عليها في العام 2017، وهي حال مذرية بكلّ الأحوال.
فكيف وصلنا إلى هنا؟ ولماذا؟
مرّ الانهيار منذ تكشّفه في تشرين الأول 2019 بثلاث مراحل أساسيّة انتهت بانتصار نادي “القلّة السعيدة”، التي نجحت في التنصّل من دفع ثمن الانهيار الناتج أساساً عن خيارات وسياسات2قام هذا النظام منذ نهاية الحرب على ائتلاف بين أصحاب المصارف وكبار مودعيها الذي ركّزوا استثماراتهم في الدَّيْن العام، وبين زعماء الميليشيّات الطائفيّة التي استفادوا من عجوزات دائمة في المالية العامّة تُغطّى بمراكمة كتلة الدَّيْن العام لتثبيت شرعيّتهم تجاه مناصريهم. تعطّل هذا النظام للمرّة الأولى في العام 1997، لكن بدلاً من التخلّي عنه والتنافس على مشاريع سياسيّة اقتصاديّة واجتماعيّة لاستقطاب التأييد الشعبي وتعزيز الشرعيّة، استمرّ العمل بالنظام نفسه وتجذّر من خلال مراكمة عنصرين: الودائع والمهاجرين. بمعنى آخر، ساهمت الزيادة المُستمرة في مخزون المهاجرين في تأمين تدفّقات مالية مُستقرّة استُخدمت في الحفاظ على سياسة تثبيت سعر الصرف، لتأمين الاستقرار المطلوب لاستمرار تدفّق ودائع جديدة واستخدامها في دفع الفوائد المُستحقّة، وبالتالي استمرار عمل عجلات النظام. انتهجتها طوال 30 عاماً وراكمت بفضلها ثروات طائلة. وها هم أعضاء النادي، بعضهم، وتحديداً الزعامات الطائفيّة، يستعدّون لخوض انتخابات نيابيّة لإعادة تنظيم قواعدهم وتفتيت ما تبقّى من معارضة واجهتهم في الشارع، وبعضهم الآخر، أي أصحاب المال الذين راكموا ثروات طائلة من الديون والمضاربات العقاريّة والاحتكارات التجاريّة، يضعون نصب عيونهم ما تبقى من موارد، سواء من عملات أجنبيّة أو ذهب أو أملاك عامّة، لتكون ثمرة مفاوضاتهم مع الحكومة عند إعادة هيكلة الديون المُتعثّرة باعتبارهم أبرز حامليها، ومع صندوق النقد لضمان أن أي شروط قد تُفرض لقاء الحصول على تمويل لن تكون على حساب مصالحهم.

١- الانتفاضة:

يسأل كثيرون ما الذي كان يمكن فعله خلال الانتفاضة لتجنّب ما وصلنا إليه؟ يكمن الأساس بإعادة المعنى إلى العمل السياسي والنضالي بعيداً من أوهام الحلول التقنيّة. المجتمع ليس أرقاماً بل أفراد من طبقات مُختلفة، والاقتصاد ليس معادلات حسابيّة بل مصالح طبقيّة متفاوتة ومتضاربة، أي سياسيّة بامتياز.

فاجأت مظاهرات 17 تشرين اﻷوّل 2019 الجميع، فهي اندلعت بعد تسريبات عن نيّة فرض ضريبة على المكالمات عبر الواتساب، لكنّها أتت فعلياً نتيجة تراكمات من السياسات التقشّفيّة التي بدأت تشتدّ منذ أزمة النفايات في العام 2015، وما لحقها من هندسات ماليّة مستمرّة لاستقطاب عملات أجنبيّة، ومن ثمّ وقف القروض السكنيّة المدعومة للحدّ من نزف الدولارات، واللجوء إلى سيدر، ولاحقاً بدء خروج الليرة عن هوامش تثبيتها، واتخاذ إجراءات يائسة لجذب عملات أجنبيّة جديدة عبر رفع سعر الفائدة وإجراءات للحدّ من نزيفها عبر حيل مختلفة مثل إقناع المودعين بعدم سحب ودائعهم عند استحقاقها وإغرائهم بفوائد عالية أو تجديد تجميد الودائع من دون موافقة أصحابها وغيرها…
مع اندلاع المظاهرات في غالبيّة المناطق اللبنانيّة، دخل الجميع، سياسيّون ومتظاهرون، في حالة ضياع، عجزوا نتيجتها عن تقييم طبيعة الأحداث وخلفيّاتها الفعليّة وكيفيّة التصدّي لها. باستثناء المصارف التي كانت مُدركة لطبيعة الأزمة، فأغلقت أبوابها في اليوم التالي وتوقّفت عن الدفع.

