لطالما شكّل شعار الإيجار العادل – أو إلغاء تسليع الإيجار – ركيزة أساسية لنضالات المدافعين عن الحق بالسكن في لبنان1مثال: عريضة “سياسة صفر إخلاء وإيجارٌ عادلٌ وحدٌّ للشغور: هذا ما تتطلّبه المصلحة العامة”. وسياقات أخرى. وقد ترافق حمل هذا الشعار مع مطالب بتنظيم الإيجارات بما يتماشى مع الحد الأدنى للأجور، وتحديد سقوف لبدلاتها، وحماية المستأجرين من التهديدات والإخلاءات التعسفية.
اليوم، وفي سياق الحرب الدائرة، حيث استشهد الآلاف بسبب العدوان الإسرائيلي المستمرّ، ونزح أكثر من 22% من سكان لبنان، بات من الضروري إعادة التفكير التكتيكي والجذري بهذا الشعار؛ خصوصاً وأن نسبة لا يُستهان بها من النازحين (حوالي 28%)2بلغت نسبة النازحين الذين لجأوا إلى استئجار مساكن في مناطق بعيدة عن مواقع الاعتداءات الإسرائيلية 16% في أول شهر كانون الثاني 2024، بينما وصل عدد النازحين حينها إلى 76,018، وفقاً لمنظمة الهجرة الدولية. لجأوا للإيجار كطريقة للوصول للإيواء3حتى 7 تشرين الثاني الحالي، وصل عدد النازحين إلى 875180 شخص، بحسب تقديرات منظمة الهجرة الدولية (بالرغم من أن تصريحات رسمية أخرى تشير إلى أن العدد قد تخطّى مليون وثلاثمائة ألف شخص). 48% منهن/م تستقبلهن/م عائلات مضيفة، وتستوعب مراكز الإيواء، التي بلغ عددها 1019 مركزاً، 22% منهن/م فقط، في حين لجأ 28% منهن/م الى الاستئجار، ويتوزّع الباقي منهن/م بين 1% يقطنون في منازل أخرى يملكونها، و1% لجأوا إلى ترتيبات أخرى مثل أبنية مهجورة أو خيم أو مساحات عامة أو طرقات. ، وهي نسبة قد تكون أقلّ من الواقع، إذ يتعذّر رصد العدد الفعلي للمستأجرين بسبب عدم تسجيل العقود في معظم الأحيان، وانطلاقاً من غياب أي إطار رسمي او تدخّل مباشر للدولة في تنظيم عملية التأجير. وقد تكون إعادة التفكير بالشعار مبنية، ليس فقط على إلغاء التسليع، بل أبعد من ذلك، أي على إلغاء الإيجار كلياً في هذه المرحلة، بحيث لا يضطرّ النازحون الذين خسروا منازلهم ومصادر أرزاقهم وأعمالهم بسبب الحرب إلى استنفاذ ما تبقّى من مدّخراتهم لدفع الإيجارات، بل تتحمّل الدولة مسؤوليتها في تأمين الإيواء بشكلٍ مجانيّ لهم.
نحاول عبر هذا المقال التأكيد على أهمية هذا التوجّه، منطلِقات من عرض واقع سوق الإيجارات الحالي من خلال بحث أجريناه، نحلّل عبره عيّنة من الوحدات السكنية المعروضة للإيجار في مختلف المناطق اللبنانية (383 وحدة سكنية) ابتداءً من يوم الإثنين 23 أيلول 2024 – وهو اليوم الذي شهد مؤخّراً تصعيداً كبيراً في العدوان الإسرائيلي على لبنان – وحتى تاريخ 14 تشرين الأول4تمّ جمع هذه العيّنة من خلال رصد يومي لعدّة مصادر بما في ذلك مجموعات التأجير على وسائل التواصل الاجتماعي، وصفحات مكاتب العقارات والسماسرة، ومجموعات واتساب مخصّصة للإيواء أنشأها ناشطون لمساعدة النازحين في طلب مساكن أو العثور عليها، والمبادرات المجتمعية التي أُطلقت لمساعدة النازحين، مثل مبادرة “سقف واحد” وغيرها.. ونُظهر أن بدلات الإيجار مرتفعة ومتفاوتة لدرجة أن بعضها يفوق بدلات الإيجارات في عقود الإيجار السارية ما قبل الحرب، في استنزاف واضح لمدّخرات النازحين.
