كعادته، يغطّي مجلس الوزراء اللبناني على المخالفات القانونية. ففي قراره الأخير رقم 36 الصادر بتاريخ 28 أيار 2024، منح المجلس شركات صناعة الإسمنت تمديداً “استثنائياً” لمدة عام واحد لمواصلة استخراج المواد الأولية من مقالعها. هذا القرار، الذي جاء بناءً على اقتراح وزيرَي الصناعة والبيئة، يزعم معالجة حاجة السوق المحلي للإسمنت، إلا أنه في الحقيقة يشرّع أبواب استنزاف الموارد الطبيعية، ويصبّ في مصلحة أصحاب شركات الإسمنت، وهم من أبرز الفاعلين السياسيين والاقتصاديين على الصعيد الوطني، نتيجة علاقاتهم القوية مع السلطات السياسية والدينية.
في الواقع، يعتمد إنتاج الإسمنت في لبنان على بنية احتكارية أو كارتيل (بكل ما للمصطلح من معنى) مؤلّف من ثلاث شركات. تاريخياً، تم إنشاء أولى هذه الشركات، «شركة الترابة اللبنانية» (هولسيم)، عام 1931 واحتلّ معملها جزءاً من ساحل شكا – الهري (شمال لبنان). وبعد حوالي العقدين، تم إنشاء معمل آخر لصناعة الإسمنت على ساحل المنطقة ذاتها، تابع لـ«شركة الترابة الوطنية» (السبع). توسّعت أعمال شركتي الإسمنت بشكل كبير. تمّ ذلك من خلال ممارسات سمحت بها الدولة اللبنانية1مثل منح ترخيص نقل الترابة عام 1956، وإشغال أملاك عامة بحرية، وتأسيس مكتب جمركي ومرافئ مستقلة للتصدير (1967)، واستثمار نهر الجوز ونبع الجرادي. التي غضّت النظر عن ممارسات أخرى، كاستخراج المواد الأولية من بلدات قضاء الكورة المجاورة دون تراخيص. إذ ترافق افتتاح معملَي صناعة الإسمنت في شكا والهري مع إنشاء مقلعين غير مرخّصين لاستخراج الحجر الجيري، في كلٍّ من بلدات كفرحزير وبدبهون، وهما مقلعان يرتبطان عملياً وتشغيلياً بالمعامل عبر أحزمة ناقلة. مع الوقت، ظلّ مقلعا كفرحزير وبدبهون يتمدّدان تدريجياً ودون قيود.
هذا القرار الحكومي الصادر مؤخّراً ما هو إلا حلقة جديدة في مسلسل تمديد وتجديد المهل الإدارية الذي يتكرّر منذ أكثر من 30 سنة. فمنذ عام 1994، اعتادت الدولة على منح استثناءات من القوانين المرعية الإجراء على شكل مهل إدارية لشركات الإسمنت التي تُشغّل مقالع غير مرخّصة، بحجة انتظار إعداد الخطط التنظيمية لقطاع الصناعات الاستخراجية وإقرار تعديلات على مرسوم تنظيم المقالع والكسارات (المرسوم 8803/2002)، ما لم يتحقّق قط. ويُعدّ منح مهلة لمقالع غير مرخّصة خرقاً واضحاً للقانون، كما أكّدت الاجتهادات القضائية. بل إنّ قرار مجلس الوزراء الأخير يمثّل تمرّداً صريحاً2مقال المفكّرة القانونية تحت عنوان “الحكومة تتمرّد على شورى الدولة: التخلّي عن البيئة وحقوق الخزينة من أجل شركات الترابة”، نُشر بتاريخ 30/5/2024. على قرارات عدّة أصدرها مجلس شورى الدولة في السنوات الأخيرة بإبطال قرارات حكومية بمنح مهل إدارية لاستثمار مقالع3قرارات مجلس الشورى 19/1/2022، 20/1/2022 و15/3/2022.
مع استخراجها 3 ملايين أمتار مكعّبة من البحص والرمل كحدّ أدنى سنوياً، تحوّل شركات الإسمنت اللبنانية 50 هكتاراً من الأراضي والجبال إلى مقالع سنوياً. ويجسّد مقلع بدبهون، المرتبط تشغيلياً بشركة السبع، حجم التدمير البيئي الناجم عن هذه الممارسات. فقد اجتاح المقلع أكثر من كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية والجبال الصخرية التي جُرفت حتى تحت مستوى البحر، ليُشكّل ربع مساحة البلدة. ما القرار إذاً إلّا تواطؤ جديد للحكومة مع الشركات المُخالفة لتُشرّع لها “استثنائياً” استنزاف الموارد الطبيعية والبيئة دون رقيب أو حسيب، ما استفزّ جمعيات بيئية من المنطقة المتضرّرة ومناطق لبنانية أخرى، فقدّمت طعناً بالقرار أمام مجلس شورى الدولة.
المراجع:
- 1مثل منح ترخيص نقل الترابة عام 1956، وإشغال أملاك عامة بحرية، وتأسيس مكتب جمركي ومرافئ مستقلة للتصدير (1967)، واستثمار نهر الجوز ونبع الجرادي.
- 2مقال المفكّرة القانونية تحت عنوان “الحكومة تتمرّد على شورى الدولة: التخلّي عن البيئة وحقوق الخزينة من أجل شركات الترابة”، نُشر بتاريخ 30/5/2024.
- 3قرارات مجلس الشورى 19/1/2022، 20/1/2022 و15/3/2022