على جبهة السياسيين، كان التخبّط واضحاً وكذلك غياب أي نيّة لاتخاذ تدابير تتلافى الغضب الشعبي وانتهاج سياسات تخدم مصالح المجتمع، إذ بعد أيام من بدء الانتفاضة أعاد رئيس الحكومة في حينها سعد الحريري تقديم الإجراءات نفسها التي سبق أن طرحها بورقته “الإصلاحيّة وأدّت إلى اندلاع الانتفاضة. لكن مع اشتداد الاحتجاج الشعبي استقال من منصبه برغم “لبن العصفور” الذي قُدِّم له لثنيه عن قراره.

على جبهة المتظاهرين، وبرغم محاولات التنظيم التي خيضت ومساعي التعبئة والتجييش للحفاظ على نبض الانتفاضة، تبيّن أن التنظيم السياسي المُعارض ضعيف، وحتى الأحزاب معدودة، والمشاريع البديلة شبه نادرة. في الواقع، برزت حالة ضياع تجسّدت في الاختلاف على تشخيص أسباب الانهيار، وتحديد ما الذي انهار فعلاً: أهي السلطة بما تمثّله من مصالح وعلاقات تربط المحكومين بحكّامهم؟ أم النظام وآليّات عمله نتيجة شحّ الموارد الأساسيّة لاستمراره؟ وهو ما أنتج حُكماً اختلافاً في تحديد أطر المواجهة وآليّاتها ومسارها: هل هناك حاجة إلى نظام بديل وهذا ما عبّر عنه طرح الحكومة الانتقاليّة بصلاحيّات استثنائيّة وفرض الانتقال السلمي للسلطة إنّما من دون تحديد آليّات هذا الانتقال وكيفيّة فرضه وبأي موازين قوى؟ أم ترتيب النظام القائم وإدارته بشكل أفضل عبر الاستعانة بتقنيين واللجوء إلى انتخابات نيابية مُبكرة، في تنكّر تامّ، أو ربّما جهل، بعدم إمكانيّة فصل السياسة عن الاقتصاد، والتعامل مع حياة الناس وظروف معيشتهم ومصالحهم المُتضاربة وفق معادلات حسابيّة وحلول تقنيّة، لا سيّما أن الاقتصاد ليس تقنيّات إنّما تجسيد للمصالح المُتضاربة والمتفاوتة لفئات المجتمع، فضلاً عن عجز أي انتخابات في إحداث تغيير جذري خصوصاً أن من ينظّمها هم الممسكون بالحكم فيتحكّمون بمسارها ونتائجها.

٢- فاصل مع حسّان:

حكومة الوقت الضائع التي شكّلها حسّان دياب ليست مسؤولة عن الانهيار حكماً، ولكنّها بلا أدنى شكّ تتحمّل مسؤوليّة إضاع الوقت الذي أدّى إلى احتواء الغضب الشعبي، وإضاعة المال من دون هدف، والذي كان يمكن استخدامه في التأسيس لاقتصاد سياسي بديل.

منذ تشكيل حكومة حسّان دياب وإلى حين تسليم الراية إلى حكومة نجيب ميقاتي الجديدة، تراجعت احتياطيّات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة نحو 14 مليار دولار (بين كانون الثاني 2020 وتموز 2021)، وهو رقم يتجاوز ما سعت هذه الحكومة للحصول عليه من صندوق النقد الدولي بموجب خطّتها الإنقاذيّة (10 مليارات دولار)، وأكبر من المبلغ التي وُعِدَت الحكومة التي سبقتها بالحصول عليه في مؤتمر سيدر (11 مليار دولار). تُعتبر هذه الأموال كافية، وأكثر، لإقرار الطبابة المجّانيّة لجميع المقيمين، وتطوير التعليم الرسمي وتوفيره مجّاناً للجميع، وإقامة نظام نقل عام مُشترك، والاستثمار بطاقات بديلة، واختيار دعم قطاعات إنتاجيّة قادرة على إدخال عملات أجنبيّة. وكلّها إجراءات يتبيّن الآن مدى الحاجة إليها لحماية المجتمع مع اشتداد الانهيار.

