حصلت الجريمة في بشري منذ أكثر من شهرين، ويتوقع أن يطول تأثيرها خاصة بسبب الخطاب السياسي لأحزاب المنطقة (الصورة لبول سعد/فليكر).

بشرّي، كيف يعمل الخطاب السياسي على تشريع الجريمة الجماعية

لا يزال وقع الجريمة التي هزّت بشرّي في الشهر الأخير من العام 2020 حاضراً بقوّة لدى أهل البلدة، بعدما قُتل الشاب جوزيف طوق (29 عاماً) بأربع رصاصاتٍ على يد المشتبه به (م.ح) الذي يعمل ناطوراً في منزل عم الضحية، وهو سوري الجنسية. جريمةٌ كان من المتوقع أن تأخذ سياقاً مختلفاً عن واقعها، في بلدٍ لم يعرف يوماً سياقاً طبيعيّاً، قام على إثرها بعض الشبّان بالاعتداء على المقيمين من الجنسية السورية في بشرّي وحرق درّاجاتهم الناريّة واقتحام منازلهم وصولاً إلى إجبارهم على ترك البلدة، رجالاً ونساءً وأطفالاً.

وبعيداً عن الأحكام المُسبقة التي أطلقها البعض على أهالي هذا الجرد الشمالي من جهة، والاتّهامات المُجحفة التي ساقها البعض الآخر ضدّ اللاجئين السوريّين من جهةٍ أخرى، فإن الواقع على الأرض يُظهر علاقات كانت ممكن أن تكون قاعدة لبناء مجتمعٍ متنوّع، في منطقةٍ بناها لاجئون من سوريا، وأصبح فيها اللاجئون الحاليون جزءاً لا يتجزّأ من الاقتصاد المحلي للمنطقة، وشريحة كبيرة من سكّان البلدة.

بداية العلاقة مع المواطنين السّوريّين

اشتهرت بشرّي بزراعة التفّاح، بداية مع الاستعمار الفرنسي وفشله في محاولته تعزيز الاقتصاد الرّيفي والزراعي من أجل كسب تأييد الوجهاء الريفيين. وهي حتى اليوم بلدة قائمة على زراعة التفّاح، بحيث تُنتج نحو مليون صندوق تفّاح سنويّاً مع الجوار. مع ازدهار القطاع الزراعي في أربعينيّات القرن الماضي، تمّ الاستعانة بالجيران السوريّين، وبخاصة بعدما هاجر عددٌ كبير من سكّان البلدة خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وفي هذا السياق، يؤكّد شربل (أحد أبناء بشرّي) أن العلاقة مع السّوريّين كانت علاقة عمل، ورثها البشرّانيّون من أجدادهم.1لجأ المسيحيّون إلى شمال لبنان هرباً من البيزنطيّين، بعدما دمّروا أحد أهمّ أديرة الموارنة في جبل الزاوية في سوريا وقتلوا نحو 500 من رهبانهم. تركّزت الهجرة بدايةً في البترون، قبل أن يهرب أتباع مار مارون الناسك بدورهم من سوريا الشماليّة جنوباً، باتجاه مرتفعات جبال لبنان، حيث أقاموا في منطقة الشمال وبخاصة عند سفح الكتلة الجبليّة التي يعلوها الأرز، واستوطنوا الجبال الوعرة وبنوا الأديرة في صخوره التي أمّنت لهم حماية طبيعيّة. لاحقاً، وفّرت لهم هذه الجبال مرّة أخرى قدرةً على “الدفاع الذاتي” في عهد المماليك. فبدا وكأن “جبل لبنان هو جزيرة مسيحيّة صغيرة في بحرٍ من الإسلام”، بحسب توصيف المؤرّخ فيليب حتّي. في ذلك الوقت، كان العامل ذو الجنسية السورية يسكن في غرفةٍ يعطيها له صاحب الأرض الزراعيّة قرب منزله طيلة الموسم الزراعي الممتدّ منذ شهر آذار وحتى تشرين الأوّل، على أن يعود إلى سوريا في الشتاء. استمرّت هذه الحال حتى العام 2011 مع بداية الثورة السورية وما رافقها من أحداث أمنية تسبّبت بتهجير السوريّين ونزوحهم إلى لبنان وبلادٍ مجاورة. وفي هذا السياق، يعبّر جو (أحد أبناء بشرّي) عن مخاوف يتبّناها خطاب الإستابليشمنت، في قلقه الدائم من “الغريب” واستقراره في البلد الجديد: “منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، أصبحت اليد العاملة السوريّة أكثر بكثير من حاجة بشرّي إليها، سيّما وأن العامل بدأ يأتي بزوجته وأولاده وأهله وأقربائه، هرباً من الحرب، ومن دون أن يفكّر بالعودة إلى بلاده”.

