طرابلس: مدينة أثرية على حساب سكانها

المقال الثاني ضمن إطار مشروع بحثي بعنوان “طرابلس: مَن سلَبَ منّا الأرض؟”
كتابة: كريستينا أبو روفايل
بحث: ريان علاءالدين، تالا علاءالدين، عبير سقسوق، نادين بكداش
إنتاج الخرائط: ريان علاءالدين

على الرغم من الدور الاقتصادي الذي نتوقّع أن تلعبه طرابلس بالنسبة لكامل شمال لبنان -دور نراه مرتقبٌ مثلاً في مقاربة كل من بعثة إيرفد والخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية- كونها المنفذ لسوريا الداخلية على الشاطئ الشرقي للمتوسط، تُظهِر معظم المناطق الطرابلسية غياب المدينة التاريخي عن خريطة اهتمام الدولة وخدماتها. وفيما شهدت طرابلس خططاً عديدة ومشاريع حاولت رسم رؤية حديثة للمدينة، إلا أن هذه الخطط ساهمت بإيصال المدينة إلى ما هي عليه اليوم. ورغم كلّ الاستراتيجيات التي وضعت للمدينة، فـان أياً منها لم يرسِ رؤية دامجة للأحياء السكنية المهمّشة، ولم يقاربها كجزءٍ عضويٍ من المدينة، بل كنمو غير مرغوب به، ولم يرَ الأراضي الزراعية والنشاط الزراعي كجزء من وظيفة هذه المدينة وحاجات ناسها. أضحت طرابلس اليوم مثالاً حيّاً عن معنى أن تُسلب الأرض من أهلها. سنعرض من خلال ثلاث مقالات، موجزاً لكيفية تعاطي السلطات مع طرابلس النهرية وطرابلس البحرية (أي مدينة المينا، كما يسمّيها أهلها)، وتداعيات ذلك على أحيائها من النواحي المدينية والسكنية والبيئية. تستند المقالات إلى ورشة عمل بحثية تحت عنوان “مساحة بحثية تشاركية لتفعيل الحق في المدينة والسكن في طرابلس” جرت في تشرين الأول 2021 وشاركت فيها مجموعة مُختارة من سكان المدينة.

كما في أفلام الخيال العلمي، تنهار المباني في طرابلس على رؤوس قاطنيها، لا نتيجة غزو كائنات فضائية، بل بسبب سنين من تدخّلات قاسية للدولة عبر تصاميم توجيهية تتبنّى المفهوم التقني للترميم وتتعمّد نسيان المُركّب الاجتماعي للمدن والأحياء. في عام ٢٠١٩، سقط مبنى الفوال في حي الأندلس في مدينة الميناء على رؤوس ساكنيه فمات أخ واخته.1خبر على موقع صحيفة النهار بعنوان “قتيلان إثر انهيار منزل في الميناء… مأساة تؤكّد الفساد والإهمال والطمع”، تاريخ 10 كانون الأول 2019. وفي عام ٢٠٢٠، انهار مبنى قديم بشكل جزئي في حي الزاهرية في طرابلس.2خبر على موقع لبنان الجديد بعنوان “انهيار مبنى قديم في طرابلس”، تاريخ 31 كانون الأول 2020. وفي عام ٢٠٢١، سقطت شقيقتان ضحية انهيار شرفة مبنى سكني في منطقة القبة في طرابلس.3خبر على موقع سكاي نيوز عربية بعنوان “انهيار شرفة منزل في لبنان يودي بحياة شقيقتين”، تاريخ 13 تشرين الأول 2021. هذه الحالات ليست الوحيدة، بل تشكّل حالةً متكرّرة في أحياء مدينتي طرابلس والميناء، سواءً في الأحياء الشعبية حيث تكثر المباني القديمة والتاريخية الآيلة للسقوط و المأهولة بالسكان، أو في الأحياء غير الرسمية حيث يسوء وضع المنازل وتتدهور نوعية البناء الرديئة أصلاً. وفق دراسة أجرتها وزارة الثقافة سنة ٢٠١٧، فإن عدد الأبنية التراثية المتصدّعة في طرابلس يفوق الثلاثمائة مبنى، تتفاوت حالتها بين الخطر المتوسط والمتقدّم والآيل للسقوط. ويُرجّح أن “تكون الأخطار تزايدت بفعل مرور الزمن” فيما لا إحصاءات رسمية عن وضع المباني الأخرى، حيث يبدو واضحاً أن السكان من محدودي الدخل يعيشون، على نحوٍ متزايدٍ، في ظروفٍ هشةٍ ومليئةٍ بالمخاطر.

