ليس تعبير “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” بحداثة سن دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في إسرائيل. يُرجَع القول إلى القس الإنجليزي ألكسندر كيث، الذي قام بزيارة لفلسطين العثمانية عام 1839 وقام بتأليف كتاب1The Land of Israel: According to the Covenant With Abraham, With Isaac, and With Jacob. 1944.وفي 1875، قال اللورد شافتسبري أمام الاجتماع العام السنوي لصندوق استكشاف فلسطين: “لدينا هناك أرض تعج بالخصوبة وغنية بالتاريخ، ولكن تقريباً من دون سكان، وهناك شعب بلا وطن”. وفي يوليو 1853، كتب رئيس “جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود” كتاباً إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، اللورد أبردين، يُبين فيه أن “سوريا الكبرى” هي “دولة بلا أمة” وتحتاج إلى “أمة بلا دولة”. وكان للمبشر الإنكليزي الشهير ويليام يوجين بلاكستون دور في تأكيد هذه الجملة، فقد قام برحلة للأراضي المقدسة في 1881، وأصبح متحمساً لفكرة الإستيطان. إلّا أن رسوخ التعبير واستخدامه كحقيقة مطلقة مرسِّخة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، أتى نتيجة كتاب ثيودور هرتسل، “دولة اليهود”، عام 1896 عام 1844 يصف فيه اليهود بأنهم “تائهون في العالم” و”شعب بلا دولة”، ويرى بأن لديهم “دولة بلا شعب”.
وظهرت الصهيونية في سياق أوروبي تميّز بنزعة قومية متعاظمة سادت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، نتيجةً لقيام الدول الوطنية في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما رافقها من حروب دموية2فكان الانتماء القومي الركن الركين للتعبئة من أجلها، وقيام كيانات وطنية قومية الهدف السياسي الأساسي له. ومن خلال هذه الأدوات، تمّ بسط أفكارٍ عملية فعالة، سيكون لها إسهامها الكبير في إنجاح المشروع لاحقاً. وتمحورت هذه الأفكار حول تهجير اليهود إلى فلسطين، والتعبئة من أجل القضية الصهيونية عبر العالم..
جرى تدعيم التعبير في حدثين مركزيين قبيل الهجمات العسكرية المباشرة في النكبة، الحدث الأول منهما هو مؤتمر بازل 1897 حيث اكتسبت الحركة الصهيونية اهتماماً سياسياً وإعلامياً هاماً في أوروبا والعالم. وقد أدّى هذا المؤتمر إلى تعزيز جهود التسريع في المشروع الاستيطاني الصهيوني، وقام كل من ثيودور هرتزل وحاييم وايزمان بجهود كبيرة في هذا السياق. وقد أسفرت مساعيهما عن الاعتراف الملكي، حيث جسّدت هذه الخطوة الاعتراف البريطاني بأن اليهود هم أمة لها الحق في السيادة على أرضها الخاصة وحيزّ ترابي خاص بها. ومن هنا نشأ “وعد بلفور” الذي صدر في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، والذي فتح الباب أمام تأسيس دولة إسرائيل بعد ذلك بثلاثة عقود. هذا التعبير، ورغم النتائج التي تبدو جلية، يحمل في طياته عبئاً إنسانياً وتأثيراً عميقاً على حياة الفلسطينيات\ين وأهالي جنوب لبنان وسوريا، والشعوب المعنية بهذه القضية.
بوجود القوى الاستعمارية، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا، تم تشجيع فكرة إقامة وطن لليهود في فلسطين. وقامت بريطانيا بتقديم الدعم والتدريب للعصابات الصهيونية دون معرفتها بأن المشروع الصهيوني كان ممولاً من الولايات المتحدة وغير تابع للقوى الاستعمارية الأوروبية.(عبد الحافظ، ن. أ. ،2020) أدّى هذا إلى تنظيم العصابات الصهيونية3على سبيل المثال، في عام 1947، كانت عصابات الهاغانا تضم أربعين ألف عنصر في قوات الجيش والأمن التابعة لسلطات الاستعمار. استعداداً لمرحلة ما بعد الوجود البريطاني.
وهكذا، وُلِدَت فكرة إسرائيل كمشروع استعماري لإنشاء دولة يهودية خاصة في فلسطين، حيث تم تنفيذ التعبير السياسي “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” بشكل مكاني. ففي عام 1948، بدأت عملية تسعى لإفراغ دولة فلسطين من شعبها الأصلي، سواء بالقتل أو التهجير أمام قوة السلاح والترهيب، وتم استبدال دولة فلسطين بدولة إسرائيل.
