عادت طرابلس إلى الشاشات ومواقع التواصل الإجتماعي في الأسابيع الأخيرة، ليس من باب المعاناة القديمة لأهلها، بل من باب العنف الذي تمّ رسمه في كثير من الأحيان كانفلات أمني، وخطر محدقٍ بأهل المدينة. والخطر محدقٌ حقاً بأهل طرابلس، لكن ليس بسبب المظاهر المسلحة فحسب، بل بسبب السنين الطويلة من المظالم التي أدّت إلى نشوء أحياء محرومة من كل أساسيات الحياة. في أغلب دول العالم، الجنوب هو الأكثر حرماناً. في لبنان، وبما أنّ السلطة فريدة من نوعها، تنعكس فرادتها أيضاً على جعل الشمال المكان الأكثر حرماناً وفقراً وعوزاً. سنعرض تاريخاً موجزاً لحيّ باب التبّانة، أحد أبرز مناطق المدينة، وأشهرها ربّما، بسبب تركيز الإعلام لسنين على المظاهر المسلّحة في أحيائه وتأجيج الخطاب الطائفي بدلاً من الخوض في أزمة الحيّ من الناحية المدينية والسكنية والبيئية، أو الإضاءة على وجود الجيش داخل الحيّ ذاته بدلاً من أطرافه.
تقع باب التبّانة في الطرف الشمالي من مدينة طرابلس، وقد أخذت تسميتها من بائعي التبن وعلف الدواب. يحدّها من الشمال بساتين الليمون التي أعطت مدينة طرابلس لقبها “الفيحاء”، ومن الجنوب مقبرة التبانة والأسواق، ما جعلها محطّة لجميع القادمين من عكار وشمال سوريا، ومقراً لمواقف الباصات والتاكسي التي تنقل الركاب إلى المدن السورية المجاورة، من حمص وحماه، كما القرى العكارية. كما أعطتها أسواقها اسم “بوابة الذهب”. ومع مرور الزمن، انقلب “باب الذهب” إلى مأوى للفقر والوجع. لكن كيف حصل ذلك؟
الحرب الأهلية وتدخّل النظام السوري
يشقّ شارع سوريا منطقة التبانة إلى شقين: حي التبانة وجبل محسن. تاريخياً تحوّل الشارع إلى “خط تماس” بين جماعتين مذهبيتين، ثم جاءت الحرب الأهلية اللبنانية ودخول قوات الردع السورية لتعميق هذا الفرز. ففي الثمانينات وقعت الإشتباكات العنيفة الأولى بين جبل محسن والتبّانة، لكن التدخّل العسكري للقوات السورية حسم الصراع: قصف الجيش السوري باب التبانة بسبب دعمها الشعبي لمنظمة التحرير الفلسطينية. من جانبها، اصطفّت جبل محسن مع النظام السوري (خاصة مع انخراط شباب جبل محسن مع القوات السورية). وهكذا بدأت “لعبة الانتقام”. وقد نتج عن هذا العداء قتل ٣٠٠ شخص في باب التبانة على يد القوات السورية عام 1986. تشهد الأبنية المصابة ببنيانها على تلك الحقبة وكذلك أسماء الشوارع، بحيث أن أهالي التبانة يخلّدون ذكرى شهدائهم من خلال تسمية الشارع الذي بدأت منه المجزرة بـشارع خليل عكاوي – أبو عربي.
عانت التبانة كثيراً من الحرب التي أدّت إلى دمار شديد للأبنية والحيّز العام وهجرة ثلث سكانها. فقد الحي والمدينة إجمالاً طابعهما المتعدّد الطائفية مع نزوح المسيحيين إلى زغرتا والميناء خاصةً والأقلية العلوية إلى جبل محسن.
حينها، بدأت المدينة تشهد فرزاً على الصعيد الطبقي: إزداد الفرق الواضح بين الأحياء الفقيرة في المدينة من بينها التبانة والأحياء الجديدة الأكثر ازدهاراً.
بحسب تقرير الUN Habitat لسنة 2018، يعيش في التبانة حوالي 20.449 شخص، وتمتدّ على مساحة 0.42 كلم2 وفيها 765 مبنى. 82.9% من السكان هم لبنانيون، و16.8% من غير اللبنانيين. 51% من المباني في الحيّ بحاجة الى تدخّل سريع وترميم إنشائي، 31.3% هي مساكن ملك، و65% هي مستأجرة.
تجدّد الصراع ونهايته
عام 2008، تجدّد الصراع بين الجهتين، وكذلك عامي 2011 و2012 عقب تظاهرة حاشدة في باب التبانة دعماً للثورة الشعبية في سوريا. لكنّه انتهى بشكل مفاجئ، فبحسب أحد السكان: “فجأة منفيق الصبح وبخبرونا إنو تمّت الصلحة وطلعوا أهالي التبانة عند أهالي الجبل وشربوا قهوة. لعبة سياسية واضحة.”