نتطرّق هنا إلى معركة ترميم المباني التاريخية وتأهيلها في مدينتي طرابلس والميناء، من خلال الحديث عن منطقة “تحت السباط” في طرابلس ومبنى الفوال في الميناء وغيرها من الأمثلة، عبر البحث في التصاميم التوجيهية لهاتين المنطقتين التي عادةً ما تشوبها التدخّلات السياسية، وعبر تحليل تأثيراتها المباشرة على الأهالي وعلى الظروف السكنيّة التي تعيشها الأحياء القديمة. ومن خلال تناول هذه التصاميم نبيّن كيف أنّها شكلت عائقاً مدمراً عرقل محاولات تحسين نوعية الحياة والعمران، عبر وضع قيودٍ صارمةٍ على عمليات البناء والترميم، كما أنّها أدّت أيضاً إلى سفك دماء العديد من الضحايا.

حارة “تحت السباط” أو قصة تدهور المدينة الأثرية

مبانٍ مأهولة بحالة متدهورة، تشقّقات في الجدران والأسقف، شبابيك مغطّاة بالنايلون بدلاً من الزجاج، عائلات تسكن في بيت الدرج بلا ضوء أو تهوئة، مبانٍ تعاني من مشاكل إنشائية تجعلها آيلة للسقوط، هكذا نستطيع أن نصف حالة المباني في محلة “تحت السباط” في طرابلس، رغم أنّ هذا الوصف المبسّط لا ينقل بشكلٍ وافٍ معاناة أهلها وسكانها. تتألّف هذه المنطقة الواقعة بين قلعة طرابلس وجامع البرطاسي، والمطلة على نهر أبو علي، من مجموعة من المباني السكنية المتراصة، بعضها مملوكي وبعضها عثماني العهد وتعود ملكيتها لعائلات طرابلسية مختلفة. يعود تاريخ بناء هذه المنطقة إلى أوائل القرن الثاني عشر عندما بنيت قلعة طرابلس. بعد فيضان نهر أبو علي ترك بعض السكان المنطقة وانتقلوا إلى مناطق أكثر اماناً. بسبب توسيع وتغيير مجرى نهر أبو علي بعد الفيضان وتوسيع بعض الطرقات نتيجةً للتصميم التوجيهي لعام ١٩٧١، تمّ هدم بعض المنشآت فيها. يعود بناء المباني المتبقية اليوم إلى عدة عهود مختلفة، فتتنوّع بعض مبانيها بين الحقبة المملوكية والعثمانية، بينما يعود أكثرها إلى بداية السبعينيات (غنزلي، ٢٠١٤).

بالعودة إلى الواقع المعُاش اليوم، تتآكل المباني ذات الطابع التراثي المتبقية في المنطقة شيئاً فشيئاً، على أثر الإهمال بالرغم من إشغالها، كما تتعدّد طرق الوصول إلى السكن فيها. أظهرت نتائج الزيارة الميدانية السريعة – التي أجرتها بعض المشاركات في ورشة عمل تحت عنوان “مساحة بحثية تشاركية لتفعيل الحق في المدينة والسكن في طرابلس” في تشرين الأول ٢٠٢١ – في ١٤ وحدة سكنية في ٥ مبانٍ أثرية ضمن منطقة “تحت السباط”، أن ١٠ من هذه الوحدات يسكنها مستأجرون جُدد، و٣ وحدات يسكنها مستأجرون قدامى، ووحدة سكنية واحدة يسكنها مالكوها. كما بيّنت النتائج أن أغلب هؤلاء القاطنين هم من العائلات، أو من العائلات الموسّعة التي يكون عدد أفرادها مرتفعاً، مع وجود وحدة سكنية على الأقلّ تشغلها أكثر من عائلة، و٣ وحدات سكنية يشغلها مسنون. واستطاعت المشاركِات، عبر الملاحظة البصرية، وصف حالة المباني الخمس التي يسكنها هؤلاء: إثنان منهما تظهر عليهما أضرار وتشقّقات جسيمة، ممّا يدفع السكان إلى القلق حول أمانهم فيهما، و ثلاث منها فيها عناصر ناتئة متخلخلة بإمكانها أن تشكّل خطراً على السكان كما المارة.