الأبارتهايد السياسي الاستعماري الصهيوني امتداد للأيديولوجيا الكولونيالية الأوروبية
تهدف الحركة الصهيونية، مستخدمةّ الاستعمار الاستيطاني، إلى التعويض عن الإبادة الجماعية في أوروبا من خلال إنشاء دولة إثنية لليهود، خارج الدول الأوروبية.. وهو ما يجعل إسرائيل تمثل نوعاً من “مهمة الرجل الأبيض” الكولونيالية “التحضيرية”، لا عبر “تحضير” الفلسطينيين، ولكن عبر استبدالهم من خلال “ترانسفير” قادر على خلق بديل إثني، تاريخي وثقافي لهم، ممّا يجعلها مشروعاً استيطانياً يقتضي نوعاً من التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، لتنفيذاً لمقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
وفيما يتعدّى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الكولونيالية الاستغلالية الأوروبية ويضيف على ممارسات “الأبارتهايد” في أراضي فلسطين وفي حق شعبها، فهو يتجسّد أيضاً في الخطاب السياسي والأيديولوجي، بشكل مشابهٍ لكولومبوس الذي وصف الشعوب الأصلانية بالبربرية والهمجية (كولمبوس، 1493)، وغيّبهم عن ثقافتهم وبشريتهم بهدف شرعنة استعمار الأرض. فالأرض التي تسكنها جماعات متخلّفة وغير بشرية، تسقط عنها الشرعية: الحق في هذه الأرض يصبح حق المستعمِر، في الوقت الذي يزيل فيه عن أهلها إنسانيتهم وتاريخهم سامحاً بإبادتهم. فعند مقارنة خطاب الاستعمار الأوروبي لحضارات الآزتيك والمايا ( كييز،2021) وغيرها، بخطاب الاستعمار الصهيوني لفلسطين، نجد أن كلاهما يتفق على فكرة تجاهل وجود الطرف الآخر وثقافته تماماً، خطوة أولى نحو الاستعمار. حيث استخدم الأول مصطلح “اكتشاف” الأرض والجغرافيا، بينما استخدم الثاني عبارة “أرض بلا شعب”. وتعبّر تلك العبارة والمصطلح تعبران عن عدم وجود الطرف الآخر بالمعنى المجازي، ممّا يوجّه المتلقّي نحو فكرة الاستعمار لتلك الأرض “الخاوية”.
ويتجلّى تشريع الاستعمار الاستيطاني في كتاب هرتزل من خلال الخطاب السياسي الأيديولوجي، الذي يرتكز على العنصرية حتى في تسميته للدولة الموعودة “دولة اليهود”، أي الدولة التي لا يكون فيها أيّ بشري غير اليهودي،. وتعبيره عن فلسطين باعتبارها “أرضاً بلا شعب”، رغم وجود حياة نابضة ومجتمع مزدهر، وتاريخ وثقافة غنية للسكان المحليين. و لديها شعبها المثقف والمزارع والفلاح والتاجر، كما لديها موروثها الثقافي والتاريخي.
وبعد تسميته فلسطين “أرضاً بلا شعب”، فهو يصف اليهود المشتتين في أنحاء العالم بأنهم “شعب”، مكمّلاً الصورة الصهيونية لـ”ب لشعب بلا أرض”.
ويمكننا أن نعرّف المفهوم المتداول ل“أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، على ثلاثة مستويات مختلفة:
1- فبركة وثائق العصور القديمة وتسخير المستندات التاريخية لمحو أثر الفلسطينيات\ين:
هيمنت فترات العصر البرونزي المتأخر وصولاً إلى الفترة الكنعانية المتوسطة الثانية والمتأخّرة (2000 ق.م ــ 1200 ق.م) على المستندات التاريخية والتوثيقية في أرض فلسطين وعُرفت كأول فترات عَرضت وثائق مرئية ومحفوظة. وقد نبعت هيمنة هذه الفترة من كونها الفترة التي قدمت فيها القبائل العبرية القديمة إلى أرض فلسطين وشكّلت قبائل ومجتمعات حضَرية، في محاولة لتأكيد شرعية وجود الإسرائيليين على هذه الأرض تاريخياً. ولمحو آثار الأصلانيين منها، تم تركيز تمويلات ومبالغ مالية كثيفة على حملات التنقيب والآثار التي، و بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري وبالرغم من تعامي منقبي الآثار والمؤرخين عن حقيقة الأصلانيين، لم يعثر على أثر واحد فيها يربط بين الرواية التوراتية للعهد القديم والحكومة الاستيطانية الإحلالية الصهيونية. بل على العكس، فقد تم دحض هذا التزوير بالحقائق إبان هذه التنقيبات، ووجدت آثار تثبت أن اليبوسيين العرب هم أول من سكن فلسطين، أي قبل وجود يعقوب (إسرائيل) بعدة قرون، بل قبل وجود الخليل إبراهيم نفسه.
