متظاهرة في احدى مسيرات ثورة تشرين ٢٠١٩ (تصوير جنى طرابلسي)

الأرض لنا جميعًا، فلنستعِدها

كيف نستعيد الأرض من فكّ الملكيّة الخاصة؟

هل يعتبرُ قاطنو المدينة أن المشاريع التنمويّة والسياسات المدينيّة التي تضعُها الدولة في صالحهم؟ هل يعتبرون أنهم يملكون حقّ البقاء في مكان سكنهم، وحقّ الاستخدام الحرّ لمساحات مدينتهم، وحقّ وجود المدارس والحدائق والمستوصفات في أحيائهم وبلداتهم؟ هل للمطوّرين العقارييّن الحقّ الكامل في تحديد كيفيّة استخدام عقاراتهم؟ وهل لمالك أيّ مبنى الحقّ في هدم مبناه أو تركه شاغرًا، أو حتى تحديد بدلات إيجارٍ تفوق قدرة غالبية السكان؟ هل تعلو الحقوق الفرديّة على الحقوق الجماعيّة في المدينة؟

يجيب مفهوم الوظيفة الاجتماعيّة للمدينة على العديد من هذه التساؤلات، وهو مفهوم يُنظّم إدارة واستخدام الأراضي بهدف الوصول إلى عمرانٍ عادلٍ، قادرٍ على دمج واحتواء جميع السكان باختلافاتهم، ومنحازٍ إلى تعزيز موارد وحقوق المهمّشين في النظم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة. انطلاقًا من هذا، لا يقتصر هذا المفهوم على حريّة الفرد في الوصول إلى الموارد المدينيّة، بل “يُعطي الحقّ في تغيير أنفسنا من خلال تغيير المدينة وفقًا لرغباتنا… فحريّتنا في إنتاج مُدننا وإعادة إنتاجها تُعتبر أحد حقوقنا الإنسانيّة الأهمّ، لا بل أكثرها تعرّضًا للإهمال.” (دايفيد هارفي 2008)

خلال فترة كانون الثاني – آذار 2020، نظّم أستوديو أشغال عامة سلسلة حواراتٍ لمناقشة مفهوم القيمة الاجتماعية للأرض، من منظور مفاهيمي وقانوني واستراتيجي، عبر تقديم عدد من التجارب والقضايا والقوانين في لبنان، بإشكاليّاتها وإمكانيّاتها، من أجل التوصّل معًا الى أسُسٍ مشتركةٍ بإمكانها أن تشكّل القاعدة لعملٍ طويل الأمد نحو إرساء هذا المفهوم.

وركّزت الجلسات الحوارية على أربعة محاور اعتبرناها أساسيةً للتفكير في الوظيفة الاجتماعية للأرض في لبنان (على صفحة كلٍ منها تجدون أسماء المتحدثات والمتحدثين والتسجيل الصوتي للجلسة ونص مجرياتها):

  1. دفاعاً عن مساحاتٍ اجتماعيةٍ في مدينةٍ عادلة، مع التركيز على كيفية استعادة المساحات الاجتماعية والثقافية والحفاظ عليها في وجه المضاربة العقارية، باستخدام أدوات التنظيم المدني القائمة.
  2. دفاعاً عن مصلحة المدينة في وجه الملكيّة الفردية، مع التركيز على الوظيفة الاجتماعية للملكيّة وتأثير حيازة واستخدام الملكيّة الفردية الخاصة على المجتمع ككلّ، لا سيّما تجلّياتها في الدستور وقانون الملكيّة العقارية.
  3. دفاعاً عن السكن في وجه سياسات التهجير، مع التركيز على كيفية حماية قاطني المدن من مخاطر سياساتٍ تسخّر الأرض والمنازل لتراكِم الأرباح، فتنتج ظروف سكنٍ بائسةً وتنتهج التهجير والإخلاء والتشريد.
  4. نحو نظامٍ ضريبي عادلٍ لمواجهة تسليع الأرض، مع التركيز على إمكانية الحدّ من ممارسات المضاربة العقارية عبر فرض أنظمةٍ ضريبيةٍ مبتكرةٍ على الممتلكات، وضرائب صارمةٍ على الشقق الشاغرة والأراضي الخالية.