إيواء النازحين بات مسألة يتحكّم بها المالكون
في تحليل أولي للعيّنة قيد الدرس، والتي شملت 383 وحدة سكنية موزّعة على مختلف المحافظات اللبنانية عُرضت للإيجار بين 23 أيلول الماضي و14 تشرين الأول الحالي، نجد أنّ عدد الوحدات التي عُرِضت للإيجار لا يتماشى مع الحاجة الهائلة والمتزايدة للسكن نتيجة تفاقم النزوح. فتحوّلت عملية إيواء النازحات/ين – وهي أولاً مسؤولية الدولة وثانياً مسؤولية اجتماعية جماعية- إلى مسألة يتحكّم بها مالكو الشقق والمباني.
ففي حين يُعتبر من الطبيعي انحسار العرض في محافظات تتعرّض للقصف بصورة مستمرّة وبشكل شامل، مثل محافظات الجنوب والنبطية وبعلبك-الهرمل وحتّى البقاع، إلا أنّ انحسار العرض في المحافظات الأخرى يعود لأسباب مختلفة تماماً. في التفاصيل، تبدو واضحةً ندرة العرض في كافة المحافظات مقارنة بمحافظة جبل لبنان التي تستحوذ على نسبة 35% من إجمالي الوحدات المعروضة للإيجار (137 وحدة). ومن المستغرب أن تسجّل محافظة مثل بيروت النسبة الأدنى من العرض، والتي تقارب 9% (33 وحدة)، خصوصاً أنّ نسبة شغور الشقق والأبنية فيها مرتفعة وقد لامست 20% في 20235تقرير من إعداد منى فواز وعبير زعتري، (2023)، الشغور السكني في بيروت ودوافعه 2023، مختبر المدن، مختبر المدن بيروت – الشغور السكني في بيروت ودوافعه 2023 (beiruturbanlab.com)، ما يُعتبر مؤشراً لإحجام المالكين فيها، خاصةً في الأحياء الآمنة نسبياً، عن التأجير.
المحافظة | توزيع الشقق المعروضة للإيجار بحسب المحافظات |
بيروت | 33 |
جبل لبنان | 137 |
عكار | 67 |
الشمال | 95 |
البقاع | 1 |
كسروان- جبيل | 46 |
الجنوب | 4 |
بعلبك الهرمل | 0 |
النبطية | 0 |
وإذا ما تعمّقنا في دراسة نسب العرض بحسب بعض الأقضية، نرى أنّ قضاء عكار يتصدّر نسبة الوحدات المعروضة للإيجار في لبنان، وقد سجّل 17.5% (67 وحدة). وهنا، تجدر الإشارة إلى المبادرات الفردية في التضامن المجتمعي التي شهدها قضاء عكار وجيرانه أقضية طرابلس والمنية-الضنية، حيث تمّ عرض عدد كبير من الوحدات فيها مجاناً لاستقبال النازحين، وهي وحدات لم يشملها تعداد هذه العينة، ويبدو ذلك لافتاً كونها مناطق لطالما تمّ تهميشها وتفقير سكانها.
في الوقت عينه، يبدو واضحاً أيضاً التفاوت في عدد الشقق المعروضة للإيجار بين أقضية المحافظة الواحدة. فإذا ما أخذنا محافظة الشمال والتي سجّلت بدورها ما يقارب ال25% (95 وحدة) من الوحدات المعروضة للإيجار بحسب العينة، نرى أنّ العرض فيها يتركّز في قضاءَي طرابلس والمنية-الضنية واللذان يشكلان سوياً ما يقارب ال57% من مجموع الوحدات المعروضة للإيجار في المحافظة (54 وحدة)، في حين تسجّل أقضية مثل قضاء بشرّي مثلاً نسباً متدنية جداً للعرض تصل إلى 3% من الوحدات المعروضة للإيجار في المحافظة ذاتها (3 وحدات).