طبعاً لم يحصل كلّ ذلك، بل على العكس تراجعت أحوال المجتمع وازدادت سوءاً. لا تنحصر التبعات بارتفاع أسعار السلع الأساسيّة وغير الأساسيّة وبالتالي كلفة المعيشة فحسب، بل في ارتفاع نسبة الفقر وتركّز الثروات وحدّة اللامساواة، بحيث بات 82% من المقيمين يعيشون في فقر مُتعدّد الأبعاد3الفقر المُتعدّد الأبعاد هو مؤشّر يدرس حرمان الأفراد، ليس من النقود أو ما يُعرف بالفقر النقدي، بل من الرعاية الصحيّة وإمكانيّة الحصول على الأدوية، والتعليم بما يؤدّي إلى خروجهم المُبكر من المدرسة، والمسكن، وخدمات الكهرباء والصرف الصحّي والمياه الصالحة للشرب، فضلاً عن وقود الطهي. تصنّف الأسرة بأنّها تعاني من الفقر المُتعدّد الأبعاد في حال كانت تعاني من وجه واحد أو أكثر من الحرمان، حتى وإن كانت تملك ثمن هذه الخدمات والسلع. بمعنى آخر، الأسرة المحرومة من التيار الكهربائي تصنّف فقيرة حسب مفهوم الفقر المُتعدد الأبعاد برغم إمكانياتها الماديّة التي تخوّلها الإشتراك في مولّد خاص للكهرباء في حال كان مُتاحاً، أو الأسرة العاجزة عن الحصول على الأدوية برغم قدرتها الماديّة على شرائها إن توافرت. بحسب الإسكوا وصلت نسبة الفقر المُتعدد الأبعاد وأوجه الحرمان في لبنان إلى 82%، ويعود ذلك إلى شحّ الدولارات الذي أدّى تعطّل آليات عمل النظام الاقتصادي الذي قام على استيراد غالبيّة حاجات المجتمع في مقابل ضرب القطاعات الإنتاجيّة المحلّية. وهو ما سوف يؤدّي إلى تراجع المستوى المعيشي لغالبية المقيمين في البلاد بمعزل عن امتلاكهم أو عدم امتلاكهم للنقود. وفي ظلّ غياب أي إجراء لتأمين الطبابة المجّانية للجميع، والتعليم المجّاني، والخدمات الأساسيّة من نقل وكهرباء ومياه وصرف صحّي واتصالات نظراً لعدم إمكانيّة استيراد هذه السلع التي تدخل في عمليّة تأمين هذه الخدمات بسبب إفلاس القطاع المالي (المصرف المركزي ومصرف لبنان) في مقابل غياب البدائل المحلّية والسياسات البديلة، سوف يكون المقيمون أمام خيارين: الهجرة بحثاً عن مستوى معيشي أفضل، أو تبديد مدّخراتهم ومن ثمّ تراجع مستواهم المعيشي والانحدار نحو مستويات أفقر. بحسب الإسكوا، بحيث 33% من الأسر محرومة من الطبابة والرعاية الصحيّة، وأكثر من نصفها عاجز عن الحصول على الدواء. وتتمثّل أيضاً بتراجع الاقتصاد، فوفقاً للبنك الدولي قلّصت ثلثي الشركات اللبنانيّة نحو نصف عدد موظّفيها الثابتين منذ خريف 2019. وهو ما سوف ينعكس على تراجع النمو بنحو 9.5% في العام 2021 وفق تقديرات البنك الدولي، بعد أن سجّل الناتج المحلّي تراجعاً بنسبة 64% في العام 2020 وفقاً لصندوق النقد، في تعبير صارخ عن تدهور الاقتصاد وكذلك الثروة الفردية إذ انخفضت حصّة الفرد من الناتج إلى 2700 دولار أميركي، وعادت إلى المستوى الذي كانت عليه في العام 1994.