في ما يلي خلاصاتٌ مستخرجةٌ من الجلسات الحوارية المذكورة أعلاه.

القيمة الاجتماعية للأرض في السياق اللبناني

قد لا تكون هناك قوانين أو آليات مؤسساتية واضحة لتحقيق وتفعيل مفهوم الوظيفة الاجتماعية للأرض في الواقع اللبناني. لكن مفهوم الوظيفة الاجتماعية موجودٌ بالفعل في صلب تعريف التنظيم المدني وأنظمة استخدامات الأراضي في لبنان.

قامت الدولة اللبنانية على تبنّي مبدأ التخطيط المدني عبر قوانين ومؤسساتٍ أُنشئت منذ عهد الاستقلال، وفي ذلك قبولٌ لمبدأ تقدّم الحق العام على الملكيّة الخاصة. فوضع الضوابط والتوجيهات لتنظيم عمليات البناء واستخدامات الأراضي هو اعترافٌ ضمنيٌ بوجود حقٍ عامٍ متقدّمٍ على أيّ عقارٍ خاص، وهو جزءٌ من القيمة الاجتماعية المشتركة للأرض، والمكرّسة في قانون التنظيم المدني عبر مبادئ المصلحة العامة أو الهوية المشتركة التي يجب أن تُراعى قبل إصدار أيّ ترخيصٍ للبناء.

ويعود ذلك إلى أنّ ملكيّة الأرض تتميّز بخصوصية محتواها ودلالاتها، ولا يمكن تصنيفها كأيّ سلعةٍ تقليدية، فهي ببساطةٍ مكان العيش ومصدر الحياة. والواقع أنّ تحويل الأرض إلى ملكيّةٍ “عقارية”، يعني دومًا تحويلها إلى سلعةٍ قابلةٍ للتبادل. كما أنّ التسميات الشائعة في السياق اللبناني مثل “السوق العقاري” “والملكية العقارية” وغيرها، هي في الواقع أدواتٌ هدفها دفعنا للقبول بالأرض كسِلعة.

كما أنّ هناك أيضًا في الدستور اللبناني مواد من شأنها أن تكون ركيزةً للدفاع عن القيمة الاجتماعية للأرض. هذه المواد الثلاث المنصوصة في مقدمة الدستور تستلزم التوقّف عندها.

الفقرة “و”
“النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكيّة الخاصة.”

الفقرة “ج”
“لبنان جمهوريةٌ ديموقراطيةٌ برلمانيةٌ، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.”

الفقرة “ز”
“الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركنٌ أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام.”

لدى قراءة هذه المواد، نرى أنّ التركيز لطالما انصبّ على الفقرة “و” المتعلقة بحق الملكيّة الخاصة، مقابل تناسي الفقرتين الأخريَين لكونهما غير منحازتَين لمصالح الأقوياء في المجتمع. ويمثّل هذا دليلًا على تناحرٍ متصلٍ بميزان القوى الاجتماعي. وطالما أنّ هذا الميزان يميل إلى الطبقة الحاكمة، فسيأتي تفسير الدستور لصالحها دومًا.

وعلى الرغم من احتواء الدستور على تلك المفاهيم، إلا أن السياسات والممارسات العامة للدولة تتعارض معها بشدّة. بالتالي، فإنّ تضمّن الدستور مبادئ أو عباراتٍ تشير إلى تفعيل القيمة الاجتماعية للأرض لا يكفي وحده لضمان تنفيذ تلك المبادئ على أرض الواقع. كما لا يكفي توقيع الدولة اللبنانية “الميثاق العالمي للحق في المدينة”1الميثاق العالمي للحق في المدينة، من أجل بناء موئل يتلاءم مع حقوق الإنسان (المنتدى الاجتماعي العالمي – يناير 2001 \ المنتدى العالمي/مشاورات التحالف الدولي للموئل – يناير 2002 \ المنتدى العالمي/مشاورات التحالف الدولي للموئل – يناير 2003 \ المنتدى الاجتماعي العالمي للأمريكتين –كيوتو –يوليو 2004 \ المنتدى العالمي للحضر -برشلونة -أكتوبر 2004 \ المنتدى الاجتماعي العالمي –بورتو أليغري –يناير 2005 \ وما تم من نقاشات خالل مرحلة التحضير في برشلونة –سبتمبر 2005) الذي تؤكّد المادة الثانية من أحكامه العامة أنه “ينبغي أن تعلو المصلحة الاجتماعية والثقافية الجماعية فوق حقوق الملكية الفردية ومصالح المضاربة، أثناء صياغة وتنفيذ السياسات الحضرية”، وتنص المادة الخامسة على أنه ينبغي أن تعمل المدن على وضع “الأولوية للإنتاج الاجتماعي للموئل، وأن تضمن الوظيفة الاجتماعية للمدينة والملكية”.