المحافظة | القضاء | التوزيع حسب الأقضية |
بيروت | بيروت | 33 |
جبل لبنان | المتن بعبدا عاليه الشوف | 32 28 35 42 |
عكار | عكار | 67 |
الشمال | زغرتا بشري المنية-الضنية طرابلس البترون الكورة | 13 3 23 31 8 17 |
كسروان-جبيل | كسروان جبيل | 28 18 |
صحيح أن نوعاً من التضامن الاجتماعي ظهر بعد موجات النزوح، من خلال الترحيب بالنازحين في العديد من المناطق أو من خلال ظهور عدد كبير من المبادرات الفردية لدعم النازحين ومساعدتهم، غير أن بعض المناطق تُظهر بوادر “أمننة النزوح”. ويظهر ذلك من خلال تحذير بعض البلديات للسكان من التأجير من دون إعلامها، حرصاً على عدم وجود عناصر عسكرية أو شخصيات أمنية -مثل تعميم بلدية زحلة في 17 تشرين الأول والذي دعى إلى الإبلاغ الفوري عن أسماء المقيمين وأعدادهم والمبادرة في مراجعة البلدية عند الشك بأي حركة غير طبيعية- أو من خلال ضغط السكان على البلديات والمجتمع المحلي في هذا الاتجاه، على شاكلة الكتاب الذي رفعه بعض أهالي منطقة الربوة بمثابة إخبار، وادّعوا فيه وجود مظاهر مسلحة وزيارات من شخصيات أمنية للمنطقة وطالب بالتعاطي معها.
لذلك لا يمكن تفسير مظاهر العرض القليل إجمالاً بالنسبة لحجم الطلب المتزايد جراء تفاقم حركة النزوح من جهة والتفاوت في نسب العرض بين المحافظات والأقضية من جهة أخرى، إلاّ بأنّ هناك امتناع مقصود عند شريحة واسعة من المجتمع عن تأجير أملاكها إمّا لأسباب طائفية-طبقية-مناطقية أو أمنية، بهدف إبقاء النازحين بعيدين عن مناطق وأحياء معيّنة، أو لأسباب تتعلّق بخوف الملّاك من عدم إمكانية استمرارية الدفع أو غيره من الأسباب. وليس انخفاض مستويات العرض إلا نتيجة مباشرة لعدم تدخّل الدولة واستمرارٌ لانعكاس السياسات التي لطالما اعتمدتها حتى قبل الحرب، تحت حجة قدسية الملك الخاص وتشجيع الاستثمار. ولا يشكّل غياب الضرائب على الوحدات الشاغرة إلّا أحد أسباب رفع نسب الشغور وهو ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار بفعل المضاربة العقارية.
واليوم تحديداً يتمّ التعاطي مجدداً مع الأزمة باستخفاف شديد. فخطط الإيواء التي تضعها الدولة تتوجّه لفئة النازحين الذين لم يتيسّر لهم الإيجار وبالتالي تتجاهل شريحة من النازحين أجبرت على الاستئجار أو البقاء عند معارفهم بفعل غياب الخيارات. إن استمرار غياب الدولة عن مسؤولياتها الملحّة والتي تتمثّل، في ظل حرب قائمة، بتأمين وصول جميع النازحين إلى الإيواء المجاني وبإغاثتهم -بما يزيح عن كاهلهم عبء الإيجار- يترك مصائر النازحين رهينة لدى المالكين، أي لدى من يمكن أن يستفيد من وضعهم ويستغلّهم. فمن استنزفت مدّخراته ودمّرت سبل معيشته وراكم الخسائر بفعل الحرب، لن يتمكن من الصمود مطولاً عبر الايجار. وبالتالي فإن خلق الخيارات المجانية وإتاحة الإيواء هو ما يضمن الصمود الفعلي لهؤلاء النازحين وهو ما يمثّل الاستجابة المطلوبة في هذه المرحلة.
السوق لا يزال يتحكّم ببدلات الإيجار
أظهرت أبحاثنا السابقة، والتي أُجريت كجزء من عملنا على حماية الحق في السكن وتعزيزه، أن سوق الإيجارات في لبنان لطالما كان يشهد تفاوتاً كبيراً في الأسعار دون أي منطق واضح. وقد أبقت الحرب الحالية على هذا الوضع، وأبقت على سلطة المالكين وتحكّمهم، ليس فقط في توفير المساكن كما بيّنا أعلاه، بل أيضاً في التحكّم ببدلات إيجاراتها.