أما على صعيد الوحدات السكنية، فقد تبيّن أن أغلبيتها، تحديداً ٨٦% منها، بحاجة إلى صيانة أساسية كالتلييس، أو الطرش، أو الدهان، أو معالجة النش، الخ، فيما يعاني بعضها من انعدام دخول نور الشمس والتهوئة، أو سوء الخدمات الأساسية كالصرف الصحي والمياه والكهرباء. هنا، تجدر الإشارة إلى أن ٣ وحدات من أصل ١٤ هي وحدات تجارية / محلّات تُستخدم للسكن.

بحسب المهندس جميل جبلاوي، وهو عضو في مجلس بلدية طرابلس، تمّ إجراء دراسة على مشارف سنة ٢٠٠٨ لتأهيل وترميم حيّ “تحت السباط”، وتبيّن أن تكلفة الترميم الإجمالية من الناحية الإنشائية قد تصل إلى ٣٠ مليون دولاراً أميركياً، ناهيك عن كلفة إضافية قُدّرت بحوالي 20 مليون دولاراً أميركياً مخصّصة للترميم المعماري. وأكّد جبلاوي أن بلدية طرابلس ووزارة الثقافة أعربتا حينها عن عدم قدرتهما على تنفيذ هذا المشروع بسبب الكلفة العالية، فتمّ تناسيه وتجاهل واقع الحي فزاد إهمال البلدية له.

التصنيف التراثي: عائق أمام تحسين نوعية حياة السكان

تعود أسباب تدهور حالة المباني في هذا الحيّ بشكلٍ خاص، وفي الأحياء الأخرى للمدينة القديمة بشكلٍ عام، لظروفٍ عدّة. في أوائل القرن الماضي، شهدت طرابلس هجرة داخلية موسمية نتيجة جذبها للعاملات والعمال خلال المواسم الزراعية، تطوّرت إلى هجرة دائمة مع نموّ الاقتصاد وبناء مؤسسات الدولة. . فبدأ الأغنياء من أبناء المدينة القديمة يتوجّهون إلى منطقة التل، والمناطق الراقية الجديدة أو إلى خارج المدينة، بينما لم يكن أمام المفقَّرين الوافدين من المناطق المجاورة إلّا أن يتوجّهوا إلى المدينة القديمة، في عملية فرز جغرافي على أساس اجتماعي اقتصادي. وقد ترافق ذلك مع تدهور تصاعدي لحالة المباني بسبب تخلّي أصحاب المُلك عن واجبهم في الاهتمام بعملية الترميم وصيانة المباني، وانعدام سياسة إعادة التأهيل. يضاف إلى ذلك كثرة الورثة، ممّا كان يعيق اهتمام المالكين بمبانيهم. كما سيطر الفقر والعوز في حالات كثيرة على المالكين والقاطنين ممّا منعهم من تحسين ظروف مساكنهم، بحيث لا تكون هذه الأخيرة أولويةً بنظرهم رغم أنّها أصبحت تهدّد حياتهم. لكن السبب الأهمّ في دمار المدينة القديمة في الواقع، يعود إلى شبه التجميد الحاصل لمبانيها، والناتج عن أنّها مصنّفة بكاملها كمدينة أثرية. تتميّز المدينة القديمة بنسيجها العمراني العضوي المركّب والمعقّد، غير أنّ تصنيفها التراثي يضعها تحت قوانين تنظيمية غير اعتيادية وهو ما يعيق التدخل ويزيد من صعوبة الترميم فيها وزيادة الإضافات عليها بما يتناسب مع احتياجات السكان، في ظلّ غياب خطة تمويل متكاملة لأعمال الترميم من قبل السلطات العامة أو البلدية أو المديرية العامة للآثار.


السبب الأهمّ في دمار المدينة القديمة في الواقع، يعود إلى شبه التجميد الحاصل لمبانيها،
والناتج عن أنّها مصنّفة بكاملها كمدينة أثرية.