هي علاقة مصلحة إذاً، تلك التي كانت تجمع “البشرّانيّين” بجيرانهم على الحدود؛ كان يمكن أن تتطوّر لعلاقات جيرة وتآلف ووحدة اجتماعية، لكنّها تحوّلت فيما بعد ليصبح البشرّاني كارهاً لوجود السّوريّين على أرضه – ويتمّ استخدام تعبير “الوجود السوري” للدلالة على اللاجئات\ين السّوريّين، في مغالطةٍ هدفها الربط بين النظام السوري وممارساته في لبنان وسوريا، واللاجئين السّوريّين -، ومحارباً لهم، خلال فترة الحرب الأهليّة اللبنانيّة وما بعدها.

تفاصيل الجريمة الجماعية

كانت بشرّي، وعلى أثر شيوع خبر الجريمة، قد عاشت ساعاتٍ مُضنية. ففي حين قامت مجموعات من الشبّان بجولاتٍ في شوارع البلدة مطالبةً بطرد السّوريّين، قبل أن تهاجم المنازل التي يسكنها اللاجئون، وتعتدي عليهم بالضرب متسبّبين بإصابة بعضهم بجروحٍ – بعضها كان بليغاً – سارع بشرّانيون آخرون إلى حماية السّوريّين وتهريبهم من البلدة. “يلّي طلع من بشرّي، طلع عن طريق بشرّاني”، هذا ما رواه أحد اللاجئين لـِ”أشغال عامّة”، بعد وصوله إلى طرابلس هارباً من حفلة الجنون التي حدثت، في حين أكّد آخر أن سيّدة بشرّانيّة حمته واهتمّت به وساعدته في معالجة جراحه بعد تعرّضه للطعن وقبل تمكّنه من الفرار. ومع ذلك، أُجبر هؤلاء على الخروج من بشرّي ليلة الجريمة من دون أن يُسمح لهم بإحضار أموالهم، أو أوراقهم الثبوتيّة وملابسهم، بسبب استهداف منازلهم بشكلٍ مباشر والاعتداء عليهم. فيما تعمّد بعضهم الفرار من دون مقتنياته، خوفاً من استهدافه، “لاحظنا العين علينا، والحقائب ستسهّل عمليّة التعرّف إلينا”. وبالفعل، بعض الذين قابلناهم كان لا يزال في ملابس النوم، والبعض الآخر كانت إصاباته واضحة رغم مرور ثلاثة أيّام على الحادثة، من جروحٌ في الرأس أو طعنات في الجسم. والجدير ذكره أن مستشفى بشرّي كانت رفضت استقبال المُصابين لمعالجتهم، ليلة وقوع الجريمة، كما أخبرنا من تحدّثنا إليهم.  

من لم يتعرّض للاعتداء، كان قد تمكّن من الهرب بعدما انتشر خبر الجريمة أو لاحقاً. وأشار هؤلاء إلى أنه تمّ تحذيرهم من قبَل أصحاب عملهم بأنهم سيتعرّضون للاعتداء وعليهم أخذ الحيطة والحذر. إحدى العائلات المكونة من رجل وامرأة وطفلهما، اضطرّت إلى الاختباء في وادٍ طيلة الليل بانتظار مرور الباص لنقلهم في الصباح. “كان المشهد عنيفاً بشكلٍ لا يُصدَّق”، يقول الرجل واصفاً ما حدث: “ملثّمون يحملون الرّشاشات دخلوا منازلنا، هدّدونا، حطّموا الأبواب، اعتدوا علينا، ثم أشعلوا النيران، قبل أن يأتي آخرون ويصبّون البنزين فوق النيران المشتعلة”. 

