جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد“
يقول ڤالتر بنيامين: “سننتصر على الرأسماليّة بالمشي”. فأمشي، ليس لأنّني أؤمن بنهاية الرأسماليّة -المتأخّرة منها أو غيرها- ولو أنني أرغب ذلك بشدّة، أو سيراً وراء أحلام التغيير، بل لأنّني مجبرة على المشي، والخيارات أمامي محدودة . أستطيع أن أقدّم تقريراً مفصّلاً لمن يسألني عن كيفيّة الذهاب إلى كنيسة مار مخايل “بدك ١٥ دقيقة مشي من المتحف لراس النبع، فوق الجسر بتاخد ڤان رقم ٤ بدو خمس دقايق بيوصل على الكنيسة، إلا إذا كان في عجقة سير، بس عالأغلب الصبح ما بكون فيه. حاولي قبل الستة ونص تمشي.” لست فيلسوفةً ولا روحانيّة أو رياضيّة، أمشي لأنّني لا أملك خياراً، إمّا الوصول أو الطرد من العمل. لهذا عليّ أن أكون دقيقة وأحفظ، كآلة، عدد الدقائق والخطوات وربّما السيارات المارّة.
هذه كانت رحلتي اليومية للعمل، قبل أن أطالب بحقي ببدل نقل عادل، فقد كنت أدفع يوميّاً 190 ألف ليرة ذهاباً وإياباً كبدل نقل، بينما أجرة عملي اليومية لا تتجاوز ال 150 ألف.
فما تعريف بدل النقل العادل؟ جرت حتى تاريخ كتابة هذا المقال العديد من المفاوضات مع الحكومة على رفعه إلى الـ100 ألف ليرة، بعد أن كان 65 ألف ليرة للقطاع الخاص و64 ألف ليرة للقطاع العام عن نهار العمل الواحد وهو قرار وزارة النقل والأشغال العامة، حتى توقيع رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في 12- 8 – 2022 مرسوم تحديد قيمة النقل اليومي بـ 95 ألف ليرة عن كل يوم حضور فعلي. يمكن لأي شخص يستخدم النقل العام أو سيارته\ا الخاصة في لبنان، أن يعرف بأن هذا البدل غير كاف، بل أنّه بعيد عن القيمة العادلة ضعفين أو ثلاث. وبينما يستغل بعض أصحاب العمل الوضع الاقتصادي الصعب وغياب الخيارات عند العاملات\العمال والموظفات\ين، لإعطاء 50 ألف وأقل كبدل نقل عن النهار الواحد، يكاد هذا المبلغ لا يكفي لتغطية “مشوار الروحة” إلى العمل، في ظل غياب تطبيق قانون العمل ومحاسبة صاحب العمل.
فكيف تغيّر وضع النقل في لبنان في زمن الانهيار؟ ما المعاناة التي يعيشها المواطنات والمواطنون أثناء تنقّلهن\م سواء إلى أعمالهن\م أو في نمط معيشتهن\م؟ وبالتالي ما الفئة الأكثر تضرّراً من هذا الإنهيار على مستوى التنقّل والمواصلات والحركة؟
كان قطاع النقل اللبناني، قبل أن تنهال عليه الأزمات من كل حدب وصوب، يعاني من مشاكل عديدة في ظلّ غياب خطّة عمل واضحة ووسائل نقل عامة ومشتركة آمنة من حيث الوسيلة والطرقات التي تشكّل الخطر الأكبر على المتنقلين. بالإضافة لزحمة سير خانقة بسبب الافتقار لخطط التنظيم المروريّ، وميل اللبنانيين من الطبقة الوسطى والبرجوازية إلى امتلاك السيارات بأعداد هائلة مقارنة مع حجم مساحة لبنان واقتصاده. “وهو ما شجّعت السلطة اللبنانية عليه عبر كارتيل الوكالات الحصريّة لاستيراد السيارات إلى لبنان بالتعاون مع المصارف التي سهّلت الحصول على قروض لشراء السيارات.”1https://publicworksstudio.com/the-lebanese-forces-revive-a-highway-project-which-threatens-residents-and-destroys-forests/ وهو ما جعل من مهمّة بناء مخطط نقل عام ومشترك شامل لكل المناطق لا مهمّة مستحيلة، بل جعل قطاع النقل والمواصلات تحت سلطة القطاع الخاص، ليحوّله إلى مصدر ربح له، لا خدمة أساسية مُتاحة للجميع.