بالنسبة إلى منطقة “تحت السباط” التي تقع ضمن حدود المدينة القديمة، فقد خضعت لشروط التصميم التوجيهي العام لمدينة طرابلس التاريخية الذي صدر عام ٢٠٠٧ عبر المرسوم ١٠٢٩، وذلك في إطار حملة وطنية لحماية المناطق التراثية والأثرية بتمويل من البنك الدولي يشرف على تنفيذها مجلس الإنماء والإعمار، بموافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني.4 قبل 2007، كانت “تحت السباط” في المنطقة “I” ضمن تصميم عام ١٩٦٤، والمنطقة “A” في تصميم عام ١٩٧١ أي أثرية قديمة. أبقت الدراسة الاستراتيجية للتنمية المستدامة لاتحاد بلديات الفيحاء لديران هرمنديان عام ٢٠٠٢ هذه المنطقة ضمن المنطقة المحمية الأثرية أو التاريخية “P1”.

من خلال هذا التصميم تمّ اعتبار المدينة التاريخية وحدة عمرانية تراثية متماسكة مع وجود خصوصية لبعض الأحياء ما أدّى إلى تقسيمها إلى مناطق ارتفاقية، حيث تمّ تصنيف “تحت السباط” منطقة ترميم “ZR”، فتخضع بالتالي لأحكام عامة وخاصة إضافةً إلى تنظيم خاص للمهن. 

من خلال الشروط العامة التي وُضعت للمدينة التاريخية، تنشأ لجنة فنية خاصة، تضمّ ممثلين عن كل من البلدية، المديرية العامة للتنظيم المدني والمديرية العامة للآثار بإشراف رئيس البلدية، تكون مهمتها الإشراف على تجديد وإحياء المنطقة، وتكون موافقتها ملزمة. وينبثق منها جهازان، يضم كل منهما ممثلين عن البلدية والتنظيم المدني ومديرية الآثار:

  • جهاز فني مهمته الإشراف ودرس كافة طلبات الترخيص والموافقة عليها.
  • جهاز تخطيطي مهمّته درس جميع الأعمال ذات المنفعة العامة،5الطرقات والممرات والمرائب العامة وتمديدات البنى التحتية والإنارة والكهرباء. والمواضيع الشائكة (بدل الايجار، تفتّت الملكية، إلخ.) ويعمل على وضع اقتراحات لحلها. 

بالتالي، تلعب البلدية ورئيسها دوراً مفصلياً في هذه اللجنة ولا يتمّ الموافقة على تراخيص البناء والترميم إلا بموافقتها. لكن سؤالاً أساسياً يُطرح هنا: أين المقاربة الاجتماعية للمدينة التاريخية في عمل الجهاز التخطيطي، وهل طرح هذا الجهاز حلولاً حقيقية لمعالجة ما سمي بـ”المواضيع الشائكة” حفاظاً على النسيج الاجتماعي، الاقتصادي والتراثي للمدينة القديمة؟ 

لدى قراءة ما تبقّى من البنود المتعلقة بشروط البناء والترميم وإعادة البناء، نلحظ أيضاً عدداً من الشروط الصارمة، نستعرض البعض منها:

  • المنشآت المبنية قبل ١٩٤٠، ويُسمح بترميمها بعد موافقة اللجنة الفنية مع إزالة الشوائب الناتجة عن الإضافات، وإزالة الأجزاء المخالفة والتي لا يمكن تسويتها. وفي حال استبدال عناصر قديمة، تُستعمل مواد من نفس النوع واللون والبنية والتقنيات التقليدية للمبنى.
  • لإعادة البناء في العقارات التي تحتوي على مبانٍ مهدّمة جزئياً، يمكن الموافقة على ذلك شرط الإبقاء على التصميم المعماري الداخلي وعلى شكل وحجم الكتلة الأساسية بدون إضافات، والحصول على موافقة المديرية العامة للآثار والمجلس الأعلى للتنظيم المدني. وتوضع دراسةٍ شاملةٍ للعقار عند التقدّم بالطلب، على أن تُرفق بمسحٍ شاملٍ للمنشآت الموجودة في العقار، بالإضافة إلى مسحٍ للعقارات المحاذية له.
  • للمنطقة الارتفاقية “ZR” أحكام خاصة للبناء. بذلك، يمنع الهدم فيها. في العقارات المبنية يسمح فقط بترميم الأبنية القائمة دون أي إضافات. في العقارات الفارغة يخضع البناء لكافة الشروط العامة إضافة إلى شروط إضافية.