على سبيل المثال، لاحظنا في العيّنة تفاوتاً كبيراً في بدلات إيجار الشقق ذات المواصفات المتشابهة والواقعة في المنطقة عينها، مع فروقات كبيرة في بعض الحالات تصل إلى 300-500 دولار وبشكل لا يتناسب مع أي منطق. ففي قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان، نجد شقتين مفروشتين، كل منهما تحتوي على ثلاث غرف وحمامين ومطبخ، إلا أن إيجار إحداهما يبلغ 1300 دولاراً، بينما يبلغ إيجار الأخرى 1800 دولاراً. وبالمثل، في منطقة الأشرفية ببيروت، توجد شقتين مفروشتين بذات المواصفات تقريباً، إحداهما تُؤجر بـ 900 دولاراً والأخرى بـ 600 دولاراً. ورغم التوقّع المنطقي بأن يؤثّر حجم الشقة على البدل الذي يحدّده المالك، فإن الأمثلة التالية تُظهر عكس ذلك. إذ نجد شقة غير مفروشة في بلدة بعدران (الشوف) تتكوّن من غرفتين وحمام ومطبخ، يُعرض إيجارها بـ 1000 دولاراً أميركياً، مقابل شقة أخرى غير مفروشة في البلدة ذاتها، أكبر مساحةً، تتكوّن من 3 غرف وحمامين ومطبخ، يُعرض إيجارها بـ 600 دولاراً.
وتُعرض شقة غير مفروشة في بلدة ضهر العين (الكورة) ببدل 350 دولاراً، فيما تُعرض شقة أصغر منها حجماً في نفس البلدة بإيجار 1100 دولار، أي بزيادة تفوق 200%. كما ونجد في العيّنة شقة غير مفروشة في ضهر العين (الكورة)، بإيجار أكثر بـ 100 دولار من شقة مفروشة أكبر حجماً في نفس البلدة. ولو أن هذا الفارق بسيط إلى حدّ ما، إلّا أنه يُظهر تحدّي المالك للمنطق الاقتصادي الذي يجعل من عامل الفرش والتجهيز مؤثّر على البدلات، خصوصاً مع ارتفاع الطلب على الشقق المفروشة اليوم، في ظلّ ظروف النزوح الطارئة التي أجبرت الكثيرين على مغادرة منازلهم دون أن يتمكّنوا من أخذ أغراضهم وأثاثهم.
في قراءة جغرافية لبدلات الإيجار، يظهر أن محافظة جبل لبنان تصدّرت قائمة المحافظات من حيث معدّل الإيجار الشهري إذا قمنا بحسابه بطريقة بسيطة جداً، من دون أخذ أي عوامل في الاعتبار، مثل حجم الشقة وتجهيزاتها (773 دولاراً). في المقابل، سجّلت محافظة عكار أدنى معدّلات الإيجار مقارنةً ببقية المحافظات (أقلّ بحوالي 40% من معدّل الإيجارات في جبل لبنان). يمكن تفسير الفروقات في تحديد المالكين للأسعار بزيادة الطلب على الإيجارات في محافظة جبل لبنان، كونها تضم بلدات تُعتبر “آمنة” نسبياً وأقرب إلى بيروت والجنوب، ممّا يسهل الوصول إليها، وبقلة الطلب على الإيجارات في محافظة عكار نتيجة بُعدها النسبي عن المناطق المستهدفة أي صعوبة وصول النازحين إليها بسبب غياب وسائل النقل أو عدم قدرة هؤلاء على تأمينها. ولكن المثير للاستغراب هو استمرار طلب المؤجّرين بدلات مرتفعة في بيروت، بحيث سجّل معدّل الإيجارات فيها 680 دولاراً، وهو المعدّل الأقرب لمعدّل الإيجارات في جبل لبنان، رغم تدهور الأوضاع الأمنية في العاصمة، واستهداف مناطقها الداخلية، وتكثيف الضربات على ضاحيتها الجنوبية.
نستنتج إذاً أن الحرب لم تؤثّر على سلطة المالكين في سوق الإيجار، فبقيت بدلات الإيجار في ظلّها خاضعة لمزاجهم، ممّا يعكس “رأسمالية الحرب” التي تستغل الأزمات لتحقيق الربح. ويحصل ذلك في ظل استمرار وضع الدولة لمصلحة المالكين كأولوية، والاستهتار بمصلحة من هنهم الأكثر حاجة للدعم اليوم.