هذا ويبدو المشهد أكثر تعقيداً وصعوبة، إذ يذكر بعض من هرب تلك الليلة بأنهم يعرفون المعتدين، “يلي قتلونا نحن منعرفهم. بشتغل معه بالنهار وبيقتلني بالليل”. وهو أمر، إن دلّ على شيء، فهو أن العلاقات الاجتماعية التي نشأت خلال السنوات الماضية، تعرّضت لعملية بتر قاسية وقوية خلال تلك الليلة، خاصة وأن اللاجئين رؤوا تخاذل جيرانهم عن مدّ يد المساعدة تلك الليلة، بحيث علموا ما يجري لكن “ما حدا طلّ أو طلع يساعد”.

في اليوم التالي على الجريمة، تلقّى قسمٌ من اللاجئين رسائل نصيّة من بعض أهالي بشرّي، يطمئنّون فيها عليهم إذا ما تعرّضوا لأيّ أذى، أو كانوا بحاجة للمساعدة. وفي هذا الإطار، علّق أحد اللاجئين بالقول “أعتقد أن من راسلني كان هدفه أن أعمل على لوح التزلّج الخاص به، وليس الاطمئنان عليّ”. لاحقاً، حين زرنا بشرّي، التقينا بأحد اللاجئين (يعمل نادلاً في أحد مطاعم البلدة) الذي أكّد أنه غادر بشرّي من تلقاء نفسه في اليوم التالي للجريمة: “لم يتعرَّض لي أحد أبداً، لكنّي لم أعد أشعر بالأمان. الغضب أعمى بعض الشباب، ففضّلتُ المغادرة. عشتُ شهراً كاملاً في بيروت، قبل أن يتّصل بي أصحاب المطعم ويطلبون منّي العودة”.

التفاعل الاجتماعي المأزوم ودور الإعلام

يعتقد أهالي البلدة بأن ارتفاع عدد اللاجئين السوريين أصبح يؤثر في السنوات الأخيرة على اليد العاملة البشرّانيّة، فيردّدون الحُجّة التي تُسمع في أغلب المناطق، بأن العمّال السوريين أصبحوا يعملون في البناء والمطاعم والكهرباء وصالونات التجميل وتصليح الالكترونيّات والسيارات، وليس في القطاع الزراعي فقط. وهو أمر، إن كان حقيقياً، لا يستدعي غضب المواطنين على القادمين الجدد، بقدر ما يستدعي غضبهم على السلطة السياسية التي لم تسمح ببناء اقتصاد قادرٍ على الإنتاج للمواطنين والمهاجرين واللاجئين وسواهم، وعلى النقابات التي غابت عن تأسيس حركة نقابية حقيقية، تحمي العاملات والعمّال مهما كانت جنسياتهن\م، لا أن تسمح باستغلال اللاجئات\ين لأنهم يرضون براتبٍ أقلّ ممّا يرضى به اللبنانيون. 

هذا، ويتمّ ترديد القول الذي اعتدناه، بأن وجود اللاجئين “بشكلٍ عشوائي أصبح عبئاً. باتوا يأخذون من دربنا الخدمات المُتاحة، من كهرباء ومياه. يستفيدون منها بشكلٍ غير شرعي، لا يركّبون عدّادات ولا ساعات”. حجّة أصبحت كالمانترا، ليس في لبنان فقط – منذ ما قبل الحرب الأهلية، كان الخطاب ذاته عن اللاجئين الفلسطينيين، وأهل المناطق الريفيّة القادمين للعمل في المدينة، وخلال الحرب وبعدها عن أهل الجنوب والبقاع الغربي الذين قدموا إلى بيروت هرباً من الاحتلال، فسكنوا بيوتاً تركها أهلها ليصبحوا بذاك “يأخذون” الخدمات من درب أهل المنطقة- لكنّها المانترا ذاتها التي تتردّد حول العالم، عن كلّ الجماعات التي يعتبرها الإستابليشمنت غريبة، لاجئة، لا حقّ لها بالوجود في هذا المكان. فالخروج عن القانون، و”استغلال النظام” – وهو أمر يفعله اللبنانيون كل يوم، بداية من عدم احترام قوانين قيادة السيارات، ومن ثم التحايل على جميع القوانين، وصولاً إلى الرشاوى التي يغدقونها لتمرير معاملاتهم – يصبح الحجة الأولى، لا لنقد ممارسات فقط، بل لتجريم جماعاتٍ بكاملها وجعلها تبدو غير قانونية وغير شرعية. وهذه الوصمة، أكانت مبنيّة على حقيقة أم على كذب، هي أيضاً تبرير لكلّ ما يمكن أن يحصل أي كلّ ما يمكن أن يقوم به السكّان (الذين يُعتبرون أصليين) من حملات وأفعال انتقامية ضدّ اللاجئين والعمال المهاجرين… ومن ضمنها حرق البيوت وترويع الناس وطردهم.  

