إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد

جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد1“لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد” طرفة بن العبد

Que m’importent les fleurs et les arbres, et le feu et la pierre, si je suis sans amour et sans foyer!” – Gaston Bachelard”2” وما تهمّني الزهور والأشجار، والنار والحجر، إن كنت بلا حب ولا مأوى!” غاستون باشلار

“قولي إنها كانت أحلى”

يروي إيتالو كالفينو في إحدى قصصه عن المدن، قصّة “أوريليا”، تلك المدينة التي يطلب منك سكّانها أن تنظري إلى عددٍ من البطاقات البريدية التي تُصوّرها كما كانت “قبلاً”. في أي مكان تزورين، ستضطرين للنظر إلى البطاقة البريدية التي تحمل صورته “كما كان”، “وعليك كزائرة أن تمدحي مدينة البطاقة البريدية، وأن تفضّليها على المدينة الحالية، على أن تحذري من أن تبالغي فتتخطّي حدوداً معيّنة”3Calvino, Italo. Invisible cities. Houghton Mifflin Harcourt, 1978. “If the traveler does not wish to disappoint the inhabitants, he must praise the postcard city and prefer it to the present one, though he must be careful to contain his regret at the changes within definite limits: admitting that the magnificence and prosperity of the metropolis Maurilia, when compared to the old, provincial Maurilia, cannot compensate for a certain lost grace.”.

لازالت البطاقة البريدية لبيروت وباقي المناطق اللبنانية، حاضرة في حقيبة كلّ منّا، يجبرنا التغنّي بتاريخ “ذهبي” يمتدّ من منتصف الخمسينيات حتى السبعينيات (ما زال الخطاب الرسمي يرى هذه الحقبة ذهبية، على الرغم من الكم الهائل من الظلم والتفقير وافتقار الأكثرية للخدمات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية والفروقات الطبقية التي امتازت بها)، أو محاولة الهرب من واقع أمرّ من أن نستوعب، على استحضارها بين الفينة والفينة. لكنّها تضيع في الحقيبة في أغلب الأيام، بحيث تنقطع الكهرباء فلا نستطيع رؤيتها بين الكراكيب المتجمّعة وأقنعة الكورونا المستعملة. تلك المدينة “الكاملة” التي لم نرها أو نعشها إلّا جزئياً في قصص الأقارب، يروونها على أصدقائهن\م الأجانب، أو فيما فرضه علينا المجتمع من تصديقٍ للرواية حين كنّا نزور وسط المدينة المُعاد إعماره. 

ما زالت الصدمة حاضرة، بين ما كانته المدينة وما أصبحت عليه؛ بين ما كنا نعتقد بأننا نراه، وما نراه اليوم. أصبحنا نحن البطاقة البريدية لمدينة تتلاشى، لمناطق لم يكن أهلها يتوقّعون أن تصبح في حال أسوء ممّا كانت عليه، ولأحياء تتهاوى، اجتماعياً، خدماتياً وإنشائياً على أهلها. 

ننظر إلى الشوارع، ثم إلى بعضنا البعض وكأنّنا نقول “قولي إنّها كانت أحلى…وأنه كان للناس فيها قسطٌ من السعادة، وكان للجميع منازل وحدائق، وكمية كافية من الدفء.” 

عن خصائص الأشكال الهندسية تحت الضغط

في الرياضيات، تتناول الطوبولوجيا خصائص الشكل الهندسي التي يتمّ الحفاظ عليها تحت ضغط قوة كبيرة وتغييرات مستمرّة ناتجة عنها، كالتمدّد والالتواء والانحناء والتجعّد.

ما نمرّ به اليوم يجعلنا نتساءل عن تأثير الانهيار الاقتصادي علينا، بشكليه قريب المدى وبعيده، على المستويات الاجتماعية والمدينية\المكانية. كيف تصبح العلاقات تحت الضغط؟ كيف تتغيّر وتلتوي وتصبح مؤذية، أين تنقطع وأين تتمدّد لتسمح لنا كأفراد بالاستمرار بالعيش؟ وكيف تكون جزءاً من آليات الاستغلال، أو آليات البقاء والاستمرار؟ وآليات البقاء في الوضع الحالي، تُبنى خلال إحدى أقسى الظروف، في عزّ القحط، لذا فهي بالضرورة ذات استخدام فردي، ممّا يجعلها استغلالية وعنيفة لأنّها تنافسية وتسعى للنجاة الفردية، بل ولا تكون إلّا على حساب الجماعة. 