بدلات إيجار مرتفعة تستنزف مدّخرات النازحين
رسّخت سياسة تسليع السكن وتسليم سوق الإيجار للقطاع الخاص، تاريخياً وحالياً، عشوائية سوق الإيجار، وربط الوصول إلى السكن بالقدرة الشرائية، لا بل جعلت من الحرب فرصة لارتفاع بدلات الإيجار. في بحثٍ سابقٍ أجريناه في أوائل العام 2024، وجدنا أن أسعار الإيجارات تضخّمت بنسب وصلت في بعض المناطق اللبنانية إلى 650%. أما في العيّنة الحالية، فتتراوح بدلات الإيجار للشقق والمنازل بين 100 و3800 دولاراً. ومع أن حساب معدّل بدلات الإيجار في هذه الحالة، أي دون أخذ عوامل تفصيلية في الاعتبار كحجم الشقة وتجهيزاتها وموقعها، لا يعكس الصورة الكاملة للواقع ولا يوضّح هذه التباينات، لكن من الجائز أن نستخلص بعض الاستنتاجات.
يبلغ معدّل الإيجارات في العيّنة بطريقة الحساب المذكورة 653 دولاراً شهرياً، بالإضافة إلى مدفوعات إضافية إلى جانب بدل الإيجار. فقد ذُكِر في إعلان تأجير 50 شقة/منزل من العيّنة على الأقل، ضرورة دفع عمولة لسمسار أو مكتب تأجير. وتساوي هذه العمولة قيمة شهر أو نص شهر أو أكثر بحسب الحالة. وتبيّن أن بعض المؤجّرين يطلبون إيداع مبلغ تأمين إضافي لحجز الشقة على أن يُسترجع لاحقاً عند التسليم. ورغم أن البيانات المتعلقة بطريقة الدفع ليست شاملة لكل العيّنة، إلا أن 65 شقة/منزل من العيّنة ذُكرت طريقة الدفع في إعلان تأجيرها، واللافت وجود توجّه نحو طلب مبالغ إيجار كبيرة تُدفع سلفاً. فقد طُلب من المستأجرين المحتملين في 19 شقة دفع إيجار شهرين مقدماً، وفي حالة 21 شقة طُلِب ثلاثة أشهر، ووصل الأمر في بعض الحالات إلى طلب دفع إيجار لمدة 4 أو 6 أو 10 أو 14 شهراً مقدّماً.
في المقابل، إن الحدّ الأدنى الرسمي لأجور المستخدمين والعمال الخاضعين لقانون العمل والمحدّد بالمرسوم 13164/2024، هو اليوم 18 مليون ليرة لبنانية أي ما يساوي حوالي 201 دولاراً شهرياً. هذا يعني أن معدّل الإيجارات لشقق ومنازل معروضة للإيجار في الأسابيع الثلاث الأولى بعد تصاعد وتيرة الحرب يفوق الحد الأدنى للأجور بأكثر من ثلاثة أضعاف، وفي أحيان كثيرة أكثر من ذلك بكثير إذا ما احتسبنا المدفوعات الإضافية.
في الفصل الأول من عام 2024، صرّح حوالي 98 ألف أجير للضمان الاجتماعي أن أجورهم لا تتجاوز الحد الأدنى، في حين صرّح 88% من الأجراء أنهم يتقاضون ضعف الحد الأدنى فقط. وهذه الأرقام تظهر بوضوح أن شريحة كبيرة من الناس اليوم غير قادرة على تأمين سكن، لأنها مُطالبة بدفع ما يزيد عن مدخولها كبدل إيجار بالإضافة إلى الدفعات الإضافية المترافقة معه، في خرق واضح للقانون الذي ينصّ على أن الحد الأدنى للأجر يجب أن يكون كافياً لتلبية احتياجات الأجيرة وعائلته الأساسية. ولو أن جزءاً من النازحين بفعل الحرب الإسرائيلية على لبنان اليوم ليسوا من ذوي الدخل المحدود، إلا أن الجزء الأكبر ينتمي إلى هذه الفئة، ومعظمهم فقدوا وظائفهم أو مصادر دخلهم نتيجة الحرب والنزوح، ما قد يضطرّهم إمّا إلى التضحية بمدّخراتهم لدفع الإيجار، أو يكون مصير بعضهم التشرّد في ظلّ عدم وفرة أو جهوزية مراكز الإيواء.