مرويّات التنقّل في ظل الإنهيار
فما الذي حدث؟ مع بداية الانهيار في 2019، بدأت الإشاعات بالتداول من جهة وبعض من الحقائق من جهة أخرى، بأن سعر صفيحة البنزين وغيرها من المحروقات سوف يرتفع بشكل جنونيّ. لم يكن المواطنون على دراية بتداعيات هذا الأمر، إلا أن سرعان ما بدأت الأمور بالتدهور مع إرتفاع سعر صرف الدولار وتخطيه الـ30 ألف ليرة، وتم تداول أنباء عن ارتفاع سعر المحروقات بنفس الوتيرة بالتزامن مع ارتفاع أسعار النفط العالمية. فبدأ سعر صفيحة البنزين الذي كان حتى ال 2020 ما يزال سعره 24 ألف ليرة لعيار 98 أوكتان بالارتفاع. ومع رفع الدعم عن المحروقات شهدنا إحتكاراً لها، ما أدّى إلى ظهور طوابير السيّارات أمام محطّات البنزين التي أقفل عدد كبير منها، إلى أن بلغ سعر صفيحة البنزين لعيار 98 أوكتان 807 آلاف ليرة في حال توفرها، و أكثر من مليون ألف ليرة في السوق السوداء، خاصّة بعد ظهور تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على مختلف القطاعات اللبنانية المتأرجحة ما بين العجز الحاد والانهيار.
لدى سؤال بعض الأفراد عن تأثير الإنهيار على تنقّلاتهم، كانت الإجابات متشابهة لدى الغالبية مع بعض التفاوتات حسب النوع الاجتماعي والخلفية الطبقية التي ينتمون إليها. فتقول ريما، وهي طالبة من جنوب لبنان، “مشوار بيروت عالجنوب كان يكلّفني 12 ألف ليرة قبل: 5 آلاف ڤان الجنوب-بيروت، وألف ڤان رقم 6 عالفنار. هلأ صار مشواري بحدود ال 400 أو 500 ألف وبوصل على المفرق، مش عالبيت. وبما إني بنزل مرتين بالأسبوع، (يعني بدي) مليون ليرة أسبوعياً (لروح) عالجامعة، غير باقي المواصلات. معاشي ما بكفيني مواصلات. قبل كنا لما نتعب ناخد سرفيس بألفين. هلأ اذا بدنا نمشي فشخة صغيرة بياخد 50 ألف وبسمّع كلام و”اذا مش عاجبك انزلي”. حتى نفسيّة السواقين تغيّرت وخلقهم صار ضيّق، ما فينا نحكي معهم ،فوراً بينفجروا فينا. وإذا ما معنا فراطة منتبهدل، أو بياخدوا الباقي بدون ما يردوا.”
أمّا إبراهيم فيقول: “بلّشت أحصر نشاطاتي بمكان قريب ووقت واحد، وصرت استخدم الموتو- تاكسي لأن أرخص مع إنو أخطر. والشتا متل المسامير بنزل عليّ، غير إنو صرت إتأخر عالمواعيد بنطرة الباصات. والشي اللي بيحزّ بالقلب هو الناس اللي بتكون ناطرة عالطرقات، انا ورايح عالشمال، وعم تطلب من الڤان يوصلها بتسعيرة أرخص.”