2-التضليل في أعداد السكان الأصلانيين في فلسطين والتغفيل عن التاريخ:
شهدت حقبة قبيل النكبة وتأسيس دولة الاستعمار الاستيطاني، تلاعباً بالأرقام في محاولة لتشويه حقائق التاريخ والواقع الديموغرافي في فلسطين. فزعمت الحركة الصهيونية أن فلسطين كانت شبه خالية من السكان الأصليين، وهي مزاعم تُضحَد مباشرةً إذا ما نظرنا إلى البيانات والوثائق، الرسمية منها والشعبية. ففي عام 1948، بلغ عدد الفلسطينيين مليوناً و415 ألف نسمة على أرض فلسطين(بيان الجزيرة، 2020) التي لم تكن قريبة من الخلاء حتى. وبالتالي، ومع خلق سردية تقول بأن فلسطين كانت خالية، استطاعت الحركة الصهيونية إخفاء حقيقة التهجير القسري باستخدام القوة العسكرية، وأخفَت المجازر التي بلغت أكثر من 70 مجزرة، وتدمير أكثر من 531 قرية، وشرعت تمحو هويتها وتهوّد أسمائها، ممّا أدى إلى خلق واقع جديد للأرض، لم يكن في صالح أصحابها الأصليين.
3- إنقاذ الأرض من البرابرة وجلب الحضارة:
إن ادّعاء تخلّف سكان فلسطين عن ركب الحضارة وعدم استغلالهم للأرض بشكل كافٍ، وتصوير المهاجرين الصهيونيين بأنهم أكثر جدارة بالاستفادة من هذه الأرض بسبب عبقريتهم وتقدّمهم العلمي ولونهم وثقافتهم الأوروبية، هو تجاهلٌ للحقائق التاريخية والثقافية والاجتماعية لهذه الأرض، كما يُعَدّ مقاربةً استعمارية عنصرية لثقافة أهل الأرض وموروثهم المعرفي وعلاقتهم بالأرض، وفرضٌ للمعرفة الحداثية الغربية، التي بذاتها، خاصة في ما يتعلّق بسياسات الأرض وإدارتها.
قبل قيام الدولة الإسرائيلية المزعومة، كانت فلسطين تحت السيادة العثمانية، وكانت تتمتّع ببنى تحتية متقدمة، تشمل التنظيم الإداري وتنظيم الأراضي والمؤسسات الحكومية، بالإضافة إلى السكك الحديدية ومرافق البريد والمدارس والجامعات والنقابات وغيرها. كانت فلسطين دولة مؤسسات اقتصادية اجتماعية وثقافية، وهي تحتضن حضارة وتاريخ غنيين، حتى قدوم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإسرائيلي.
إيقاف السيرورة التاريخية للمكان والذاكرة
بهدف توفير الأرض الخالية للشعب اليهودي، هذا سعت السياسات الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية بشكل متواصل إلى إلغاء الذاكرة الفلسطينية ومحوها تارةً عبر ابادة المكان والجماعة، أو استملاكها تارةً أخرى عبر إلصاقها بالمستعمِر، ممّا انعكس على الواقع الاجتماعي الفلسطيني وتركيبته الثقافية. تم ترتيب سياسات التهجير والتشريد وتنفيذها بهدف تحقيق هدف الهيمنة الاستعمارية وتحقيق التغيير الديموغرافي في المنطقة.
من هنا لا يُعتبر غريباً سماع مقترحات إسرائيلية ;إقامة جزيرة صناعية لإيواء الفلسطينيين، وهدم جميع منازل السكان في غزة، كما جاء على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي، بهدف بناء مستوطنات جديدة على أراضي غزة، وفتح المجال أمام مستوطنات غلاف غزة للوصول إلى البحر.
كما يتجلّى محو الوجود المكاني الفلسطيني من خلال الكيبوتسات والمستوطنات كأدوات للتوسّع العمراني الصهيوني، وهو ما يتمّ تفسيره في الرواية الصهيونية على أنه جزء من استراتيجية إعادة تعريف التراب والحدود في إطار الأراضي المحتلة.