في دراسة الطوبولوجيا لخصائص الأجسام تحت الضغط، يكون البحث عن استمرار الأجسام بالمحافظة على شكلها من جهة، كما عن التشوّهات المستمرة التي تأتي نتيجةً للضغط، من جهة أخرى. نتمدّد ونلتوي تحت الضغط، كجماعة، لا ننكسر بسهولة ربّما، لكن قبل مرحلة الكسر يأتي التشوّه طويل الأمد للعلاقات الاجتماعية، تلك التي يأخذ بناؤها سنين طويلة، والتي إن تشوّهت، لا ندري إن كانت تعود لما كانت عليه يوماً. 

في جُحر الأرنب

نستبدل صحني اللبنة والجبنة في الترويقة بصحن فول، ونمتنع عن اللحمة نهائياً، لا لأهداف أخلاقية أو سياسية بل اقتصادية، في نمط يسمّى “التقلُّب في الاستهلاك”، وهو ما تضطّر العائلات والأفراد لفعله في حالة الأزمات الاقتصادية الكبرى. فميكانيزمات التأقلم مدمّرة أحياناً، كونها، كما هو الحال اليوم، تطرح ممارسات مؤذية ومستويات أعلى من الاستغلال. لم يؤدّ الانهيار الاقتصادي الحاصل إلى تزايد الفروقات الطبقية فقط، بل زجّ بعدد كبير من الناس في طبقة مختلفة عن الطبقة التي تواجدوا فيها لفترة طويلة نسبياً، ضارباً عرض الحائط التقسيم الطبقي الذي تمّ تثبيته منذ نهاية الحرب الأهلية. 

يبدو من الممكن أن نسمّي ما يمرّ به عدد كبير من العائلات والأفراد اليوم، نوع من “الفقر العابر” transient poverty والذي يأتي عادةً نتيجة الأزمات الاقتصادية أو الكوارث الطبيعية. غالباً ما تُشير التقلّبات في الاستهلاك إلى “مستويات عالية نسبياً من الفقر العابر. بحيث لا ينعكس الفشل في التعامل مع التهديد على الدخل في تقلبات استهلاك الأسرة فحسب، بل يؤثر على التغذية والصحة والتعليم ويساهم في عدم كفاءة وعدم تكافؤ المخصصات داخل الأسرة.”4Dercon, Stefan. “Income risk, coping strategies, and safety nets.” The World Bank Research Observer 17.2 (2002): 141-166.

على غروب الواتساب الخاص بنساء منطقتي، ترسل ربة منزلٍ سؤالاً: “كم وجبة الوحدة منّنا عم تقدر تعمل لأولادها؟ وياريت بتخبروني كيف عم تقدروا تدبروا أموركن…بدي الوصفة.”

تجيبها أخرى: “أنا رح قول بصراحة، وجبتين بطبخة وحدة. يعني مثلاً طبخت مبارح مجدرة برز، غداء وعشاء.”

السؤال

في سياق تحليله لقيمة الروايات الخيالية في حياتنا، يقول الأديب سلمان رشدي 5Rushdie, Salman. 2021. Ask yourself which Books You Truly Love. The New York Times, May 30. بأنها تطرح ما يعتبره السؤال الأعظم في الأدب: “كيف يستجيب الأشخاص العاديون لدخول “غير العادي/الإكسترا أوردينار”، إلى حياتهن\م؟” فماذا يحصل، كيف يتفاعل الناس، أفراداً وجماعات، مع دخول الغيلان والجن والوحوش ومصاصي الدماء والزومبي إلى حياتهن\م؟ 

قرأت هذا النص، وأتى في بالي ما يجري اليوم في العالم وفي لبنان: كيف نستجيب للأزمات الاقتصادية المتتالية التي لا تنفكّ الرأسمالية تخلقها؟ كيف نستجيب للمجاعات، والتشريد، والجائحة؟ كيف نستجيب في لبنان لوحش الانهيار الاقتصادي الذي لم نتخيّل يوماً شكله؟

إذا سعينا للإجابة على السؤال اعتماداً على الحالة في لبنان، تظهر صعوبة انتصار ليلى على الذئب. في الحقيقة، قد يبدو أكثر منطقياً، وبناءً على التاريخ المعاصر وما قبله حتى، بأنه سيكون من الأصح أن ينتصر “ساورون” على الأخوية، ويسيطر وغيلانه على العالم، وتُكمل الحياة عاديتها، أو شِبهَها، وكأن شيئاً لم يكن. 

على ضوء ما يحصل اليوم، فإن الإجابة الأكثر تماشياً مع سلسلة الحوادث العجيبة التي تتتالى، هي بالتأكيد تلك الأكثر بشاعةً وظلماً، ومللاً. بذا، وردّاً على سؤال الكاتب، يبدو أن الأشخاص العاديون أنفسهم، أفراداً وجماعات، ومع دخول الوحوش ومصاصي الدماء والزومبي، يتأقلمون معهم.