وبما أنّ هيمنة خطاب الملكيّة الخاصة تؤدّي إلى طمس مبادئ دستوريةٍ أساسيةٍ تحمي المصلحة العامة، حُرمَ السكانُ من المعارف التي تخوّلهم صياغة المطالب الحقوقية، فباتت تلك المبادئ بمثابة عباراتٍ جوفاء مدفونةٍ في نصوصٍ مسلوخةٍ عن الواقع اليومي للناس. في النتيجة، يتطلّب تفعيلُ تلك المبادئ وضعَ آلياتٍ واضحةٍ من تشريعاتٍ وسياساتٍ عامةٍ ملائمة، وتحديد الجهات الرسمية المسؤولة عن تنفيذها.

مطالب تشريعية وسياسية واضحة تغدو ركيزةً للنضال العمراني في لبنان

  • جعل الوظيفة الاجتماعية للملكيّة أحد المبادئ الرئيسة للاقتصاد الوطني، بحيث نضمن تمتع الجميع بحياةٍ كريمةٍ تتوافق ومبادئ العدالة الاجتماعية؛
  • تطبيق “الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية” باعتبارها تتضمن سياسةٍ تنمويةٍ متكاملة تحدد الاستخدام الملائم للأرض والموارد البيئية والمصادر الطبيعية على أساس قيمتها الاجتماعية؛
  • ضمان حق جميع سكان المدن في الانتفاع الكامل من كافة مواردها من دون تمييز، بما في ذلك إتاحة الوصول إلى المواقع الطبيعية، والمرافق العامة، والمساحات المشتركة والخدمات الأساسية؛
  • منح الأولوية للسكن والعمل في الأرض بدلًا من إخضاعها للمضاربة العقارية؛
  • جعل تنظيم الأراضي وإدارتها عمليةً ديموقراطيةً وتشاركيةً بهدف الحفاظ على الإطار السياسي الذي يرعى القيمة الاجتماعية للأرض؛
  • تغليب الوظيفة الاجتماعية للمُلكيّة لدى التصرّف بها، بما في ذلك إصدار رخص البناء والهدم والاستملاك؛
  • وضع نظامٍ ضريبي عادلٍ يحدّ من المضاربات العقارية ويشمل الضرائب التصاعدية على الأراضي الموجودة في المناطق العمرانية، والضرائب على الأراضي غير المبنية أو غير المستخدمة، والضرائب على الأملاك المبنية الشاغرة.

المراجع

  • 1
    الميثاق العالمي للحق في المدينة، من أجل بناء موئل يتلاءم مع حقوق الإنسان (المنتدى الاجتماعي العالمي – يناير 2001 \ المنتدى العالمي/مشاورات التحالف الدولي للموئل – يناير 2002 \ المنتدى العالمي/مشاورات التحالف الدولي للموئل – يناير 2003 \ المنتدى الاجتماعي العالمي للأمريكتين –كيوتو –يوليو 2004 \ المنتدى العالمي للحضر -برشلونة -أكتوبر 2004 \ المنتدى الاجتماعي العالمي –بورتو أليغري –يناير 2005 \ وما تم من نقاشات خالل مرحلة التحضير في برشلونة –سبتمبر 2005)
إدارة الأراضي والتنظيم المدني لبنان