في الواقع، إنّ هذه التدابير والشروط6كما يضع النظام شروطاً تفصيليةً صارمةً عند طلب تشييد بناءٍ جديد، منها على سبيل المثال لا الحصر: حظر استعمال الألومنيوم في النوافذ والأبواب واشتراط صنع جميع النوافذ من الخشب الخالص (Bois Massif)؛ وغير ذلك من الشروط المماثلة. الجمالية تتطلّب وقتاً وقدرات مادية غالباً ما تتجاوز إمكانيات معظم السكان أو\و المالكين المعنيّين، لا سيّما في ظل غياب خطة تمويل تسمح للسلطات المعنية بالتأهيل. كما يعتمد مخطط المنطقة تعريفاً جامداً لمعنى التراث، متجاهلاً حقباتٍ أخرى من التاريخ والاستخدام الجماعي الحالي لهذه الأحياء، والقيمة الاجتماعية للمباني التي يمكن أن تجعلها تراثية حتى ولو لم تتطابق والتعريف الذي وضعه المخطّط. لكن الأهم هو أنّ هذه التدابير الصارمة تُرغم السكان المتقدّمين بطلب الترخيص على التعامل مع إضافاتٍ كانوا قد أجروها على البناء في سنوات سابقة على أنّها مخالفة للقانون، لـأنّها كذلك بحسب التصميم الجديد، ممّا يصنّف تقنيات البناء التقليدية في وسط المدينة التاريخي كممارساتٍ غير قانونية.7إنّ عمليات العمران في مثل هذه الأحياء التاريخية – والتي وُجدت قبل صدور قوانين البناء ومخططات الدولة – لم تتطلّب، تاريخياً، الاستحصال على أيّ موافقةٍ أو اعتماد أيّ تدابير رسمية محدّدة، بس كانت تعتمد إلى مفاوضات وموافقات اجتماعية.


لا تساهم شروط البلدية بتأهيل المنطقة التاريخية، بل وبسبب طابعها شبه التعجيزي في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تعمل هذه الشروط بشكل معاكس، فتُهمَل المدينة الأثرية وتتآكل مبانيها وتنهار على أهلها،


وبالنتيجة، لا تساهم هذه الشروط التقنية بتأهيل المنطقة التاريخية، بل وبسبب طابعها شبه التعجيزي في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تعمل هذه الشروط بشكل معاكس، فتُهمَل المدينة الأثرية وتتآكل مبانيها وتنهار على أهلها، في ظل مساحات عامة ومرافق وبنى تحتية مهملة، ومبانٍ غير آمنة بسبب غياب الدعم الهندسي، ومجتمعات مغلقة بسبب غياب العلاقة بين المنطقة وباقي المدينة.

المبنى الذي قتل قاطنيه
عام ٢٠١٩، تحرّك الشارع الطرابلسي غضباً نتيجة الكارثة التي وقعت بعد انهيار مبنى الفوال والتي أدت إلى مقتل عبد الرحمن كاخية (٢١ عاماً) وشقيقته راما (١٨ عاماً)، واستقال على ضوئها المجلس البلدي في الميناء. حصل الانهيار نتيجة سقوط سقف الطابق العلوي وتراكم الردم على سقف الطابق الأرضي، ما ولّد ضغطاً كبيراً عليه أدّى إلى انهياره على رؤوس قاطنيه. وبناءً عليه، أثُيرت قضية الترميم كمسألةٍ أساسيةٍ مرتبطةٍ بهذه الكارثة، حيث قيل أنّ رئيس بلدية المينا آنذاك، عبد القادر علم الدين، لم يمنح آل كاخية ترخيصاً لترميم المنزل، بعد أن قام ورثة البيت بإزالة الشبابيك والقنطرة في الطابق العلوي، ما أدّى إلى تسّرب كميةٍ كبيرةٍ من مياه الأمطار إلى سقف المنزل المصنوع من الخشب والتراب.

كما اتهمّ ناشطو المدينة السياسيين المحليين “بشراء عقارات المنطقة الأثرية والتضييق على السكان في الترميم تمهيداً لاضطرارهم لاخلائها ومن ثم ترميمها وبيعها أو استثمارها بأسعارٍ مرتفعةٍ تتناسب مع قيمتها الأثرية وجمال مبانيها القديمة”.8بشير مصطفى، “انهيار سقف مبنى الفوّال في الميناء على أحلام ساكنيه”، المفكرة القانونية، 10 كانون الأول 2019 فهل هناك بالفعل رؤيةٌ تقضي بتحويل الحيّ إلى منطقةٍ راقية، ما يفسّر التضييق على السكان لدفعهم إلى الإخلاء؟ وما علاقة التصميم التوجيهي بهذه الفاجعة؟