كما خلقت النكبة والنكسة وما بعدهما من اتفاقات، خريطةً جديدةً لأرض فلسطين المحتلة، في محوٍ مستمر لفلسطين التاريخية وتعريف لها كأرضِ عبرية أُزيل منها الشعب تماماً كما أُزيلَت الذاكرة، من خلال طمس الأسامي العربية للقرى والمناطق والمدن.
اليوم، وعلاوة على ذلك، يتزايد عدد المستوطنات والطرق المخصصة للمستوطنين، وعمليات الاستيلاء على الأراضي والبيوت. وبما أن الرهان ذائماً على امتلاك التراب، نعود إلى نشأة الديمغرافية الاستيطانية الصهيونية. فقبل عام 1880، كان هناك 25 ألف يهودي يعيشون في فلسطين، جيلًا بعد جيل. وفي الفترة من عام 1882 إلى 1903، شهدت فلسطين أول موجة من الهجرات اليهودية. وصلت هذه الموجة من الهجرات نتيجة لأعمال العنف والاعتداءات التي تعرّض لها اليهود في روسيا القيصرية، حيث وصل إلى فلسطين ما بين 20 إلى 30 ألف يهودي.
تلتها الموجة الثانية من الهجرات في فترة ما بين عامي 1904 و1914، حيث وصل ما بين 35 إلى 40 ألف يهودي روسي إلى فلسطين، وكان معظمهم من أتباع التوجهات الاشتراكية. خلال هذه الفترة، بدأت التجمعات الزراعية التعاونية اليهودية الأولى بالظهور، المعروفة باسم الكيبوتسات أو المستوطنات.
أقيمت الكيبوتسات على أساس الاكتفاء الذاتي، متمحورةً حول بناء مجتمعات زراعية مستقلة، حيث يتم التأكيد في جوهرها على الملكية الجماعية لأدوات الإنتاج، وتغيب فيها جميع أشكال الملكية الفردية، وتتميّز بتوزيع عائدات الإنتاج بالتساوي بين أفراد المجتمع الزراعي الصغير.
شهدت بداية عملية تنفيذ الاستيطان الصهيوني تحوّلاً في الدور الذي تلعبه الكيبوتسات، حيث تحوّلت من مجرد مساكن لإقامة اليهود المهاجرين أو ملاذ لهم، إلى مستوطنات استعمارية متشعّبة من التحصينات المدنية، تمتدّ عبر الأراضي الفلسطينية. وأصبحت هذه التحصينات تُستخدَم من قبل حكومة الاستعمار الصهيوني الإسرائيلي لتنظيم السلطة والسيطرة على الفلسطينيين، كما لتلبية الاحتياجات الأمنية من خلال مراقبة دقيقة للمناطق المحيطة بها، لتشكّل جزءاً من عملية احتلال المناطق الجبلية. ينتج عن هذا الواقع تقسيم الجغرافيا الوطنية بين المستوطن والمستعمَر من خلال استخدام استراتيجيات متعددة، نناقشها هنا.
استراتيجية تحديد الموقع الجغرافي للمستوطنات
بدايةً، يجب الإشارة إلى أن تأسيس المستوطنات في فلسطين كان له جوانب قانونية واقتصادية واجتماعية مترابطة. بدأت هذه العملية في بدايات القرن العشرين مع تأسيس الصندوق القومي اليهودي في عام 1901 في سويسرا، والذي كان هدفه الرئيسي تشجيع الاستيطان اليهودي في فلسطين خلال فترة الحكم العثماني.