نستنتج إذاً أن الحرب اليوم لا تقتصر على استهداف الجوانب المادية فحسب، مثل تدمير المنازل والممتلكات وسبل العيش، بل تشمل أيضاً هجوماً مباشراً على مستوى معيشة الناس وأمانهم وحقّهم في السكن.
الإجراءات الرسمية قاصرة أمام تحديات الإيجار
بالإضافة إلى إصدار خطّة طوارئ حكومية أخفقت في كيفية تناولها لقضية الإيواء من حيث فتح عدد غير كافٍ من مراكز الإيواء الجماعية، وتوزيعها بشكل غير عادل على المناطق، والتقصير في تجهيزها لتلبية حاجات النازحين، بل وعدم التخطيط لكيفية وصول النازحاتين إليها، برز مؤخّراً إجراء رسمي آخر اتّخذه هذه المرة مصرف لبنان بعد جلسته المنعقدة في 25 أيلول 2024، أي بعد يومين من تزايد وتيرة الحرب. إذ أعلن المصرف أنه ” بالنظر إلى الظروف الطارئة التي تمرّ بها البلاد، قرر المجلس المركزي الطلب إلى المصارف التسديد، استثنائياً ولمرة واحدة، مبلغ يساوي ثلاثة دفعات شهرية في بداية شهر تشرين الأول المقبل، لكافة المستفيدين من التعميمين الأساسيين رقم 158 و 166.”
تُصنَّف المبالغ التي يتقاضاها المستفيدون من التعميمين 158 و166 إلى ثلاث فئات هي 150 و300 و400 دولاراً شهرياً، وبالتالي فإن تنفيذ قرار الدفعات الاستثنائية سيمكّن عدد من المستفيدين -أي المودعين من النازحين – من هذين التعميمين تقاضي مبالغ يتراوح أغلبها بين 450 و900 دولاراً، ويبلغ أقصاها في عدد من الحالات 1200 دولاراً خلال شهر تشرين الأول. وإذا قمنا بمقارنة المبالغ هذه بمعدل الإيجارات الحالي للشقق السكنية في السوق، والذي بلغ بحسب العيّنة 653 دولاراً، فإن المعدّل يتخطّى مجموع الدفعات الاستثنائية لمن سيتقاضى 450 دولاراً شهرياً، ويبلغ تقريباً 73% من دفعة الـ 900 دولار، وحوالي 54% من دفعة الـ 1200 دولار. بمعنى أن هذا الإجراء، وإن تكرّر شهرياً، قد يوفّر دعماً لتأمين السكن والاحتياجات الأساسية خلال الشهر، إلا أنه يظلّ غير كافٍ وقاصرٍ أمام ارتفاع بدلات الإيجارات، ولا يضمن حتى الحد الأدنى من استدامة الإيجار مع استمرار الحرب دون بوادر قريبة لنهايتها. الأهم من ذلك، يقتصر هذا الدعم المحدود على فئة المودعين من النازحين، ولا يشمل جميع النازحين. كما أنه لا يمكننا اعتباره دعماً حقيقياً، بل هو في الواقع صيغة لصرف مدّخرات الناس تحت مسمّى الدعم.
إعادة تصوّر الإيواء بلا إيجار
بدلاً من اتخاذ إجراءات متفرقة وقصيرة الأجل لتلبية احتياجات شرائح محددة من النازحين، يجب على الحكومة أن تتبنى نهجاً شاملاً لمعالجة قضية النزوح بكافة أبعادها. ويتطلّب ذلك مراجعة خطة الطوارئ الحالية وتحديثها بشكل مستمر لمواكبة التطورات الميدانية، وذلك انطلاقاً من الالتزام الدستوري للدولة اللبنانية بضمان حق الجميع في السكن.