هذه الأرقام مُرشّحة بالارتفاع مع تحرير الأسعار بالكامل، وهو ما يعني المزيد من البطالة والفقر والهجرة، وتدهور المزيد من القطاعات الحيوية، وأبرزها القطاع الصحّي الذي هاجر 40% من أطبّائه و30% من طاقمه التمريضي منذ بداية الانهيار وفقاً لمنظّمة الصحّة العالميّة، والقطاع التعليمي العالي مع هجرة الطلاب من الجامعات الخاصّة إلى الجامعة اللبنانيّة التي تغفل الحكومة عن مشاكلها والحاجة إليها، فضلاً عن قطاعات النقل والطاقة والمياه. في المقابل، أتاحت حكومة الوقت الضائع للمُمسكين الفعليين بالقرار بترتيب أوضاعهم، وتمثّل ذلك بـ:

نسف خطّة لازار

وضعت خطّة لازار (أو خطّة الحكومة للتعامل مع الخسائر الماليّة) بالتعاون مع صندوق النقد تمهيداً للاتفاق على برنامج قروض معه، وكانت تنصّ على تحميل أصحاب المصارف وكبار مودعيها الخسائر وفق ما تنصّ عليه القوانين والمنطق الرأسمالي نفسه. طبعاً لم يكن الخلاف بين أصحاب المال (ممثّلين بأصحاب المصارف وكبار المودعين وحاملي الديون السيادية) وصندوق النقد الدولي دفاعاً عن مصالح المودعين كما ادّعت الفئة الأولى، ولا دفاعاً عن عموم الشعب كما روّجت الثانية، بل صراع على من يمسك بما تبقّى من موارد. في الواقع، إن إعلان إفلاس المصارف وتحميلها الخسائر يعني تصفيتها وإخراج مالكيها من القطاع المصرفي لصالح آخرين لإعطاء الأولوية لحاملي الديون الجديدة، صندوق النقد بشكل رئيسي، للاستحواذ على ما تبقّى من موارد، سواء عملات أجنبية أو أملاك عامّة، في حال تخلّفت الحكومة عن سداد دينها. أمّا عدم إعلان إفلاس المصارف وعدم تحميلها أي خسائر، فيعني عدم تصفيتها ولا إخراج أصحابها من القطاع بل حمايتهم وحجز الموارد العامّة المُتاحة لحاملي الدَّين، أي أصحاب المصارف وكبار مودعيها بشكل رئيسي، عند انطلاق المفاوضات على إعادة هيكلة الدَّيْن. وهما خياران كلاهما مرّ.

فكفكة أثقال النظام السابق

طبعاً لم يكن عدم تحميل الخسائر لأصحاب المال كافياً، بل كان لا بدّ من تحميلها لأحد ما، خصوصاً أنّ إحياء النظام مُجدّداً يتطلّب تنظيف حساباته والتخلّص من الدولارات اللبنانيّة التي بدأت المصارف اللبنانيّة بمراكمتها منذ العام 1997. من هنا، أصدر مصرف لبنان سلسلة تعاميم لشطب الخسائر عبر تحميلها للناس، من خلال آليّة تعدّد أسعار الصرف. بالنتيجة انخفضت المطلوبات بالعملات الأجنبيّة على المصارف بقيمة 18 مليار دولار (من 128 إلى 110 مليارات دولار بين أيلول 2019 وآب 2021). طبعاً ليست كلّها ودائع مُحرّرة على سعر 3900 ليرة للدولار، فهناك ديون شُطبت وأبرزها قروض للمطوّرين العقاريين، وأموال أخرى هُرّبت نظراً لعدم إقرار قانون الكابيتل كونترول، وهذا ما يفسِّر بالأساس عدم إقراره.

٣- ونواصل مع نجيب:

النظام هو عقد مُبرم بين الفاعلين السياسيين، يُحدّد حصّة كلٍّ منهم من الموارد المُتاحة تبعاً لموازين القوى القائمة بينهم، والتي تتجسّد في الدساتير والأعراف والقوانين المكتوبة وغير المكتوبة، فيما تضمن مؤسّسات الدولة الرسميّة، بوصفها أداة لإدارة النظام، احترام هذه القوانين والحرص على حسن تنفيذها. تغيير الأنظمة يتطلّب تغيير موازين القوى، وهو يبدأ مع مشاريع بديلة وتنظيمات تتبنّاها… ونضال.