لم تكن القوانين والتشريعات القائمة عائقاً دائماً أمام استمرار تدفّق الهجرة اليهودية وتأسيس المستوطنات عبر الوسائل غير القانونية. فقد اعتمدت هذه الجماعات المهاجرة على استراتيجيات متنوعة، بما في ذلك شراء الأراضي من الإقطاعيين، واستغلال تراخي الإدارة العثمانية، وتفشي الفساد في بعض أجزائها، وتقديم الرشاوى لتسهيل عمليات الشراء والتملك، مثلاً عندما تم شراء الأراضي الزراعية في الفولة والعفولة من عائلة سرسق الإقطاعية اللبنانية في عام 1912.(تقرير بي بي سي،2021)
تمكّن الصندوق من الحصول على تمويلات كبيرة لشراء الأراضي من كبار الإقطاعيين حول بحيرة طبريا والرملة واللد بين عامي 1905 و1907، ممّا أسهم في تأسيس تعاونيات زراعية يهودية على هذه الأراضي.(الجزيرة،2023)
واستمرّت عملية التوسّع في اقتناء الأراضي الزراعية، حيث تم شراء قطع أرض في قرية الشجرة بالقرب من بحيرة طبريا في عام 1907، وتأسيس جمعيات زراعية تعاونية عليها. كما أسّس رئيس مكتب المنظمة الصهيونية في فلسطين، آرثر روبين، تعاونية زراعية على ضفاف بحيرة طبريا في عام 1909 بعد شراء الأرض الملائمة لذلك.(تقرير بي بي سي،2021)
وغالباً ما كانت هذه الأراضي واقعةً في مناطق معزولة، بعيدة عن الطرق الرئيسية والمدن الكبيرة، ممّا سمح بإقامة مجتمعات مغلقة تعتمد على الملكية الجماعية للأراضي والإنتاج. لكن وبعد انتهاء الحكم العثماني، وخلال الاستعمار البريطاني لفلسطين في الفترة من عام 1917 إلى عام 1920، تم إضافة خاصية جديدة وهي تحديد الأرض لبناء المستوطنة، حيث خصّص الاستعمار البريطاني الأراضي والمشاعات للمهاجرين اليهود الجدد وفقاً لاختيارهم الخاص، ممّا يعكس الاستراتيجية الجغرافية للاستيطان اليهودي في تلك الفترة.
تركّز هذه الاستراتيجية على مناطق الجبال وتلال القرى الفلسطينية، حيث كانت المستوطنات تتواجد في قمم الجبال، بينما كانت فلسطين تتمركز في المدن والقرى، في بداية للتقسيم الاستعماري للمساحات والموارد.
إن هذه النظرة الجغرافية الاستعمارية تظهر كيفية تحديد قيم المستوطنين اليهود للأماكن التي يعيشون فيها، وتجسد التقسيمات بين المستقبل والماضي، وبين القوة والضعف، وتبرز الفوارق بين المستوطن الشامخ على قمم الجبل وصاحب الأرض البسيط في الأسفل.
عزل المستوطنات وحمايتها
تأسّست المستوطنات على استراتيجية “برج وجدار”، حيث بُنِيَت على أراضٍ غالباً ما تكون في مناطق معزولة بعيداً عن الطرق الرئيسية والمدن الكبيرة، ممّا سمح بإقامة مجتمعات مغلقة تعتمد على الملكية الجماعية للأراضي والإنتاج، ومحمية بجدار خشبي من الخارج، يتم حراستها من قبل سكان المستوطنة.
بُنيَت المستوطنات على أُسس اليوتوبيا المفقودة: جنة استثنائية داخل الأسوار التي تفصلها عن العالم الخارجي، بهدف جذب الشباب من الحركة الصهيونية والذين عجزوا عن تحقيق جنّتهم في بلادهم، كما أّنها توفّر استدامة زراعية، حرفية وتجارية، تهدف لإعداد بيئة مُناسبة لإقامة كيان يهودي قومي، غير مساهِمة في بناء المجتمع الأكبر على أرض فلسطين، بل فقط مجتمعها اليهودي، كونها مستقطبة للأحلام الشبابية للاشتراكية الصهيونية. شكّلت المستوطنات وعي الذين يسكنونها في إطار المساواة والعدالة الاجتماعية والتعاون. وتُوّجَت هذه الأسطورة المُجسّدة في مكان ذو وظيفة اجتماعية، أيديولوجية العمل والمجتمع، واستقطبت الهجرات الأوروبية، في تحقيق مُجتمع متخيّل يتمتّع بسمات مثالية، كونه خلية مستقلة بحد ذاتها غير تابعة للنسيج الحضري الشامل وجب حمايتها من تأثيرات “الخارج” وعوامله، وخلق واقع خاص فيها غير منتمٍ للواقع الموجود بمحيطها.
تشكّلت هذه المجتمعات الاستيطانية كأطر اجتماعية ونقابية وتنظيمية متماسكة، حيث قدّمت تدريباً عسكرياً مُنظَّماً بهدف حماية المستوطنات ومساحاتها. وقد استفادت هذه المجتمعات من تدريب عسكري يقدمه خبراء من الاستعمار البريطاني، مما جعلها أداةً فعّالة في يد اليسار الصهيوني لقيادة معركة تأسيس الكيان الاستيطاني الصهيوني في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي.(بيان للجزيرة، 2023)
بالفعل، خدم أفراد الكيبوتسات في مناصب مركزية داخل المستوطنة اليهودية قبل تأسيس الكيان، ولعبوا أدواراً بارزة في قيادة الدولة الجديدة، لاسيما في المجال العسكري. كما أنها كانت نواة لتشكيل عصابات المستوطنين، مثل البالماح (سرايا الصاعقة)، التي كانت الذراع العسكرية للهاغاناه، والتي قادت الهجمات العسكرية ضد الفلسطينيين في فترة النكبة.