وأخيراً، إن كان اللاجئون – أو أي جماعة مضطهدة ومقموعة ومهمّشة – يستفيدون حقاً من الخدمات بشكل غير شرعي، فاللوم الأول على المنظومة التي لم تُتِح لهن\م هذه الخدمات بأسعار زهيدة أو دون كلفة، لأنه أصبح واضحاً استحالة العيش دون دعم الدولة – بتعريفها كدولة عدالة إجتماعية -، أو المؤسسات الدولية في حالة اللاجئين. 

كما أن الحديث عن أن منطقة ما تغّيرت وتبدّلت بسبب أعداد اللاجئين فيها، كما في قول أحد السكّان بأن بشرّي “لم تعد تُشبه نفسها”، أو بأنّ “المشهد أصبح غير مألوف في السنوات الأخيرة، صاروا أكتر منّا”، وبأنّ “عاداتهم تختلف عن عاداتنا، ولباسهم يختلف عن لباسنا”، وبأنهم “لم يتأقلموا، رغم أننا نحاول أن نُشعرهم بالارتياح ونبذل مجهوداً في تعليمهم، إلا أنهم “مسكّرين” ولا يريدون أن يتطوّروا”، وبأنهم “يرمون النفايات في الشارع، وزادوا من تلوّث البلدة”، فكلّ هذا الكلام لا يمكن فهمه إلّا بأنه عنصري. وهو كلام ساهم الإعلام اللبناني – التابع بأكمله لأحزابٍ سياسيّة – بترسيخه، وسنتكلّم عن ذلك بالتفصيل لاحقاً.  كل منطقة تتغيّر وتتبدّل بقدوم سكّان جدد، من مناطق مختلفة، ولأسباب متعدّدة، بداية من البحث عن عمل أو عن مكان للاستجمام. وهو أمر اعتادت عليه بشرّي بالذات كل فصل شتاء، بسبب قدوم السيّاح إليها للتزلج. النقد هنا إذاً ليس بسبب التغيير الحاصل، بل بسبب هوية (الهوية الطبقية) من يقوم بهذا التغيير: لاجئون فقراء، من جنسية مختلفة يُنظَر إلى المنتمين إليها في الواقع اللبناني كجنسية أقلّ قيمة. هذا بالإضافة إلى الإسلاموفوبيا التي تعتبر بأن شكل وعادات ولباس من يعيش بعيداً عنها، مسافة أقلّ من ساعة، ينتمي إلى ثقافة مختلفة. من دون أن نغفل عن عبارة “ونبذل مجهوداً في تعليمهم، لكنهم مسكّرين ولا يريدون أن يتطوّروا”، وما تحمله من فوقية التفضّل على الناس بالتعليم والمعرفة.