اليوم، يعيش سكّان باب التبّانة في منازل غير آمنة من الناحية الهندسية، وغير صحية من الناحية البيئية، ولم يرغمهم على السّكن فيها إلا الفقر. ويخلو عدد كبير من المنازل من المفروشات وأساسيات الحياة. يبرّر بعض السكان بقاءهم في منازل ذات غرف ضيقة ورطبة، ترشح جدرانها ماء، بأنها “إيجار قديم”، فلم يعد هناك إمكانية للعثور على منزل لا يتجاوز أجره المئة دولار أميركي، فيما يحتاج هؤلاء إلى أضعاف هذا المبلغ لإيجار شقة في أحياء طرابلس الجديدة. فيما لا تتردّد بعض الأسر في السكن بمنزل سقطت بعض أجزائه وهبطت أسقفه، وبقيت جدران بعض الغرف قائمة.
ويلفت آخرون إلى أنهم يتقاسمون الشقة الواحدة بين أسر عدة. وقد تناقلت بعض الأسر الإيجار بين الأجيال المتعاقبة، فمن وجهة نظرها هذه الفرصة لا تتكرر لتأمين حق السكن في منازل منخفضة التكلفة. يصف أحد السكان الوضع قائلاً بأن “منطقة باب التبانة منكوبة، عانت من أزمات تراكمية وصار فيها تهجير كتير. -من ورا القذائف والرصاص في بيوت حتوقع ما بينعاش فيها وفي ناس عايشة فيها.” وفي المقابل، “ما في حدا يرمّم”.
من ناحية أخرى، تبدو القراءة التي تجمع بين الوضع الاقتصادي للحي، وتسليح أهله، الأكثر رواجاً بين السكان، والأكثر منطقية. “الميقاتي والزعما كانوا عم يستغلوا فقر الناس وحاجتهم لتأمين الأكل بالصراع: بتحمل سلاح ومنعطيك شهرية 100$ وربطة خبز كل يوم .”
وقد أثّر التسليح والصراع على الحي بشكل كبير، خرج عدد من السكان من الحي نتيجة الصراعات والاشتباكات. “طلع عدد كبير من الناس من الحي من خوفهم،” يقول أحد الشبّان، “والمحاربين استحلّوا بعض البيوت وبعدهم لهلق موجودين فيهم”. كما خلق، حتّى اليوم، شعوراً عاماً بالتوتّر عند السكان وأصحاب المحال، خوفاً من خسارة باب رزقهم. كما يزيد وجود المسلّحين من الضغط الاقتصادي على أصحاب المحال الذين يُجبَرون في الكثير من الأحيان على دفع الخوّات لهم. “لهلق في خوة بتندفع”، يقول أحد السكان، “بالتبّانة والقبّة وحتى بالتلّ من المحلات والبسطات لناس مدعومين (مسلحين) بيطلبوا 20000 ل.ل. بالنهار مثلاً.”
وقد أثّر ذلك، بطبيعة الأمر، على الحياة الاقتصادية للحي، فكما يقول شبّان المنطقة: “إذا فتت عالمنطقة ومعك مصاري لتستثمر أو تشتغل انت معرّض لهالأمر والدولة ما عم تقدر تسيطر عالوضع.”
من جهة أخرى، فقد خلقت الأزمات المتتالية، والشرخ الطبقي الحاصل بين التبّانة والمناطق الأخرى، فصلاً اجتماعياً وثقافياً، ممّا أدّى إلى صعوبة خروج العديد من سكّان الحيّ منه، تماماً كما يحصل في منطقة القبّة أيضاً، وهم لم يختلطوا يوماً بأشخاص من مناطق أخرى أو خلفيات اجتماعية ثقافية وطائفية أخرى، لصعوبة التنقّل وغلائه.
تقول الرواية في الحيّ، بأن طفلة لم يتعدّى عمرها الخمس سنوات، ماتت بسبب انقطاع الكهرباء وحاجتها لماكينة أوكسجين. يمرّ هذا الخبر سريعاً، ثم تتواصل المشاهد والأخبار والفيديوهات المتداولة عن “عنف أهل التبّانة” والفوضى المُتأتية.
في التبّانة، يعرف السكّان الدولة عبر شكلٍ واحدٍ فقط، إذ يتمركز الجيش بدبّاباته في الأحياء السكنية، على الرغم من عدم السماح بوجودها هناك، قانونياً.
في التبّانة، وفي غيرها من الأحياء، يغطّي الإعلام العنف المباشر. إشتباكات هنا، ظهور مسلّح هناك، لكن العنف غير المباشر، ذاك غير المرئي والمُمارس بشكل مستمرّ من السلطة والمجتمع، من حرمان وفقر ومناطق غير آمنة وبيوت متساقطة على أهلها، فهو يبقى مخفياً مسكوتاً عنه، وهو إذ بقي كذلك، لن يُثمِر غير مظاهر الاعتراض.