هذه المجتمعات الاستيطانية لم تكن مجرد مجموعات سكنية، بل كانت جسوراً حضارية تربط بين الفكر اليهودي والأهداف السياسية والعسكرية الصهيونية. ومن خلال تأسيسها وتنظيمها، شكّلت هيكلاً أمنياً، حيث احتوت مخازن الأسلحة ومراكز التدريب العسكرية للعصابات الصهيونية، وتم عقد اجتماعات منتظمَة للأعضاء لمناقشة شؤون المجتمع، والتصويت على القضايا التي تتطلّب اتخاذ قرارات وانتخاب قادَة مختلف مجالات النشاط العسكري والأمني.
في الحقيقة، نشأ العديد من القادة العسكريين والسياسيين في اليسار الصهيوني الإسرائيلي، الذين سيطروا على زمام الأمور في البلاد بين عامي 1948 و1977، في هذه المجتمعات، أو تلقّوا تدريبهم العسكري فيها. فقد كانت هذه المستوطنات أيضاً مراكز تعليمية وتدريبية وتأهيلية، حيث امتزجت أهدافها الاستيطانية مع التحضير للدفاع والحرب، ممّا جعلها محطّ اهتمام وتأثير في تاريخ إسرائيل المبكر وفي تشكيل طبيعتها السياسية والعسكرية.
توسع المستوطنات وإنشاء الكيان الإحلالي الصهيوني:
شكّلت المستوطنات نسيج المؤسسات العسكرية المسلحة والأمنية، وبَنَت شبكة استخباراتية بين جميع أطر المستوطنات، وجاء وقت التوسع الصهيوني في الأراضي الفلسطينية بهدف إنشاء الكيان، وحوت العديد من العصابات الصهيونية منها الهاغاناه، والبالماخ، والإرغون.
تطوّرت هذه العصابات لتصبح القوة الرئيسية المسؤولة عن الوضع العسكري الصهيوني في فلسطين، وكان هدفها الرئيسي هو تحقيق السيطرة الكاملة على المنطقة، لتتجسّد فيها النزعة التوسعية والعنصرية للحركة الصهيونية.
قامت هذه العصابات بتنفيذ سلسلة من الأعمال الإرهابية والمجازر ضد السكان الفلسطينيين العرب، من بينها مجزرة “قرية سعسع” و”بلد الشيخ”. ولم يكتف مسلّحوها بذلك، بل استهدفوا تدمير عشرات المنازل في تلك القرى، ممّا تسبّب بتشريد العديد من الأسر ومفاقمة معاناتهم.
تمثّلت هذه الأعمال الوحشية والمميتة في استخدام العنف والإرهاب كأدوات لتحقيق أهداف سياسية ولتعزيز التوسع الاستيطاني في فلسطين. فقد كانت هذه العصابات تقوم بالانحدار من الجبال حيث تتواجد المستوطنات باتجاه القرى الفلسطينية، لتنفيذ هجماتها الليلية، لتصبح هذه القرى مواقعاً للإرهاب والتهجير..
تم استهداف أهالي القرى بطرق وحشية، حيث تم قتلهم وتشريدهم عن وطنهم، فلم يجدوا سوى اللجوء إلى القرى الأخرى داخل فلسطين أو إلى الدول العربية المجاورة مثل الأردن وسوريا ولبنان.
هكذا، تمّ نهب القرى ومنازلها ومستودعاتها ومواشيها، وتمّ تغيير اسم القرية إلى اسم عبري جديد، بالإضافة إلى إحاطتها بجدار عسكري وحمايتها من قبل العصابات الصهيونية لمنع عودة سكانها إليها. تمت هذه العمليات بشكل مبطّن أمام الاستعمار البريطاني حتى عام 1936، حيث اشتعلت ثورة البراق وحدّت حكومة الاستعمار البريطانية من بطش العصابات الصهيونية التي دربتها في القرى الفلسطينية، خوفاً من غضب المنطقة العربية بأسرها. ومع ذلك، لم تقتصر عصابات المستوطنين حملاتها الإرهابية على الفلسطينيين وأراضيهم من 1936 حتى 1947، بل شملت أيضاً حملات تحريضية إرهابية ضد مراكز حكومية بريطانية، بهدف طردهم والاستيلاء الكامل على أرض فلسطين.