صدر في العام ٢٠٠٦ تصميمٌ توجيهيٌ لمدينة الميناء (المرسوم ١٦٣٥٣) عمل عليه المهندس المعماري والمُخطِط المديني ديران هرمنديان، منطلقاً من رؤيةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ متكاملةٍ، تبلورت في المخطط الذي اتجه إلى إعادة إحياء وسط المدينة التاريخي الذي يعاني من التدهور العمراني، ومن عدم استخدام حوالي ٤٠% من الوحدات السكنية فيه. غير أنّ المخطط تحوّل في نهاية المطاف إلى معركةٍ بين البلدية ووزير الأشغال العامة نجيب ميقاتي، الذي كان يمثل مصالح تجار البناء ويسعى إلى إرضائهم كونهم مفاتيح انتخابية، والمجلس الأعلى للتنظيم المدني. فاقتصر التصميم التوجيهي كالعادة على تصنيف الأراضي وشروط البناء فيها، فصدر بالتوافق بين تلك الأطراف، خالياً من أيّ رؤيةٍ تنمويةٍ، في ظلّ هيمنة ذهنية الريع العقاري على عملية تخطيط المدن.

على الرغم من غياب الخطة المتكاملة التي حاول المخطط إرسائها لتأهيل الحيّ، استمر توّجهه لجهة تصنيف المدينة التاريخية كمنطقةٍ تراثيةٍ ذات شروط تفصيلية صارمة، حيث غيّر تصنيفها من “سكني” إلى “تراثي قديم ذي استخدام سكني”. بذلك، صنّف المدينة التاريخية حيث يقع مبنى الفوّال على أنها منطقة “م١”، وأضحى أيّ ترخيصٍ لأيّ عملٍ يُقام فيها يخضع لموافقة جهاز عُرف بـ”لجنة الآثار”، ومهمته قبول المشروع التمهيدي عند تقديم طلبٍ لإضافة بناءٍ أو لتنفيذ أعمال ترميم، قبل تحويله إلى باقي الإدارات. كما يمنع تسوية مخالفات البناء أيّاً كان نوعها، ويفرض إزالة المخالفة في حال عدم امتثالها لأحكام النظام الحالي، ويفرض وضع دراسةٍ شاملةٍ للعقار عند التقدّم بطلب ترميمٍ أو تشييد بناءٍ جديد، ويضع شروطاً تفصيليةً صارمةً جداً عند طلب تشييد بناءٍ جديد، تمتدّ على مدى صفحاتٍ عدّة. بذلك، ساهم هذا التصميم بخلق إشكاليات أدّت إلى تردّي أوضاع السكان والأحياء بدلاً من إعادة تأهيلها.

تمهيد جديّ للإحلال الطبقي العمراني

تشكّل حادثة انهيار مبنى الفوال شهادةً إضافيةً وإثباتاً على ما نعرفه ونعيه جيداً: أن السكان من محدودي الدخل يعيشون، بشكل متزايد، في ظروفٍ هشةٍ ومليئةٍ بالمخاطر. وتتحمّل السلطات المعنية مسؤولية وصول السكان إلى هذا الوضع، إن بشكل مباشر عبر تصاميم توجيهية ومخططات كالتي قمنا بالحديث عنها، أو بشكل غير مباشر عبر سياسات وطنية تشجّع إهمال المباني وشغورها بهدف سيطرة قلّة متموّلة على ملكيّتها. لا تنحصر هذه المخاطر بالمباني السكنية، إنما تمتدّ لتنال من مرافق عامة ذات قيمة اجتماعية، أبرزها “مسرح الأنجا” أو “مسرح زهرة الفيحاء” وهو مبنى تراثي في منطقة التل. منذ بنائه عام ١٩٠٦، شكّل المسرح جزءاً من المرافق العامة ودور اللهو والفنادق والمقاهي وقاعات السينما التي أُنشئت في ساحة التل وحوّلتها لملتقى ثقافي لأهالي المدينة والمحيط. بعد نهاية الحرب، وبعد رفض البلديّة محاولات صاحب عقار المسرح ترميمه، اشتراه النائب محمد عبد اللطيف كبّارة . وكان مخطّط هذا الأخير هدم المسرح واستبداله بمجمّع تجاري. على الرغم من رفض طلب الهدم، غير أنه قُدّر لهذا المبنى أن يقضي نحبه خلال عملية الترميم، بحجةٍ عدم قدرة المبنى على تحمّل أعمال الترميم.