تعلّق ميراي وهي من سكّان القاع- الهرمل: “قبل الإنهيار كان بدي ساعتين ونص لأوصل عالجامعة، غير مشاكل الطرقات من تعب وعدم شعور بالأمان وفيقة قبل بساعتين. بعد الإنهيار، صار أسوأ. انهرنا مع الإنهيار. غليت الإيجارات، كان بدي 5 آلاف للجامعة بالأول، صار (بدي) هلأ 180 ألف، وأنا مسجلة اختصاصين، بدي ادفع تكاليف زيادة بدون ما آكل واشرب بعد. كتير تأذّينا. عم نتديّن لندفع مواصلات. غير إنو لما نطلع (بالفان) منضل حاطين إيدنا ع قلبنا ما ينزّلنا الڤان بمطرح تاني، أو “يبيعنا” عالطريق، أو نتعرّض للتحرّش، أو لما اطلع ما لاقي محلات اقعد.”
ويقول رامي: “صرت بمشي أضعاف قبل. بمشي لأوصل لڤان رقم ٤، وبتفادى المشاوير يلي فيها سرفيسات، بفضّل إمشي، إلا إذا كنت متأخّر كتير. عندي مشاوير يوميّاً للشغل وما معي وسيلة نقل، والتكاليف خيالية داخل بيروت: السرفيس 50 ألف، ومرات إذا المنطقة أبعد، بصير بدو سرفيسين. غير عجقة السير المش طبيعية، وإنو ما فيه ولا إشارة مرور شغّالة.”
ويعلّق أمين على أوضاع النقل إلى صور: “الڤان من بيروت ع صور صار ب 100 ألف. كان يوصّل عالمينا بس هلأ عالبص، وهاي مشكلة لأن فيه مسافة بدها تنقطع ترجع (من البص عالمدينة)، فإما بتدفعي 20 ألف لصاحب فان ليفوّتك لجوا (عالمدينة) أو بتمشي ثلث ساعة. والڤان اللي بالموقف بدو يدفع اشتراك (للموقف) ويعبي 14 راكب ليمشي والمقعد اللي كان يقعد عليه 3 أشخاص صار يقعد 4، والشوفيريّة بيزيدوا (التعرفة) مع الزيادة (بسعر البنزين)، وما بنقّصوا وقت ينقص السعر، لأن الڤانات أغلبها أجار.”
وقد عمد بعض الأفراد لبيع سياراتهم أو استبدالها بسيارات موفّرة أو بدراجة هوائيّة، أو لاعتماد النقل المشترك بديلاً عنها، لأن أسعار قطع السيارة تُحسب على الدولار، وهو أيضاً ما يدفع الغالبية إلى عدم صيانتها ما يزيد نسبة الخطر على حياة السائقين\ات وعلى مستوى السلامة العامة في الشوارع. كما نلاحظ عدّة ظواهر جديدة مثل دخول التوك-توك الأوفر والأسرع للأفراد. ويكثر استخدامه اليوم في الشوارع الداخلية خاصة في المناطق الشعبيّة والأحياء المفقّرة، في حين وجده البعض من أصحاب الرساميل تجارة جديدة لهم، فسعره يتراوح بين ال ٢٠٠٠ $ وال ٣٠٠٠ $ حسب الموديل، وتبلغ قيمة إيجاره اليوميّة حوالي 150 ألف ليرة. كما ظهر استخدام الموتو- تاكسي الذي يعتمده الكثيرون لانخفاض قيمة تسعيرته مقارنة بالسرفيس، إلّا أن عدم ارتداء السائق والراكب\ة للخوذ من جهة، وأساليب قيادة سائقي الدراجات النارية، يقلّل من مستوى أمان الوسيلة وسلامتها. كما تمنع إمكانية التحرّش النساء من استخدام الموتو-تاكسي، رغم أنه أحد أكثر أشكال النقل توفيراً اليوم: “ح نضطر نركب ورا شخص ما منعرفه، ممكن يتحرّش فينا، حتى فكرة إنو الركبة فيها خطورة وأيا شي بصير ممكن نضطر نتمسّك فيه. وكمان إذا كنّا ضاهرات من بيتنا وشافونا قرايبنا ح يصير مشكلة إنو كيف منقعد ورا رجّال غرّيب، ومش قعدة بنات هي”. وقد أدّت الأزمة إلى محاولة بعض العمّال والموظفين وأساتذة المدارس تقليص أيام عملهم إلى ثلاث أيام بالأسبوع لتجنّب التكلفة الباهظة.