ما كان من المُمكن تشكيل حكومة نجيب ميقاتي لو لم يكن هناك اتفاق مُنجز بين أعضاء نادي القلّة السعيدة يُحدّد حصّة كلّ فاعل من الموارد المُتاحة أو حصّة “عادلة” من الخسائر وبدائل تعويضها. لا شكّ أن ما شُطِب من خسائر لتنظيف الحسابات المصرفيّة قليل جدّاً، لكن العملية مُستمرّة. بعد بدعة صرف الودائع بالدولار على سعر 3900 ليرة للتخلّص من صغار المودعين، اتُخِذ قرار تحرير أسعار المحروقات بهدف شطب المزيد من الخسائر المُترتبة على المصارف. بمعنى آخر، ووفقاً لمنطق المُحكمين بالقرار، بدلاً من تبديد الدولارات لاستيراد المشتقّات النفطيّة التي تستنزف نحو 5 إلى 6 مليارات دولار سنوياً، قرّرت السلطة وقف دعم المحروقات لتخفيف استهلاكه من دون تأمين بدائل، سواء للتنقّل عبر نظام نقل مُشترك، أو لتوليد الطاقة وتشغيل الاقتصاد عبر مشاريع للطاقة المُتجدّدة أو مصادر طاقة أرخص، وذلك لاستخدام هذه الأموال بغية تحرير جزء آخر من الودائع بالعملات الأجنبيّة تابعة لشرائح أعلى من المودعين وفق المعادلة التالية: صرف مبلغ شهري لمدّة خمس سنوات بقيمة 400 دولار نقدي (نصفها مؤمّن من المصرف المركزي ونصفها عبر المصارف)، و400 دولار بالعملة المحلّية على سعر 12 ألف ليرة.

أيضاً، ووفقاً للبيان الوزاري، هناك عمل على محورين؛ المحور الأوّل يعزّز شرعيّة الزعامات الطائفيّة عبر إجراء الإنتخابات التي تعيد تنظيم قواعدها وتفتيت ما تبقى من معارضة، على أنّ يسبقها تصحيح الأجور في القطاعين العام والخاص، وهو إجراء ضروري، لكنّه يأتي كرشوة انتخابيّة ومُنفصلاً عن أي سياق تصحيحي أو رؤية اقتصاديّة للنهوض، وخطّة عمليّة تعطي قيمة للنقد.

والمحور الثاني يقوم على الاستمرار بحماية مصالح أصحاب المال عبر استئناف التفاوض مع صندوق النقد الدولي للتوصّل إلى اتفاق على برنامج قروض قصيرة ومتوسّطة الأجل تسمح بإدخال عملات أجنبيّة إلى البلاد لكن من دون تحديد طرق توظيفها. علماً أن دخولها من دون إقرار قانون كابيتل كونترول يُهدّد بخروجها مُجدّداً مقابل تحرير ودائع عالقة لصالح كبار المودعين، وكذلك يعني اتخاذ المزيد من الإجراءات التقشّفيّة. فضلاً عن التفاوض مع حملة السندات والديون، على أن يسبقه تجهيز الأرضيّة المؤسّسية للخصخصة تحت عناوين الشراكة ومشاريع سيدر لإيفاء ديونهم وبالتالي تبديد المجتمع بدلاً من شطبها حماية للمجتمع، وهو ما يمهّد لوضع اليد على العقارات العامّة بداية، ومن ثمّ القطاعات الحيوية وأبرزها المرفأ وقطاع الاتصالات، وهي موارد سوف تُفقِد الخزينة إيرادات إضافيّة يمكن استخدامها في تأمين حقوق المقيمين والخدمات الأساسيّة لهم.

بعد عامين على اندلاع الانتفاضة احتجاجاً على الانهيارين الاقتصادي والنقدي وتصدّياً لهما، ونتيجة الوقت الضائع الذي استنزف جزءاً يسيراً ممّا تبقى من موارد ماليّة، وما زال يوغل باستنزاف الموارد البشريّة عبر موجة الهجرة الجارفة، تدخل البلاد العام الثالث من الانهيار بانهيار المجتمع، أي الأصل والهدف من أي سياسة، وذلك بدلاً من إنقاذه كما سعت الانتفاضة في بدايتها. يبقى أن لا تعتبر القلّة السعيدة أن انهيار غالبية المجتمع، بدلاً من تبدّده بالكامل، إنجازاً جديداً تضيفه إلى قائمة “إنجازاتها” الحافلة وتمنِّن المجتمع به، الذي لا يملك في مواجهة ائتلاف أصحاب المال وزعماء الميليشيات الطائفيّة سوى الالتفاف حول مشاريع بديلة تقدّمية تطرحها تنظيمات تقدّمية جديدة، ونضال.