في السياق نفسه، ومن خلال مسح ميداني سريع للأبنية أجريناه خلال شهر تشرين الأول ٢٠٢١ في محيط ساحة التلّ، تبيّن أنّ ٣٤،٨% من هذه الأبنية مهجورة وخالية كلياً من السكان و١٠،٩% منها خالية جزئياً، كما تبيّن أنّ ٩١ من أصل ٢٧٠ وحدة سكنية فارغة، أي ما يعادل نسبة ٣٣،٧%، وبلغت نسبة الشغور في الوحدات التجارية أو الخدماتية الممسوحة حوالي ١٥،٤%. كما ترتفع نسبة الشغور في المباني المصنفة تراثية وغير تراثية (أنظر / ي إلى الخريطة).

حاولنا الحصول على الصحف العقارية الإلكترونية للعقارات الموجودة في منطقة المسح المذكورة، ووجدنا أنّه ومن أصل 70 عقاراً، هناك حوالي 21 عقاراً مُلغى و7 عقارات غير موجودة أو غير مدقّقة إدارياً، ما يطرح تساؤلات حول سبب هذا الإلغاء ويربطه بإمكانية وجود معاملات عقارية قائمة على هذه العقارات كالضم أو الفرز أو البيع، الخ.

بحثنا في ملكيات العقارات ال42 الأخرى التي تمكّنا من الحصول على صحفها. من أصل هذه العقارات، هناك 4 عقارات تعود ملكيتها إلى شركات، ما يساوي حوالي ١٠% من مجموعها، بينما تتوزّع النسبة المتبقية على الشكل التالي: 67% ملك أفراد (من بينها عقارين ملك النائب السابق عبد اللطيف كبّارة)، 16% ملك وقف، 2.4% ملك الدولة اللبنانية و5% لا معلومات مدوّنة في صحفها العقارية (أنظر / ي إلى الخريطة). إذا كانت هذه الأرقام المتعلّقة بالشغور و بملكية العقارات في منطقة التلّ، إضافةً إلى مثال “مسرح الأنجا” ومباني الوقف تثبت شيئاً، فهو أن الاتهامات المنسوبة للبلدية والسياسيين المحليين بأنهم يحاولون عبر خطط مباشرة أو غير مباشرة دعم الاستثمارات في التلّ وتشجيعها وإجبار السكان الحاليين على المغادرة تمهيداً لإحلال طبقة من المقتدرين مكانهم، هي اتهامات مبنية على حقائق.

أظهرت هذه الأمثلة واقع الحال بالنسبة للمباني التراثية في طرابلس والميناء، وبيّنت مجموعةً من الأسباب التي تساهم في “الموت البطيء” لقلب طرابلس التاريخيّ نتيجة إهماله المتعمّد وتهميش سكانه،وهو ما يسمح في نهاية الأمر بانهيار المباني التراثية أو هيمنة المستثمرين عليها. من هنا، وفي ظل غياب أيّ خطةٍ تنمويةٍ اقتصاديةٍ متكاملةٍ لأحياء طرابلس والميناء، تلحظُ دورَ السلطات في تحسين البُنى التحتية والخدمات والوضع الإنشائي للمباني، تغدو سياسات تشجيع الشغور وشروط الترميم التعجيزيّة والمكلفة التي تحدّدها التصاميم التوجيهية، بمثابة آليةٍ للتطوير العمراني القائم على إحلال الأغنياء مكان الفقراء، وسبباً في تعريض السكان الحاليين للخطر والإخلاء. فالتخطيط الذي يفتقر إلى رؤيةٍ تنمويةٍ ومكوّن اجتماعي يُعدّ أحد أخطر وجوه التنظيم المديني، لا سيّما حين لا يراعي الممارسات الاجتماعية في إنتاج الحيّز العمراني.

في قراءة سريعة لمقاربة الدولة للأحياء التراثية، ما يجري هو تخطيط متشدّد، لا يدعم السكان لترميم مساكنهم ولا يراقب المالكين لحماية المساكن وساكنيها، فيرمي بهم بين الأحجار المتهالكة للمباني التراثية، وضغط المضاربين العقاريين من أغنياء المدينة، في مشهد جديد لسلب الأرض من أهلها في طرابلس.