يعبّر طالب، وهو صاحب سيارة أجرة، عن صعوبة هذا العمل في الوضع الراهن. فقد بات السائقون مهدّدين بلقمة عيشهم:”الضربة الأولى لقطاع النقل بلبنان ولإلنا كأصحاب سيارات تاكسي كانت بارتفاع (سعر) المحروقات. أمّا الضربة الثانية، فهي التطبيقات كالأوبر والبولت وغيرها، اللي عم تضارب علينا وتقطعلنا رزقتنا، وعم بتفضّل الناس استخدامها.
عدد السيارات على الطريق انخفض لأن أغلبها كان مستأجر، وبطّل يقدر الشوفير يدفع أجرة السيارة شهريًّا، وعدد الركاب كمان (قلّ). الفوضى بقطاع النقل موجودة من قبل بس هلأ زادت، حتى إني ما ذكرت بعد كيف التأمين ارتفع والتصليحات.” أما بلال، وهو صاحب ڤان يعمل على خط بيروت- بعلبك، فيعبّر ممتعضاً: “فقّرونا وصّلونا لهون، منبيع حالنا وأولادنا شو بدهم منا بعد؟ منمشي بالطريق ما عاد في ركاب، عم بشتغل اليوم لما موت فقع بالبيت انا وقاعد”.
ويقول رياض وهو سائق تاكسي يعمل بدوامين، أحدهما كسائق في شركة تاكسي: “صحيح الشركة مرتّبة وأحسن من غيرها، بس شو فكرك بيطلعلنا من التوصيلة؟ ولا شي. من بيروت للبقاع روحة-رجعة بدي ب 600 ألف بنزين، والشركة بتفرض علينا -بما إنها بتأمنلنا الزبونات- 25 % عمولة. فشو بيبقى؟ ما بلحق ال400 ألف على هيك مشوار. غير إنو بيضل أحسن ما اشتغل بشكل مستقل، ما (بيكون) في ركّاب.” وقد أعلن رئيس الاتحاد العام لنقابات السائقين وعمّال النقل في لبنان مروان فياض في حديث له، رفع تعرفة السرفيس إلى 80 ألف ليرة لمصلحة السائقين، بعد إرتفاع سعر صفيحة البنزين إلى 817 ألف ليرة وأسعار القطع، مع تخطي الدولار 40 ألف ليرة لبنانية.
وفي أكثر من حادثة شهدتها أثناء تنقّلي، سواء من بيروت إلى البقاع أو إلى الجنوب، صادفت أفراداً إمّا عاجزات\ين عن دفع سعر المواصلات لأنّهم لا يملكون المال، أو يطلبون من الفان إيصالهم “حسنة “، أو هم في طريقهن\م للبحث عن عمل وليس لديهم ما يكفي لتسديد “التوصيلة”.