كنّا قد فنّدنا أبرز الإجراءات الأساسية المطلوبة بالنسبة للإيواء في مقالٍ سابق، مثل توفير المعلومات والإرشاد للوصول إلى مراكز الإيواء المعتمدة، وتجهيز هذه المراكز، وإتاحة الوصول إلى مبانٍ ومنشآت عامة وتجهيزها وتوجيه النازحات/ين إليها. ولكن، إلى جانب هذه الإجراءات لتوفير مأوى للنازحين في المراكز الرسمية والمنشآت العامة، فإن الحاجة ماسّة اليوم إلى استغلال الإمكانات المتاحة في البيئة المبنية، لا سيما المخزون السكني للملكية الخاصة. ونظراً لأن جزءاً كبيراً من هذا المخزون يُستخدم للتأجير، فمن الضروري ضبط أسعار الإيجارات وتحديد سقوف لها لمنع الاستغلال. يمكن تحقيق ذلك من خلال آليات مختلفة، منها إصدار قرارات على صعيد السلطات المحلية (بلديات ومحافظين) تحدّ من زيادات الإيجار ضمن نسبٍ معيّنة ضمن نطاقها الجغرافي، أو مراسيم حكومية لتنظيم الإيجارات أو تحديد سقف لها، أو قوانين تشريعية تمدّد جميع عقود الإيجار بإيجارات قائمة لفترة محددة على مثال ما حصل خلال جائحة كورونا أو من خلال حظر زيادات الإيجار بما يتجاوز مبلغاً معيناً خلال فترة زمنية معينة. بالإضافة إلى ذلك، يجب وضع آليات فعالة للتبليغ عن الانتهاكات المرتبطة بالإيجار، مثل الاستغلال والتمييز والإخلاء التعسفي، مع توفير آليات رقابة على سلوك المؤجرين. كما يجب تفعيل دور السلطات المحلية في إجراء مسوحات شاملة للوحدات السكنية الشاغرة والتفاوض مع مالكيها لتأجيرها للنازحين، مع إمكانية اللجوء إلى إجراءات قانونية أو ضريبية في حال الامتناع.
ولكن، هل يمكننا التخلّص من الإيجار كلياً، ولو مؤقتاً، في ظل هذه الظروف الاستثنائية للحرب؟ يستحقّ هذا السؤال التعمق فيه. فبدلاً من التركيز فقط على تنظيم الإيجارات، يجب التفكير في حلول أكثر إبداعاً، توفّر إيواءاً مجانياً للنازحين إلى حين تحقيق عودتهم، عبر استكشاف آليات جديدة للوصول إلى المخزون السكني ذو الملكية الخاصة. يمكن أن تكون هذه الخطوة الأولى نحو تبنّي سياسة إسكانية عادلة تضمن حق الجميع في سكن آمن، لائق وميسّر.
المراجع:
- 1
- 2بلغت نسبة النازحين الذين لجأوا إلى استئجار مساكن في مناطق بعيدة عن مواقع الاعتداءات الإسرائيلية 16% في أول شهر كانون الثاني 2024، بينما وصل عدد النازحين حينها إلى 76,018، وفقاً لمنظمة الهجرة الدولية.
- 3حتى 7 تشرين الثاني الحالي، وصل عدد النازحين إلى 875180 شخص، بحسب تقديرات منظمة الهجرة الدولية (بالرغم من أن تصريحات رسمية أخرى تشير إلى أن العدد قد تخطّى مليون وثلاثمائة ألف شخص). 48% منهن/م تستقبلهن/م عائلات مضيفة، وتستوعب مراكز الإيواء، التي بلغ عددها 1019 مركزاً، 22% منهن/م فقط، في حين لجأ 28% منهن/م الى الاستئجار، ويتوزّع الباقي منهن/م بين 1% يقطنون في منازل أخرى يملكونها، و1% لجأوا إلى ترتيبات أخرى مثل أبنية مهجورة أو خيم أو مساحات عامة أو طرقات.
- 4تمّ جمع هذه العيّنة من خلال رصد يومي لعدّة مصادر بما في ذلك مجموعات التأجير على وسائل التواصل الاجتماعي، وصفحات مكاتب العقارات والسماسرة، ومجموعات واتساب مخصّصة للإيواء أنشأها ناشطون لمساعدة النازحين في طلب مساكن أو العثور عليها، والمبادرات المجتمعية التي أُطلقت لمساعدة النازحين، مثل مبادرة “سقف واحد” وغيرها.
- 5تقرير من إعداد منى فواز وعبير زعتري، (2023)، الشغور السكني في بيروت ودوافعه 2023، مختبر المدن، مختبر المدن بيروت – الشغور السكني في بيروت ودوافعه 2023 (beiruturbanlab.com)