في دراسةٍ أعدّتها مؤسّسة “مهارات” رصدت من خلالها العنصرية في الإعلام اللبناني، خلصت إلى أنه (أي الإعلام) لا يبدو خالياً من تناقضاتٍ يعيشها المجتمع اللبناني في تعامله مع ملفّ اللاجئين. وأظهرت هذه الدراسة، التي أُعدّت بالتعاون مع مشروع “بناء السلام في لبنان” التابع لبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي لعام 2015، أن مرور الأحداث المرتبطة باللجوء في الإعلام يقوّي بشكلٍ غير مباشر الأحكام المسبقة العنصرية لطرفٍ، مقتنع أساساً أن “النازحين واللاجئين هم وراء إحداث المشاكل والشغب”. فتبدو الأخبار المرتبطة بـِ”الغريب”، من الجنسية السورية أو الفلسطينية، مليئة بانجرافات يمكن أن تغذّي التعريف النمطي؛ لا سيما وأن النبرة المستخدمة في التقارير الإخبارية لمواضيع التغطيات المتعلّقة باللاجئين سلبية، خصوصاً في معالجة موضوع منافسة اليد العاملة السّورية للبنانية، وفي التغطيات الأمنية، وموضوع الأعباء الناجمة عن واقع النزوح. وفي أبرز خلاصات هذه القراءة للواقع الإعلامي، يتبيّن في المضمون أن التغطية الإعلامية بغالبيّتها تشدّد على ربط موضوع اللاجئ\ة السّوري\ة بالرفض (أي بالخوف) أو بالقبول (أي بالتعاطف معه\ا). كما يتمّ استخدام الخوف لوضع المواطن\ة في حالة تعبئة قصوى: الخوف من العدد (عدد النازحين)، من طبيعة وجودهم (عبء اقتصادي، تأثير سلبي اجتماعي، خطر أمني، خطر سياسي، وتهديد وجودي)، من مدة وجودهم، وكلّها دلالات تحشد لخوفٍ مبرّر. كذلك، خلصت الدراسة إلى أن الآخر “الغريب” صار مهمّشاً ومستبعداً في وسائل الإعلام، التي تميل إلى اختيار مواضيع الساعة (ومعظمها من الجريمة والعنف والمخدّرات أو المعابر الحدودية غير الشرعية) تُسهم في إظهار منهجي للآخر، ليس فقط كمختلف\ة، ولكن أيضاً باعتباره\ا عامل تهديد. وأشارت الدراسة في النهاية إلى أن الإعلام اللبناني يميل إلى التخفيف من حدّة الخبر عندما يتعلّق الأمر بالتمييز والعنصرية، بحيث يتمّ تجاهل المواضيع المتعلّقة بالممارسات السّلبية تجاه اللاجئات\ين من قبل البلد المُضيف.

النسيج السكّاني للمدينة

لم يكن السورّيّون يسكنون في حيٍّ معيّن داخل بشرّي، بل يتوزّعون بطريقةٍ عشوائيّة في كلّ الأحياء: تحت الكنيسة، قرب الملعب، أو فوق المهنيّة. يتراوح عددهم بين 1200 و1800 شخص (حاولنا الحصول على أرقامٍ رسميّة من البلديّة، والتحدث معها حول النسيج السكّاني للبلدة، إلا أنها لم تردّ على اتصالاتنا المتكرّرة أو على رسائلنا). وفيما يؤكّد بعض الأهالي أن نصف السّوريّين تقريباً جدد ولا يعرفونهم وأوضاعهم غير منظّمة، يقول أحد اللاجئين في حديثه معنا “الكلّ بيعرف وين فيه سوريّي، والأحياء التي نسكن فيها”.

بعضهم عاش في أحياءٍ تتواجد فيها العديد من العائلات السوريّة، والبعض الآخر كان الوحيد ذو الجنسية السّورية في الحيّ. لا توجد أنماط معيّنة للأماكن التي عاش فيها السّوريون. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن كثيرين ممّن استقرّوا في بشرّي، سكنوا في المنازل نفسها التي كانوا يقيمون فيها خلال عملهم الموسميّ قبل الحرب. فقد كان لمعظمهم صلة ببشرّي قبل اندلاع الحرب في سوريا، بسبب عملهم الموسميّ طيلة عشرين عاماً في القطاع الزراعي، خاصة زراعة وقطف التفّاح، أو في القطاع السياحي، من صيانة مصاعد التزلّج وتشغيلها، بالإضافة إلى تصليح عربات الثلوج أو في محلّات تأجير معدّات التزلّج. 

بعد اندلاع الحرب في بلادهم، لجأوا إلى بشرّي بشكلٍ دائم، بعضهم احتفظ بوظيفته والبعض الآخر لم يفعل، لكن معظمهم يسكن في بشرّي بسبب عمله فيها. عائلة واحدة (أم وولداها) ممّن قابلنا جاءت تعيش في بشرّي لأن زوجها، الذي توفّي في سوريا بسبب الحرب، سبق وكان عاملاً موسميّاً في البلدة. 