المراجع

  • 1
    صنّف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية في المرتبة الثالثة بين أكبر الأزمات في العالم خلال الأعوام المئة الماضية.
  • 2
    قام هذا النظام منذ نهاية الحرب على ائتلاف بين أصحاب المصارف وكبار مودعيها الذي ركّزوا استثماراتهم في الدَّيْن العام، وبين زعماء الميليشيّات الطائفيّة التي استفادوا من عجوزات دائمة في المالية العامّة تُغطّى بمراكمة كتلة الدَّيْن العام لتثبيت شرعيّتهم تجاه مناصريهم. تعطّل هذا النظام للمرّة الأولى في العام 1997، لكن بدلاً من التخلّي عنه والتنافس على مشاريع سياسيّة اقتصاديّة واجتماعيّة لاستقطاب التأييد الشعبي وتعزيز الشرعيّة، استمرّ العمل بالنظام نفسه وتجذّر من خلال مراكمة عنصرين: الودائع والمهاجرين. بمعنى آخر، ساهمت الزيادة المُستمرة في مخزون المهاجرين في تأمين تدفّقات مالية مُستقرّة استُخدمت في الحفاظ على سياسة تثبيت سعر الصرف، لتأمين الاستقرار المطلوب لاستمرار تدفّق ودائع جديدة واستخدامها في دفع الفوائد المُستحقّة، وبالتالي استمرار عمل عجلات النظام.
  • 3
    الفقر المُتعدّد الأبعاد هو مؤشّر يدرس حرمان الأفراد، ليس من النقود أو ما يُعرف بالفقر النقدي، بل من الرعاية الصحيّة وإمكانيّة الحصول على الأدوية، والتعليم بما يؤدّي إلى خروجهم المُبكر من المدرسة، والمسكن، وخدمات الكهرباء والصرف الصحّي والمياه الصالحة للشرب، فضلاً عن وقود الطهي. تصنّف الأسرة بأنّها تعاني من الفقر المُتعدّد الأبعاد في حال كانت تعاني من وجه واحد أو أكثر من الحرمان، حتى وإن كانت تملك ثمن هذه الخدمات والسلع. بمعنى آخر، الأسرة المحرومة من التيار الكهربائي تصنّف فقيرة حسب مفهوم الفقر المُتعدد الأبعاد برغم إمكانياتها الماديّة التي تخوّلها الإشتراك في مولّد خاص للكهرباء في حال كان مُتاحاً، أو الأسرة العاجزة عن الحصول على الأدوية برغم قدرتها الماديّة على شرائها إن توافرت. بحسب الإسكوا وصلت نسبة الفقر المُتعدد الأبعاد وأوجه الحرمان في لبنان إلى 82%، ويعود ذلك إلى شحّ الدولارات الذي أدّى تعطّل آليات عمل النظام الاقتصادي الذي قام على استيراد غالبيّة حاجات المجتمع في مقابل ضرب القطاعات الإنتاجيّة المحلّية. وهو ما سوف يؤدّي إلى تراجع المستوى المعيشي لغالبية المقيمين في البلاد بمعزل عن امتلاكهم أو عدم امتلاكهم للنقود. وفي ظلّ غياب أي إجراء لتأمين الطبابة المجّانية للجميع، والتعليم المجّاني، والخدمات الأساسيّة من نقل وكهرباء ومياه وصرف صحّي واتصالات نظراً لعدم إمكانيّة استيراد هذه السلع التي تدخل في عمليّة تأمين هذه الخدمات بسبب إفلاس القطاع المالي (المصرف المركزي ومصرف لبنان) في مقابل غياب البدائل المحلّية والسياسات البديلة، سوف يكون المقيمون أمام خيارين: الهجرة بحثاً عن مستوى معيشي أفضل، أو تبديد مدّخراتهم ومن ثمّ تراجع مستواهم المعيشي والانحدار نحو مستويات أفقر.
ممارسات مكانية وحراك اجتماعي لبنان