وهذا ما شهدته أرض فلسطين خلال النكبة، حيث استولى الاحتلال الصهيوني من خلال عصاباته الاستيطانية على 774 قرية ومدينة، وقام بتدمير 531 قرية بعد أن كانت موطناً لنحو 807 آلاف فلسطيني\ة آنذاك، وإحالة القرى المتبقية لمالكين صهيونيين وإسكان المستوطنين الجدد فيها.
تُعدّ النكبة الفلسطينية من أكبر عمليات التطهير العرقي في القرن العشرين، حيث تم تهجير ما يزيد عن 800 ألف فلسطيني بالقوة والتهديد من قبل العصابات الصهيونية، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، من بين مليون و400 ألف فلسطيني\ة كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948.سيطرت العصابات الصهيونية على أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية، التي تبلغ حوالي 27 ألف كيلومتر مربع، بما عليها من موارد وسكان، وهو ما يمثّل أكثر من ثلاثة أرباع مساحة فلسطين الأصلية.
استدامة نسج اسطورة الأرض بلا شعب
لم تتوانى العصابات الصهيونية، منذ ما قبل بناء دولتها، عن استخدام كل الأدوات الممكنة، لمحو الوجود الثقافي والسياسي والمكاني للفلسطينيات\ين كشعب، ولفلسطين كأرض. وهذا موثّق، بالأرقام والوثائق والصور، وفي المكان. لكنّ القوة اليوم هي الحق، بعيداً عن كل ما يقوله التاريخ. واليوم في غزّة، يتّضح ذلك أكثر فأكثر. ويكشف ذلك عن هدف واحد وهو إبعاد الفلسطينيين عن الأرض بين البحر والنهر، وتدمير أساليب حياتهم ومعيشتهم اليومية. وعلى الرغم من أن الصور الثابتة غير الملونة التي التُقطت في فلسطين خلال نكبة عام 1948 تنبعث منها الحياة بشكل غريب ومؤلم، يليها صور وفيديوهات غزة بنفس التفاصيل ولا يستثنيها عن النكبة إلا أنها تأتي بتقنية صور متحركة وملوّنة.
مصطلحات:
أرض الميعاد: أرض الميعاد أو الأرض الموعودة، تعبير واسع لمعنى واحد وهو أرض فلسطين. الأرض الموعودة هي إحدى الحجج التي استخدمتها الحركة الصهيونية لدفع يهود العالم الى الهجرة لفلسطين وتبرير استعمارها، وتستغلّ هذه الحجة الحوافز الدينية المستوحاة من التوراة لتحقيق الأجندة الاستعمارية الاستيطانية.
تزعم الحركة الصهيونية الاستعمارية أن الرب وعد اليهود بأرض فلسطين، وأعطاهم إياها ردحاً من الزمن، ثم وعدهم حين طُردوا منها بإرجاعهم إليها في الوقت المناسب. ولا ترسم التوراة نفسها حدوداً ثابتة لهذه الأرض، ففي حين ترد حدودها في الآية 18 من الإصحاح 15 من سفر التكوين: “لنسلك أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”، تختلف حدودها في الآية 8 من الاصحاح 17 من سفر التكوين: “وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً.”
الكولونيالية: الاستعمار الاستغلالي هو السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية على دولة أخرى أو شعب آخر، والهدف منها هو استخراج موارد وخيرات الدول والأراضي المستعمَرة لصالح القوى المستعمِرة، بما معناه ان الدولة المستعمرة لا تبغي أن تمحي السكان الأصلانيين للدولة المستعمرة بل إخضاعهم ووضعهم في مصافٍ أدنى، والتحكم بمواردهم العضوية والمادية، واستغلال معرفتهم وقوتهم الإنتاجية .
كيبوتس: الكيبوتس هو نوع من المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يأخذ اسمه من اللغة العبرية، ويعني “التجمع”، أي مجتمعات زراعية ذاتية الإدارة تعتمد على الملكية الجماعية لأدوات الإنتاج وتنعدم فيها جميع أشكال الملكية الفردية ويجري فيها تقاسم عائدات الإنتاج بالتساوي بين أفراد المجتمع الزراعي الصغير.
مستوطنة: مجتمعات مبنية على عملية إسكان واسعة في أرض محتلة، وذلك بذريعة الإعمار وإرساء سيطرة الدولة المهيمنة على الأرض التي ضمتها، وأصبحت تعتبرها جزءا منها.