معظم العائلات السّورية كانت لا تزال تعيش في المنزل أو الحيّ نفسه منذ استقرارها في بشرّي. بعضها اضطرّ للانتقال إلى منزلٍ آخر مع بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان، إما بسبب إصرار مالك المنزل على رفع كلفة الإيجار، أو بسبب مطالبته أن يتقاضى الإيجار بالدولار. لكنها حالات نادرة جداً. وبشكلٍ عام، تتراوح أسعار الشقق التي كان يسكنها السّوريون في البلدة بين 200 و500 ألف ليرة لبنانيّة.

عقوبة جماعيّة وخطاب سياسي شرّع الجريمة

نادراً ما كان اللاجئون السّوريون يشعرون بالارتياح التامّ في بشرّي، على عكس ما يردّد البشرّانيّون، فيقول أحدهم في حديثه معنا: “وجودنا هنا، وفي كلّ لبنان، هو عبء علينا نحن السّوريّين أيضاً”. فقد أشار العديد، من الذين أُجبروا على الرحيل، إلى أنهم لطالما عاشوا في حالة من انعدام الأمان قبل وقتٍ طويل من هذه الجريمة: “منعرف الضيعة أكتر من أهلها، ومنحبّها ومنحبُّن، بس ما فيه أمان”.

وفي حين يؤكّد أهالي بشرّي أن البلدة لم تشهد إشكالاً واحداً في السابق بينهم وبين اللاجئين، يؤكّد بعض السّوريين عكس ذلك “تعوّدنا على التهديدات. تعرّضنا لمضايقات كثيرة في السابق، لكنها لم تتخطَّ إطار التهديد الكلامي. كانت تحدث بعض المشاكل، بس مش هالقدّ”. 

بدورهم، وضع معظم البشرّاويّين ردّة فعل الأهالي تجاه اللاجئين السوريّين بعد الجريمة في خانة الطبيعيّة، قلّة قليلة جداً لا تبرّر ردّة الفعل العنيفة، مثل جورج الذي أكّد أن “لا شيء يبرّر ما شهدناه ضدّ اللاجئين، ومن المعيب أن نحمّل الجميع مسؤولية جريمة ارتكبها فردٌ واحد”. جورج بدوره ساعد عدد كبير من اللاجئين في عملية الخروج من بشرّي وأمّن لهم الحماية اللازمة، واضطرّ إلى مواجهة بعض أصدقائه بسبب ذلك. برأي جورج، فإن ما حصل “لا يتحمّل مسؤوليّته لا اللاجئين السوريين ولا البشرّانيين”. وتبرير الجريمة بذاته، إن كان عبر دعمها كاملة أو الموافقة على بعض جوانبها، يحيلنا إلى ما كنّا ذكرناه سابقاً من عنصرية بمعنى تعميم ما يقوم به فرد على جماعة. وهو من ناحية أخرى، قيام مجموعة من اللبنانيين – وبشكلٍ غير قانوني وغير شرعي – باعتبار نفسها صاحبة القرار في الجهاز القانوني للدولة، وإعطاء لنفسها الحق بالتحقيق وإصدار الحكم وتنفيذه، خارج أيّ من أطر العمليّة القانونيّة التي يمكن أن تضمن العدالة، مستخدمةً العقاب الجماعي في سياق أرضيّةٍ اجتماعية مجهّزة له. والمقصود بالأرضيّة هنا، خطابات الكراهية التي انتهجها – وينتهجها – سيّاسيّو بشرّي خاصة ولبنان عامة، بالإضافة إلى وسائل إعلام محليّة كما ذكرنا، من شأنها تعزيز الكراهية والنفور ضدّ اللاجئين. من هنا، فإن “المداهمات” التي نفّذها الجيش اللبناني بعد الجريمة لمنازل يسكنها اللاجئون، بهدف “التأكّد من عدم وجود أسلحة” بداخلها، جاءت استجابةً لنائبَيْ قضاء بشرّي ستريدا جعجع وجوزيف اسحق، اللذين طالبا “قيادة الجيش وقوى الأمن الداخلي وكلّ الأجهزة الأمنية المعنيّة بالقيام بحملة تفتيشٍ واسعة على تجمّعات السّوريّين في المدينة والقضاء، للتأكّد من عدم وجود أيّ سلاح فيها أو مطلوب للعدالة”.