وقد تأثّرت حركة تنقّل النساء، فلم نكن نعي بأنّها امتياز سرعان ما تلاشى مع بدء الأزمة، فصار ممنوعاً على الأغلبية الساحقة لصعوبته، في ظل شبه اختفاء سيارات الأجرة، خاصة في المناطق البعيدة عن بيروت أو لإرتفاع بدل النقل عامة. فوجدت الطالبات اليوم أنفسهن ممنوعات من الذهاب إلى جامعاتهن في الأوقات المحدّدة أسوة بالسنوات الماضية. كما وتراجعت فرص النساء العاملات والموظفات في إيجاد فرص عمل لهن أو بالاستمرارية في أعمالهن الحاليّة، ومع تدني المعاشات صار لزاماً عليهن ترك وظائفهن، وهو ما يؤثّر على استقلاليتهن، ويعيد حبسهن في المنازل .وبعد أن كان لدى بعضهن إمكانيّة الهروب المؤقت من منازل معنّفيهن، أصبحن مجبرات على التواجد معهم في كل الأوقات.
الحل بإدارة عامة للنقل العام
ويذكر أنّه في الآونة الأخيرة ظهرت العديد من المبادرات الفردية والجماعية من قبل جمعيات، مثل”نقل أجر” أو “وصلني معك carpooling”. وفي حديث مع مريم شحّود، المسؤولة عن المبادرة الأخيرة، تقول: “بسبب بهدلة الطرقات وارتفاع سعر البنزين و(بهدف) تخفيف عجقة السير وتلوّث البيئة، عملنا هاي المبادرة. المجموعة على فيسبوك، ومش “بابليك” (مفتوحة للعموم)، فالأشخاص الموجودين آمنين. أي حدا منحس عليه مش مزبوط منشيله فوراً، لأن أهم شي الثقة بين الأفراد. أما السعر كيف بيتحدّد وطريقة التوصيل، فهي عرض وطلب: مثلاً أشخاص بدهم يروحوا من بشامون ع بيروت بحطوا عرض “معي مجال بالسيارة الخاصة تبعي للتوصيل بهيدا الوقت”، أو طلب متل انو “بحاجة لحدا يوصلني من منطقة عائشة بكار للحمرا”. والسعر بيكون بالاتفاق بين الطرفين. وعملنا مثل استفتاء للموضوع انو كيف الأفراد بتفضّل الدفع؟ بسعر أقل من السرفيس، أو ربع حق البنزين لي ممكن يكلّفنا، وفيه تجاوب من كتير أفراد للمشاركة.”
هذا في حين تسلّم لبنان هبة الدولة الفرنسية التي وافق عليها وزير النقل والأشغال علي حميّة، وهي عبارة عن 50 باص2https://www.nna-leb.gov.lb/ar/economy/543163/حميه-خلال-تسلمه-50-باصا-فرنسيا-هبة-الدولة-أصبحت-تم، تُقسّم على دفعات لتقييم عملها وإدارتها. وبعد تسلّم الباصات الخمسون في أيار الماضي، يأتي السؤال عن خطة النقل التي ستعتمدها الوزارة في توزيعها لهذه الباصات، وبالتالي، ما هي الخطوط التي ستتبعها ولماذا، كيف سيتمّ توظيف السائقين، وما التعرفة المتّبعة، ومن أين سيأتي تمويل صيانتها، وغيرها من الأسئلة التي يجب أن تُجيب الوزارة عليها ضمن خطة متكاملة للنقل، لا بجعل الحافلات مشروعاً منفرداً آخر لا يأتي ضمن خطة ورؤية عامة للنقل، كأغلب مشاريع الدولة.