المحاولة

بينما نتكلّم عن الانهيار بشقّه الاقتصادي المالي معظم الوقت، نرى من المهم أن نراه أيضاً بشكله الاجتماعي، المديني، اليومي الذي يتناهى إلى سمعنا من خلال تغييراتٍ في شكل العلاقات الاجتماعية وطبيعتها، وتبدّلاً في مناطقنا وأحيائنا وحيّزنا المكاني. نعتبر هذا الملف مدوّنةً إثنوغرافية ليوميات الانهيار، نرى من خلالها كيف أصبحت حيواتنا بعدما كُشِف الستار عن نظام اقتصادي مزيّف.

فالانهيار ليس بفقداننا للترف المعتاد والقدرة على الحصول على الخدمات فقط، بل هو تحوّل في النظام الذي اعتدناه – من سهولة الحصول على الخدمات، إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية، حتى قيمة أي شيء تعتبرينه ضروري في حياتك اليومية، إلخ – واستبداله ب”نظام ما”، ما زلنا نحاول فهمه وإيجاد سبل الدخول إليه. والمُقلق هنا، هو ما يُنتجه هذا البديل، وبالذات الأشياء التي يعطيها قوة وسلطة في علاقات القوى الجديدة، وتلك\أولئك اللواتي والذين يسحقهم في طريقه نحو الحصول على أدنى أشكال النورمالسي 6Normalcy ما يمكن اعتباره الشكل الطبيعي للحياة.، “العادية”.

من الوصول إلى الكهرباء وتأمين الأكل والثياب والمسكن والنقل والتعليم والصحة وغيرها، ما الذي تغيّر وكيف، وماهي سُبُل التأقلم مع الانهيار؟ نبدأ بثلاث نصوص، عن الغذاء والكهرباء والنقل، ونضيف إليهما كل فترة، أشياء ممّا نواجه في كل مرحلة من مراحل الانهيار، علّنا نوثّقه، ونفهمه، ونمنطقه، لنصبح أقلّ اغتراباً عمّا نمرّ به.

  • 1
    “لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد” طرفة بن العبد
  • 2
    ” وما تهمّني الزهور والأشجار، والنار والحجر، إن كنت بلا حب ولا مأوى!” غاستون باشلار
  • 3
    Calvino, Italo. Invisible cities. Houghton Mifflin Harcourt, 1978. “If the traveler does not wish to disappoint the inhabitants, he must praise the postcard city and prefer it to the present one, though he must be careful to contain his regret at the changes within definite limits: admitting that the magnificence and prosperity of the metropolis Maurilia, when compared to the old, provincial Maurilia, cannot compensate for a certain lost grace.”
  • 4
    Dercon, Stefan. “Income risk, coping strategies, and safety nets.” The World Bank Research Observer 17.2 (2002): 141-166.
  • 5
    Rushdie, Salman. 2021. Ask yourself which Books You Truly Love. The New York Times, May 30.
  • 6
    Normalcy ما يمكن اعتباره الشكل الطبيعي للحياة.
 
 
 

إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد

في الرياضيات، تتناول الطوبولوجيا خصائص الشكل الهندسي التي يتمّ الحفاظ عليها تحت ضغط قوة كبيرة وتغييرات مستمرّة ناتجة عنها، كالتمدّد والالتواء والانحناء والتجعّد.ما نمرّ به اليوم يجعلنا نتساءل عن تأثير الانهيار الاقتصادي علينا، …

إنهيار النقل أو الخريطة المتقلّصة

جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد“ يقول ڤالتر بنيامين: “سننتصر على الرأسماليّة بالمشي”. فأمشي، ليس لأنّني أؤمن بنهاية الرأسماليّة -المتأخّرة منها أو غيرها- ولو أنني أرغب ذلك بشدّة، أو …

الكهرباء كمظهّر لعلاقات القوة

جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد“ تمرّ كل مدينة ومنطقة وحيّ بتجارب متشابهة فيما يخصّ انقطاع الكهرباء، لكنّها مختلفة من حيث التقنيات التي يستخدمها السكان لتأمين بديل. ففي غياب …

الإنهيار الإقتصادي يضرب النظام الغذائي ويهدّد الصحّة والحياة

جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد“ تتّفق الأزمات الماليّة وغيرها في آثارها السلبيّة على استهلاك الطعام والموادّ الغذائيّة، خاصّة أنّ أسعارها تتأثّر بشكل كبير في ظلّ ارتفاع سعر صرف …