خطاب الكراهية كان واضحاً أيضاً في بيان بلدية بشرّي، المحسوبة على القوّات اللبنانيّة، والتي استغربت “وجود أسلحة في يد من يدّعون العمالة”، وتساءلت “هل وجودهم في المدينة هو فقط بهدف العمل، أم أنّ هناك خلفيات أخرى”؟ كما طالبت الأهالي، في البيان الذي صدر في وقتٍ كانت ردود الأفعال الشعبيّة على الجريمة في أوجها، باتّخاذ “قرارٍ تاريخي وجريء بتغيير وجه العمالة، في استخدام اليد العاملة المحليّة في الأنشطة الزراعية والصناعية والسياحية، وعدم تأجير أيّ غريب من دون التأكّد من أوراقه الثبوتية”. 

الموضوع لم ينتهِ هُنا. ففي موازاة بيان البلديّة، دخل المرشّحان على لائحة “حرّاس بشرّي” في انتخابات 2018 وليام طوق وروي عيسى الخوري (المنافسان للقوّات) بازار خطابات الكراهية، حين عقدا مؤتمراً صحافياً طالبا فيه البلديّة “أن تبادر فوراً، وقبل أن تجفّ دماء القتيل الحبيب، وقبل أن يُصار إلى تحقيق العدالة، اتّخاذ قرار ضمن نطاق صلاحياتها بإخلاء جميع السّوريّين المُقيمين حالياً في بشرّي، سواء كانوا عمّالاً أو مستوطنين أو عائلات؛ ريثما يُصار إلى البحث في آلية تنظيميّة محدّدة يُصار من خلالها الاستعانة بالعمّال الذين يرغبون بالعمل هنا ضمن ضوابط ومعايير تحفظ حقوقهم وتحفظ أمننا وكرامتنا وسلامة أهلنا”. واعتبر المحامي طوني الشدياق، الذي تلا بيان طوق والخوري، أن ردّة الفعل على الجريمة كانت “غضباً عفوياً صادقاً انفجر قبل أن تجفّ دماء من لا يستحقّ الموت”.

لم تكن هذه الحادثة الأولى، ولا تبدو الأخيرة في ظلّ استمرار الخطاب المشيطن للاجئات\ين، واستغلال وجود نحو مليون ونصف لاجئ سوري في لبنان هم مادّة خام لخطابٍ سياسي وإعلامي يلعب دوراً أساسياً في الترويج للعنصرية وإعادة إنتاجها، من خلال اعتبارهم عامل تهديد وعدم استقرار. تُنتج السلطة السياسية الخطاب العنصري الذي يرمي بكل التهم على اللاجئين، فيُمنطِق الإعلام الخطاب وينمّقه. والمسؤولية مشتركة مع المجتمع الذي إمّا يصيغ خطاباً مماثلاً، أو يصدّق ما يسمعه في الإعلام وعبر مسؤوليه السياسيين… أو يقوم بتنفيذ الأحكام العقابية على اللاجئين.

المراجع

  • 1
    لجأ المسيحيّون إلى شمال لبنان هرباً من البيزنطيّين، بعدما دمّروا أحد أهمّ أديرة الموارنة في جبل الزاوية في سوريا وقتلوا نحو 500 من رهبانهم. تركّزت الهجرة بدايةً في البترون، قبل أن يهرب أتباع مار مارون الناسك بدورهم من سوريا الشماليّة جنوباً، باتجاه مرتفعات جبال لبنان، حيث أقاموا في منطقة الشمال وبخاصة عند سفح الكتلة الجبليّة التي يعلوها الأرز، واستوطنوا الجبال الوعرة وبنوا الأديرة في صخوره التي أمّنت لهم حماية طبيعيّة. لاحقاً، وفّرت لهم هذه الجبال مرّة أخرى قدرةً على “الدفاع الذاتي” في عهد المماليك. فبدا وكأن “جبل لبنان هو جزيرة مسيحيّة صغيرة في بحرٍ من الإسلام”، بحسب توصيف المؤرّخ فيليب حتّي.
السكن بشري قضاء بشري لبنان محافظة شمال لبنان