من ناحية أخرى، لا يجب أن تتكرّر واقعة “كاروسا” واستهتار السلطة بموارد الناس وهدر المال العام للإستفادة من أي مشروع أو مبادرة. ففي سنة 1997 إشترت الدولة اللبنانية 200 حافلة تشيكية من طراز “كاروسا”، تتّسع كل واحدة منها لنحو 50 راكباً، من دون مراعاة كبر الآليّة وهو ما يجعل العبور في الطرقات الثانويّة مستحيلاً. وقد وصل منها حوالي 100 حافلة معطّلة، لأنّ نظامها الميكانيكي مصمّم لدرجة حرارة 20 درجة مئوية تحت الصفر. إلّا أنّ الحكومة لم تتدارك الواقعة، بل استمرّت في خطّتها كأنّ شيئاً لم يكن، واستقدمت لقيادتها خمسمائة موظّف في ملاكها من دون موافقة مجلس الخدمة المدنيّة. الأمر الذي أدّى إلى إرهاق ميزانيّة المصلحة، حيث أنّ الدَين قد وصل عام 2002 إلى نحو 151 ليرة لبنانيّة، والسبب الرئيسي هو هدر تسعين بالمئة من موازنتها على معاشات الموظفين في صفقة توافق سياسي بين أطراف السلطة للسماح بدخول القطاع الخاص وبسط سيطرته على خطوط النقل.
اليوم، وعلى الرغم من مرور ستة أشهر على وصول الحافلات الفرنسية، لا تزال مركونة بسبب العرقلة التي سلّط الضوء عليها مدير عام مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك زياد نصر، والمتمثّلة بطلب الشركات الخاصة التسعير بالدولار الفريش وامتناعها عن إتمام المناقصات لتغطية المشروع، لأنه في نظام قانون مناقصات الإدارات العامة، ليس مسموحاً سوى التسعير بالعملة الوطنية. وهو ما يلقي الضوء مجدّداً على إشكالية استقدام شركات خاصة، بعدما ثبت وخلال تجارب ماضية عديدة، أن الدولة هي المؤسسة الوحيدة القادرة (إن أرادت ذلك) على تأمين الخدمات الأساسية للناس، دون استغلال أو إنتاج ربح. بمعنى أن الدولة هي الوحيدة القادرة على الحفاظ على المال العام، وتأمين الخدمات بشكل عادل وشامل للأكثر حاجة، في الوقت ذاته.
بينما تتقطّع الشبكات التي تصل بين المناطق، تنفصل الجماعات عن بعضها البعض، ويُجبر الأفراد على التقليل من تنقّلهن\م. وهو ما لا يؤثّر على العلاقات الاجتماعية فقط، بل على القدرة على التعلّم والعمل والاستقلال والانفصال عن علاقات الاستغلال، خاصة لمن هن\م أكثر تهميشاً.
اليوم، نركض، لا لشيء سوى لأنّنا جائعات، ولأن المدن تجبرنا على الركض معها، ولأن البلد يركض كل يوم نحو الهاوية، فنحاول النجاة والسيطرة على أمعائنا الخاوية بالركض. وفيما تُفصل المناطق عن بعضها بعضاً، يُمنع الناس عن الوصول إلى أماكن عملهن\م أو سكنهن\م أو علاجهن\م، في مشهد لنوري بيلغي جيلان (Nuri Bilge Ceylan مخرج ومصوّر تركي)، تضرب فيه الرياح الأفراد من كل حدب وصوب، يتبعها مطر غزير، في تلال الأناضول الفارغة إلّا من ضوء “فان” آت من بعيد، لا ندري إن كان يحمل معه “التوصيلة” المرجوّة أم لا. هكذا، تُحوّلنا السلطة إلى أفراد، كلّ منّا عالقة على الأوتوستراد وحدها، لا بديل لنا عن التنقّل، لا بديل لنا عن البقاء في أماكننا.
المراجع
- 1
- 2https://www.nna-leb.gov.lb/ar/economy/543163/حميه-خلال-تسلمه-50-باصا-فرنسيا-هبة-الدولة-أصبحت-تم
القوات اللبنانية تحيي مشروع أوتوستراد يهدد السكان ويدمر الأحراج
اقتراح قانون يرمي إلى تنفيذ الاستملاكات المتعلقة بأوتوستراد (خلدة – الضبية – العقيبة) وملحقاته
أحيل إلى لجنتي المال والموازنة والأشغال العامة إلا أنه لم يدرس فيهما لغاية تاريخه.