المراجع

  • 1
    خبر على موقع صحيفة النهار بعنوان “قتيلان إثر انهيار منزل في الميناء… مأساة تؤكّد الفساد والإهمال والطمع”، تاريخ 10 كانون الأول 2019.
  • 2
    خبر على موقع لبنان الجديد بعنوان “انهيار مبنى قديم في طرابلس”، تاريخ 31 كانون الأول 2020.
  • 3
    خبر على موقع سكاي نيوز عربية بعنوان “انهيار شرفة منزل في لبنان يودي بحياة شقيقتين”، تاريخ 13 تشرين الأول 2021.
  • 4
     قبل 2007، كانت “تحت السباط” في المنطقة “I” ضمن تصميم عام ١٩٦٤، والمنطقة “A” في تصميم عام ١٩٧١ أي أثرية قديمة. أبقت الدراسة الاستراتيجية للتنمية المستدامة لاتحاد بلديات الفيحاء لديران هرمنديان عام ٢٠٠٢ هذه المنطقة ضمن المنطقة المحمية الأثرية أو التاريخية “P1”.
  • 5
    الطرقات والممرات والمرائب العامة وتمديدات البنى التحتية والإنارة والكهرباء.
  • 6
    كما يضع النظام شروطاً تفصيليةً صارمةً عند طلب تشييد بناءٍ جديد، منها على سبيل المثال لا الحصر: حظر استعمال الألومنيوم في النوافذ والأبواب واشتراط صنع جميع النوافذ من الخشب الخالص (Bois Massif)؛ وغير ذلك من الشروط المماثلة.
  • 7
    إنّ عمليات العمران في مثل هذه الأحياء التاريخية – والتي وُجدت قبل صدور قوانين البناء ومخططات الدولة – لم تتطلّب، تاريخياً، الاستحصال على أيّ موافقةٍ أو اعتماد أيّ تدابير رسمية محدّدة، بس كانت تعتمد إلى مفاوضات وموافقات اجتماعية.
  • 8
    بشير مصطفى، “انهيار سقف مبنى الفوّال في الميناء على أحلام ساكنيه”، المفكرة القانونية، 10 كانون الأول 2019
إدارة الأراضي والتنظيم المدني السكن الميناء قضاء طرابلس لبنان
 
 
 

طرابلس: من سلب منّا الأرض؟

سنعرض من خلال ثلاث مقالات، موجزاً لكيفية تعاطي السلطات مع طرابلس النهرية وطرابلس البحرية (أي مدينة المينا، كما يسمّيها أهلها)، وتداعيات ذلك على أحيائها من النواحي المدينية والسكنية والبيئية. تستند المقالات إلى ورشة …

السكان في مواجهة مشاريع الضم والفرز:

حيّ التنك في الميناء مثالاً

على الرغم من الدور الاقتصادي الذي نتوقّع أن تلعبه طرابلس بالنسبة لكامل شمال لبنان -دور نراه مرتقبٌ مثلاً في مقاربة كل من بعثة إيرفد والخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية- كونها المنفذ لسوريا الداخلية …

طرابلس: نكبة مشاريع إسكان غير مكتملة

سنة ١٩٧٦، انتقل خالد وعائلته إلى المساكن الشعبية التي شكّلت له ملجأً ومأوىً بعد هربه من مجزرة تلّ الزعتر. نمت عائلته مع الوقت وبغياب قدرته على شراء منزل ثانٍ، أُجبر على الانتقال مرةً …

تدهور المساكن وتهديد حياة الناس، انتهاكات متفاقمة للحق في السكن في لبنان

التقرير الدوري | أيلول - تشرين الثاني 2022

بالتوازي مع هذا التقرير، ننشر تقريراً عن تدخّلات المرصد القانونية والمجتمعية في الدفاع عن الحقوق السكنية للبلاغات الموثّقة هنا.  في هذا التقرير، يوّثق مرصد السكن مدى انتهاك الحق في السكن اللائق بالاستناد إلى …

طرابلس: من سلب منّا الأرض؟

يستعرض هذا المشروع كيفية تعاطي السلطات مع طرابلس النهرية وطرابلس البحرية (أي المينا) كما يسميها أهلها، وتداعيات ذلك على حقوق الناس السكنية، لا سيّما في الأحياء غير الرسمية. ونغوص في أزمة هذه الأحياء …