المصادر:
Rana Barakat, “Writing Palestinian History: Settler Colonialism versus Indigenous Studies,” Conference Paper for “Zionism as a Settler Colonial Movement,” held by Mada al Karmil, Arab Center for Applied Social Research, ( 2015), Ramallah, Palestine
Patrick Wolfe, “Settler Colonialism and the Elimination of the Native,” Journal of Genocide Research 8, no. 4 (2006),-,.
Neve Gordon , Moriel Ram, “Ethnic cleansing and the formation of settler colonial geographie”,Political Geography 53 ,(2016),-.
Abu-Lughod, I. A,”The transformation of Palestine: Essays on the origin and development of the Arab-Israeli conflict”. Evanstone, IL,(1971), USA: Northwestern University.
Keyes, D. (2021, August 20). بزوغ الإمبريالية الغربية بوصفها ذكرى منسية: المؤرخون وعلماء الآثار يكشفون القصة الحقيقية لغزو إسبانيا بلاد الأزتيك في المكسيك.
Al Jazeera. (2023, November 2). من وعد بلفور إلى إعلان إسرائيل.. الانتداب البريطاني في فلسطين. Retrieved from https://www.aljazeera.net/بدأت-ق.
افنان ابو يحيا، “إبادة المكان: محوُ غزة هدفٌ للحرب” مقابلة مع عبد الرحمن كتّانة، مجلة حبر،(2024)، -.
ساري حنفي، “الحرب على غزة: من الإبادة المكانية إلى الإبادة الجماعية”، السفير – وجهات نظر،(2023)،-.
صحيفة هأرتس، “ابرز مجازر العصابات الصهيونية في فلسطين عام 1948″،-، (2022).
مروة جمال، منصة بي بي سي نيوز عربية “روايات لسكان غزة عن قصف منازلهم بعد تدمير عشرات الآلاف من الوحدات السكنية بشكل كلي”،-، (2023)
الجزيرة “المستوطنات-الإسرائيلية-الوجه-الآخر”،-، (2023)،-.
يستند هذا المقال على ملاحظات ” مؤتمر دولي يبحث تأثير سياسات الاستيطان الإسرائيلية على الفلسطينيين”،موقع الامم المتحدة.
Columbus, C. (1493). Columbus reports on his first voyage.
نبذة عن غيد
غيد خطيب مهندسة معمارية متخصصة في الترميم والحفاظ على موروث العمارة المحلية في فلسطين المحتلة، تدمج غيد بين ثالوث الفن والعمارة والأبحاث لفهم العلاقة بين المسكن والأرض اي بين الميد والغيم، بهدف التعمق في فهم هوية العمارة الفلسطينية بكل جوانبها ووجدانها، وقد أسهمت في العديد من المعارض في مواقع محلية ودولية، مما عزز من خبرتها في التنسيق بين النظرية والممارسة.
المراجع:
- 1The Land of Israel: According to the Covenant With Abraham, With Isaac, and With Jacob. 1944.وفي 1875، قال اللورد شافتسبري أمام الاجتماع العام السنوي لصندوق استكشاف فلسطين: “لدينا هناك أرض تعج بالخصوبة وغنية بالتاريخ، ولكن تقريباً من دون سكان، وهناك شعب بلا وطن”. وفي يوليو 1853، كتب رئيس “جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود” كتاباً إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، اللورد أبردين، يُبين فيه أن “سوريا الكبرى” هي “دولة بلا أمة” وتحتاج إلى “أمة بلا دولة”. وكان للمبشر الإنكليزي الشهير ويليام يوجين بلاكستون دور في تأكيد هذه الجملة، فقد قام برحلة للأراضي المقدسة في 1881، وأصبح متحمساً لفكرة الإستيطان. إلّا أن رسوخ التعبير واستخدامه كحقيقة مطلقة مرسِّخة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، أتى نتيجة كتاب ثيودور هرتسل، “دولة اليهود”، عام 1896
- 2فكان الانتماء القومي الركن الركين للتعبئة من أجلها، وقيام كيانات وطنية قومية الهدف السياسي الأساسي له. ومن خلال هذه الأدوات، تمّ بسط أفكارٍ عملية فعالة، سيكون لها إسهامها الكبير في إنجاح المشروع لاحقاً. وتمحورت هذه الأفكار حول تهجير اليهود إلى فلسطين، والتعبئة من أجل القضية الصهيونية عبر العالم.
- 3على سبيل المثال، في عام 1947، كانت عصابات الهاغانا تضم أربعين ألف عنصر في قوات الجيش والأمن التابعة لسلطات الاستعمار.